ربما لم تهتم الأوساط الفكرية والأدبية في مصر منذ عشرات
السنين برحيل أحد رواد الثقافة والحداثة والتنوير مثلما اهتمت برحيل صاحب
الشهد
والدموع ومبدع ليالي الحلمية ، الكاتب المصري الكبير أسامة أنورعكاشة .
ترك
عكاشة في جيل الثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم ـ على نحو خاص ـ
بصمات لا
تمحى. ذلك أنه الروائي الذي صور الحياة المصرية عبر سلسلة تلفزيونية بديعة
من
الأحداث منذ زمن مصر الملكية وصولا إلى مصر الانفتاح .
لم تكن مسلسلات أسامة
أنور عكاشة ضربا من ضروب التسلية أو الترفيه بل كانت نضالا بالكلمة في زمن
توارت
فيه المواهب المبدعة وملأت الأجواء أصوات مغشوشة على كل الأصعدة.
ولعل أفضل
تعبير يمكن أن يطلق على الكاتب الراحل هو ذلك الذي أطلقه عليه زميله الكاتب
المصري
الكبير محفوظ عبد الرحمن بقوله : إنه " مقاتل حتى النفس الأخير " مضيفا :"
لقد رحل
أسامة بجسده فقط أما أفكاره وأعماله باقية وستظل في وجدان الشعب المصري
والعربي معا ."
هل كان عكاشة كاتبا اعتياديا مثل غيره من مئات الكتاب المصريين ؟
يجيب
الكاتب المصري يوسف القعيد : " إن الراحل كان من أصحاب الرسالات في كل ما
كتب كان
همه الأول بحثه في جذور مصر وهوية المصريين وعالجها في الدراما بشكل كبير
وهوأول من
تنبه لقضية الإرهاب الفكري وحاربه في كتاباته ".
في طنطا كانت البدايات
...
ولد الكاتب الكبير أسامة أنور عكاشة بمدينة طنطا عام 1941 وكان والده يعمل
فى التجارة بمحافظة( كفر الشيخ) وهى المحافظة التى ينتمى اليها . أما مدينة
طنطا
فهى المدينة التى نشأت فيها والدته
.
تلقى تعليمه الإبتدائى والثانوي بمدارس كفر
الشيخ والتحق بكلية الآداب قسم الدراسات الاجتماعية والنفسية بجامعة عين
شمس والتى
تخرج منها عام 1962 ، وقد كانت أولى محاولاته فى مجال التأليف خلال فترة
دراسته
الجامعية .
-
فـور تخرجه من الجامعة عمل إخصائيا اجتماعيا فى مؤسسة لرعاية
الأحداث ثم عمل مدرسا فى إحدى مدارس محافظة
(
أسيوط ) ثم انتقل للعمل بإدارة
العلاقات العامة (بكفر الشيخ ) وبعدها فى رعاية الشباب بجامعة (الأزهر) ،
إلى أن
جاء عام 1982 ليغـير مجرى حياته تماما حيث قدم استقالته من العمل بالحكومة
ليتفرغ
للكتابة والتأليف .
كتب أسامة أنور عكاشة أكثر من أربعين مسلسلا تليفزيونيا
بالإضافة إلى عدد من الأفلام السينمائية والمسرحيات وهى التى حفرت اسمه فى
الذاكرة
مؤلفا مصريا عريقا . وقد جاءت شهرته الحقيقية في التأليف من مسلسل ( الشهد
والدموع
)
والذى حقق نجاحا مبهرا
.
توالت بعد ذلك المسلسلات التى كتبها عكاشة والتى نالت
شهرة واسعة ونجحت فى تغيير شكل الدراما التليفزيونية .. كان من أهمها (
المشربية ،
ليالى الحلمية ، ضمير أبلة حكمت ، زيزينيا ، الراية البيضا ، وقال البحر ،
ريش على
مفيش ، أنا وأنت وبابا فى المشمش ، لما التعلب فات ، عصفور النار ، ومازال
النيل
يجرى ، أرابيسك ، امرأة من زمن الحب ، أميرة فى عابدين ، كناريا وشركاه ،
عفاريت
السيالة ، أحلام فى البوابة ، المصراوية ، الحب وأشياء أخرى ، رحلة السيد
أبو العلا
البشرى ، الحصار
).
عكاشة والوجه العجوز
...
كانت مصر بالنسبة لعكاشة قلق في
النهار وأرق في الليل أما السبب ، فلأنه عاشق لها ، وعاشق على نحو خاص
للقاهرة
بأوجهها التاريخية المتعددة وقد كتب عنها مؤخرا مقالا بديعا شبهها بأنها
السيدة
العجوز قال فيه : بالرغم من عمرها الطويل الذي تعدى الألف عام بتسع وثلاثين
بعدها
فمازالت صامدة في وجه الزمن وعواديه ، ومازالت تناضل من أجل البقاء
والحفاظ على
كبريائها وعلى المعنى الذي يحتويه اسمها لتبقى القاهرة غير مقهورة أو
مهزومة..
