استطاع الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة 1941( - )2010 ، الذي اختطفه الموت
أمس الأول وهو في أوج عطائه الإبداعي ، أنْ يجدد دم الدراما المصرية خاصة ،
والعربية عموما. فقد أحدثت المسلسلات التي كتبها منذ ثمانينيات القرن
الماضي نقلة نوعية في مستوى الكتابة الدرامية ، وخلصت الدراما من التسطيح
وهشاشة الشخصيات والحوارات المصطنعة التي لا تقول شيئا ، والعاطفية المفرطة
التي لازمت الإنتاج الدرامي العربي عقوداً عدة.
كان دخول أسامة أنور عكاشة ، الذي جرب حظه مع الكتابة القصصية ، ثم الكتابة
للسينما ، فلم يلفت الانتباه ، إلى عالم الدراما بمثابة إلقاء حجر كبير في
المياه الراكدة. فالرجل كان واعيا بما يفعله لمشروعه الذي تمثل في كتابة
تاريخ مواز للمجتمع المصري في حقب وفترات متقطعة او متعاقبة ، موفرا مساحة
واسعة للخيال في كتابته الدرامية. والأهم من ذلك أنه استطاع أن يجعل
شخصياته الدرامية حية ، طبيعية ، قريبة من الواقع وقادرة على إقناع المشاهد
بأنها تشبه البشر الساعين في الأرض وليست مجرد مخلوقات خيالية.
هذا هو الفرق بين كاتب الدراما الناجح وكاتب الدراما الذي لا يراعي هذه
العلاقة الدقيقة المفصلية بين الواقع والخيال. وأسامة أنور عكاشة كان بارعا
في إقناع المشاهد بأن شخصيات "ليالي الحلمية" و"التعلب فات" و"زيزينيا" هي
شخصيات من لحم ودم ، وجدت يوما وسعت في الأرض وشكلت علامات على زمن مضى. من
المؤكد ان الكاتب الدرامي البارز كان يجمع مادة تاريخية تتصل بالعالم الذي
يرسمه ، والأحياء التي كانت مسرحا لحركة شخصياته ، لكن قدرة عمله على شد
أبصار المشاهدين وحيازة اهتمامهم ، وجعلهم يتابعون مسلسلاته الطويلة ، التي
امتد أحدها وهو "ليالي الحلمية" إلى مئة وخمسين حلقة ، تعود إلى حيوية
الشخصيات والسياقات الحدثية التي كان يرسمها ، وإلى المتعة التي يحصل عليها
المشاهد ، والحيوية التي تتمتع بها الشخصيات ، والأطوار الغريبة التي
تتعاقب على بعض هذه الشخصيات وتؤسس لأفعالها.
لم أكن يوما مغرما بمتابعة المسلسلات ، فأنا مهتم بمشاهدة الأفلام
السينمائية أولا ، وليس لدي من الوقت الكثير لأجلس يوميا أمام الشاشة
الصعيرة لمتابعة أحداث مسلسل معين ، لكنني فعلت ذلك مع عدد كبير من مسلسلات
أسامة أنور عكاشة على مدار عقدين من الزمن تقريبا. لم أعدَّ ذلك إضاعة
للوقت ومشاهدة بلا طائل: لأن مسلسلات عكاشة تقدم ، إضافة إلى المتعة
الدرامية ، قدرا من المعرفة بالمجتمع المصري خلال فترات تاريخية معينة.
وهذا ما كان يهدف إليه الكاتب الراحل: أن يضيء تاريخ مصر الحديث كما فهمه
من خلال ابتداع عوالم خيالية لشخصيات تسعى في مكان كان موجودا ولكنه في
الوقت نفسه من صناعة كاتب الدراما.
من خلال المسلسلات التي كتبها عكاشة تعرفت إلى عبقرية عدد من الممثلين
المصريين الكبار ، تعرفت إلى يحيى الفخراني وصلاح السعدني ومحمود مرسي ،
وتبينت وجوها داهشة لهؤلاء الفنانين الذين شاهدتهم في أفلام سينمائية ،
لكنني لم أكن أعلم أنهم ينطوون على كل تلك الطاقة والحيوية والقدرة على
تجسيد شخصيات خيالية صنعها قلم عكاشة ، ولكنهم استطاعوا أن يدخلوا في إهاب
هذه الشخصيات ويمنحوها حياة ربما كانت أكثر حضورا وقدرة على العيش في الزمن
من البشر الحقيقيين الساعين في الأرض. هذه هي عبقرية الخيال الذي يجمع
كاتبا مميزا مع مخرج مميز وممثل خلاق بارع. ولهذا فإن رحيل كاتب درامي مميز
مثل أسامة أنور عكاشة يعد خسارة مؤلمة للدراما العربية التي عادت منذ سنوات
عدة إلى عوالم العاطفية المفرطة وضعف رسم الشخصيات وتخليق أحداث غير منطقية
، ما يجعل المرء يشيح بوجهه عن الشاشة الصغيرة عندما يأتي موعد إذاعة
المسلسل الدرامي اليومي.
