يسهل أن يتخذ المرء
موقفاً فوقياً من التلفزيون، وأن يضعه في مرتبة ابداعية دنيا مقارنة
بالسينما. ربما
لأن المسلسلات، لم تقارب مواضيع جدلية كما السينما. أو لربما هي طبيعة
وهوية
التلفزيون منذ نشوئه، بحسب غير محبذيه من أنصار الأنواع الأخرى من الفنون.
هذا جدال
مستمر يحتاج نقاشاً مستفيضاً من أخصائيين في المجال، ولن يتوقف.
على أن ارتباط
المسلسل العربي حصراً بالعلبة المضاءة، وبدعم من خطاب أبوي عائلي جعله
يخسر، وينزلق
تماماً منذ نشوئه ناحية خطاب أخلاقوي إرشادي ووعظي مطعماً طبعاً بوَطانويّة
رديئة.
بدا الناتج التلفزيوني مضاء بما فيه الكفاية. لكنه يغطي فقط، وبإضاءة فاقعة
ما
يريده المجتمع لنفسه، وما يريده النظام للمجتمع. وهو في ذلك يبتعد تماماً
عن عتمة
صندوق باندورا (صالة العرض) الذي يذهب الفرد إليه بمحض إرادته وانتقاءاته،
ويبقى
أكثر ارتباطاً برؤية شخصية مكثفة للكاتب أو المخرج رغم عديد الفريق الذي
يقف خلف
اخراج فيلم أي فيلم إلى النور، ومع الأخذ بعين الاعتبار الطبيعية التجارية
(بالمعنى
السيء) للقسم الأكبر من النتاج السينمائي.
وقد يكون أثّر تأخر القنوات الخاصة
وارتباط الانتاج بقنوات رسمية، ومن ثم ظهور شركات الانتاج الخليجية أواسط
الثمانينيات، قبل الردة التلفزيونية الفضائية للمسلسلات بعد سيطرة الفوازير
الرمضانية. إذ ما لبث المسلسل التلفزيوني (المصري تحديداً) أن ارتبط في
بداية
الألفية الحالية من القرن الماضي بنمط انتاجي غريب من نوعه، لم يساعد فيها
على
الاطلاق التمثيل المنمط وعدم الاستغناء عن تقنيات قديمة تفتقر البريق. ولا
نزال
كمشاهدين نتابع إرهاصات هذا النمط بتغييرات طفيفة وراءها سخاء الانتاج الذي
يستطيع
أي مشاهد عادي أن يتيقن من أنه يصرَف كله في غير موقعه.
وهذا النمط غرق في
تزاوج ليس غريباً مع الاعلان (بحسب طبيعة التلفزيون). لكن الغرابة كانت في
أن قدرة
نجم على جذب اعلان صارت تخلق مسلسلاً بأكمله من فكرة قصة يطرحها النجم على
كاتب.
طارت الاسعار، لكن ذلك لم ينعكس على جودة المحتوى. بدا النص أضعف الحلقات
في
الانتاج المصري. بل ربّت نمطاً مسلسلاتياً لم ينعكس ذلك حتى المسلسل السوري
الذي لم
يعد جديداً انساق في هذه اللعبة ما إن كرّس كمّه فانعكس ذلك جلياً على
النوعية.
كان أسامة أنور عكاشة على ضفة أخرى بنصه (من دون ان يعني ذلك الجودة دائماً).
كان من ضمن قلة مصرياً ضد هذا التزاوج المفرِط بين الاعلان وعملية خلق
المسلسل
التلفزيوني، لا الترويج اللاحق. نظر بشيء من الطوباوية إلى العملية
بأكملها. شعر أن
خاسري السينما وعواجيزها انتقلوا للتلفزيون لـ«ينجّموه» ويحوّلوه سوقاً
كاسداً...
وأضاف قبل ذلك إلى هجومه شيئاً عن مسؤولية رأس المال الخليجي (رغم أن بعض
أعماله
التلفزيونة منتجة جزئياً برأسمال خليجي، ومعروضة باستمرار على شاشات هذا
الرأسمال).
ضد النجوم
كان الرجل ضد سيطرة النجم، معلِناً أو ممثلاً.
بحسب كتابات
صحافية قديمة، حتى فاتن حمامة في «ضمير أبله حكمت» لم تقوَ على فرض شروطها
عليه
بتسسيير خطوط في الكتابة وحذف أخرى. ورغم أنها الشخصية المحورية في أحداث
المسلسل
فإن الانطباع لدى المشاهدين بأن الشخصيات الأخرى لم تكن «ثانوية»، بالمعنى
المتعارف
عليه للكلمة.