ولقد تلقت خلال هذا العمر المديد صنوفا شتى من الضربات والصدمات لو
تعرضت لها مدينة أخرى لركعت واستسلمت لخراب يتركها أطلالا.. لكنها ـ لسر
ما في
تكوينها أو في الخامة الإنسانية لأهلها ـ امتصت كل الضربات واستوعبت كل
الصدمات بل
وحولتها بعبقرية نادرة إلى محفزات لعوامل القوة والانتصار.. وكانت قمينة
بأن تظل
واحدة من سيدات العواصم وحاضرة من أهم الحواضر.. لولا أن الكثرة تغلب
الشجاعة
.
أسامة وحساب حصاد السنين
... .
استطاع أسامة أنور عكاشة أن يكون واحدا من
أهم المؤلفين وكتاب السيناريو للدراما المصرية والعربية ، وتعتبر أعماله
التليفزيونية هى الأهم والأكثر متابعة فى مصر والعالم العربى ، فقد عرف
طريقه إلى
قلوب البشر بصدق الكلمة ورشاقة المعنى ، ونجحت أعماله فى إيجاد جيل جديد من
كتاب
السيناريو القادرين على الإبداع وإمتاع المشاهد .
حصد أسامة أنور عكاشة العديد
من الأوسمة والجوائز أهمها جائزة الدولة للتفوق فى الفنون من المجلس الأعلى
للثقافة
عام 2002 ، جائزة الدولة التقديرية فى الفنون عام 2008
.
عاش أسامة أنور عكاشة
رحلة طويلة مع المرض، بدأت فى أمريكا بإجراء عملية القلب المفتوح، وبعد أن
تخطى
محنته الأولى، وقع فى محنة جديدة ، هي إصابة إحدى كليتيه بالتلف مما أدى
إلى
استئصالها، لكن صراعه مع المرض لم يتوقف عند هذا الحد، حيث أصيب بعدها
بسرطان فى
كليته الثانية ليستأصل نصفها.
وفي تكريم خاص من الدولة أمر الرئيس حسني مبارك
بعلاج عكاشة على نفقة الدولة بعد الأزمة الصحية التى ألمت به ، وذلك فور
إبلاغه
بالحالة الصحية للكاتب الكبير التى تستوجب توفير جميع أوجه الرعاية الطبية
، لكن يد
القدر كانت أقرب إليه .
مع بداية رحلة المرض وقبل أن يرحل الرجل عن عالمنا
الفاني كانت صحيفة الدستور المصرية المستقلة هي آخر الصحف التي التقته وقدم
من
خلالها ما يشبه الاعترافات قبل الرحيل .. ما الذي قاله عكاشة للدستور ؟
بدأ
أسامة أنور عكاشة حديثه عن فترة المرض قائلاً:
«التجربة
كانت لها خصوصية شديدة
خرجت منها إنسانًا جديدًا.. طفلاً عاد إلى الحياة مرة أخرى، وبعد انتهائها
أدركت
أنها بقدر ما كانت محنة، فقد كانت فرصة أيضًا، فالمحنة كانت في شعوري
الإنساني
بالخوف الممزوج بالملل من حالة المرض والرغبة في التخلص منه ومن آلامه
لدرجة أنني
وسطت طبيبًا مصريًا في كليفلاند بتقديم موعد الجراحة، وقلت له: «لو عايز
تخدمني
خليهم يقدموا لي ميعاد العملية»، واستغرب الطبيب جدًا وقال لي: إن الجميع
يهربون من
الجراحة، وأنت تريد أن تقدمها، فقلت له: «أنا عايز أخلص»، وبالفعل قدموا
الموعد.
قبل موعد الجراحة بيوم واحد شرح لي حالتي بالضبط، والنتائج التي قد
تترتب عليها فقال: بعد الجراحة سنواجه مشكلة التدخين، فأنت تدخن منذ 40
عامًا، وهو
ما سيتسبب في مشكلات عديدة ومضاعفات خطيرة، ستؤثر بالتأكيد في الرئتين، وما
قاله
حدث بالضبط ، وبعد الإفاقة دخلت العناية المركزة، وتوقفت الرئتان عن العمل
تمامًا،
وتم وضعي على جهاز التنفس الصناعي، وكانت هذه أصعب الأوقات.. شعرت بحالة
شديدة من
الضيق النفسي، فأنا على قيد الحياة، لكني لا أتنفس.. الجهاز هو الذي يؤدي
هذه
المهمة.
