«العالم بات أصغر، غربيا أكثر، هوليووديا أكثر... ثم يأتيك هذا الفيلم الذي
يجيء من منطلق آخر. حين شاهدته شعرت بأنه حلم غريب وجميل».. قائل هذه
الكلمات هو المخرج تيم بيرتون، رئيس لجنة تحكيم مهرجان كان، وذلك بعد إعلان
نتائج الدورة الثالثة والستين مساء الثالث والعشرين من الشهر الحالي. وهو
يصف الفيلم الذي نال السعفة الذهبية هذا العام، وهو الفيلم التايلاني -
البريطاني - الفرنسي - الألماني - الإسباني «العم بونمي الذي يستطيع تذكر
حيواته السابقات».
بهذه الجائزة انتصر قرار المخرج بالهروب من شتّى المشاكل التي رمتها معظم
أفلام المسابقة على الشاشة: من موضوع المهاجرين إلى موضوع الحرب العراقية،
ومن موضوع العنصرية والحرب الجزائرية إلى موضوع المتاعب الفردية في كل ركن
وناحية. بذلك تخلّى بيرتون وفريقه عن تبنى السينمات الواقعية والأفلام
المائلة إلى الدكانة، كما توقّع هذا الناقد، ولجأ إلى الفيلم الوحيد الذي
يؤمن قدرا من الخيال وهو المخرج الخيالي الكامل منذ بداية أعماله إلى
نهايتها. الفيلم من عروض الأيام الأخيرة من المهرجان، مخرجه هو أبيشاتبونغ
ويراستهاكول ويعتمد على تعاليم ومفاهيم بوذية بلورها في سيناريو من
الحكايات والقصص التي تدور في خون كاين، وهي مدينة تقع شمال شرقي العاصمة.
وكان المخرج قد صوّر سبع عشرة دقيقة بعنوان «رسالة إلى بونمي» عرضها في
الدورة الفائتة، كما كان اشترك في فيلم روائي طويل واحد هو «مرض استوائي»
لفت الأنظار إليه وذلك قبل نحو أربع سنوات.
شرفة بيت بطل الفيلم الكبير سنّا والمريض بدنا، تصبح محطّة وصول أرواح
مختلفة. بعضها لزوجته وولده الراحلين، وبعضها الآخر له متقمّصا مخلوقات
عدّة مختلفة وذلك تبعا لنظرية التقمّص البوذية التي تعتبر أن كلا منا عاش
حياته على هذه الأرض ولو بصور أخرى من قبل.
الفيلم ينتقل من مشهد إلى آخر من دون الرغبة في الإفصاح عن السبب أو اتباع
سياق واضح. المخرج قد لا ينوي أن يكون غامضا، لكن سريعا ما توحي المشاهد
بأن همّه كان تقديم الحالة الواحدة معزولة عن سواها مما يُثمر عن عمل ثري
من ناحية ومفتقد للأهمية من ناحية أخرى. أعجب كُثرا من الحاضرين ولم يعجب
البعض، لكن بيرتون كان من بين الغالبية.
قرارات لجنة التحكيم استبعدت، عمليا، كل فيلم طرح مادّة واقعية أو جادّة
باستثناء الفيلم الفرنسي «عن الآلهات والرجال» الذي أنجز الجائزة الثانية،
وهو فيلم يستحق الاهتمام حول أحداث حقيقية وقعت في الجزائر قبل عدّة سنوات،
حين صعّدت جبهة متطرّفة عملياتها ضد الأجانب في القرى الجبلية واعتقلت (ثم
قتلت) عددا من النسّاك الكاثوليكيين الذين عاشوا منذ بضعة عقود هناك جنبا
إلى جنب مع الأهالي المسلمين. الفيلم يحيّي الإسلام في أكثر من وجه مذكّرا
بسماحته حيال الأديان الأخرى ومعارضته للعنف، ولا يواجه التطرّف بهجوم كان
من السهل تبنّيه فيما لو أراد المخرج أكزافييه بيوفوا الذي كان سبق له أن
فاز بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمه «لا تنسى أنك ستموت» سنة 1995 هذه
الجائزة ذهبت هذه المرّة إلى المخرج التشادي محمد صالح هارون عن فيلم «رجل
يصرخ» الذي دار حول أب يشي بابنه فيضمّه الجيش إلى الحرب عنوة وذلك لكي
يتسنى للأول البقاء كمشرف على بركة السباحة في الفندق الذي كان يعمل فيه مع
ابنه.
