شكّلت
النتائج النهائية للمسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة الستين لمهرجان برلين
السينمائي (برليناله)، التي أُعلنت مساء السبت الفائت،
مادة لنقاش نقدي يطال أفلاما فائزة،
وأخرى غابت عن اللائحة الأخيرة هذه. لا ترتبط المسألة بـ
«محاكمة» النتائج التي
أعلنها أعضاء لجنة التحكيم، برئاسة الألماني فارنر هرتزوغ. المهتمّون بالفن
السابع
لا يكترثون لمسابقات تنتهي بمنح جوائز لأفلام من دون سواها. القناعة ثابتة:
النتائج
النهائية خلاصة أمزجة نابعة من هواجس أعضاء لجان التحكيم. خلاصة مناقشات
محصورة
بعدد قليل جداً من أهل المهنة. لكنها لا تعني أن الفوز دائمٌ
للأفضل، وأن الخسارة
حكرٌ على الأسوأ. أفلام عدّة لم تفز بجوائز من مهرجانات متفرّقة، نالت
إعجاباً
جماهيرياً وسجالاً نقدياً، لاحقاً. ما حصل في الـ «برليناله» مشابهٌ تماماً
لما
يحصل في المهرجانات السينمائية ذات المسابقات الرسمية.
أسئلة
في برلين،
هناك هاجسان اثنان سيطرا على أفلام مختارة للمسابقة الرسمية، من بين هواجس
أخرى (الموت. التمزّق النفسي. العزلة): السجن
والإسلام. فاز الأول بجائزة واحدة بفضل
الفيلم الروماني الجميل «إذا أردتُ أن أصفّر، فسأصفّر» لفلوران
ساربان (الجائزة
الكبرى للجنة التحكيم، وجائزة مؤسّس المهرجان ألفرد باور). غابت أفلام
«الإسلام» عن
اللائحة. طرح الأول أسئلة إنسانية بالغة الأهمية، كالوجود والانتماء
ومقارعة
المصائر الخفيّة والعلاقات المشوّهة بالذات والآخر والرغبة في
الخلاص والعجز عنه.
لم يغب الثاني عن أسئلة كهذه، لكنه طرحها انطلاقاً من واقع جغرافي واجتماعي
وثقافي
لمسلمين، متديّنين أو غير متديّنين، مقيمين في دول غربية (ألمانيا مثلاً).
السجن
عالم فسيح وثري بالمعطيات الدرامية القابلة لنسج حكايات جمّة،
ولرسم ملامح متفرّقة.
الإسلام أيضاً. أو بالأحرى المنتمون إليه قادرون على قول وقائع معيشة،
بعيداً عن
مقولة الضحية (المسلمون ضحايا عنصرية غربية، أو متّهمون غالباً بالإرهاب...
إلخ.)،
وقريباً من واقعية العيش على التخوم القاسية للحياة. الأول
(السجن) فضاء مفتوح على
الاحتمالات المختلفة، التي يعاني المرء تداعياتها، أو التي تدفعه إلى
مزاولة نمط
وسلوك حياتيين، لا يختلفان كثيراً عن النمط والسلوك اللذين يُمكن لأي إنسان
آخر أن
يمارسهما في حياته اليومية. مع أن الاختلاف بين السجين والمقيم خارج السجن،
بالمعنى
المباشر للكلمة (هناك أشكال متنوّعة للسجن، معنوية وفكرية واجتماعية ودينية
وحياتية، قد تكون أقسى وأصعب، تناولتها أفلام عدّة)، لا يكمن
في الجرم المادي.
الاختلاف مشابه تماماً لأي اختلاف قائم بين شخصين أو أكثر. الثاني
(الإسلام) حيّز
فكري وثقافي وحضاري منح المنتمين إليه نمطاً وسلوكاً خاصّين به.
