|
لم يرق لمخرج فيلم “الزمن الباقي” ايليا سليمان وصف فيلمه الذي عرض أول أمس
في المهرجان ضمن الأفلام الروائية بأنه يوثق لتاريخ فلسطين، وأكد أنه سيرة
شخصية لعائلته معالجة سينمائياً. وقبل البدء بقراءة الفيلم لا بد أن نحترم
رؤية كاتبه إليه دون أن نغفل القول ان “توثيق الحياة الشخصية لأية عائلة
فلسطينية يتقاطع مع تاريخ الشعب الفلسطيني مع الاحتلال”.
يبدأ الفيلم من عام 1948 من خلال شخصية وطنية فلسطينية “فؤاد” والذي قام
بدوره الممثل الفلسطيني صالح بكري، ويختار المخرج رجلاً مسلحاً جاء من
العراق يبدو تائهاً لكنه يمشي في الشارع بحركات عسكرية وبعدة القتال، يسأله
فؤاد وصديقان يجلسان في المقهى عن طريقه فيجيب انه ذاهب إلى طبرية للقتال،
وعندما يجيبونه بأنها تحررت يطلب طريق حيفا. في إشارة إلى شكل المشاركة
العربية في حرب فلسطين التي اتسمت بالحمية والشجاعة مع غياب التخطيط.
وكما نعلم ان مجرد طلب القتال والمواجهة لا يحقق شرط الانتصار.الفيلم يحمل
الكثير من المشاهد المؤثرة، ولعل اولها عندما تطارد طائرة حرب شراعية
“إسرائيلية” سيارة يستقلها فلسطينيان يرفع احدهما الراية البيضاء كإشارة
إلى أنهما ليسا بوارد القتال، وللحظة تحجب الراية زجاج السيارة الأمامية في
مشهد لا يستغرق أكثر من ثلاث ثوان في لفتة ذكية إلى ما جلبته دعوات السلام
من حجب للرؤية في فترات كثيرة حاسمة من تاريخ فلسطين، ولا يمكن ان نستثني
منه الوضع الحالي. نجح المخرج في اختصار نص السيناريو الذي جسده الممثلون
بالعربية والعبرية كثيرا بعد تحويل الكثير منها لمشاهد تتحدث من دون
حوارات، مثل المواجهات وملاحقات قوات الاحتلال للشبان، واقتياد المعتقلين
وتجميعهم في مكان قبل قتلهم، وفي هذا المشهد يلقي احد المعتقلين قصيدة
للشاعر محمود عبد الرحيم والتي منها (فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ
العدى) قبل أن يصوب هو رصاصة إلى رأسه. بعد التوقيع على الاتفاقية
الاستسلام التي وقعها وجهاء الناصرة مرغمين، يخرج فؤاد مع أحد رفاقه لإنقاذ
جريح سقط في الشارع، ويصادف حبيبته في سيارة والدها مغادرة إلى الأردن، لكن
المشهد الأكثر تراجيدية عند نقل الجريح إلى احد البيوت القريبة هو الطاولة
التي لا يزال عليها الطعام حيث أخلتها العائلة قبل تناول طعامها الجاهز.
تختلط مشاهدات “فؤاد” في تلك الآونة بحياته الشخصية، ففي طريق العودة
لمنزله يراقب جنودا “إسرائيليين” يستولون على ما تركه الذين أخلوا منازلهم
وغادروا، فيقوم أحدهم بتشغيل آلة الاستماع للأغاني، حيث اغنية ليلى مراد
“قلبي دليلي”، وبعد ان يعتقله “الإسرائيليون” كونه صانع الأسلحة في المدينة
ينهالون عليه بالضرب المبرح ثم يرمونه من اعلى السور على المنحدر.
تنتهي هنا المرحلة الأولى من حياة العائلة، ومع بداية كل مرحلة نسمع أغاني
جديدة ورسالة من “ثريا” التي يتزوجها “فؤاد” إلى شقيقته ناديا، ويكون لهما
ولد اسمه ايلي يدخل مدرسة، وتنال فرقة طلابية من الصغار جائزة لغنائهم
بمناسبة تأسيس دولة الاحتلال بالعبرية، ثم يغنونها بالعربية بعنوان “عيد
بلادي”، التفاعل الذي يظهر على وجوه المدرسين العرب والأطفال انفسهم مع
الأغنية العربية توضح أنهم يغنون لفلسطين. ولعل الوقوف على هذه المشاهد
يتطلب الاطلاع على طبيعة حياة عرب “إسرائيل” أو عرب الداخل، الذين تأقلموا
على الحياة بين اليهود دون أن يفقدوا طريقة حياتهم وثقافتهم ومبادئهم،
وتعرضوا للكثير من سوء الفهم حتى من الفلسطينيين خارج هذه المنطقة بعض
الأحيان، وفي مشهد ذي دلالة على الاختلاف الثقافي الجذري بين العرب واليهود
ترتبك مدرسة التلاميذ في المدرسة عندما تعرض فيلما للتلاميذ فيه مشاهد
طويلة للقبل، لتشير لهم أن الذي يقبل الفتاة هو أخوها، أي قبلة اخوية.
والفيلم يعيد طرح الكثير من الأمور التي ربما لا يتقبلها من هم خارج هذا
التصنيف “عرب 48” ستظهر لاحقا أيضا في مشهد انقاذ فؤاد لجندي “إسرائيلي”
انقلبت به دبابته على جسر وينتهي به الأمر ان يدخل المستشفى معه. لسنا هنا
بداعي القيام بتحليل سياسي لوضع هؤلاء الذين يحملون الهوية “الإسرائيلية”،
لكن بقاءهم أقوى شهادة تاريخية على الحق الفلسطيني في ما يسمى حاليا بدولة
“إسرائيل”، وللاشارة فقط فإن الروائي التركي الحائز على جائزة نوبل لم يعثر
سوى على المباني الأرمنية في ولاية قارص للدلالة على وجودهم التاريخي في
المنطقة.
الفكاهة التي رافقت الفيلم نوع من “الملهاة المؤلمة” من خلال شخصية العجوز
جار “فؤاد” الذي يقول في ظهوره الأول أنه لو كان العرب “شريبة كاس كنا
ربحنا الحرب”، ويقوم بشكل متكرر بسكب الوقود على نفسه محاولاً إشعال عود
الكبريت دون جدوى إلى ان يأتي “فؤاد” ليقوده إلى المنزل. أما المواقف
الأخرى التي ظهر فيها متحدثا فلا يمكن ذكرها، ولعل ذلك كاف لإيضاح البذاءات
التي تحدث بها. كان من الممكن تقديم هذه الشخصية بنفس الصورة التي رأيناها
بالفيلم مع تفادي الشتائم التي لا يمكن التلفظ بها، ولا نعرف ما إذا كان
تجسيد الواقع لا يتم إلا من خلال الواقعية في الشتائم، فوجود الجندي
“الإسرائيلي” وتجسيده سينمائيا أو حتى مشهد مساعدة فؤاد ل”الإسرائيلي”
الجريح، هي من صميم الواقع وهذا كاف.
وتنتهي هذه المرحلة بعد هزيمة 67 ووفاة عبد الناصر حيث يتعلق في ذهن المخرج
ايليا صورة والده ووالدته يبكون بحرقة وألم واستسلام. ويتكرر مشهد الصيد
على الشاطئ مع فