إذا جلست أمامه لن تملك سوي الإنصات بكل حواسك لهذا الرجل القادم من زمن
الحب، لأنه ببساطة يحدثك بحماس الشباب وخبرة التجربة، قد نعتبره أحيانا
مشاغبا محقا وأحيانا أخري يعبر عما يدور بداخلنا، ظل يبحث عن الهوية
المصرية ويرسم ملامح لها علي مدار أعماله الفنية سواء كان في الدراما أو
علي شاشة السينما أو حتي علي المسرح، أعاد اكتشافنا جميعا ليرسم شخصياته
بريشة ابن البلد الشهم وبعقل العربي المهموم بهموم وطنه، فمن يحاول أن
يتعرف علي الشارع المصري عن قرب لا يتردد في متابعة أحد أعماله وهو يسلم له
حواسه كاملة ليسمع ويعقل ويشاهد ويكون الصورة الجميلة «لمصر الحلوة»، اعتبر
نفسه من البداية باحثا بالدرجة الأولي عما يوجد داخل هذا الصندوق المغلق -
الإنسان المصري - وأخذ علي عاتقه مهمة إخراج أجمل ما فيه فرسم شخصية العامل
الجدع والباشا الرأسمالي الذي يتحلي أيضا بشهامة المصريين لهذا فهو صاحب
اختراع: العمدة سليمان غانم وسليم البدري والسيد أبوالعلا البشري وحتي
الخواجة الإسكندراني جريجي لكن مصراوي جني.
أسامة أنور عكاشة الذي حمل داخل طيات اسمه تميزا خاصا حتي في تركيبه
الثلاثي ليعلن بقوة عن كاتب صاحب رؤية مختلفة في زمن قل فيه الاختلاف،
والذي مهما كانت السطور القادمة فلن تزيد شيئا فقد رحل عنا معلنا أنه «اضطر
يحلم بنفسه» واستحق حلاوة الحياة وضحكة البشر، ليسكن حضن المحبة والناس
الطيبين، ذلك الرجل الذي لمسنا من قبل في حديثنا وجعه الدائم وحبه الأبدي
«لمصر» فشكل تفكيرنا جميعا منذ الصغر عندما قدم نموذج أبوالعلا البشري صاحب
القيم والمباديء ورسم ملامح المصراوية في الرايا البيضا.. نحاول أن نبحث عن
تلك الملامح الآن داخل ضمير أسامة أنور عكاشة وأعماله الخالدة.
أسراره وحياته
بداية قدم الكاتب مختار أبوسعدة أسامة أنور عكاشة في كتاب يروي فيه تفاصيل
حياته فوصفه بشيخ المؤلفين والكتاب مؤلف جعل للبسمة طعم والضحكة من القلب
هذا تحت عنوان يحمل اسمه «أسراره وحياته» بدأ معه منذ مرحلة الطفولة حيث
اليتم المبكر والتعلم في كتّاب القرية وعشقه للغة العربية ووفاة والدته وهو
في سن العاشرة من عمره، والتحاقه بكلية الآداب وحلمه بدخول قسم اللغة
الإنجليزية والتحاقه الفعلي بقسم الدراسات النفسية والاجتماعية لتبدأ مرحلة
جديدة في حياته يحل فيها ضيفا علي بيت خاله بالقاهرة وينفصل عن أسرته ويعيش
حياة المغتربين ثم العمل بعد التخرج في مديرية التربية والتعليم وزواجه
وإنجابه وظروف الحياة الصعبة التي كانت تجعله يستدين من أجل الراتب الضئيل
وسفره للكويت وصعوبة استكماله للحياة بعيدا عن مصر وعودته، ثم المرحلة
الجديدة من الكتابة في عام 1975 وأعمال توالت مثل المشربية والحصار ثم
رائعته الشهد والدموع وليالي الحلمية وبداية شهرته حتي ضمير أبلة حكمت
والعمل مع فاتن حمامة وخصص الكاتب أيضا فصلا أخيرا من الكتاب عن مرض عكاشة
ومعاناته.