لكن المنتمين إليه
أنفسهم قابعون في مآزق شتّى، ليست نابعة دائماً من انتمائهم إلى هذا الدين
من دون
سواه، بل لأنهم عائشون في مجتمعات مختلفة عن ثقافتهم، أو مناقضة لهم. بمعنى
آخر،
تناولت أفلام مشاركة في الدورة الستين للـ «برليناله» قصص
مسلمين مقيمين في الغرب،
وروت تفاصيل عيشهم اليومي داخل بيئاتهم/ عزلاتهم الخاصّة، المتاخمة للبيئات
الغربية
المقيمين فيها.
اختزل فيلما «شهادة» للأفغاني الأصل الألماني الولادة والجنسية
برهان قوربان و«على درب الهداية» للبوسنية ياسميلا جبانيك المسألة، بالقول
إن
المسلمين ليسوا جميعهم إرهابيين، وإن لديهم مشاكلهم الداخلية
كأناس عاديين، وإنهم
مقبلون على الحياة وسط انكسارات وخيبات جمّة، تحاصرهم في مغترباتهم
ومنافيهم
الغربية (شهادة)، أو في بلدانهم المفتوحة على حروب طائفية ونزاعات جغرافية
وإتنية
لا تنتهي (على درب الهداية). في الفيلم الأول، انتقل إمام
المسجد فيدات (فيدات
ايرنسين) من حالة تشدّد أقصى في علاقته اليومية بعائلته، إلى انفتاح وتسامح
مذهلين،
إثر وفاة زوجته. في الفيلم الثاني، عثر آمار (ليون لوتشيف) على خلاصه،
الروحي
والنفسي، بالانتماء إلى جماعة إسلامية متشدّدة، ليس فقط بهدف
ممارسة إيمان عادي، بل
بالانتقال إلى وظيفة أساسية في عمل ميداني لهذه الجماعة. في «شهادة»، هناك
شخصيات
عدّة منقلبة على نفسها وعلى بعضها البعض: ابنة الإمام حامل من دون زواج،
تُجهض
جنينها وتعاني آلاماً مبرحة، فتذهب إلى الله بانفعال المثقَل
بذنب لا يُغتفر. الشاب
الصومالي المؤمن والملتزم دينياً مثلي الجنس (أوجد هذا الواقع لديه عقدة
نفسية
ومأزقاً وجودياً). الشرطي المسلم يُعاني ألم قتله جنيناً عن طريق الخطأ،
ووالدة
الجنين تخبره أنها وجدت فيه خلاصاً من جنين لا تريده، أي ان
الشرطيّ «استجابةٌ
لدعائها». شخصيات منكسرة ومتألمة ومسحوقة ومنغلقة وملعونة، وحالات مفتوحة
على مزيد
من الخراب والوجع. وفي «على درب الهداية»، لم تنجح علاقة الحب بين آمار
ولونا
(جرنيكا
جفيتسبتش)، لأن الانقلاب المدوّي في ذات آمار أقوى من أن تبتلعه الشخصية
القوية التي امتلكتها لونا، والتي دافعت عن حريتها حتى اللحظة الأخيرة. ففي
المشهد
الختامي المصوَّر، كما مشاهد عدّة في الفيلمين معاً، بطريقة
بديعة وقاسية وبسيطة،
طلب آمار منها العودة إليه، لكنها أجابته ببساطة: «عد أنت إليّ». كأن
اللحظة هذه
إعلانٌ عن ضرورة استعادة التوازن الذاتي، كي تستقيم الحياة، ويُحصَّن الحبّ.
فالحياة أهمّ من أن تقع أسيرة تزمّت وانغلاق، مهما كانت الأسباب والوقائع.
والحبّ
أجمل من أن يُغتَال على باب معبد، أو داخل دائرة ضيّقة من أناس باتوا آلات
تردّد
خطباً وشهادات، ولا تفقه شيئاً من أمور العيش العصريّ.
سياسة
على نقيض ما
ذهب إليه بعض متابعي أيام الـ «برليناله» هذه، لم يُحدِث الفيلمان صدمة،
ولم يُثر
أيٌّ منهما جدلاً أو نقاشاً مختلفا عن أي جدل أو مناقشة متعلّقة بالأفلام
الأخرى.
