منذ البداية كان المخرج محمد الدراجي منتبها إلى البعد الروائي
لفيلمه، فقد حدثنا عن المقارنة التي ربما نبهته إليها واقعيا أمه وترتبط
بالعلاقة الأصيلة بين السينما في الخارج كما يعيشها الناس العاديون يوميا
وخاصة في العراق ما بعد الاحتلال والسينما في الكاميرا وفي عقول مخرجيها
ومبدعيها بشكل عام. أي ذلك الخيط الرفيع كما يقول عنه محمد الدراجي الذي لو
قطعناه قطعنا كل فصل بين السينما والواقع.
وهو يقدم لفيلمه في إحدى قاعات "الغرون سينما" في "فيستيفول سيتي" في
دبي رأينا في عيني محمد الدراجي بريقا رأيناه أيضا أثناء الفيلم ويعكس ذكاء
إبداعيا غير عادي.
الذي فاجئني بعد انتهائي من مشاهدة فيلم الدراجي الجديد هو كيف أمكن
لهذا المبدع شديد الذكاء أن يترك فيلمه دون تصنيف سينمائي ولا ينتبه إلى
أنه كان يمكنه أن يصنع بفيلمه "حرب حب رب وجنون" فيلما من أجمل الأفلام
الروائية التي أنتجتها السينما العربية في الفترة الأخيرة، تساءلت لماذا لم
يدر بخلد الدراجي فكرة حذف بعض الدقائق - وخاصة في خاتمة الفيلم ومشهد
إعلانه بشكل مباشر عن اليوم الأول من التصوير- وتصوير دقائق أخرى من خارج
الساعات المائة والعشرون التي جمعها حول أجواء تصوير فيلمه أحلام، دقائق
تصوير جديدة يصل بها الدراجي بين أجزاء فيلمه الجديد فيكون فيلما روائيا
بامتياز، بل يكون أكثر من ذلك، فيلما من أجمل ما يمكن للإنسان أن يشاهده في
هذه الفترة التي تمر فيها السينما العربية بفترة فراغ حقيقي.
فيلم محمد الدراجي الجديد لم يكن ينقصه عن الفيلم الروائي شيئا،
الحكاية وتشويقها كانا هناك، الشخوص كانوا هناك أيضا وكانوا حقيقيين تماما
والإيقاع الموحد والمتصاعد على امتداد الفيلم كان مثل فلق الصبح.
منذ البداية أحسسنا أننا إزاء فيلم "روائي" درامي حيث رأينا مخرجا
عراقيا يتحايل على الظروف كي يصور فيلمه الأول في بلاده التي تعيش حربا
تدميرية، وكان يهدف من وراء ذلك مساعدة هذه البلاد على تجاوز حدادها من
خلال صنع الفن وخاصة السينما، منذ كذبة المخرج على حرس الحدود بأنه جاء
يصور لصالح قناة الجزيرة، منذ ذلك الحين بدأ الفيلم غير وثائقي، أي بدأ
روائيا وبدأت حكايته وما يسمى بالإنجليزية "الفكشين". هذه الأخيرة أحسسناها
بعد ذلك أيضا في علاقة المخرج بأبيه وشخصية هذا الأخير الذي لم يعد يستطيع
التكلم وإنما يقلب نظره بين الوجوه.
في مشهد إقناع المخرج أمه أن توافق على تصويره فيلمه في بغداد وأن
تمنحه بركتها، كان هناك حكاية وانفعالات من داخل الفيلم وخارجه أي لدى
الجمهور وكان أبو المخرج وأمه شخصيتان دراميتان في الفيلم. كنا متشوقين
ونحن نتابع هذه المشاهد كيف سيكون رد فعل الوالدة، وهو موقف لم يكن من
الممكن التنبؤ به، الخروج للتصوير مع فريق يتكون أغلبه من العراقيين الشباب
لم يكن مسألة وثائقية في إحساسنا بها، كان الخوف والرعب يملؤ أفئدة الجميع
وكان هناك ترددات، وهذا الشعور كان موجودا في كامل الفيلم وكان متعلقا
بهيكله وعمارتها وكذلك بعناصره التفصيلية. وهذه الخصائص تواصلت حتى في
عملية بحث المخرج عن الفتاة التي سوف تقوم بدور المرأة التي تم اغتصابها
حسب قصة الفيلم الذي ينوي المخرج تصويره في بغداد، وكذلك في اختيار ممثلين
آخرين مثل ذاك المدمن على الكحول والذي كان يستجدي المخرج أن يمنحه دورا
فهو بدون مأوى، أسلوب ظهور شخصية ذاك الشبه معتوه هو أقرب إلى أجواء
الشخصيات الدرامية الروائية منه إلى فرد نصوره في فيلم تسجيلي، كما أن
المخرج قد التقى في طريقه شخصيات مهمة و"سينمائية" أخرى مثل ذلك المتسول ذو
الوجه "الفوتوجينيك" وكيف أعطاه المخرج دورا في فيلمه وجعله يرقص على خلفية
وجهه بتلك الورقة النقدية.