من هنا، فلنعد سويةً إلى بضع شخصيات تعتبر في النمط الحالي
للانتاج المصري «ثانوية» ظهرت في مسلسلات عكاشة الدرامية: سيد عزمي في دور
زكريا
وزوجته الراقصة لوسي في «الليالي»، لوسي ذاتها في دور مختلف وشخصية مكئِبةَ
في «أرابيسك»
أحمد السقا في النوة قبل أن يصبح ممثلاً سينمائياً رئيسياً في دور الفتى
الأصغر الزاعق لسوكة، محمد متولي في دور بسة في «الليالي» ومصطفى بطاطا
الذي لا
ينسى في «أرابيسك»، سيد عبد الكريم في دور زينهم السماحي في «الليالي»،
عهدي صادق
في دور الخمس في المسلسل ذاته، عبلة كامل أيضاً في دور ينقلب جذرياً في
الجزء
الخامس من السلسلة، محمد كامل في دور الطلياني في «عفاريت السيال»ة، ودور
شقشق الذي
قام به ممثل مغمور في «أرابيسك»...
تعاكس أعمال عكاشة مسلسلات رعيله من كتاب
السيناريو المصريين أو الجيل اللاحق، الكاتب محمد صفاء عامر في بعض أعماله،
ومجدي
صابر من جيل لاحق أكثر الأمثلة وضوحاً على النقطة التالية. في معظم أعمال
عامر
وصابر مثلاً، تنتصر القصة المضبوطة الاحداث. في أعمالهما، هناك بداية
وذروات
ونهايات مفتوحة أو مقفلة، وهناك الشخصيات ذات الانفعالات الخارجية المباشرة
التي
تنقلب تنميطاً إذا ما وجد الممثل السيء ليؤديها. لكن على العكس، تبدو أعمال
عكاشة
أكثر انسيابية وحياةً. في أعماله التي استمرت مع «ليالي الحلمية» وتتابعت
بعدها، لم
يعد مانع لدى عكاشة مثلاً أن يمرر حلقة او حلقتين استطراداً حول شخصيات
«ثانوية».
فنظن أنه نسي الأبطال «الرئيسيين» لفترة، وينغمس، ويغرِق معه المشاهدين في
قصص
جانبية، ثم لا يلبث أن يفاجئنا بعودته للخط الرئيسي، وإشراك هذه الشخصيات
به.
كان عكاشة ضد الخلطة العامة. مسلسلاته راكضة: «الحلمية» و«أرابيسك» أمثلة.
نصحو
مع الأبطال، نتابعهم نهاراً، لا ينامون، تتابع الاحداث ليلاً، هناك دائماً
حدث حتى
وإن كان في جملة تستدعي حوارات مطولة.
لكن كل ذلك لا يعني ذلك أن الرجل لم
يواجه إخفاقات. فهو أولا لم ينجح في الخروج عن الثنائية المنمطة عن
الخير/الشر في
بعض أعماله وبخاصة الأولى منها السابقة لـ«ليالي الحلمية». وعلى قلة هذا
التنميط،
تبقى سطوة الأخلاق أو الآدمية السياسية الصفات الأكثر وضوحاً في أعماله. في
«إمرأة
من زمن الحب»، انساق الرجل مثلاً لإدراج حبكة عن «عبدة الشيطان» التي سوِّق
لها في
الاعلام الورقي آنذاك. «أرابيسك» بدوره انتهى بنهاية نمطية، لم يكن المشاهد
ليتوقعها في ظل ذكاء الكوميديا ورسم الشخصيات، ورغم المرافعات الخطابية في
مشاهد
كثيرة المسلسل التي كانت تبلَع لصالح متعة الفرجة. في الحلمية، نجح في أن
يقلل من
هذه الخطابة وساعده في ذلك الشخصيات المتناقضة التي تحركت على مدى خمسين
عاماً
افتراضياً.
لكن عكاشة رغم ولعه بالتاريخ، فرَّق بينه وبين التاريخ المعاصر.
تعامل مع التاريخ المعاصر كتاريخ خاص (رؤيته الناصرية في كثير من أحداث
ليالي
الحلمية)، لكنه لم يحقق مسلسلاً تاريخياً «عاماً» أو «دينياً». كان صاحب
مشكلة مع
التاريخ القديم العام المؤطّر غير القابل للنقاش والأنسنة. صدى معركته حول
عمرو بن
العاص لا يزال يتواتر ويستعاد.
قبل وبعد الليالي
هناك قبل «ليالي الحلمية»
إذاً، وبعد «ليالي الحلمية».
قبل الليالي، كانت مرحلة تأسيس أكثر ما تجلت في
«الشهد
والدموع»، لربما تكون «ليالي الحلمية» هي الشكل الأكثر نضجاً لقصة «شهد
الدموع» الاجتماعية، مطعمة بالتفاصيل السياسية اكثر. لكن مع «الليالي»، بدا
عكاشة
ناصرياً زاعقاً، فيما صار بعدها يتجه إلى بحث أكثر غوصاً وهدوءاً. كان
عكاشة
متحركاً في موقفه من السياسة والتاريخ، موقفه الداعم لخطوات مبارك في الجزء
الرابع
من «ليالي الحلمية» لدى حديث الأبطال عن استعادة طابا مثلاً، انقلب فتوراً
ملحوظاً
في الجزء الخامس، ومن ثم تلا ذلك بأعمال ابتعدت عن السياسة بالمفهوم الذي
ظهر في «ليالي
الحلمية». ربما لم يكن عن عبث ذلك الانتقال من مضمون سياسي مباشر إلى
مواضيع
أكثر غوصاً في الاجتماع والهوية الثقافية. (هنا ربما يجب أن نشير أن قطاع
الانتاج
في التلفزيون المصري شارك بانتاج معظم مسلسلات عكاشة).
«أرابيسك»
مثلاً أريد له
أن يكون بحثاً في الهوية المصرية. «زيزينا» كان عودة لمحبوبة عكاشة:
الاسكندرية،
وفي المسلسل حديث عن مزيج غريب من الجنسيات في نعي (؟) لكوزموبولتية (هل
أسس هذا
الغوص لاحقاً لتصريحاته النقدية الملطفة حول الناصرية التي كان يناصرها في
السياسة)؟ «المصراوية» حاول البحث في كيف تتملك السلطة السياسية من الانسان
فتغيره.
كان عكاشة يستريح من فترة لأخرى. «لما التعلب فات» محاولة كوميدية باءت
بالفشل
جماهيريا رغم وجود قطبين تلفزيونيين فيها: محمود مرسي ويحيى الفخراني.
«كناريا
وشركاه» عن أب خارج من السجن لا يعرف أن لديه ولداً في تأثر ميلودرامي شبه
مباشر
لموجة المسلسلات اللاتينية، وإن كان ضدها. «عفاريت السيالة» كوميديا شعبية
تعتمد
على مباراة تمثيلية بين خالة (عبلة كامل) وابن اختها (أحمد الفيشاوي) التي
ربته،
وعن المال الهابط فجأة على من لم يعتده.
المباريات التمثيلية كانت سمات مسلسلات
عكاشة. خرَّجت أعماله ممثلين «رئيسيين». أي دور لصلاح السعدني علَّم في
التلفزيون
بقدر حسن أرابيسك والعمدة سليمان؟ ألم تقع فردوس عبد الحميد في تنميط
مسلسلات
زوجها، بعد دور سوكة في النوة، ودورها في «زيزينيا، ودورها في «عصفور
النار»»؟ هل
قام أحمد بدير بدور يشابه دور الولي عبد الفتّاح في «زيزينيا»؟ هل يستطيع
ممدوح عبد
العليم وآثار الحكيم (وحتى إلهام شاهين) محو دوري علي وزهرة في «ليالي
الحلمية»؟
ولوسي هل استطاعت ان تقوم بمثل أدوارها المختلفة جذرياً في ثلاثة مسلسلات:
حمدية
الراقصة في «الحلمية»، العاملة المكتئبة أنوار في «أرابيسك»، ودور الفتاة
القوية في
«زيزينيا»؟
تطول اللائحة. يمكن الجزم أن نص عكاشة هو سبب ارتياح وتألق الممثلين
على اختلافهم.
والنص ذاته (وهو كان في غالبه حوارياً يفتقد العمل على الصورة)
انتصر جلياً على التنفيذ. أحسن تعاونات عكاشة اخراجياً كانت مع جمال عبد
الحميد في
«أرابيسك»
و«زيزينيا»، لكن التعاون انقطع بخلاف. وبقيت تعاوناته المعتادة مع محمد
فاضل، واسماعيل عبد الحافظ وآخرين (محمد النجار، أحمد صقر، إنعام محمد علي)
نفذوا
له أعمال قلة. وإذا كان محمد فاضل مولع في الاسقاطات السياسية، فإنه يمكن
القول إن
عبد الحافظ أنجز «الحلمية» بطريقة متواضعة القيمة خاصةً في جزئيه الأخيرين.
إذ نرى
فجأة أن عبد الحافظ اكتشف الزووم، وبدأ يهجم به على المشاهدين. ولم يتخل
عنه حتى في
العمل الأخير «المصراوية» الذي بدا ضعيفاً جداً تقنياً في هذا الزمن من
الإبهار
الصوّري، ويمكن اختصار معظم مشاهده بالحركة البطيئة، والزووم طبعاً،
والمشاهد
الصامتة التي يغلب عليها غناء علي الحجار.
لا نعرف عكاشة في لبنان إلا
تلفزيونياً. فإنتاجه اليسير من السيناريوهات السينمائية (اثنان منها يصبان
في نقد
مرحلة الانفتاح داعماً توجهه الناصري)، لم يكرسه كاتباً سينمائياً، وبقي
أكثر
ارتباطاً بعالم التلفزيون. قد يكون هو من خلق لفظ «الرواية التلفزيونية» في
أحد
مقابلاته، وهو لفظ سرعان ما تناسخته وسائل اعلام ورقية. لم نقرأ له في
لبنان
رواياته المعدودة، التي وصلنا من أصدقاء أنها متواضعة القيمة الفنية، لكننا
لا يمكن
أن ننسى على الأخص ليالي الحرب التي كنا نتنافس فيها على مشاهدة أجزاء
الحلمية،
وغريمه (تلفزيونياً) رأفت الهجان. نستطيع القول أن أسامة أنور عكاشة رغم
رحيله، فإن
لحم كيتشنا التلفزيوني اللذيذ يبقى من... خيره!
السفير اللبنانية في
04/06/2010 |