بعض العرب اعتبر أن «شهادة» مثلاً أحدث ضجّة كبيرة، هي، في الواقع، شبيهة
بأي ضجة
يُحدثها أي فيلم جميل ومتقن. فالفيلمان مشغولان بحرفية لافتة للانتباه،
وبعيدان عن
كل خطابية فجّة، ومتحرّران من سطوة الأحكام المسبقة. إنهما
منسجمان وسلاسة السرد
الدرامي المرافق لتطوّر الأحداث والشخصيات، ومتلائمان ومنطق صيرورة الأمور.
مع هذا،
ارتأت لجنة تحكيم فارنر هرتزوغ أن تذهب خياراتها إلى أفلام أخرى، فمنحت
«الدبّ
الذهبي» للفيلم التركي «عسل» لسميح قبلانأوغلو، مبتعدة قدر
الإمكان عن أفلام ذات
طابع سياسي، كالفيلم الإيراني «الصيّاد» لرافي بيتس، المفرط بشفافيته
السينمائية
وجمالياته الباهرة في قراءة اللحظة الإنسانية والتحوّل الدراماتيكي الذي
أصاب علي
(بيتس
نفسه) إثر مقتل زوجته وابنته خطأ على أيدي رجال الشرطة، أثناء مطاردتهم
مطلوبين فارّين. لكن السياسة حاضرة في مكان آخر. فالفيلم الأخير لرومان
بولانسكي
«الكاتب
الشبح» أعاد رسم صورة سلبية عن سياسيي الحقبة البوشية التي أشعلت نار القتل
في العراق، بعد أفغانستان، وقدّم شهادة سينمائية عادية عن التورّط السياسي
في
تصفيات أشار إليها الفيلم بوصفها «جرائم حرب» (اتّهامات مبطّنة ضد توني
بلير).
والسياسة حاضرة أيضاً بمنح «الكاتب الشبح» جائزة «الدبّ الفضي» لأفضل مخرج:
بولانسكي قابعٌ في إقامة جبرية في غشتاد في
سويسرا لأنه مطلوب لـ «العدالة»
الأميركية. الجائزة انعكاس لموقف تضامني معه، على الرغم من أن الفيلم
عاديّ، قياساً
إلى السيرة المهنية لبولانسكي، ومقارنة مع الأفلام الأخرى في المسابقة.
السياسة
أيضاً. لكنها ممزوجة بفصل دموي من التاريخ الألماني. «اليهودي الجميل،
النهوض
والسقوط» لأوسكار رولر. النازية في جانب من عنفها. جوزف غوبلز (موريتز
بليابترو)
سيّد الشاشة. حركته متوترة. نظراته ثاقبة وحادّة (أكاد أقول قاتلة). ضحكته
مدوّية،
قادرة على إنزال الرعب في نفوس وعقول. مشيته مثقلة بعرج، لكنها محمّلة
بخليط من خبث
المنظّر الإيديولوجي والمروّج الإعلامي، وصرامة العسكري،
وثقافة العنصريّ. فيلم عن
غوبلز، وليس عن النازية. هذا وصفٌ أول. إن لم يكن الأبرز. فعلى الرغم من أن «اليهودي الجميل» انعكاس لسيرة الممثل
فرديناند ماريان (توبياس موريتي)، عاشق
شكسبير، والعاجز عن إكمال مسيرته الفنية المسرحية، لأن النازية
محتاجة إليه، بل
غوبلز محتاج إليه؛ إلاّ أن الفيلم سرد فصولاً من آلية اشتغال غوبلز، ونزقه
وحضوره
وسطوته. إنه العام 1940. اختار غوبلز الممثل ماريان لتدميره. هناك حقد خفي.
أو غضب.