* الإيراني المغيّب
* لجنة التحكيم لم تعجب كثيرا بفيلم عبّاس كياروستامي «نسخة مصدّقة» واكتفت
بمنح بطلة الفيلم جولييت بينوش جائزة أفضل ممثلة عن دور لعبته جيّدا لكن
نجوميّتها طغت على دقّة أدائها وربما على أداء ممثلات أخريات في أفلام
مختلفة. لكن إذا لم يصعد كياروستامي المنصّة صعد عوضا عنه المخرج المغيّب
جعفر باناهي، إذ احتل اسمه كرسيه الفارغ، إذ كان من المنتظر قيامه بعضوية
لجنة التحكيم لكن قرار الاستمرار في سجنه بلا تهمة، منعه من الوصول. جولييت
بينوش تحدّثت عنه بحنان وتوقّفت قبل أن تنهمر دموعها، لكن دموع كياروستامي
كانت تترقرق تحت نظّارته وهي توجّه إليه التحية والشكر على دورها الذي قامت
به تحت إدارته.
ولم ينل فيلمان من بريطانيا إعجاب لجنة التحكيم فيما يبدو، فخرج «عام آخر»
لمايك لي حول الوحدة في حياة البشر، و«طريق أيرلندية» حول رجل يبحث عن هوية
قاتلي صديقه في العراق من قائمة الجوائز. السينما الأميركية أيضا خرجت
خالية الوفاض لكن لا أحد اعتقد سابقا أن اختيار فيلم «لعبة عادلة» لدوغ
ليمان (وهو تمويل إماراتي - أميركي مشترك) قُصد به أن يفوز الفيلم فعلا.
ففي نهاية المطاف هناك أفلام أميركية أخرى كانت جديرة أكثر باختيار أحدها
لو كان ذلك هو المطلوب.
لم تكن هناك أيضا خيبات أمل كبيرة في هذه النتائج رغم السؤال حول حقيقة ما
إذا كان إخراج الفرنسي ماثيو أمالريك هو فعلا أفضل إخراج بين السينمائيين
الذين قدّموا أفلاما. أمالريك قدّم فيلما لافتا ومتواضعا في الوقت ذاته،
لكن الكتابة والإخراج ليسا من بين حسناته الرئيسية. رغم ذلك فاز أمالريك
بجائزة أفضل مخرج عنوة عن الآخرين.
الأسبوعية في
25/05/2010
وثائقيات كان : النصيب الأوفر للسياسة..
حسن مرزوقي
يبدو أن ارتباط الوثائقي بالسياسة في مهرجان كان
السينمائي صار لازمة سنوية. ففي هذه الدورة كسابقاتها يهمن الشأن السياسي
وأزمات
العالم وآلامه على مواضيع الأفلام. فمن سبعة أفلام من الأفلام التي عرضت في
فئة
الوثائقي نجد خمسة منها تتخذ من السياسة موضوعا لها أو متماسة بالشأن
السياسي.
وفيلمين لهما علاقة بالفن.
للفن
والجمال نصيب...
فيلم "سينمو
العشب في مدنكم"
لصوفي فيين يتناول مشروع الفنان أنسلام كييفر الذي انطلق سنة 1993من
ألمانيا ميمما
وجهه نحو الجنوب الفرنسي ليستقر في مدينة صغيرة اسمها "برجاك" وينشئ مشروعا
حالمًا
سرعان ما أصبح حقيقة فنية.
المشروع اسمه
" La Ribotte"
أو "مرسم الهضبة" وهي
عبارة عن 48 عمارة بنيت على 35 هكتار كونت قرية غريبة عن محيطها الصناعي
تماما.
وسيركز الفيلم على مظاهر الغرابة حيث تلك المغارات والأودية والشلالات
والبحيرات
المتناثرة في غابة نضرة .. توحي بمكان خيالي في عالم واقعي. يغوص الفيلم في
ثنايا
الإبداع مركزا على مواده الطبيعية من خشب ومعادن ومختلفة وطين وإسمنت وحتى
الرماد
كان مادة خلق وإبداع..