كل هذا جعلنا نتابع الفيلم ونحن مسمرين في مقاعدنا ننتظر بشوق حار
نهاية الفيلم أو نهاية السينما أو بدايتها في بغداد الحرب والقتل
والاحتلال. وكان فيلما فتحنا على كل الأحاسين التي عاشها ويعيشها أولئك
الناس الذين ابتلاهم الله بالسكن في بغداد وفي العراق في فترة الإحتلال.
بقي أن الفيلم - بالنسبة لهذه المسألة- لا يوقفنا على آثار الدمار
والقتل والاحتلال فقط بل يفتحنا أيضا على الحياة بأبعادها المتنوعة
والمتناقضة: الخوف والأمان، الحزن والفرحة، الهزيمة والانتصار، ولو كان
هذا الانتصار هو انتصار الفريق الوطني العراقي لكرة القدم وخروج الجمهور
إلى الشارع يعبر عن فرحته التلقائية تحت بنادق الشرطة التي كانت تحرس
عفويته في الفرحة وتعبيره عن رفض احتلال العراق وتقسيمه بإعلانه انتصار كل
العراق.
على مستوى جماليات الفيلم نلاحظ أن الفيلم قد انفتح على الحياة
الحقيقية في العراق فصور أنها رغم غلبة الحرب والموت والدمار عليها إلا
أنها تحتوي ساعات للسلم والحياة والبناء، لذا تنوعت أصوات الفيلم وألوانه،
فالفيلم يأخذ أصوات الطائرات الحربية والمدافع والعيارات ومحركات السيارات
الفارة ولكن يمزجها بصوت الأذان وأصوات هتافات الشباب بانتصار الفريق
الوطني العراقي، الخ.
على مستوى الألوان، صور المخرج فيلمه في الليل والنهار، وفي هذا
الأخير أرانا ألوان الغروب الشفقية الشاعرية وألوان خضرة الأشجار تحت أضواء
الشمس المتدفقة.
الآن نستعرض بعض مشاهد الفيلم التي لا يمكننا نسيانها مثل مشهد هروب
تلك السيارات القديمة والرثة أمام طلق النار وكيف كانت تتزاحم فارة دون أن
تتصادم وذلك في ساحة تملؤها الزبالة، هذا المشهد كان قويا وأصيلا، هناك
مشهد التصوير عند سكة القطار وكيف تجمع الجنود الأمريكيون يتعرفون ما يجري
وكيف أن السؤال الذي كانوا يطرحونه هو: هل أنكم فعلا تصورون أم توهموننا
بذلك وأن الفيلم الحقيقي هو ذلك الذي سوف نظهر فيه.
من المشاهد أو الأحداث السينمائية الجميلة في الفيلم المشهدين الذين
رأينا فيهما ذلك المخرج الشاب وقد اتخذ مكانه من الفراش لينام بينما يسيطر
الخوف على باقي فريقه الفني فلا يهدؤون أو يغمضون جفونهم، كانت مسألة أن
نرى مخرج فيلمنا قادرا على النوم دون أرق ودون خوف وإغماض عينيه أمام
الكاميرا ، كان ذلك بقدر ما يعطي فسحة في الفيلم بالنسبة للمشاهد المرعبة
فيه، كان يعطينا إحساسا بالإنتصار لأن ذلك المخرج الشاب ليس سوى بطلنا في
الفيلم وهو بسلوكه ذاك يكون قد انتصر على الخوف الذي يهدد به الاحتلال
العراقيين، أي انتصر على المحتل.
التساؤل الذي أحب أن أنهي به هذا المقال هو هل أن الوقت قد فات على
محمد الدراجي حتى يصور بعض دقائقه الناقصة في الفيلم ويحذف دقائقه الأخرى
الزائدة ليجعل من "حرب حب رب وجنون" فيلما روائيا بامتياز يشارك به بصفته
الروائية في عديد المهرجانات ويحصل به على عديد الجوائز، لأن الفيلم متفوق
بجدة إشكاليته وأسلوبه السينمائي الذان يمثلان أكثر من تلك الواقعية التي
يتحدث عنها حتى المخرج نفسه، إنها سينما روائية تجريبية على حدود الموت
والحياة تأرخ لعمق وأصالة الأحاسيس المتناقضة التي تعيشها الإنسانية في
العراق اليوم.
لا ننسى أن ننوه في آخر هذه الورقة بجمالية الموسيقى التي أنهى بها
محمد الدراجي فيلمه، وهي من أجمل ما سمعت لنصير شما، وقد تماشت أجواؤها مع
أجواء الفيلم، حيث كانت بها ملحمية مرتبطة بأصوات وأوقات خاصة بتلك المنطقة
من العالم.
موقع ـ
Visionary FX
في
10/04/2010
يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر، اليوم
الأول من مهرجان الخليج السينمائي
محسن الهذيلي
بمناسبة اليوم الأول لمهرجان الخليج السينمائي - الذي لبس حلة
إماراتية وخليجية أنيقة- شاهدنا عدة أفلام سوف نشير إلى ما علق منها
بذاكرتنا الصورية أو الفيلمية.
في الحقيقة أمست مهرجانات الإمارات عموما فرصة بالنسبة لي لمتابعة
أعمال بعض المخرجين الخليجين والتعرف على مدى تطورها، ومهرجان الخليج الذي
أحضره لأول مرة هو إحدى هذه المهرجانات المهمة التي يمكنها أن تعطي فكرة
واضحة عن مستوى السينما الخليجية وآفاق نموها.
بالنسبة لليوم الأول من مهرجان الخليج السينمائي ولأنني متتبع لتجارب
بعض السينمائيين بالتحديد ولأن عروض أفلامهم لم تكن تجري في ذات القاعة فقد
كنت مجبرا أثناء العروض على التنقل بين عدد من القاعات، التي لم تكن كلها
تعرض أفلاما في المسابقة الرسمية، في هذه الرحلات بين القاعات المختلفة
أمكننا الاستمتاع بثلاث أفلام سوف نتحدث عنها ولو باختصار.
الفيلمان الأولان كانا يعرضان خارج المسابقة الرسمية وهما فيلم
"محفوظ" لمحمد السعدي من الإمارات وفيلم "العصفور الأزرق" لموسى جعفر
الثنيان من السعودية، وتتوفر في الفيلمين عموما مواصفات الأفلام الجميلة
حيث نلاحظ فيهما بحثا واضحا في اختيار لقطاتهما سواء على مستوى اختيار مكان
التصوير أو إدخال بعض الديكورات الجديدة عليه أو في التثبت من حسن اختيار
زوايا اللقطات وتنويعها، أما حركة الكاميرا فقد كانت في الفيلمين رشيقة
ومدروسة عموما. كما تميز الفيلمان بحكايا واضحة ومشوقة وأحيانا مأثرة جدا.
من المآخذات على فيلم "محفوظ" لمحمد السعدي بعض عدم الوضوح في الصورة
وذلك في عدد غير قليل من اللقطات، وهذا رغم جمالية التأطير الصوري وحركة
الكاميرا وخاصة في إحدى اللقطات الواسعة حين تحريكها أي الكاميرا من اليمين
إلى اليسار ثم العودة بها لحاجة المشهد من اليسار إلى اليمين.
بالنسبة للأداء التمثيلي كانت الممثلة أشواق رائعة وكذلك بالنسبة
لأداء عبد الحميد البلوشي وأحمد سلمان.
بالنسبة لفيلم "العصفور الأزرق" لموسى جعفر الثنيان فقد شاهدنا مبالغة
في اعتماد بعض زوايا التصوير وخاصة التصوير من تحت في مستوى الأرض وكذلك
إطالة بعض المشاهد وبطئ الحركة فيها أحيانا، على مستوى الديكور كان الثنيان
أكثر بخلا وأقل توفيقا من السعدي، حيث لم يحسن تأثيث قاعته للرياضة ولو
بحضور أكبر للجمهور، نرى أيضا أن بعض اللقطات في الفيلم قد أخذت أكثر من
حقها من الوقت، الأمر الذي جعل الفيلم دون إيقاع واضح ودفع المخرج إلى
اعتماد الموسيقى التصويرية أكثر من اللزوم ما خلق حالة أقرب إلى الصخب منها
إلى الموسيقى التي تآزر الصورة في صنع الدراما.
بالنسبة للتمثيل كان أداء الطفل صالح الثنيان جميلا جدا، تعبيرات وجه
الممثل مشعل النهاش وهو يرافق الطفل أثناء ركوبه الكرسي المتحرك في آخر
الفيلم كانت لطيفة وبالغة.
الفيلم الثالث الذي أريد أن أتحدث عنه هو لعبد الله آل عياف من
السعودية وقد التزم فيه المخرج حكاية واقعية فيها مقارنات طريفة وظريفة
سواء على مستوى الحكاية نفسها، شخوصها أو حواراتها، كما احتوت الحكاية
مفاجئات عديدة، هذا مع العلم أن عمق الحكاية وظرافتها إنما نكتشفه مع
انتهاء الفيلم حين يظهر الجينيريك، والسبب في ذلك هو طول لقطات الفيلم التي
رغم قيمتها الجمالية ونجاح المخرج في بناء ديكورها وإطارها المشهدي إلا
أنها لطول وقتها أعطت إحساسا بثباتها وتجمدها وعدم الحركة فيها. ولكن الذي
وقف دون أن يفقد الفيلم بريقه الناتج عن عديد مميزاته في الحقيقة هو أداء
ذاك الممثل "العجيب" الذي لا أعرف من أين خرج لي وهو الأستاذ إبراهيم
الحساوي، فأداء هذا الرجل شبيه بأداء أكبر الممثلين العرب والعالميين. أداء
عبد الله الأحمد كان تلقائيا وجميلا أيضا.
موقع ـ
Visionary FX
في
10/04/2010 |