أو نقمة. رغبة غوبلز في تبييض وجه النازية إزاء اليهود دفعه إلى اختيار
ماريان
لتأدية دور البطولة في فيلم يصوّر سيرة يهودي يهتاج الشعب عليه، لخبثه
وقدرته على
إثارة المآزق. فيلم داخل فيلم. لعبة ذكية. الأبيض والأسود
أساسيان. الفيلم الأول من
توقيع المخرج النازي فايت هارلن (يوستوس فون دوناني). الفيلم الثاني من
توقيع
المخرج الألماني أوسكار رولر (مواليد 1959). السياق مشوّق وقاس. درب جلجلة
بالنسبة
إلى ماريان، من نقطة البداية (النهوض) إلى لحظة الختام المأسوي
(السقوط). درب
انتصار جديد حقّقه غوبلز، بفضل شراسته في الترويج الإعلامي، وبفضل براعته
في إلقاء
الخطب، بل في كتابتها في عقله، والنطق بحروفها وكلماتها بأسلوب مسرحي لا
يخلو من
تهديد مبطّن، وبنبرة عالية تثير خوفاً وقلقاً. الرحلة لا
تتغاضى عن ثنائية النهوض
والسقوط، بالنسبة إلى النازية أيضاً. كأن العنوان الفرعي قراءة لحكم هتلر.
كلاكيت
الكاتـالوغ
نديم جرجورة
يُشكّل الـ «كاتالوغ»
الخاصّ بالمهرجانات السينمائية (وغير السينمائية) جانباً أساسياً من العمل
الصحافي
والإعلامي. إنه الأداة الأولى للتواصل بين النقّاد والمهرجان. يُفترض به أن
يكون
أنيقاً، شكلاً ومضموناً. إنه واجهة المهرجان. أو بالأحرى إحدى
واجهاته الأساسية.
المعلومات مهمّة. يُفترض بالقيّمين على إنجازه اعتماد الدقّة القصوى. لا
مجال
للخطأ، وإلاّ تقع الفضيحة. المهرجانات الغربية تولي الـ «كاتالوغ» أهمية
رئيسة.
تبحث دائماً عن أفضل شكل ممكن. عن أجمل تزيين. هذا جزء من ثقافتها
المتكاملة.
احترام السينما جوهريّ. الـ «كاتالوغ»
أساسي في هذا المجال. فعلى الرغم من بساطة
المعلومات وقلّتها (ملخّص عن كل فيلم. نبذة عن كل مخرج. لائحة
بأسماء الممثلين
والتقنيين. عناوين شركات الإنتاج والمخرجين)، يتباهى مصمّمو الـ «كاتالوغات»
بإنجازاتهم هذه. الغلاف. نوعية الورق. حجم
الحرف والكلمة. الطباعة. تنسيق الفقرات.
إبراز الصوَر. هذه ليست تفاصيل عابرة. إنها الجوهر. الـ «كاتالوغ» نفسه
جوهر. لكن
شركات إنتاج وتوزيع لا تكتفي به. توزّع مطبوعاتها الخاصّة بأفلامها. هنا
أيضاً،
المطبوعات مهمّة وضرورية.
المهرجانات السينمائية الدولية معتنية تماماً بـ «كاتالوغاتها». في «كان»، هناك أكثر من
واحد، لأن هناك أكثر من برنامج أساسي:
المسابقة الرسمية. أسبوعا المخرجين. نظرة ما. في برلين، المسألة مختلفة. «كاتالوغ»
واحد ضمّ البرامج كلّها. النتيجة: كتاب ضخم
بأربعمئة وأربع وستين صفحة. بساطته
جاذبة. المعلومات فيه مختصرة. مكتوبة هي بثلاث لغات، الألمانية
والإنكليزية
والفرنسية. اختزال الحبكة الدرامية لا تلغي إمكانية سرد معلومات إضافية عن
تفاصيل
جانبية، أحياناً. المعلومات مفيدة. الناقد محتاج إليها. أو ربما لا يحتاج
إليها.
لكن إدارة المهرجان قامت بواجب مهني سوي
ومهمّ. قامت بشقّ جوهري من العمل الإعلامي
الترويجي الخاص بها.
