حكامنا لم يعد لديهم شوامخ إلا أبطال كرة القدم ورموزهم سياسيون وعسكريون
فقط
اكتب هذه الكلمات وكلي مرارة وحزن علي رحيل الكاتب والمفكر الكبير أسامة
أنور عكاشة، وسأبدأ بالمرارة، فقد كنت أتصور أن يتصدر جنازته كبار رجال
الدولة وعلي رأسهم رئيس وزراء مصر أحمد نظيف، ولن أقول السيد رئيس
الجمهورية
لكن علي الأقل مندوبا فوق العادة عنه، فهم في هذا النظام فعلوا ويفعلون ذلك
مع من هم أقل منه شأنا، بل إن بعضهم أصفار لن يذكرهم أحد، لكن هذا لم يحدث
، ولم يحدث أيضا اهتمام بوداع الكاتب الكبير من خلال «ترمومتر» الاهتمام
الرسمي في تليفزيون الدولة، وأعني بها نشرات الاخبار علي القناة الأولي.لو
أن هناك من يعي ويحلل علاقة النظام برموز التنوير في مصر عبر ثلاثين عاما،
سيكتشف أن أسامة أنور عكاشة هو أحد رموز الثقافة والفن في مصر مثله مثل كل
شوامخها الذين واريناهم التراب، من أم كلثوم إلي محمد عبد الوهاب وعبد
الحليم حافظ، ومن طه حسين إلي نجيب محفوظ إلي فؤاد زكريا وغيرهم عكاشة رمز
مماثل، ولكن في الدراما التليفزيونية ، والبعض يطلق عليها الأدب المتلفز،
وهي دراما انطلقت بكل قوتها في هذا العهد، أي ما ظل حكم الرئيس مبارك منذ
ما يقرب من الثلاثين عاما، حيث سطعت أعمال هذا الكاتب الكبير عبر
التليفزيون المصري، تماما كما سطع اسم عبد الحليم حافظ مع عهد جمال عبد
الناصر، لكن يبدو للأسف أن حكامنا لم يعهد لديهم شوامخ إلا ابطال كرة
القدم، ولا رموز سوي السياسيين والعسكريين مع كل الاحترام والتقدير لهم.
أما الثقافة والفن فهما علي الرف، فمن هو أسامة أنور عكاشة حتي ترتفع قامته
إلي درجة الوداع اللائق به، مع أن العكس هو الصحيح، فكثيرون من هؤلاء لم
يذكرهم أحد علي الإطلاق، بينما سيخلد التاريخ أسامة أنور عكاشة بأعماله
التي تركت بصمة لدي كل واحد وواحدة من الملايين الذين شاهدوها واستعادوها
مرارا.. ولهذا يأتي الحزن علي رحيل هذا الكاتب الكبير الذي استطاع أن يعيد
الأمور إلي نصابها في عالم الدراما، وأن يتحدي الكثيرين من تجار الفن
وادعيائه بتأكيده أن الكاتب هو العنصر الأول لنجاح المسلسل الدرامي
أوالفيلم السينمائي وليس المعد أو النجم أو المخرج، واستطاع أسامة أنور
عكاشة أن يؤكد هذا عمليا حين استعاد للمؤلف التليفزيوني نجوميته وقامته
التي اهتزت كثيرا حين اهتزت اشياء كثيرة أخري في المجتمع، وخيل للبعض أن أي
كاتب جدير بالمشاهدة، وأي حوار جدير بالاستماع إليه، أعاد أسامة أنور عكاشة
التأكيد علي أهمية وقيمة العناصر الفكرية والثقافية في عملية خلق العمل
الفني، وأنه بدون فكر الكاتب ورؤيته العميقة لقضايا مجتمعه واستشرافه لما
يمكن أن تصل إليه الأمور في الأيام القادمة يفتقد العمل الكثير، والكثير
جدا.. واذكر هنا هذا المشهد غير المسبوق الذي قدمه في نهاية مسلسل (الراية
البيضاء) منذ عشرين عاما لأول اعتصام في تاريخ مصر احتجاجا علي هدم فيللا
تاريخية في أحد أحياء الإسكندرية استطاعت إحدي النساء الثريات، وكانت بائعة
سمك، الاستيلاء عليها بكل الطرق من أجل بناء برج سكني مكانها وجني المزيد
من النقود، هذا المسلسل هو شهادة ضمن شهادات كثيرة لأسامة سبق فيها المجتمع
ليضع يده علي ما ستصل إليه تفاعلات الانفتاح الاقتصادي المهلهل الذي أتاح
للبعض هدم كل شيء بلا حدود، وأذكر هنا أن رقابة التليفزيون رفضت مشهد
الاعتصام الذي جلس بموجبه صاحب الفيللا الأصلي الدكتور ابو الغار، ومعه جيش
من المثقفين والعمال والموظفين وكل الفئات، جلسوا في الشارع أمام
البلدوزرات لمنعها من الهدم وعبثا حاولت المعلمة «فضة» أن تحث قائدي
البلدوزرات علي الاطاحة بهم ولكن.. كان هذا مستحيلا رفضت الرقابة المشهد،
ودخل المخرج الكبير محمد فاضل مع المؤلف أسامة أنور عكاشة في صراع معها،
قالا وقتها أن مشهدا واحدا في نهاية عمل درامي لن يقيم ثورة في مصر، ومر
المشهد، ولم تقم الثورة كما قالا، ولكنه، أي مشهد الاعتصام، سجل في ذاكرة
المصريين جميعا ممن شاهدوا هذا العمل الفني البديع، وأضاف للدراما درجة
عالية من الجرأة والمصداقية بجانب الابداع لأن الكاتب كما قال أسامة مرارا،
ليس عمله تسجيل ما يحدث والتأسي عليه، ولكن البحث فيه والتنقيب عن اصوله
والحوار حوله.
هوية مصر
ومن هنا استطيع أن أقول إن أسامة أنور عكاشة في رحلته الابداعية الطويلة مع
الدراما التليفزيونية والتي تقترب من عمر التليفزيون المصري نفسه إلا سنوات
قليلة كان لديه مشروع فكري طموح أهم ملامحه هو البحث والتنقيب عن ذات مصر
الثقافية وأصولها في كل من يعيش علي أرضها قادما من أصول وأعراق مختلفة، لم
يتخل عكاشة عن مشروعه وعن سؤاله عن هوية مصر الذي نلمحه في أكبر عدد من
أعماله المهمة من المشربية إلي أبواب المدينة إلي ليالي الحلمية إلي
أرابيسك إلي زيزينيا إلي المصراوية أخيرا.. وربما كان هذا المشروع الذي
أرقه كثيرا هو جزء مهم من تميزه وسطوعه ككاتب تليفزيوني قدير، خاصة أنه جاء
إلي عالم دراما التليفزيون ليجد اسماء سبقته، وأسماء صعدت معه في زمن كان
التليفزيون فيه هو رهان مصر بعد ثورة يوليو علي إعلام مختلف، وعلي فن
وثقافة أخري، وهو ما أتاح الفرصة للكثيرين من الموهوبين للدخول إلي ساحة
العمل التليفزيوني في كل فروعه في بداياته دون واسطة أو محسوبية..
ولقد أتيح لي متابعة هؤلاء منذ بدايات السبعينيات، وحيث كانت دراما
التليفزيون قد حققت بعض الامجاد في بداياتها عبر اسماء كبيرة لمؤلفين
ومؤلفات لهم تاريخهم الذي صنع هذا المسمي (الدراما التليفزيونية) بدءا من
رأفت الميهي ، مصطفي محرم، محفوظ عبد الرحمن، كرم النجار، جلال الغزالي،
ممدوح الليثي، مصطفي كامل، عاصم توفيق، كوثر هيكل، فايز غالي، وفية خيري،
محسن زايد، بهيج اسماعيل، فتحية العسال، لينين الرملي، محمد جلال عبد
القوي، فراج إسماعيل وفيصل ندا، عدا اسماء أخري لم تستمر لأسباب عديدة سواء
بالوفاة المفاجأة مثل الكاتب الراحل أحمد المحمدي، أو بسبب الهجرة مثل
الكاتب عماد نافع أو العمل بالخارج، وفي هذه المرحلة وما قبلها، أي بعد
بدايات البث التليفزيوني ، بدأت دراما الفيديو تشق طريقها كفن وليد من خلال
تمثيليات نصف الساعة والساعة والساعتين حتي وصلت للسباعية ثم كان اقصاها
مسلسل من 13 حلقة، باستثناء الحلقات الشهيرة الممتدة(القاهرة والناس) التي
قدمت نقدا اجتماعيا غير مسبوق للأوضاع في الوطن في ظل الناصرية وكانت
الوعاء الذي خرج منه عدد كبير من نجوم الدراما وعلي رأسهم نور الشريف، كما
صنعت نجومية مخرج التليفزيون وبزغ فيها نجم محمد فاضل والمؤلفان مصطفي كامل
وعاصم توفيق، في هذا المناخ بزغ اسم أسامة أنور عكاشة بصدق عندما تحول من
كاتب قصة تتحول إلي سيناريو علي يد آخرين إلي مؤلف تليفزيوني يحول ما يكتبه
من قصص إلي تمثيليات، ثم جاءت الفرصة من خلال تحريض صديقه المخرج فخر الدين
صلاح علي كتابة مسلسل كامل، وبالفعل كتب اسامة (المشربية) ليخرجه صلاح
وتحقق نجاجا كبيرا ثم (ابواب المدينة) التي أعلنت عن مولد كاتب له قضية
ورؤية فيما يحدث للناس في هذا التوقيت، ونموذج يتمتع بقدرات غير عادية في
صياغة الدراما الممتدة التي تقترب من مصطلح الدراما الملحمية في الدراما
الإغريقية.
ثم تأتي القفزة الثانية في تاريخ أسامة عكاشة، حينما يقدم الجزء الأول من
مسلسله (الشهد والدموع) والذي عرض في مصر في شهر رمضان عام 1976 بصفته
انتاجا خليجيا وكانت الفترة هي فترة ازدهار الانتاج الدرامي المصري عبر
شركات الإنتاج الخليجية التي نشأت في مصر عقب ما سمي بالانفتاح الاقتصادي،
وكان التصوير يتم في ستديوهات مصر، والكويت ودبي وعجمان وغيرها وحتي في
اليونان والمانيا، وكان هذا المسلسل من انتاج ستديوهات عجمان، وحيث فوجئ
الجميع بعمل درامي قوي معبر يعكس واقع الحال في مصر في مسألة الصراع
الاجتماعي وصراع الطبقات، من الذي دافع عن الوطن.. ومن قبض الثمن، وكان هذا
مناقضا للأعمال التي كانت تنتج عبر التليفزيون المصري نفسه وتحاصرها
الرقابة بالحذف بلا رحمة، وأذكر أنني وغيري كتبنا وقتها بكل اعجاب عن
(الشهد والدموع) مطالبين بعرضه كاملا، فالمشاهد المصري لا يمكن أن يكون
مواطنا من الدرجة الثانية في عمل يخصه بالدرجة الأولي، وحين عرض نال اعجابا
كبيرا، خاصة مع اجتماع قدرات وموهبة هذا الكاتب الذي كان واعدا وقتها مع
مخرج مناضل من طراز اسماعيل عبد الحافظ يبدع في صناعة صورة تؤكد كل المعاني
التي يقصدها المؤلف، ولم ينته عرض الجزء الأول من (الشهد والدموع) فعليا
بعد نهاية عرضه، وانما كان هذا العمل الكاشف المبهر عن صعود موهبة بحجم
موهبة اسامة مؤكدا أنه سوف يقدم الكثير للدراما المصرية لو استمر،
والاستمرار كان يعني هنا ضرورة إن تتاح له فرصة تقديم الجزء الثاني من
المسلسل، لكن الموقف كان قد تغير علي الساحة الإنتاجية فقد اكتشفت الشركة
الخليجي المنتجة للجزء الأول أنها خسرت وبدأت تصفي حسابات إنتاج المسلسلات
كافة. أما الأمر الثاني فهو أن التليفزيون المصري لن يقبل أن يقدم جزءا
ثانيا من عمل قدمته شركة قطاع خاص خليجية، وهنا قام الاعلام المستنير بدوره
وقام النقاد وقام المثقفون والناس الذين تضامنوا مع عمل يعبر عنهم ويطرح
فكرة التمسك بالقيم الرفيعة والانحياز للمواطنين العاديين في أغلبيتهم
وينحاز للمواطنة، وكنت ضمن المتضامين مع هذا العمل والداعمين لإنتاج جزء
ثان منه بواسطة تليفزيون مصر، وقد أفلحت هذه الحملة غير المسبوقة، وهذا
التضامن في دفع المسئولين عن الإعلام المصري للموافقة علي انتاج الجزء
الثاني من (الشهد والدموع) وهكذا تم تصويره وعرض في سابقة أولي لم تتكرر
أبدا بعدها، وإنما جاء التعاون بين العام والخاص من خلال قواعد وشروط أخري،
وفي زمن آخر.
الليالي
ثم كتب أسامة أنور عكاشة رائعته (ليالي الحلمية) في جزئها الأول ليحقق
نجاحا خارقا مع المخرج اسماعيل عبد الحافظ ايضا ولتكر الاجزاء حتي الخامس،
في (الحلمية) ومن خلالها اصبح اسامة كاتبا له ملامح مميزة، شخصياته لا
تشبهها اي شخصيات أخري في دراما التليفزيون، فيها مزيج من الصدق والكبرياء
والقوة والضعف والمحبة والعشم، ولهذا تعيش شخصيات الحلمية معنا حتي اليوم،
فقد خرجت من داخل جدران الدراما لتصبح بطلة ونموذجا للشخصية التي لا تنسي
لأن بداخل كل منها جزءا منا أو حلما يراودنا.. بعدها أصبح (أسامة) هو نجم
نجوم الكتابة للتليفزيون، لكنه لم ينس ابدا مشروعه للبحث عن هوية مصر
والمصريين ظل متمسكا به، وهو يقدم عملا تلو الآخر.. وحتي اللحظة الأخيرة..
فتحية لهذا المبدع الكبير الذي رحل ولكنه باق بقدر ما اعطانا.
الأهالي المصرية في
02/06/2010 |