كنت وقتها محرومًا من الطعام والشراب وكنت في حالة عطش لا توصف، فالماء
ممنوع لأنهم يريدون التخلص من الماء الموجود على الرئة.. شعرت وقتها ومن
خلال
تعبيرات الأطباء أنني على الحافة «بين وبين»، فقد قال الطبيب لصديق جاء
لزيارتي
«we hope that he makes it ..we did our best»..
فكرتني هذه الجملة بكلمة الأطباء
المصريين: «إحنا عملنا اللي علينا والباقي علي ربنا».. شعرت من ضيقي وكربي
وأنا تحت
رحمة جهاز التنفس الصناعي أنني أتمنى العبور إلى إحدى الجهتين.. إما الحياة
أو
الموت.. تمنيت أن أتخلص من حالة العجز..
أفكار في غرفة العناية المركزة
...
وتستمر اعترافات عكاشة فيضيف : كانت أفكاري في غرفة العناية المركزة كلها
تتمحور حول تفاهة بني آدم الذي يملأ الدنيا صخبًا وضجيجًا، ويخوض معارك
وصراعات، ثم
يقع مسطوحا على فراش لا حول له ولا قوة ، حتى نفسه لا يمكنه التحكم فيها..
مرتبطا
بجهاز إذا توقف الجهاز انتهى الإنسان.. شعرت وقتها أن الأقوى في الإنسان هو
أفكاره،
وليست قواه الجسدية التي يملكها، حتى وهو في أشد لحظاته ضعفا، لكني ورغم
أنني كنت
أفكر، فإنني كنت من الضعف لدرجة أني في حالة استسلام تام، وقد يكون هذا
رحمة من
الله بالمريض أن يفقده الإحساس بالندم مثلا على ما فعله من أخطاء، فالله لا
يريد أن
يضيف على عذاب مرضه عذاب قلبه ونفسه وضميره. بعد أن اجتزت محنة المرض شعرت
أن
تغيرات كثيرة حدثت بداخلي. مواقف كثيرة اختلفت، لكن أكثر ما تغير، هو شعوري
بأنني
أصبحت أكثر شجاعة، فقد قابلت الموت.. كانت خطوة واحدة هي الفاصلة بيني
وبينه، ومن
حسن حظي أو من سوء حظي كانت الخطوة للنجاة لا للوفاة.. فماذا بعد مواجهة
الموت؟!
الخوف من الموت هو الهاجس الأكبر الذي يخافه الجميع.. يكرهون أن تنتهي
حياتهم
ويتمردون عليه، ولا يصدقون أنه قد يكون قريبًا منهم...بالفعل كنت أخاف من
الموت..
من حالة العدم والصمت الأخرس الكامل الشامل.. هذه التجربة جعلتني أكثر
شجاعة
ومستعدًا لمواجهة الموت في أي لحظة، وأكثر شجاعة في مواجهة مواقف الحياة
والتعامل
معها، فإذا كنت واجهت الموت فما بالنا بباقي المشاكل التافهة.
عمان
العمانية في
30/05/2010
ترك الحلمية ولياليها ولم يرفع «الراية البيضاء»...
أسامة أنور عكاشة «أرابيسك»
الدراما العربية
محمد أمين
لا تُذكر الدراما التلفزيونية العربية إلا ويذكر الكاتب المصري أسامة أنور
عكاشة الذي غادر الحياة أمس الأول بعد صراع طويل مع المرض، كيف لا وهي لم
تكن قبله تملك مشروعية أدبية وشعبية وكانت تعتبر من (سقط المتاع) في نظر
الكتّاب والمفكرين ومجرد أداة تسلية وتزجية أوقات لا أكثر، وعندما ظهر
عكاشة حوّل الدراما التلفزيونية إلى أدب شعبي روائي بكل ما تحمله الكلمة من
معنى.
وإذا كان نجيب محفوظ قد نقل الواقع الشعبي المصري إلى روايات ستظل تُقرأ
إلى حين، ونال على ذلك أرفع جائزة أدبية عالمية وهي جائزة نوبل، فإن أسامة
أنور عكاشة نقل الواقع المصري إلى ورق تحوّل بعد ذلك إلى صورة وأعتقد أن
أعماله ستظل تشاهد إلى حين أيضاً ونال على ذلك جائزة لا تقل أهمية عن جائزة
نوبل وهي جائزة (الاحترام) والتقدير ليس من الشعب المصري فحسب بل من الشعب
العربي كله.