هذا غير وارد في المهرجانات العربية. نادراً ما يعثر
الناقد على مبتغاه. الـ «كاتالوغ» العربي كارثة. أخطاء لغوية ومطبعية. نقص
في
المعلومات أو تشويه لها. لا ثقة له بها. لا أحد يتحمّل مسؤولية
عمله. الفوضى مطلقة.
الشكل المعتمد سيئ. كتابة النصوص لا تملك حدّاً أدنى من السوية المطلوبة.
الطباعة.
الصوَر. التزيين. خليطٌ من عشوائية
ولامبالاة وانعدام أدنى إحساس بمفردات المهنة.
الأمثلة كثيرة: دمشق. القاهرة. قرطاج. مهرجانات مغربية عدّة. في بيروت،
الأمر
مختلف. مهرجانا دبي (الدولي والخليجي) مثلاً. هناك اتزان ورونق ما. هناك
حرفية
متواضعة. هناك مسؤولية. صدور الـ «كاتالوغ» بعد أيام عدّة على
افتتاح دورة ما، أمر
اعتيادي في مهرجانات عربية مختلفة. في الغرب، المسألة محسومة. لا يُمكن،
بأي شكل من
الأشكال، ارتكاب أخطاء. المهنة متطلّبة، لهذا يتمّ توظيف أناس كفوئين.
المهرجانات
العربية تعاني أزمات شتّى، أبرزها: توظيف أناس غير كفوئين، في
المجالات كلّها
تقريباً.
لا يتعلّق الأمر بالتكلفة المالية فقط. مهرجانات عربية عدّة تُصرّح
إداراتها دائماً بوقوعها في أزمات مالية. الـ«كاتالوغ» محتاج إلى أدوات
أخرى: مهنية
عالية وإحساس بالمسؤولية. أمران مفقودان في غالبية المهرجانات
العربية.
السفير اللبنانية في
25/02/2010
الطبائع الأربع ليوسف
في «عسل» التركي سميح قبلانأوغلو
الشــاعر يولــد
فــي غفلتنــا
زياد
الخزاعي
لا تؤخذ جنايات الصبي
يوسف، بطل جديد المخرج التركي سميح قبلانأوغلو «عسل»، الحائز جائزة
«الدب
الذهبيّ»
في الدورة الستين لمهرجان برلين السينمائي (برليناله) مساء السبت الفائت،
في
انكفائه الذاتي وخرسه وتبصّره في عدم التداخل بين أقرانه،
واعتبارها مثالب شخصية
وانتقاصات تُشكّل كيانه اللاحق، الذي تابعنا فتوته ونضجه في القسمين
الأولين «بيضة» (2007)
و«حليب» (2008) من «ثلاثية يوسف السينمائية»، كما عنونها صاحب «بعيدا عن
الوطن» (2000) و«سقوط الملاك» (2004).
ذلك أنه لا يشبه الآخرين في نواحي جذلهم
ومسرّاتهم وخفّتهم ونزواتهم، ولا يتشارك معهم بنواصي النشاط الجسدي الذي
يميّزهم
ككيانات حيوية وولاّدة للبهجة. من الضروري التوكيد أن هذا الأمر لا يعني أن
يوسف
(أداء
رهيف وفطري للطفل بورا ألتش) كئيب الشخصية وخاملها ومُملولها. بل هو يمتلك
بصائر أخرى تقوده الى امتحان الحاجة العائلية إليه، عندما يسقط القدر
الأسود لاحقاً
فاجعته على أمه الشابة المتطامنة مع عزلتها الاختيارية إثر موت الأب.
قلبٌ
ولسان
ليوسف أَصْغَران: الأول قلبه، الذي ينوس بأقصى المودّة لأبيه يعقوب (الممثل أردال بيشقشي أغلو)، باعتباره
القدوة والحامي والمعلم والربّ الذي يُفترض
أن لا موت يقترب من حدوده، بسبب توحّده مع طبيعة أخّاذة
الجمال، ذات وداعة تساير
إلى حد بعيد رقّته وصبره اللذين تتطلّبهما مهنته كصائد للعَسَّالات.
