الصورة الفوتوغرافية المستخدمة في جنريك رائعة
المخرج الايراني رفيع بيتس "الصياد" (المعروض في مسابقة مهرجان
برلين 2010) يقول
عنها مخرجه انها التقطت عام 1980
بعدسة منوشهر دغاتي، وهي تُري مجموعة رجال من حراس
الثورة الاسلامية على دراجات نارية. تظهر الصورة احتفالهم
بالذكرى الاولى للثورة.
منذ اللحظات الاولى لـ"الصياد"، يحرص بيتس على عدم جعل بطش السلطة يستدر
العواطف،
بل يتعامل معه ببرودة لافتة. برودة وجفاف سيظلان يرافقاننا طوال 90 دقيقة.
"انها
صورة عدائية جداً تحتفي بحدث على قدر عال من العنف. جيلي تربّى على هذه
الصورة التي
تؤطر التوتر المجسد في وضع علي (شخصية الفيلم الرئيسية) وأولاد
جيله. الفيلم برمته
تأملٌ في التوتر الحاصل اليوم في ايران بسبب الوضع الذي وقعنا فيه.
الباسدران
عادوا، لكنهم هذه المرة باتوا يهاجمون المدنيين العزّل الذين يريدون
التعبير عن
انفسهم. ثلاثة عقود مرّت على الثورة. السؤال الكبير اليوم في
ايران: هل سُرقت منا
تلك الثورة؟".
ركّز بيتس على الصيد بغية استكشاف الضغط على مجتمع اشبه بقنبلة
موقوتة. بحسبه، يمكن اعتبار الصياد هو الشخصية الأساسية علي، لكن ثمة
تجليات أخرى
لذلك. في آخر الفيلم يسأل المشاهد: مَن الصياد؟ مَن يقتل
الشرطي انتقاماً، أم مَن
يتصدى للارادة الشعبية خوفاً على "مصلحة الدولة العليا"؟ شرح بيتس: "أحد
العناصر
المهمة في عملي السينمائي هو ترك المجال مفتوحاً امام التفسيرات المختلفة.
أحاول
دائما تحميل الأشياء اكبر قدر من المعاني. في ايران عندما ندعو احدهم الى
العشاء
نحاول أن نقدم اليه أكبر قدر من الوجبات. لكن خلال العشاء لا
نقول له ماذا عليه ان
يأكل، وهو حر في اختيار ما يريد. أملك السلوك نفسه تجاه الافكار التي
اقدمها في
فيلمي. أحترم المشاهد عبر تركه يختار ما يراه مناسباً له".
بالنسبة الى بيتس،
فشخصية علي هي أشبه بقنبلة موقوتة قابلة للانفجار في كل لحظة، شأنه شأن
الوضع
الايراني الراهن. فما إن يخرج من السجن حتى يُرمى في المجتمع، لكن من دون
ابداء
حماسة لإعادة الانخراط في هذا المجتمع. لا نعرف في الفيلم
الأسباب التي دعت الى
سجنه، وهي على الارجح اسباب سياسية. الأهم بالنسبة الى المخرج ان علي حُشر
اليوم في
مكان بحيث يمنعه عمله الليلي من تمضية المزيد من الوقت مع عائلته. واذا
اضفتم
البيئة التي يعيش فيها، فإن علي بات فعلاً قنبلة موقوتة. فمن
الطبيعي والحالة هذه،
ان ينتهي به الامر جارحاً أم مجروحاً.
علي يعيش في بيئة مدينية خالصة. بيتس يعرف
كيف يصوّر تلك البيئة ولا سيما في اللقطات الاولى المتعاقبة.
سواء تصويراً أم
مونتاجاً أم تأطيراً أم روحاً، ما نراه هو أجمل تصوير لمدينة منذ زمن طويل.
أفضل
بكثير من اللقطة الافتتاحية لمدريد في "حدود التحكم" لجيم جارموش. السبب في
ذلك،
انه يملك رؤية أخرى لمدينته طهران وهي، كما يعترف في الملف الصحافي، تثير
دهشته.
