بعد سبع سنوات من الغياب يعود إلينا المخرج داود عبدالسيد برائعته
الجديدة «رسائل البحر»، كان آخر أفلامه «أرض الخوف» الذي قام ببطولته
العبقري الراحل أحمد زكي.
يوجه إلينا داود عبدالسيد في فيلمه الأخير «رسائل البحر» مجموعة كبيرة
من الرسائل والإشارات لعل أهمها هذه الفكرة الكبيرة المُسيطرة على الفيلم،
ألا وهي فكرة قبول الآخر كما هو، من دون التدخل بمحاولات لتعديله، إلى جانب
هذا الفهم هناك مستويات أخرى للتلقي آخرها هو ذاك الفهم الذي يُناسب
المشاهد العادي الباحث عن المتعة الشخصية والتسلية، والذي تعوّد طوال
العِقد الأخير على أفلام كثيرة من النوع الاستهلاكي، آخر هذه الفهومات تخص
احتواء الفيلم على مسار لحدوتة طبيب يسخر منه كل زملائه ومرضاه لعدم قدرته
على نطق الكلمات بشكل صحيح، إنه يجد صعوبة شديدة كلما أراد أن ينطق بكلمة،
لذا فهو يهجر الطب ومدينة القاهرة الصاخبة وفيلا عائلته بعد وفاة والده،
ويرحل إلى شقة صغيرة في مدينة الإسكندرية ليُعيد ذكرياته العاطفية مع ابنة
الجيران الفتاة الإيطالية المصرية «كارلا»، لكنها تتحوّل عنه إلى إقامة
علاقة شاذة مع فتاة أخرى، و «يحيى» ليس لديه هدف محدد في الحياة بعدما ترك
مهنة الطب التي سعى لاحترافها رغبةً في إرضاء أسرته، إنه يهوى صيد الأسماك
بسنارته، لذا فهو يتخذ من هوايته مهنة تُدر عليه بعض الأرباح التي تساعده
على مواصلة العيش، يتعرف على صديقه «قابيل» وهو بودي جارد في أحد المحال،
وإلى فتاة أخرى هي «نورا» التي يقع في غرامها ويُصارحها بحبه ورغبته في
الزواج منها رغم معرفته أنها «فتاة ليل تتاجر بالحب».
يدور «يحيى» داخل هذه الشبكة من العلاقات كالسمكة الحائرة داخل شبكة
الصياد، خطوط سيره في الحياة تتقاطع مع خيوط سير الآخرين، ورغم أن مساره
الحكائي هو ما يربط الآخرين به، إلا أن لكل واحد ممن حوله حكايته الخاصة،
التي ربما لا يعرفها «يحيى» بالكامل، فحبيبته «نورا» نعرف أنها زوجة ثانية
لرجل أعمال تزوجته بشروط خاصة أهمها السرية وعدم الإنجاب، لذا فقد استسلمت
لخطأ «يحيى» عندما اعتقد أنها «فتاة ليل» لأن ذلك لامس وتراً حساساً
داخلها، فهي ترى أن الدور الذي تقوم به مع زوجها رجل الأعمال القاهري الذي
يأتي إليها يوماً كل أسبوع أو كل أسبوعين، لا يختلف كثيراً عمّا فهمه
«يحيى» عنها.
هذه المسارات المتقاطعة للشخصيات تحمل حواديت صغيرة يُمكنها أن تُمتع
المشاهد العادي بحواراتها الجريئة، بقدرة ممثليها على تجسيد المشاعر
الإنسانية المختلفة، بهذه التفاصيل الكثيرة المرئية والمسموعة التي يضعنا
الفيلم أمامها، فكل مشهد في الفيلم عبارة عن لوحة تشكيلية مُكتملة
التفاصيل، وكل جملة حوارية لها رموزها وإشاراتها وجمالياتها الخاصة، هناك
حال تشبع فني يقودك إليها الفيلم عبر تقدمه وتقاطع مسارات حكاياته حتى يخرج
في النهاية مُحملاً بالكثير من التساؤلات عن الحرية، التسامح، قبول الآخر،
البحث عن السعادة والأمان لآخر لحظة في الحياة، نثر البهجة في كل شيء.