حبه الأول
الفنان محمود الحديني عمل مع عكاشة في أكثر من عمل منها مسلسلات «الحصار،
الفارس الأخير، المشربية، الرايا البيضا، أخيرا المصراوية» يقول لا يوجد
عمل كتبه أسامة في الدراما التليفزيونية أو علي المسرح إلا وكان الإنسان
المصري هو شغله الشاغل وهمه الأول فهو مدافع شرس عن الهوية المصرية، ويقول
الحديني إن أسامة كان واضعاً في اعتباره أن يختتم هذا بخمسة أجزاء من
«المصراوية» ليعود مرة أخري إلي كتابة القصة القصيرة «حبه الأول» ولكن
القدر لم يمهله ففي المصراوية حاول أن يرصد تطور الشخصية المصرية اجتماعيا
وثقافيا عبر فترة مهمة هي أفول الدولة العثمانية وصحوة الشعوب وأعقبها ثورة
1919، ويري الحديني أن أسامة أنور عكاشة لا يكتب اعتباطا ولكن يملك فكرا
واعيا ويملك مقدرة علي صياغة الحوار لهذا فالممثلون لا يملكون حذف أي كلمة
لأهمية حواره بشدة فيجد الممثل الشخصية مشبعة دراميا.
ويقول الحديني إنه منذ البداية لاحظ هذه الميزة في عكاشة ففي المشربية رفض
التواكلية ودعا الناس للبحث عن الكنز الحقيقي وهو العمل بأيديهم وفي
«الرايا البيضا» طرح الرأسمالية الجاهلة حتي في عفاريت السيالة تكلم عن
أولاد الشوارع.
من مميزات عكاشة أنه كان يقوم بعمل «بروفة» علي العمل مع المخرج والممثلين
علي مائدة ليضع الملاحظات وبمجرد انتهاء البروفة يكتمل العمل ويبدأ التصوير
وهو يعتز بحواره بشدة وهو ما جعل إسماعيل عبدالحافظ يكلف مساعد مخرج مخصوص
لمتابعة الحوار مع الممثلين حتي لا يتركوا منه كلمة، ويضيف الحديني أنه
أثناء توليه رئاسة المسرح القومي طلب من عكاشة مسرحية فكتب «الناس اللي في
الثالث» وفي عز الظهر، ليلة 14 وجميعها حققت نجاحا.
الفارس
أما الناقدة «ماجدة خيرالله» تقول إن عكاشة اهتم بالمواطن المصري وهو ما
يميزه ككاتب دراما متميز حيث اهتم به في الحضر أو الريف أو حي شعبي بكل
صوره ووضح كيف تعرض عبر التاريخ لظروف قهرية لم تنل من شخصيته شيئا ورغم
صعوبة تلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية فإنه حافظ علي ملامح شخصيته
الجميلة ولم يتلون مع الزمن، فتري عكاشة منحازا للمواطن المصري لهذا لديه
دائما نموذج «الفارس» سواء كان عمدة أو رجل أعمال أو معلم في قهوة الجميع
يحمل بذور العدل والشهامة والحكمة.
وتضرب مثلا بسليم البدري في «ليالي الحلمية» رغم أنه رجل أعمال ولكنه لم
يسرق أو ينهب أو يعامل العمال بشكل سيئ بالعكس رجل صاحب أخلاق وطني ومحترم
والسياسة لم تغيره، حتي وإن قدم النموذج النقيض يضع داخله ملامح جميلة.
وعن أعماله تري خيرالله أنه كاتب غزير الإنتاج لن تستطيع أن تحجب من أعماله
شيئا فجميعها رائعة وتؤكد أن وفاته رغم أنها خسارة للدراما المصرية ولكنه
رحل عنا حتي لا يري الأسوأ القادم علي الدراما من تردي وتمرد من الممثلين
وأزمات قادمة لو عاشها لما تكيف معها لجديته ورؤيته.