"بقدر ما يدعو ذلك الى السخرية، ارى ان طهران اليوم تشبه الى حد كبير
لوس انجليس.
بعد الثورة شيِّدت طهران لتكون فيها خطوط سريعة. اليوم الطهرانيون يلقبونها
بـ"طهرانجليس"! النتيجة: لدينا مجتمع حداثي يمضي معظم حياته في
السيارات، ذهاباً
واياباً من بيته الى عمله. هذا الشيء ولّد مونوبولاً اقتصادياً. من المثير
رؤية كم
من الممكن لمدينتين ان تتشابها، وهما في الاصل تتواجهان سياسياً. هذه
البيئة
المدينية المقرونة بالهم التكنولوجي لا يمكن الا ان ينتج منها
المزيد من العزلة
التي تأتي الى عالمنا الحالي بنوع من الجنون والانهيار".
علي هو كمن يضيع في
مكانه. لا انتماء له لكنه جزء من البيئة الايرانية المعقدة جداً. علاقته
بالمكان
علاقة كراهية وحب في الحين نفسه. دخول المخرج الى طهران يشبه دخول حيوان
الى
الأدغال. للطبيعة حضور طاغ في الشق الأخير من الفيلم، ولا سيما
الغابات. مدلولاتها
كبيرة ويشرحها بيتس في السطور الآتية: "الاراضي في شمال ايران هي اراضي
موت. شأنها
شأن ما يشعر به علي ازاء بيئته المنكوبة. أكان في الغابة ام في المدينة، لا
فرق
كبيراً عنده. انه وحيد ومعزول في مكان لا يمنحه سبباً جوهرياً
كي يكون على قيد
الحياة. الغابة التي يلجأ اليها في نهاية الفيلم تقع في شمال ايران. انها
على مسافة
اربع ساعات بالسيارة. اخترتُ ان أصوّر في الشتاء. لم اكن اريد أوراقاً على
الشجر.
خيار أن يكون لون السيارة اخضر، متأتٍّ من تلك الفكرة. اردت ان تكون
السيارة كورقة
شجر خضراء. كنت اريدها رمزاً للحياة مقابل الطبيعة الميتة".
يؤمن بيتس بأن على
المرء أن يعيش ملياً زمانه ويعتبر ان من المهم ادخال الديناميكية المعيشة
الى العمل
نفسه، خلال كل مراحل صناعته. التقطت مشاهد الفيلم خلال الحملة الانتخابية
للرئيس
احمدي نجاد، لكن بيتس فوجئ لاحقاً عندما اكتشف ان الفيلم يحمل
علامات زمانه
الفارقة. انتهى التصوير قبل نتائج الانتخابات في حزيران 2009 لكن هناك
تشابهاً
كبيراً بين التوتر في الفيلم وما حصل بعد انجلاء نتيجة الانتخابات، أي أن
هناك
شكلاً من أشكال الحوار القائم على نوع من كيمياء بين ما يدور
على الشاشة وما دار في
شوارع طهران. خيار الأخضر للون السيارة جاء قبل تأسيس نشاطات حركة "الخضر"
المناهضة
للانتخابات، ويقول بيتس انه يمكن اعتباره مصادفة، لكن هو ينظر الى هذا
الشيء من
منظار مختلف. بالنسبة اليه أن الديناميكية الحاصلة بعد
الانتخابات خرقت
الفيلم.