والثاني لسانه،
وهو العضو الذي يُعوَّج عندما يُجالس يوسف مجتمع أقرانه، لكنه لا يتردّد من
التفوّه
بنصوصه الشعرية الأولى التي تبشّر بقوّال مجيد في حسّيته
الإبداعية وفرائدها
اللاحقة، التي تزيّن مشهديات القسمين الأولين لثلاثية قبلانأوغلو، وهو في
حضرة
أبيه، أو أمام لوحة السور القرآنية. يبدو تلكؤ لسان يوسف كأنه تبرير عقلاني
إلى
خشيته من هزاءات الصغار حوله، التي نشهدها في الصف المدرسي،
الذي يمكن عدّه المكمن
الجماعي الوحيد الذي يتواصل فيه البطل مع محيط نابض، في مقابل خضوعه المطلق
للهدوء
المنزلي الضارب من حوله، وخرس الغابة الذي يصبغ اصغاءاته بألوان عناصر
طبيعتها
كالريح وهزيزها، والنار وهسيسها، والرعد وهديره، والمطر
وهطوله، ومياه الجداول
القريبة وخريرها، وحركة أوراق الشجر وحفيفها، وطيران الحشرات وطنينها،
وهبّات
الطيور وصفيرها، ودفقات الهواء وهفيفه. إن يوسف وليد فطرتها. متحصّن
بظواهرها. وهو
أقرب إلى رعويتها من التمدين الذي يُفرَض عليه في الجلسات
المدرسية. يمتلك يوسف
ذهنا وقّادا يتمكن من خلاله من تفسير الأشياء من دون أن يتكلم، لينتزع من
اللسان
مهنته كشارح للمحيط وأشيائه. من هنا، يفهم مُشاهد فيلم قبلانأوغلو الثراء
الصوري
الذي احتفى به (تصوير نادر لباريش أوزبيتشر) واتّخاذه كوسيط
لمعايشة أحوال العائلة
الصغيرة التي تُنكب لاحقاً بوليها، الذي يسقط إلى حتفه من حبله الذي يربطه
بخلية
النحل الرابضة في العلو الشاهق للشجرة الباسقة. إن تأكيدنا على التوصيفات
الطبيعية
السابقة يأتي بسبب تحوّلها إلى مجازات كيانية للطفل يوسف، الذي
نراه في المشهد
الختامي وهو يدخل متاهاتها وظلمتها، أثناء بحثه عن موقع الفاجعة، ليودّع
مشاهده وهو
نائم داخل جذع شجرة معمرّة، تحوّل إلى رحم طبيعي هائل يحتضن وليده العائد
الى
أمانه.
طبائع
لا يجزع المخرج الموهوب قبلانأوغلو من إعادة تصوير بطله
الصغير مرّات كثيرة وسط الطبائع الأربع. فكلّها مكمّلات إلى مواجهاته مع
الآخرين،
ومثلها مفردات حياته:
أولاً: تتحوّل «الحرارة» إلى محرّض لدفقه اللغوي، حين
يكون مع أبيه في مشهد الغرفة، حيث يهمس الوالد في أذن صغيره أن «لا ترفع
عقيرتك
بأفكارك»، بالإضافة إلى مشاركته جدّته في القراءات القرآنية
ضمن الاحتفال الشعبي
بليلة المعراج.
ثانياً: تتناظر «البرودة» مع عجزه في فهم اختفاء اللعبة التي
ولع بها من أحد رفوف مخزن والده، على الرغم من حرصه على متابعة رصف قطعها
الخشبية.
ومثله المشهد الساحر حين يفشل يوسف في الإمساك بانعكاس القمر على سطح ماء
السطْل.