أما الفيلم الثاني الذي له علاقة بالفن فهو سيرة ذاتية
فنية للسينمائي الذي ارتبط اسمه بمهرجان كان لسنوات طويلة وهو
جيل
جاكوب.
والفيلم لسرج بيرون ويتناول المحطات الفنية لجاكوب والشخصيات
الكبرى التي التقاها من فيليني وبليلوش مرورا بتارانتينو وصولا إلى كلنت
إيستوت ..
سيل عارم من الصور والذكريات والتطلعات حول عالم السينما من خلال عالم جيل
جاكوب.
للوثائقي السياسي
وجوه...
أما الأغلبية الساحقة للأفلام الوثائقية المشاركة
في مهرجان كان لهذه السنة فكانت تدور في فلك السياسة إما بشكل مباشر أو
تحوم حول
الموضوع السياسي وتنويعاته الاقتصادية والحقوقية وتوزعت كما يلي :
السياسي
المستبد والسياسي الفاسد...
حيث تعرض كل من الفيلم الروماني "السيرة الذاتية
لنيكولا تشاوسيكو" للمخرج أندري اوجيكا وفيلم الإيطالية صابرينا غوزيتي
"دراكولا ..
إيطاليا ترتجف" لرمزين سياسيين أحدهما في الماضي ويمثل الدكتاتورية التي
تزعم
أوروبا أنها تخلصت منها والثاني رمز لسياسي مخضرم هو برلسكوني ارتبط اسمه
بالكل شيء
في إيطاليا المعاصرة. ويرمز لفساد تزعم أوربا أيضا أنها بريئة منه.
*
السيرة
الذاتية لنيكولا تشاوسيسكو
"في
نهاية الأمر لم يكن ذلك الدكتاتور إلا ممثلا
محترفا أتيحت له الفرصة كي يجسد في حياته أقصى درجات الأنانية البشرية...
لم يكن
فيلمي سوى سؤال ذي بعد جمالي يشبه ما وصف به م بودلير لويس السادس عشر،
وصور به
بولنتنيانو نيكولا تشاوسيسكو، ولكن شعرا.."
هكذا عبر المخرج الروماني أندري
أوجيكا واصفا فيلمه الوثائقي عن الطاغية الروماني
نيكولا
تشاوسيسكو.
حيث تتبع حيثيات محاكمته هو وزوجته ومن خلالها حاكم المخرج 24
سنة من الاستبداد (1965 – 1989).
*
دراكولا .. إيطاليا
ترتجف..
هذا الفيلم ينغص نشوة انتصارات رئيس الوزراء الإيطالي
برلسكوني سوءا السياسية منها أو المالية في حرب يخوضها بشكل يومي ضد النقد
من داخل
وخارج إيطاليا. يكشف الفيلم الفساد السياسي والمالي الذي في ظله تدار
الانتخابات
التي ينتصر فيها هذ الزعيم.. إنه نظام سياسي ومالي بالغ التعقيد يقف
المواطن
الإيطالي عاجزا أمام تغييره.
يبحث الفيلم في أسباب تعثر الديمقراطية الإيطالية
الناشئة. من خلال التعاطي مع الزلزال الذي هزّ مدينة "أكيلا" الإيطالية يوم
6 أبريل 2009.
تتجول الكاميرا في مدينة أشباح وما يلفت الانتباه هو الصور الكاريكاتورية
عن
برلسكوني المعلقة في ما تبقى من جدران حيث يبدو كإمبراطور يفقد إمبراطوريته.
في هذه المدينة الخالية بفعل الزلزال يحلو الحديث عن إيطاليا الطبقة
الحاكمة
وإيطاليا الفساد الإداري والإعلام الفاسد وإيطاليا الطبقات المسحوقة... ثم
سؤال
الانتلجينسيا الإيطالية الكبير : لماذا يصوت الناس لبرلسكوني كل مرة ؟؟
من أكيلا المدينة العظيمة التي محقها الزلزال جاءت
الإجابة.. هذه المدينة الجبلية الفخورة بما تملكه من تراث فني استطاع
سكانها أن
يتبادلوا أعز شيء يمتلكونه : إنه التضامن ضد قهر الطبيعة وظلم البشر.. ضد
دمار
الزلزال وخراب سياسة برلسكوني.