ليس "الصياد" فيلماً يضع السياسة في المقام الثاني لاهتماماته، بل هي
جزء حيوي منه. المشهد المؤسس حيث نرى علي يقود سيارته ويستمع عبر الراديو
الى خطاب
المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية علي خامنئي والذي يتكلم فيه عن التغيير،
قد يقرأ
كردّ ساخر على التغيير الذي اقترحه باراك اوباما خلال حملته
الانتخابية. لا يوفر
بيتس خامنئي من سخريته المبطنة والهدامة. اصلاً هذا شيء يعترف به من دون
تردد: "هناك
سخرية تجاه خطابه ولا سيما مع ما فعله خلال الحملة والتظاهرات التي شهدتها
ايران. لا يمكن مناقشة كل الشؤون في فيلم من 90 دقيقة. السخرية
المبطنة هي طريقتي
في مساعدة المُشاهد على فهم بعض الحقائق. أدعو ايضاً بعض الناس الى اعادة
الاستماع
الى ما قالوه بقدر اكبر من الدقة. مهنتي هي ان اسأل. لا اؤمن بضرورة منح
الأجوبة
لكن يبدو أن مَن يحاول في ايران طرح الاسئلة يصبح في عداد
المجرمين".
"الصياد"
هو ايضاً فيلم كبير عن الوقت الضائع. علي هو التجسيد البهي لمجتمع ينتظر أن
يعيش.
وهو ايضاً جزء من مجتمع حداثي لا يملك
وقتاً لإضاعته. انه مجتمع يريد الاجوبة وهو
يريدها الآن. بحسب المخرج، في ايران اليوم 70 في المئة من
المجتمع هم ناس اعمارهم
تحت الـ30. "هؤلاء الشباب لا يملكون الصبر. انه جيل بلا مستقبل. زوجة علي
يمكن
اعتبارها الجزء المسلوب من المجتمع. على رغم المعاناة، لديها الشجاعة،
كالكثير من
الايرانيات اليوم، في النزول الى الشارع والتصدي للظلم. هذا
جيل مستعد للموت لأنه
لا يملك شيئاً ليخسره. البيروقراطية، في أي مكان كانت، تؤدي الى توليد
الكبت في
الانسان. لا تُحصى اللحظات الضائعة التي أمضيناها في عالمنا الكافكوي. في
ايران
نضطر الى اضاعة الكثير من الوقت ونحن نحاول فقط تقصي بعض
المعلومات. بالنسبة الى
قنبلة موقوتة مثل علي، هذا خطأ كبير. في خلال بحثه عن زوجته وإبنته
الصغيرة، يضطر
الى تمضية ساعات في مقر الشرطة. هذا يزيد من حدة الضغط الذي كان وضع تحته
أصلاً".
حتى قبل أن يخسر زوجته وابنته، يشعر علي بضغط المجتمع والسلطة عليه.
الشرطة
المنتشرة في كل مكان، يشار اليها كعدوّ قاتل وهو رمز للجسد الحاكم ذي
الهيبة
والسلطة. علي يكره ذلك الرمز، لكن عندما يأخذ وضعية القناص يبدو كأنه يريد
اطلاق
الرصاص بشكل عشوائي. لا نعرف ما إذا كان قنبلة موقوتة خرجت من
طورها أم انه يريد
الانتقام من الشرطة. بالنسبة الى بيتس، ما يأخذنا الى الجزء الثاني من
"الصياد" هو
السؤال الآتي: هل لعلي الحق في القتل حتى لو كان ذلك انتقاماً لعائلته.
"القتل شيء
مروع مهما تكن أسبابه. أردت أن أعبّر عن ذلك بالصمت حين تقع ضحية علي
ارضاً".
"الصياد" في نهاية المطاف، بالاضافة الى اسئلته السياسية
العلنية
والمفتوحة، ليس سوى دعوة الى النظر من ثقب الباب الايراني، لكن من دون
تلصص، ومع
جرعة من الاستفزاز المبطن والمطلوب. انه ايضاً دعوة الى اعادة التفكير في
مكنونات
مجتمع مقسوم بين مَن يمثل السلطة ومَن يمثل نقيضها. عن هذا يقول بيتس:
"نميل الى
النسيان ان الناس أفراد. المجتمع يحب تجميع الناس وتصنيفهم. الفردية
مفقودة. إذاً،
عندما التقينا الشرطي الذي يلقي القبض على علي، حاولت أن نرى
الفرد الموجود خلف
اللباس العسكري. هؤلاء العسكر أشخاص متواضعون لكن لكل واحد منهم دور يجب أن
يؤديه.