هناك بالفعل متوالية جمالية يقودك إليها الفيلم عبر أبطاله آسر ياسين
«يحيى» بأدائه اللافت للنظر، وبهذه القـوّة في التعبير، بسمة بقدرتها
الهائلة على ملء التفاصيل الإنسانية بنظراتها، بحركتها، بتعبيرات وجهها
وجسدها،... هناك طاقة كبيرة تُحركها للأفضل من مشهد لآخر، صلاح عبدالله
بخبرته الكبيرة ووعيه الحاد بحقيقة دور الشرير في الفيلم، فهو صاحب المنزل
القديم والذي يُعتبر قيمة جمالية عالية استهلك عبدالسيد في نقلها إلينا
بالكاميرا ما يزيد على الدقيقتين في أول الفيلم، إنه يُريد أن يهدم هذا
الجمال ويستبدله بمول تجاري ضخم، لذا فقد أدى «عبدالله» دور الشرير بقدرة
عالية.
«نبيهة لطفي» السيدة الإيطالية أداؤها مُعبر جداً ومشحون بالتفاصيل
الحيوية والإنسانية، و«مي كساب» طغت حيويتها على المشاهد القليلة التي ظهرت
فيها على مدار الفيلم.. أما «محمد لطفي» في دور «قابيل» فقد استطاع الخروج
من نمطية الشخصيات التي عُرِف بها ليدخل في مساحة جديدة من الأداء تدل على
النضج الكبير في مسيرته وترفعه إلى مصاف النجوم الكبار، لقد أشعرنا
بالتناقض الذي يقتحم شخصيته بهذا الصراع النفسي الذي يُطيح به، ما بين كونه
بودي جارد ضخم الجسد، وما بين عدم قدرته على ضرب أي شخص بسبب حادثة شجار
قديمة قتل بسببها من يتشاجر معه، ومن يومها أقسم ألا يدخل في أي شجار بعد
ذلك، أضف إلى هذه العقدة النفسية مرضه بالصرع وحاجته إلى عملية جراحية قد
يخرج منها بلا ذاكرة.
تفاصيل كثيرة قد تستهلك وقتاً كبيراً في سردها لكنها تشعرنا ونحن
نشاهد فيلم «رسائل البحر» أننا أمام قطعة فنية مليئة بالحياة، من لحم ودم
بها إشارات ورموز لا تنتهي، وما رسالة البحر التي وجدها «يحيى» داخل زجاجة
إلا إحدى هذه الإشارات أو الرموز، لكنها إشارة مُستعصية على الفهم قد
يفهمها كل منا بشكل مختلف، كل حكاية لإحدى الشخصيات تدل على إشارة أخرى
ليتم وعبر الحكاية الأم حكاية «يحيى» لضم هذه الحكايات جميعاً في إشارة
كبيرة هي «قبول الآخر كما هو وعدم محاولة تغييره»، فإما أن نقبله وإما أن
نرفضه، وهي الحكمة التي تلقي بها بعذوبة السيدة الإيطالية «فرانشيسكا» في
وجه «يحيى» عندما ذهب إليها ليشاورها في أمر زواجه من «نورا» فتاة الليل
التي أحبها.
في مدار موازٍ مع كل هذه الحكايا برموزها المختلفة وأجوائها الممطرة
والضبابية التي اختارها عبدالسيد ليُضفي على «كادراته» إحساساً شاعرياً
دافئاً رغم برودته الظاهرة.. يأتي البحر بعد كل ذلك برسائلـه الكثيرة
مُهيمناً على الصورة كلها بعطفه تارةً عندما يمنح «يحيى» الصيد الوفير،
وبغضبه تارةً أخرى عندما يتهيّج ويُرمي بمائه في عنف إلى الشاطئ ليُكسّر كل
شيء في طريقه، وبانصرافه عن العطاء عندما يبخل على «يحيى» ببعض السمك فيقضي
الساعات الطوال أمامه بسنارته من دون أن تخرج له سمكة واحدة وهو ما يجعله
يغضب قائلاً للبحر «جيت لك وأنا مش محتاج إديتني إللي أنا عايزه، وجيت لك
وأنا محتاج بخلت عليّا... ده ظلم ولّا فوضى ويتساءل «يحيى» عن الحكمة التي
وراء ذلك.. وهذه الحال بتساؤلها تمنح البحر رمزاً كبيراً، قد يدل على
المجتمع بكل ظروفه المتقلبة، وخاصةً في ظل وجود رأسمالية متضخمة رافضة
للجمال وللإنسانية كل هدفها جمع المال كما يتجلى ذلك في رجل الأعمال «صلاح
عبدالله» صاحب المنزل.