nawahda@go.com.jo
الدستور الأردنية في
30/05/2010
قلمه أثرى الساحة الدرامية واستفاد
الكثير من كتاب الدراما العرب من مدرسته
الإبداعية
كتّاب عمانيون: أسامة أنور عكاشة ليس مجرد كاتب دراما إنما
مؤرخ
مسقط - عبدالرزاق الربيعي
لم يكن الأثر
الذي تركه الكاتب أسامة أنور عكاشة الذي رحل عن عالمنا صباح أمس الأول على
الدراما
العمانية بالقليل فكاتب الشهد والدوم والراية البيضاء وليالي الحلمية
بأجزائها
الخمسة وحلقاتها الـ150 والعشرات من الأعمال الأخرى له بصمة واضحة على
الدراما
العربية.
يقول الكاتب محمد عيد العريمي: "بعد نجيب محفوظ والذي كنا، ونحو
طلابا، نتابع مشاهدة أفلام رواياته بالذهاب إلى المكتبة، في اليوم التالي،
للحصول
على نص الفيلم مكتوبا، أعاد لي أسامة أنور عكاشة العادة نفسها مع أول عمل
درامي
أشاهده له. تأثير عكاشة لم يقتصر على بث الروح من جديد في الأعمال الدرامية
وإعادة
الاعتبار للدراما المصرية بعد مرحلة راج فيها الإسفاف والاستخفاف. ومنتجو
الدراما
إلى الأعمال الأدبية المتميزة بعد أن اكتفوا بكُتَّاب سيناريوهات يفصلون
القصة حسب
قياس الممثلين، فظهرت أعمال أدبية رفيعة المستوى لكتاب آخرين انحصرت شهرتهم
بين
القراء المخلصين للرواية ففضل أسامة عكاشة لم يقتصر على الدراما وحسب فما
كان
للمشاهد العربي ـ في ظل أزمة القراءة المزمنة أن يتعرف على مبدعين كحنه
مينه لولا
مسلسل مثل "نهاية رجل شجاع"، الذي نهض بالدراما السورية نهوضاً لم يسبق
إليه، وخرّج
ممثلين سوريين أصبحوا نجوما على مستوى العالم العربي بعد أن احتكرت الدراما
المصرية
الشاشة الفضية ـ بما لها وعليها".
ويقول د.شبر بن شرف الموسوي "لقد كان
للكاتب أنور عكاشة دور كبير في تطور الدراما العربية فلقد كانت كتابته
تتعلق بدرجة
من الوعي بقضايا الأمة العربية والشعب المصري ولقد حاول أن يطرح من خلال
أعماله
الدرامية التطور التاريخي الذي مر به الشعب المصري إن كان من خلال الشهد
والدموع أو
ليالي الحلمية أو زيننا أو المصراوية فكل أعماله كانت تدلل على الوعي
الكامل بقضايا
الشعب المصري وهو وعي يتعلق بالدرجة الأولى بوعي الكاتب وبمفهومه عن كتابة
الأعمال
الدرامية وبتصوره الموضوعي والشخصي والفني لتلك القضايا، ووعيه بالعناصر
الفنية
لكتابة العمل الدرامي، وكيفية التعامل مع هذه العناصر وتحقيقها داخل ذلك
العمل وهذا
ما وجدناه واضحا في أعمال أسامة أنور عكاشة، وبموقفه ورؤيته الشخصية لمعنى
القصة
الدرامية والهدف، وقدرته على تحويل الفكرة وعناصرها الفنية إلى عمل فني
تتحقق فيها
كل عناصر العمل الدرامي بشكل جميل ومعبر.
وأضاف الموسوي: "وبطبيعة الحال
فإن أسامة أنور عكاشة قد أظهر قدرته ككاتب قادر على كتابة نص درامي متماسك،
وأن
تكون له قدرة على نقل فكرته إلى القارئ، وأن يكسب بناءه الفني تماسكا وأن
يبعده عن
الخلل، فالمواقف كلها في القصص الدرامية جعلتنا كمشاهدين نتسمر أمام الشاشة
حتى
نعرف نهاية الحكاية، واستطاع بتلك اللمسات الفنية التي يضيفها ككاتب درامي
إلى
إيجاد مناخات جمالية جديدة تضفي على الأحداث والشخصية أبعادا فنية مبتكرة.