قبيل ثورة الفضائيات وقبيل انطلاقة الدراما السورية الواثقة كانت مسلسلات
أسامة أنور عكاشة تحظى بإجماع ومتابعة واهتمام الجمهور العربي بدءاً من
مسلسل (وقال البحر) و(عصفور النار) ومروراً بـ(الراية البيضا) و(ارابيسك)
والمسلسل الشهير (ليالي الحلمية) و(الشهد والدموع) و(ضمير أبلة حكمت) و(وما
زال النيل يجري) و(أبو العلا) وانتهاء بمسلسل (مصراوية) وكان آخر أعماله
وقد عرض الجزء الثاني منه في رمضان الفائت، لقد لامس عكاشة وجع وأحلام
البسطاء والتقط نبض الشارع وهذه ليست بالمهمة السهلة بالنسبة لكاتب درامي
تلفزيوني فهو ومن خلال 150 حلقة تلفزيونية هي مسلسل (ليالي الحلمية) ألقى
نظرة طائر على تاريخ مصر الشعبي على مدى خمسين عاماً من خلال شخصيات دخلت
الذاكرة العربية لعل أشهرها (سليمان غانم) التي أداها باقتدار الفنان صلاح
السعدني بطل مسلسل آخر لعكاشة لا يقل أهمية وعمقاً واقتراباً من الناس وهو
مسلسل (أرابيسك) الذي طرح قضية هامة في الذاكرة المصرية المعاصرة وهي مسألة
الهوية.
لم تكن مسلسلات أسامة أنور عكاشة مجرد أعمال درامية عادية بل كانت نواقيس
خطر وتنبيهاً ورفضاً وكانت فوانيس تعلّق على أبواب الفقراء والبسطاء والذين
يقفون على (باب الله).
لقد كانت أعمالاً ذات معنى ومغزى ومن هنا جاءت أهميته بحيث تحول إلى نجم
ولعله الكاتب الدرامي العربي الأول الذي يصبح ظاهرة ذات معنى وفائدة ولم
يكن مجرد ظاهرة فارغة كحال بعض كتاب الدراما العربية اليوم.
أنا على يقين أن المرحوم أسامة أنور عكاشة قد انتقل إلى رحمة الله وهو غير
راض عن حال الدراما العربية التي بدأت تفقد بريقها وشعبيتها شيئاً فشيئاً
في تدهور لأنها لم تعد تهدف إلى الصدق ولم يعد يعنيها المشاهد العربي
البسيط الذي كان يعتبرها مرآة أحلامه وآلامه ووسيلته للتعبير. لقد تحولت
الدراما العربية من أداة تغيير إلى أداة تخدير.
لم يعد لدينا كتاب دراميون معنيون بالشأن العام ولديهم قضايا يدافعون عنها
ويحملون مسؤوليتها ويتحملون أوزارها، لقد طغى كتّاب الـ(بزنس) على المشهد
الإعلامي والدرامي وجاء عصر كتاب المقاولات و(الضمان) والمستكتبين من أصحاب
شركات الإنتاج والفضائيات العربية.
لم تعد هناك مشروعات فكرية بل هناك نصوص تتحدث عن مجتمعات غريبة.
يزعجني كما يزعج غيري بالتأكيد حال السينما المصرية على وجه التحديد وكان
أسامة أنور عكاشة أحد كتابها حيث قدم لها عدة أفلام منها (كتيبة الإعدام)
و(دماء على الإسفلت) و(الهجامة).
لقد تحولت هذه السينما على يد السينمائيين الجدد من طبيب جراح مبضعه لا
يخطئ إلى مجرد (تمرجي) لا يعرف إلا إعطاء (الحقن).
لقد تعلّق أسامة أنور عكاشة بالقضايا الكبرى التي تحدد مسار المجتمعات ولم
يلتفت إطلاقاً للقضايا الفارغة التي لا طائل منها، كان أميناً في نقل
الواقع ولم يتأخر عنه كما هو حال بعض الكتّاب الذين يعانون من ضيق أفق
معرفي ولم يتقدم عليه كحال كتاب ومخرجين يعانون من عقد لها علاقة بالادعاء
الكاذب، لم يكن يتجمل لكي لا يضطر للكذب.
ورغم أن المرحوم بإذن الله قد أدلى في الفترة الأخيرة بتصريحات إعلامية
أثارت حفيظة البعض وقد كانت آراؤه فيها غير موفقة إلا أنه لم يكن ليقول ما
قاله إلا لأنه كاتب لديه موقف ورأي وكان جريئاً في طرحه.
لقد ترك أسامة أنور عكاشة الحلمية ولياليها بعد أن أطل (عصفور النار) من
قفصه دون أن يرفع (الراية البيضاء) لقد كان (أرابيسك) الدراما المصرية، فمن
يحل محله؟! فما زال النيل يجري.
الوطن اللبنانية في
30/05/2010 |