وتري الفنانة «كريمة مختار» أن عكاشة كان رجلا وطنيا يحب مصر فعبر عنها
بقوة يعيش بوعي كامل في البلد وما داخلها من تفاصيل وتتذكر عملها معه في
أبوالعلا البشري وتصف «البروفة» بالمحاضرة التي يلقيها الأستاذ وأنها
كممثلة كانت تتجاوب مع النص بشكل جيد لأنه يكتب بدقة ووعي وتقارن بينه وبين
آخرين قد تجد أحيانا صعوبة منهم في منطقية الجمل ولكن عكاشة تميز بنصوص
رائعة تساعد الممثل علي العمل.
اسكندرية كمان وكمان
أما صديق عمره والذي كون معه ثنائيا رائعا من إخراج وتأليف لتخرج أعمال
تخلدهما وتترك أعظم الأثر في نفوسنا فهو المخرج إسماعيل عبدالحافظ الذي
مازال متأثرا بوفاة صديقه، يقول إن كل أعماله تحدثت عن الهوية المصرية
وأوضحها بشكل كبير داخل مسلسل «أرابيسك» عندما تساءل عن هويتنا بالتحديد
ويري عبدالحافظ أن آخر أعماله «المصراوية» هي الرد القوي علي هذا التساؤل،
أما عن عملهم الدائم يقول: اشتركنا في أرضية فكرية واحدة وتربطنا علاقة
حميمية بين أسرتينا فنحن الاثنان من كفر الشيخ كل هذا يضع طعما خاصا في
العمل.. ويتذكر عبدالحافظ أنه كان يذهب لعكاشة اسكندرية معشوقته وهويكتب
هناك ليعرف ما الجديد في كتاباته، ويعتبره خسارة كبيرة للدراما المصرية
لأنها من الأساس من سيئ إلي أسوأ وفي حالة هابطة قد تستمر، وعن آخر أعماله
مع أسامة قال عبدالحافظ إنه مسلسل «تنابلة السلطان» الذي كتب منه عشر حلقات
فقط وكان يستعد لاستكماله لأن هناك مشكلات مع شركة الإنتاج بسبب الجزء
الثالث من المصراوية حيث فضل عكاشة عدم تكرار أحداث الحرب العالمية الثانية
والتي كتبها من قبل في «ليالي الحلمية» فجعل الجزء الثالث من المصراوية
يتحدث عن الأحفاد الآن في فترتنا وهو ما رفضته الشركة فتوقف العمل.. ويري
الناقد رفيق الصبان أن أسامة أنور عكاشة خرج من المحلية في تعبيره عن
الشخصية المصرية إلي العالمية أو الإنسانية بأكملها فالنماذج التي قدمها لم
تكن فقط نماذج المصريين بل نماذج جيدة لما ينبغي أن يكون عليه البشر، ولهذا
يعتقد الصبان أنها إذا تمت دبلجتها للفرنسية أو الإيطالية ستحظي بنفس
النجاح المحلي والعربي، ويضيف الصبان أن مميزات عكاشة أيضا مرجعيته للتاريخ
الحديث بشكل أساسي منذ فترة محمد علي إلي الآن بجانب فكرة الأجزاء الجيد
فليس كل من يكتب أجزاء هو أسامة أنور عكاشة لهذا فشل كثيرون في تقليد هذه
الفكرة.. أما الفنان «جميل راتب» بطل الرايا البيضا، وأحد أبطال مسلسل
«زيزينيا» يقول إن أعمال عكاشة مميزة ويمكن اعتبارها دراسات في الشخصية
المصرية فعكاشة اهتم برسم الشخصيات بمزج التاريخ مع ملامح إنسانية جميلة
لهذا فهو يشارك في أعماله دون حتي أن يقرأها ولا يتردد في قبولها.. ويضيف
أنه فرح جدا بالرايا البيضا وبأسلوب كتابة عكاشة المميز والذي يكتب الشخصية
لتلائم الممثل تماما وكأنها مرسومة له.
الأهالي المصرية في
02/06/2010 |