كل واحد منهم يعتقد أنه يقوم بما ينبغي
فعله. واحد يختار الشرطة، آخر يضطر الى
الانضمام الى صفوف الجيش. وهناك مَن هم مثل علي، فقدوا كل شيء.
الثلاثة ضائعون
عبثاً، في نوع من متاهة ستقودهم الى مصائرهم وحتميتهم. الفيلم هو أصلاً
مصنوع
كمتاهة".
في أول يوم تصوير، بدا الممثل الذي كان اختاره بيتس للإضطلاع بشخصية
علي صعب المراس، اذ تأخر ست ساعات على الموعد. قرر اثر ذلك أن يحل مكانه كي
ينقذ
الفيلم. اذاً في أول يوم تصوير له، وجد نفسه يقوم ببطولة فيلم
تولى اخراجه. "ما
ألبسه في الفيلم هو ما كنت ألبسه في ذلك اليوم. بطريقة ما، أصبح الفيلم هو
فيلم
مخرج يداه مكبلتان لأنه ليس في وسعه أن يقول ما يود قوله في فيلمه. "صياد"
-
العنوان - يمكن أن يكونه ايضاً المخرج. مع الفرق ان في يده كاميرا
بدلاً من
البندقية. أن تقف أمام الكاميرا وخلفها في آن واحد، شيء أشبه بـ"دكتور جاكل
ومستر
هايد". تجسيد علي أخذني الى مكان مظلم جداً، كان مؤلماً، وصعب عليَّ الخروج
منه.
أدركت ايضاً أن ما يعجبني في مهنة الاخراج
هو تصوير الآخرين".
نقد
ديفيد فينتشر حين يدير ظهره ويختفي في ظلام
الشاشة
تراكمت المشاريع على طاولة ديفيد فينتشر، ما جعله حائراً
من امره. حيناً يقرر ان يتولى اخراج الجزء الثالث من "مهمة: مستحيلة" قبل
ان
يتراجع، حيناً آخر يُختار لإنجاز "اسياد دوغتاون"، ثم يتحمس لاقتباس رواية
"حالة
بينجامين باتون الغريبة" لفرنسيس سكوت فيتزجيرالد. هذا كله لا يمنعه من
تحقيق مشروع
سينمائي ("زودياك") يلائم مغريات مضمون ترافقه منذ فيلم "سبعة" الذي كان
وراء شهرته
كمخرج "ثريللر" بارع قبل نحو 15 عاماً، ويعيد الى الاذهان القاتل بالتسلسل
الذي
عرّفنا اليه المخرج في احد أكثر افلام التسعينات قتامة وبراعة سيناريستية.
"زودياك"
تعقب مجدداً خطى أحد أكثر المجرمين خطورة في القرن العشرين، في سجله الدموي
ما
يقارب الـ37 ضحية سقطت بين 1966 و1978 في مدينة سان فرنسيسكو.
لا شك ان فينتشر
حالة استثنائية في السينما الاميركية: بعد الطموحات التي تجاوزت كل حد،
والقراءة
الفوضوية - الفلسفية الجارحة، والصادمة، المنتقدة للمجتمع الاستهلاكي،
والتي مست
بأفلامه، ولا سيما في "نادي العراك" (1999)، سجل هذا السينمائي
في بداية القرن
الجديد، عودة الى الساحة، بفيلم كان الهدف منه تحريره من صيت "الفاضح" الذي
التصق
باسمه، وان يعيد اليه اعتباره لدى اصحاب الشأن، من منتجين وأصحاب
استديوهات، بعمل
حكيم يتضمن 5 شخصيات اساسية، ويكشف عن اعتدال ما في رغبته الفكرية: "غرفة
الهلع".