وإن
الحراك الفني في هذه المسلسلات كان يعبر عن الوعي الفني في عقل الكاتب،
ويمثل تطورا
في فكره القصصي، ووعيه الفني، وكل هذا بالتأكيد كان يكسب البناء الفني
الدرامي قوة
وتميزا في المسلسلات التي كتبها أسامة أنور عكاشة، لأن الكاتب استطاع أن
ينقل
الفكرة أو المعنى العام من مجرد فكرة قصصية عابرة إلى تشكيل فني وإبداعي.
وهو ما
جعل المسلسلات التي كتبها كأفضل مسلسلات عربية عرضت على الشاشة الفضية
وفازت بجوائز
عديدة. رحم الله أسامة أنور عكاشة وأسكنه فسيح جناته ولقد كانت وفاته خسارة
كبيرة
للدراما العربية".
ويقول الكاتب محمد بن سيف الرحبي: "أسامة أنور عكاشة ليس
مجرد كاتب دراما، إنما هو مؤرخ حقيقي يقدم التاريخ من خلال الناس، يزوّق
رسالة
التاريخ للوصول إلينا، ولا يتعامل معه على أنه أحداث جامدة وقع كل جزء منها
في
اليوم الفلاني من السنة العلانية، إنما عبر الحكايات (الشهرزادية) التي
تجعل من
الماضي بساطا ممتدا لنجلس عليه اليوم، ونشكل بدورنا ما سيجده جيل قادم من
بعدنا..
أسامة اختزل أحلام الناس وتطلعاتهم ومشاكلهم، وضعها في دفتر ملون يتتالى
علينا كل ليلة، نجلس نترقب ما سيفاجئنا به من حكايات ضمن الحكاية الأم،
ببساطة جعل
من الكتابة الدرامية تاريخا يوثق المراحل الزمنية وتجلياتها وإخفاقاتها
بلغة فنية
راقية، والخوف على الدراما العربية بعد رحيل واحد من أهم صنّاع الكلمة
فيها،
وبفقدان كل فارس من هؤلاء الفرسان القدماء سيجعلنا نواجه حالة تصحر نلمسها
حاليا،
حيث أزمة النص تضرب الدراما العربية بقوة، ولا يمكن تعويض رجل كأسامة أنور
عكاشة،
لكن فئة النجوم الجدد يمكن العثور عليهم بكل بساطة.
ويرى الكاتب الدرامي
أحمد الإزكي أن المرحوم أسامة أنور عكاشة مدرسة لوحده في كتابة سيناريوهات
المسلسلات الدرامية فقلمه الرائع أثرى الساحة الدرامية العربية فكم من
الكتاب قد
حذا حذوه لأنه كاتب متمكن من أدواته في رسم المشهد الدرامي ولا أبالغ ولا
أغالي لو
قلت إنه يرسم مشهده على مقياس دقيق يقاس بالسنتميتر فكل عمل يحمل اسم عكاشة
يكتب له
النجاح بصرف النظر عن المخرج ونجوم المسلسل" وأضاف الإزكي: "لقد استفاد
الكثير من
كتاب الدراما في الوطن
العربي من مدرسة عكاشة الإبداعية فلو لم يكتب غير مسلسل
"ليالي
الحلمية" لكفاه شرفا وتألقا وإبداعا".
وأكد "إن أعمال عكاشة تركت
أثرا إيجابيا في الدراما العربية وستكون مدرسة أسامة أنور عكاشة مفتوحة حتى
بعد موت
صاحبها لأن الأعمال الخالدة ستبقى محفورة في ذاكرة الزمن".
وترى الناقدة
عزة القصابية أن عكاشة "يعد من رواد كتاب الدراما العربية وقد جاء في مرحلة
قبل
الفضائيات لذا أحدث أثرا في المشاهدين كـ"ليالي الحلمية" الذي كان نال
متابعة
جماهيرية واسعة شأنه شأن مسلسلاته الأخرى كـ"آرابيسك" و"الراية البيضا"
و"الشهد
والدموع" وهذه الأعمال تركت بصمات جعلته مميزا عن كتاب الدراما العربية وقد
اشتغل
على التاريخ المصرية لقد فقدنا برحيله كاتبا مهما ونحن بحاجة إلى أعمال
توازي هذه
الأعمال".
الشبيبة العمانية في
30/05/2010 |