أزمات
العالم... مزمنة
كثيرة هي الوثائقيات التي تتناول قضايا عالمية دون
الاقتصار على إقليم أو قارة. وعادة ما يحاول هذا النوع من الوثائقيات
الجلوس على
يسار القوى المهيمنة في العالم. ولم تخل دورة من دورات مهرجان كان من هذا
النوع.
وأهم فيلمين في هذه الدورة يعبران عن هذا المضمون هما:
العد التنازلي نحو الصفر
Count Down to Zero
أخرجته الأمريكية
لوسي
ولكر...
وهو فيلم يتناول تاريخ القنبلة النووية منذ نشأتها. تسع دول في
العالم تملك السلاح النووي اليوم وكثيرة هي الدول التي تسعى إلى امتلاكه
بشتى
السبل.
هذا الفيلم يفضح النفاق العالمي في تناول مسألة السلاح النووي. ويعرض
أدلة قاطعة على هشاشة السلم في العالم. فاستقرار العالم مرهون بعمل إرهابي
نووي أو
بأزمة دبلوماسية حادة أو بامتلاك قائد مجنون لهذا السلاح أوتقدير غير سليم
للخطر
الخارجي من قبل دولة مالكة للقنبلة النووية وما حدث هيروشيما وناكازاكي عنا
ببعيد...
في خضم العمل
Inside Job
يدخل المخرج
شارل فيرغسون
كان هذه السنة من باب الأزمة
المالية العالمية. حيث يعتبر فيلمه الوثائقي "داخل العمل" أول فيلم
يتناول بشكل
صادم أسرار الأزمة المالية التي عصفت بالعالم سنة 2008 والتي وصلت خسائرها
إلى 20000
مليار دولار وأدت إلى فقدان الملايين لوظائفهم ومنازلهم عبر العالم. يمثل
هذا
الفيلم بحثا استقصائيا معمقا في أسباب هذه الأزمة. حيث حاور أهم وجوه دنيا
المال
والأعمال والسياسة والإعلام في العالم. ليكشف عن حقيقة العلاقات الخفية
والمريبة
والشريرة أحيانا بين السياسة والاقتصاد من ناحية وبين السياسة والخبراء
والعلماء من
ناحية أخرى.
يقوم بدور الراوي في هذا الفيلم مات دايمون المتحصل
على أوسكار وبطل فيلم "المنطقة الخضراء" المتحصل على الأوسكار. وتجول
الفيلم بين
الولايات المتحدة وبريطانيا وأيسلندا وسنغافورة والصين.
الفن وجه
والسياسة قفا....
الفيلم القادم من الشيلي ويحمل "عنوان الحنين على
قمة لوز" يوهم متلقيه بأنه يتناول موضوعا سياحيا فإذا به أمام فيلم سياسي.
الحنين إلى قمة لوز
Nostalgia de la Luz...
في الشيلي وعلى ارتفاع 3000 متر فوق سطح البحر تمتد براري
أتاكاما وهي من أروع الأماكن في العالم لرؤية النجوم. حيث السماء مفتوحة
أمام
الناظر ويشعر من يرتقي ببصره إلى السماء أنه قريب جدا من ذلك النور الذي
يراه.
يفضل علماء الفلك هذا المكان الجميل والبريء لمعرفة
حقيقة السماء. ولكن لو نظرت من حولك تطالعك حقائق الأرض: من بقايا مومياء
ومغاور
المناجم التي سقطت على العمال فاندثر من اندثر. ولكن أيضا بقايا عظام
المقابر
الجماعية لمناهضي النظام السابق، نظام بينوشي.
يبني المخرج باتريسيو غوزمان
الفيلم على مشهدين في غاية التناقض والألم. مشهد العلماء الذين يبحثون عن
إمكانية
عيش في كواكب أخرى وفرضية وجود كائنات خارج الفضاء. ومشهد عجوز تقلب الصخر
باحثة عن
بقايا كائن كانت تناديه زوجا أو ابنا.
الجزيرة الوثائقية في
25/05/2010 |