في الواقع، لم تغب المعايير التقنية والاخراجية الممتازة شكلاً
ومضموناً
عن الافلام التي سبقت "غرفة الهلع"، الذي كان اهلا للود والتعاطف، اذ اظهر
"سيد
القلق الحديث" عبره، انه في امكانه التحايل على قيود فرضها الممولون، كما
انه أثبت
قدرة كبيرة على الافلات من قبضة "المنتج ذي الزبون الجاهز"، وعلى ادخالنا
في صميم
عالم يتأكله العنف، حيث لا احد منه يخرج سالماً ومعافى. معه اعتدنا ان
تندرج هذه
الاجواء في سياق سينوغرافي تغلب عليه النزعة التشويقية القريبة
من نهج هيتشكوك،
والتي انحشرت، هنا، بين بابين من "غرفة الهلع" هذه.
ولكن، ما اعتبره احد اجمل
الافلام التي تناولت الاستعارة، هو قبل كل شيء، تأمل فوري في
السينما، وفن العرض
عموماً، وعن الصور والتواصل البصري، في عصر يشهد ثورة في معدات الاتصال.
يقحمنا
فينتشر في شقة فخمة ترغب امرأة في استئجارها، ليؤجل خروجنا منها حتى نهاية
الفيلم،
نظراً الى ظروف شديدة التأزم ستتحكم بالشريط. ففي اول ليلة
تمضيانها في منزلهما
الجديد، تفاجأ الام وابنتها بزمرة من المسلحين - السارقين وهم يستولون على
المنزل،
فلا يبقى أمامهما الا اللجوء الى "غرفة الهلع"، وهي غرفة معدة خصيصاً
للاختباء، في
حال حصول اي طارئ.
لقد استوعبنا مقصد فينتشر: فهو جعل من هذا الملجأ المرعب صالة
سينما، كالتي يُحبَس فيها المشاهد لمتابعة احداث الفيلم الذي يشاهده، خلال
ساعة
ونصف ساعة او ساعتين، وخصوصاً ان احترام عنصر الوقت ووحدته
يعزز هذا الانطباع.
فالشاهدة على الحدث ليس لديها ما تخسره (تخلى عنها زوجها لأجل علاقة مع
عارضة
ازياء، الامر الذي تسبب لها بالاحباط واليأس)، وهي ستضع نفسها عاجلاً ام
آجلاً تحت
رحمة سيف الفن السينمائي وأعرافه، معتمدة على عنصري العين
والنظر، تأكيداً لمبدأ
"انا ارى اذاً انا اصدق". وهذه وصية من وصايا السينما، اتخذت مكاناً
مهماً في هذا
العمل الذي يرفض خرق الجدار الدرامي، على رغم ان هذه المهمة تُركت لكاميرا
تتناقض
في مسارها الافقي مع ما يؤسس له السيناريو: الشعور بالانغلاق.
منذ "اللعبة"،
اعتمد فينتشر اللقطات الطويلة المصورة دفعة واحدة، من دون اي
انقطاع، رابطة لحركات "الترافلينغ"
الامامية ذات الاشكال الهندسية الخاصة بالاحلام، عند اختراقها
المخيلة. نستطيع القول ان فينتشر هو أحد أكثر السينمائيين تناولاً لجدلية
العلاقة
بين المتفرج وما هو مطروح للظهور على طاولة البحث. فاذا
اعتبرنا ان الشاشات التي
تسمح لميغ وسارا بمراقبة تصرفات 3 من السارقين الفاشلين، هي شاشة سينما،
فنخلص الى
ان التعديلات التي تمارسها الصور على نظر المتلقي، ذات شأن مخيف.
من خلال فن
التأطير، حرص فينتشر على ابتكار لغة سينمائية رمزية في افلامه، وطرح قضية
"انفتاح
السينما على الثقافات والحضارات المختلفة"، الامر الذي يساهم في الخلاص
والخروج من "دوامة
الانغلاق على النفس" التي تتمثل في المرض الذي تعانيه ميغ في "غرفة الهلع".