ثالثاً: تتماشى «الرطوبة» مع الاجتماع البشري الذي يقود يوسف ووالدته
الى موقع
العيد الشعبي، حيث كان من المحتّم عليه أن يضيع بين الجماهير الغفيرة. ذلك
أنه فرد
من بينهم، لا يكترث به أحد، ليس بسبب عمره وطلّته، بل لكونه هلاما لفكرة
ضياع لا
تريد أن تكتمل إلاّ بتوحّده لاحقاً مع الخطوات الأولى التي
تقوده إلى عمق الغابة
الكبيرة، مصحوباً بعقاب والده الذي يطير حول موقع الحادثة من دون أن يدله
إليه.
رابعاً: فيما تنعكس «اليبوسة» في أجواء مخاتلات الحظ وعثراته ليوسف،
عندما يسعى
جاهدا للحصول على شريط التقدير الذي يعلّقه المعلم على صدر طلابه النجباء،
تبقى «اليبوسة» مرادفة الى نظرات البطل الصغير
وتلهّفه الى ما في المَرْطَبان الزجاجي من
علامات الفوز، التي تتناقص لصالح أقرانه، قبل أن يفوز بآخر
واحدة منها في نهاية
الدقائق المئة والثلاث مع التصعيد العاطفي ليتمه المفاجئ والحزن الذي يخيّم
على
التجمّع السكاني المعزول، الأمر الذي يجعل من «التبرع» بالشريط مواساة
واجبة ليوسف،
على الرغم من فشله في استكمال شجاعته لقراءة النص البسيط حول فأرته.
لا يستقيم
فهم المراد الايديولوجي من «عسل»، الذي أخفاه المخرج قبلانأوغلو بحنكة
درامية، إلاّ
عبر مقاربة البعد الديني في ثلاثيته ككل. إذ عمد الى ضخّ إشاراته داخل طقوس
جماعية،
يظفر يوسف بمحاسنها في وقت متأخر على الدوام. ففي «حليب»،
يتحوّل تخثره إلى استعارة
تبيّن للبطل أن الإيمان بالقدرات الشخصية يقوده، بحسب قدره المرسوم، إلى
مراده
الأكبر: نشر قصائده وتأكيد إبداعه. وفي «بيضة»، يتحوّل هروب الأضحية بموت
والدته،
على الرغم من الحاضرين، الى تبرير لإعادة الحب والشراكة مع المعشوقة عالية.
في حين
تفسح سقطة أبيه، إثر خيانة الحبل الذي جدله بيديه في «عسل»،
المجال للوقوع في جُبّ
التوحّد المفاجئ، على الرغم من اجتماع القرية للمشاركة في المُصاب. وبما أن
لا
شراكة أخوة، كما هي الحالة في حكاية النبي يوسف، التي أشار
إليها قبلانأوغلو، فإن
البطل الصغير يعود بمفرده الكلي إلى منبت البشرية ووعائها: الطبيعة.
يشاكس «عسل»
اختزالات سينمائية تبحث في معاني الوجود التي تأخذ أشكالا تعبيرية وحيوية،
تمسّ في مجملها قيمة العمل وأشغاله وحرفه. فالأب لا يبتعد عن أشجاره ونحلها
وعسلها.
وهو، كما النبي يعقوب وابنه يوسف، لا
يتخلّى عن دابته التي تبقى حارسة لجثمانه بعد
سقوطه، لتُثبت ضمن الحكاية أنها حارسة عمله. بينما تجتهد الأم
زهرة (تولين أوزين)
في نشاطها اليومي وسط حقول الشاي، لتمثل همّة العمل. أخيراً، يكون تشكل
الشاعر في
وعي البطل الصغير عملا مظمرا (رأينا منتهاه جليا في المقطعين السابقين)،
يفوقه
تحايله على الالتزام العام الذي تجسّد في المشهد الذكي، عندما
يخطف يوسف دفتر
الواجب البيتي المنجَز لزميله في القسم الدراسي، متفاديا العقاب. فالشاعر
يولد في
غفلتنا وحسباننا.
)برلين(
السفير اللبنانية في
25/02/2010 |