سيمفونية عبدالسيد الجديدة تمنحنا على مدار ساعتين وربع حالا خاصة
جداً من المتعة، تختلف عن تلك الحالات الأخرى لعشرات الأفلام الاستهلاكية
التي تمتلئ بها سينما اليوم على الصعيد المحلي والعالمي أيضاً، بهذا الفيلم
يعود عبدالسيد شاعراً سينمائياً له مفرداته المتمايزة وطعمه الذي لا يشبه
إلا نفسه، ذلك الفيّاض بالمعاني والرموز وهذه القُدرة على صناعة البهجة
والتي قد يستمر أثرها معنا طويلاً إلى ما بعد خروجنا من دار العرض.
أوان الكويتية في
02/03/2010
بسمة: سألوني عن ماركة ملابسي الداخلية في
رسائل البحر .. ومش لاقية راجل!
كتب
غادة طلعت
حالة من السعادة تعيشها الفنانة
بسمة نتيجة ردود الأفعال
الإيجابية التي تلقتها عقب عرض فيلم رسائل البحر
رغم الهجوم الذي تعرضت له بسبب
مشاهدها الجريئة، لدرجة أنها اعتبرت هذا الجدل يعني أنها نجحت في تقديم الشخصية
بالشكل المطلوب بالرغم من أنها كانت قلقة من رد فعل أسرتها علي هذه
المشاهد،
بسمة تحدثت في هذا الحوار عن تجربتها مع داود عبدالسيد
وأيضا الهجوم الذي واجهته
عقب تصريحها بديانة جدها اليهودي وغيرها في هذه السطور:
<
في
البداية كيف ترين تجربتك رسائل البحر مع المخرج داود عبدالسيد؟
-
عملي مع المخرج داود عبدالسيد كان خطوة مهمة في مشواري،
وكانت تنقصني الفرصة الحقيقية، لأخرج ما بداخلي من موهبة..
ولم أجد دورًا مثل
الذي وجدته في فيلم رسائل البحر، ليراني الجمهور بشكل مختلف لذلك اعتبرها
مرحلة مهمة وتجربة لن أنساها.
<
ألم تخشي رد الفعل علي
مشاهدك الجريئة أثناء التصوير؟
-
كنت قلقة من رد فعل أسرتي خاصة
والدي وشقيقي لأني كنت أخشي عليه من رد فعل أصدقائه لأنه في الحادية
والعشرين من
عمره، لاحظت نظرة الفخر في عينيهما وفوجئت بوالدي يصطحب أصدقاء شقيقي ويشرح
لهم
بعض الأمور في مشاهدي التي كان من الصعب عليهم فهمها.
<
البعض انتقد جرأتك في بعض المشاهد ومنها مشهد خلع ملابسك في
البحر؟
-
استمعت لآراء أغلب الجمهور الذي شاهد الفيلم ولم أجد أي شخص
يعلق علي هذا المشهد سوي شاب من أصدقائي قال لي إنه كان يريد
أن يري هذا المشهد عن
قرب حتي يتحقق من ماركة الملابس الداخلية ولكن دون ذلك لم أجد أي هجوم علي هذا
المشهد بل علي العكس كان ضروريا جدا لأنه يعبر عن التحرر والانطلاق بنفس
الدقة التي
أرادها المخرج.