واذا كانت اللغة التأطيرية حاضرة بكثافة في بعض المقاطع (مشهد الحمام)،
فإنها تصبح
مدعاة للضحك في مشاهد اخرى، اذ نرى في جانب، ثلاثة رجال في كادر واحد، وفي
جانب
آخر، امرأة تملأ الكادر. وبذلك، يتم وضع عاملي القوة والسيطرة
على المستوى نفسه.
يلجأ فينتشر في تعبيره السينمائي الى كل ثوابت هذا النوع: مثلاً، من
يملك
المسدس في يديه هو الذي ينتصر في الجولة، والرهينة افضل الوسائل لإرغام شخص
ما على
ان يقوم بما لا يريد القيام به، كما ان لا هروب من العراك ما
دام الامر يتعلق
بالخروج من الورطة.
المشاهد هو من يختبئ وراء ارتفاع موجات العنف، وهو ايضاً
الذي يحصل عليه، في صناعة تمركزت على نحو اساسي على العرض والطلب. هذا هو
نوع
الخطاب الذي يلقيه فينتشر قبالة جمهوره، قبل ان يدير ظهره
ويختفي في ظلام الشاشة.
لقاء
جان هنري مونييه: عار على الغرب
!
يحب المخرج الفرنسي جان هنري مونييه الصور
التي تتحرك قبالته على الشاشة. فاللقطات تحرك مشاعره ويرغب في
تقاسمهما مع الآخر.
في أحد أفلامه السابقة، سعى الى عكس صورة لامعة عن اهل قرية ناجاك فأحدث
تفاعلاً
صادقاً مع كاميراته ولم يبعث الاحاسيس الزائفة. كان في امكانه ان يُظهر ما
هو قاس،
لكنه اعتبر ان لدى الناس ما يكفي من الحزن، لذا، ألقى الضوء
على الجانب المضيء في
الطبيعة البشرية، لعلها تمنح الآخرين الامل والقدرة على مواصلة الحياة. في
فيلمه
الجديد "لا خسارة"، يصور مونييه حياة المتشردين الذين لا يملكون سقفاً
يؤويهم.
استقر مونييه مع عائلته في ناجاك عام 1995. في البداية، لم يكن يرمي
الى صنع
الافلام في تلك المنطقة. ما اخذه الى هناك هو رغبته في العثور على ايقاع
جديد
لحياته، بعيداً من باريس. كان يعلم بوجود قرية كهذه، لأن زوجته بنت صداقات
حين كانت
تعمل فيها قبل نحو 20 عاماً، او حين كانت تمضي فيها الاجازات. عثر على بناء
مدمر،
الى جواره قطعة ارض، فاشتراه. بالقرب من متنزه كان يسكن
ميكانيكي - شاعر يدعى سوزو،
وكان اشبه بفيلسوف، وسرعان ما صار الصديق الأقرب الى العائلة. حين تعرف الى
هذا
الرجل، فجأةً ولدت لديه رغبة في تصويره. لم يذهب الى ناجاك لتصوير فيلم،
لكن الظروف
شجعته، فاستل الكاميرا لالتقاط المشاهد من دون هدف، ومن
محاولاته المتكررة صنع
فيلماً استغرق تصويره نحو سنتين، وكذا بالنسبة الى التوليف.
عند سوزو تعرّف الى
شخصيات الفيلم كافة، من بينهم عمدة القرية. كان الاقتراب من مسؤول كهذا
امراً
بديهياً. رويداً رويداً بدأ بتصوير هؤلاء الاشخاص الذين عثر لديهم على ما
يدفعه الى
الالتفات نحوهم. لكنه كان يفعل ذلك كمن يصوّر اهله او ينجز
شريطاً عائلياً. مع مرور
الوقت، اصبح هؤلاء من افضل اصدقائه. تجربة تصويرهم دامت نحو ثلاث سنوات. في
غضون
ذلك، انجز فيلمين آخرين برفقة عازفين وموسيقيين افريقيين، واقتضى التصوير
الذهاب
الى افريقيا، وكل مرة كان يعود فيها الى ناجاك، كان يلتقط
كاميراته الـ"ديفي"
ويصوّر. بعد ثلاث سنوات، قال لنفسه انه لا بد من الاستعانة بالمشاهد التي
التقطت
لإنجاز فيلم، وكان قد انتهى آنذاك من العمل على الفيلمين الآخرين، لذلك ذهب
الى
باريس وأعد مجسماً، بعدما استطاع استدانة بعض المال والاستعانة
بخبرات بعض الاصدقاء
لاتمام المخطط. ثم استدعى بعض المنتجين، منهم المنتجة التي موّلت أحد
أفلامه
السابقة وهي بدورها اقترحت المشروع على جاك بيران الذي لم يكن مونييه
يعرفه. شاهد
هذا الاخير الفيلم مع كريستوف باراتييه (مخرج "الكورس") وقررا دعمه مالياً.
يعتبر مونييه أن قلة من الشباب الحاليين يعلمون كيفية ذبح الدجاج في
المزرعة.
هذا هو العالم الذي يختفي. صحيح انه صوّر عالماً ينقرض، لكنه لم يبتعد عن
واقعنا
الآني، وخصوصاً حين نتعرف الى هنري، القروي الشاب المهتم
بالزراعة البيولوجية الذي
يقول لسوزو في آخر الفيلم، انه ذاهب الى فلسطين كي يساعد القرويين الذين
سُلبت
اراضيهم ويقطف الزيتون معهم. فهذا دليل على اننا لا نزال في الحاضر.
اللافت في
أفلام مونييه، الغياب شبه الكامل للمقابلات والشهادات المباشرة، وهي
التقنية التي
تستند اليها الأفلام الوثائقية المهمة. هناك الكثير من الافلام تتبع اسلوب
المقابلات، كما هي الحال مع "العالم بحسب بوش"، الشديد الصرامة
والمرتكز على شهادت
لنحو 28 شخصاً. هذا اسلوب وليم كاريل. مونييه يعمل في اطار مختلف، واسلوبه
يتسم
بالانطباعية. فالتصوير بالنسبة اليه أمر غرائزي، لأنه في أكثر الاوقات لا
يعلم ما
قد يحصل. يقول: "احياناً، كنت اصل مع كاميراتي الى حيث الاشخاص
الذين اود تصويرهم،
وكنا نتحاور اكثر مما نصوّر. وحين اشعر ان هناك امراً مثيراً كنت امسك
الكاميرا
واصوّبها في اتجاههم".
يقول مونييه انه يعمل هاوياً، مع ان الكادر أُعدّ على
نحو فائق من الاتقان والدقة. لكن تبين، أنه حين يقول ذلك، فهو لا يعني انه
صوّر
كيفما اتفق. على كل حال، يجد مونييه ان كلمة "هاو" ارقى من
كلمة "محترف". فالهاوي
هو ذلك المشغوف بعمله! بعض المشاهد هي وليدة المصادفة، وتتخذ
معاني ودلالات بعد
خضوعها لعملية المونتاج، اذ في امكانك ربط الافكار بعضها ببعض. في النهاية
لكلٍّ
اسلوبه، والنهج الذي يجدر بكل واحد متابعته هو النهج الذي يرتاح اليه.
توجهت
الى مونييه بسؤال أطرحه على كل المخرجين الوثائقيين الذين ألتقيهم: هل تشعر
ان لديك
واجباً اخلاقياً تجاه الشخصية التي تصورها؟ فأجاب: "تماماً، أكنّ احتراماً
جماً
للشخصيات، ولا سيما انهم أصدقاء لي. كنت حريصاً على عدم جعل هؤلاء يشعرون
بالانزعاج
من الصورة التي اعكسها عنهم. اعتقد انه يكفينا ما نراه على
شاشاتنا من قرف وذل بسبب
نزعة المشاهد التلصصية. فأنا اعدتُ الى العالم كرامته المفقودة. التلفزيون
هدفه رفع
مستوى المشاهدين. لذا، نجد ان كل الاساليب متاحة لبلوغ الاهداف، والشغف
غائب لأن
معظم الاحاسيس يرافقها الاذلال. اما حين تصوّر على مدار 7
سنوات جيرانك الذين
يصبحون لاحقاً اصدقاءك، فهذا أمر آخر. لا اشعر اطلاقاً ان ما افعله هو
استغلال صورة
الاخرين، فعلى الشاهد ان يقول كلمته، وعلى احدهم ان ينقل رأيه صوتاً وصورة.