<
ولكن المخرج أكد أن الرقابة وضعت لافتة
للكبار فقط علي أفيش الفيلم بسبب مشاهدك؟
-
هذا أصابني بضيق شديد وهو أن قصة المرأة التي أقوم بدورها مهمة
جدا لكثير من الشباب والصغار ليتعلموا منها كيفية اختيار
المؤسسة الزوجية لأن هناك
كثيرًا من المفاهيم الخاطئة المنتشرة في مجتمعنا حول الزواج وكيفية اختيار
الزوج
وبعض الفتيات يفهمن الموضوع بشكل خاطئ خاصة أنهن يعتقدن أن الورق الرسمي هو
الذي
يجعل الزواج صحيحًا ولا يعرفن أن هناك أسسًا وأمورًا كثيرة قد
تكون أكثر أهمية من
الورق الرسمي وهي أسس الاختيار والتوافق والاحترام.
<
وهل
تؤخرين زواجك لهذه الأسباب؟
-
طب مش ألاقي الراجل اللي يستحق
الأول، للأسف أصبحت هناك مشكلة حقيقية في إيجاد رجل بمعني الكلمة لدرجة
أنني
أجد نفسي أكثر رجولة من العشرات الذين يطلقون علي أنفسهم
رجالاً، ولذلك لن أضطر
لأن أقبل أي عريس وأنا غير مقتنعة به بشكل كامل،
فلماذا أقبل عريس والسلام؟!
هل ليقوم بالإنفاق علي؟! فهذه مشكلة بسيطة وحلها أنني أعمل أكثر لأنفق علي
نفسي.
<
وهل تلقيت دروسا في العزف علي البيانو؟
-
كنت أتمني أن أحصل علي تدريبات ولكن في الحقيقة لم أقوم بذلك ولم أجد
العزف عليه حتي هذه اللحظة ويمكن أن نعتبر هذا كسلاً
مني، كما أنني فكرت أن
أكثف تركيزي في أمور أخري مثل الاستعداد للشخصية ومذاكرة الحوار لأن
التدريب علي
العزف كان سيستغرق وقتا أطول وهذا لا ينفي أنني أعشق الأدوار التي تدفعني
لتعلم
أشياء جديدة ولذلك ما زال من ضمن أحلامي تعلم العزف علي
البيانو.
<
هل تعاطفت مع شخصية
نورا التي قمت بها في
الفيلم؟
-
بالطبع كنت أشعر بالضيعة عندما أفكر في مشكلتها فهي
تعاني من مشكلة ليست سهلة،
حيث صراع داخلي وخارجي مع مجتمع بالكامل لا يرحم
المرأة ولا يفهم معاناتها.
<
ولكن كثيرًا من الجمهور لم
يتعاطف معها، بل اعتبروها سيدة سيئة؟
-
كنت أعرف ذلك وسمعت
كثيرًا من ردود الأفعال التي تصف هذه السيدة بأنها سيئة وتقيم علاقات غير
مشروعة
مع شاب غير زوجها وفي نفس الوقت كانت هناك ردود أفعال أخري متعاطفة معها
ولكني
سعيدة بهذا الجدل وهذا يعني أن هناك جمهورًا واعيا جدا ولم
يحاكمني بشكل أخلاقي..
وفي النهاية هذه السيدة تجسد حالة حقيقية تعيشها بعض النساء ولن أقول كل
النساء
طبعا.
<
البعض لم يفهم دافع هذه السيدة في التخلص من الجنين
بالرغم من أنها كانت متمردة وواثقة من حبها الجديد؟
-
لا أعرف
قد يكون هذا الموقف نوعًا من التطهير ولكن كانت هناك جملة أخري تقول فيها
قررت
بغباء التخلص من الجنين فهذا التصرف من الممكن أن يكون خطأ ولكن في أحيان
كثيرة
يكون الخطأ شيئًا مهمًا لأنه يوصل للنجاح..
ولا يوجد بيننا من هو معصوم من الخطأ
ولكن علي كل واحد أن يستفيد من أخطائه ويجعلها خطوة للأمام مع أخذ الحذر.
روز اليوسف اليومية في
03/03/2010 |