يجدر
ايضاً ترك بعض الآثار خلفنا. فهذه هي السينما. لا يسعنا انجاز
فيلم وثائقي اذا لم
تكن لدينا الرغبة في ترك بصمات. اليوم، نشهد سقوط الحاجز بين الوثائقي
والروائي.
والانفعال الذي تبعثه شخصيات الفيلم
الوثائقي، هو بقدر الانفعال الذي يسببه لنا
نجوم هوليوود".
بيد أنه يجب الاعتراف بأن النظرة الى الفيلم الوثائقي تبدلت في
السنوات الاخيرة. تغيرت بفضل افلام لاقت نجاحاً غير مسبوق، مثل "ان تكون
وان يكون
لك" و"مشية الامبرطور" وأعمال مايكل مور الدعائية، وأخرى أكثر رقياً مثل "ميكروكوسموس"
و"موندوفينو". بحسب مونييه، هناك جيل كامل من المشاهدين ملّ الافلام
التي تُفرَض عليهم، في تلميح الى غزو السينما الهوليوودية التي دائماً تبقى
فرنسا
في منأى منها. "ما اتوقعه كمشاهد"، يقول مونييه، "هو ان تأخذني
السينما الى عوالم
تثير الدهشة. لحسن الحظ، ان هناك اليوم ما يسمّى الكاميرات
الرقمية التي فتحت
افاقاً جديدة للسينمائيين، وانقذت افريقيا ومبدعيها من الصمت المطبق.
بكاميرا رقمية
وكومبيوتر "ماكينتوش" وبطاقة تجعلك صاحب القرار النهائي في ما يختص
المونتاج،
تستطيع انجاز فيلم وشراء المعدات بـ10 آلاف دولار.
يرى جان هنري مونييه ان
العالم في طريقه الى الضياع، والبشر الى الانقراض، ما لم يتخذ
المجتمع الدولي
الاجراءات الوقائية لدرء ذلك. "الامر الذي بات بديهياً اليوم هو ان البشرية
تواجه
اخطاراً كبيرة، فالعلماء كافة اجمعوا على هذه المسألة، والعالم الغربي لا
يحرك
ساكناً، علماً اننا نتشاطر معاً الجزء الاكبر من المسؤولية في
ما يجري في عالمنا من
مآسٍ وبؤس. واذا استمررنا، على الصعيد البيئي، في عدم الاكتراث للارض، فيجب
التهيؤ
للغضب الذي قد تولده هذه الارض. اشعر بخجل لكوني غربياً في كل مرة أسمع
احدى دولنا
الغنية تطالب دولة فقيرة بالديون المتراكمة عليها، جراء
الانتداب الغربي الذي عاشته
هذه الدول. بلداننا غنية حتى انه يجب الغاء كل الديون بشحطة قلم. فنحن نريد
أكل
الاخضر واليابس. لكنك تصل الى مكان لا يعود في امكانك ان تتحمل. عار على
الغرب!
فالكون عبارة عن عائلة كبيرة، وفي عروقنا جميعاً تجري كمية الدم نفسها، اما
العظام
التي في اجسادنا فعددها متشابه ايضاً. انني شديد الايمان ان غالبية البشر
في هذا
العالم يريدون العيش بسلام، لكن القادة لا يتركون الشعوب
وشأنهم. فالحرب، كما
يتردد، هي ان يتقاتل اشخاص لا يعرف بعضهم بعضاً لمصلحة اشخاص يعرف بعضهم
بعضاً،
لكنهم لا يتقاتلون".
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
25/02/2010 |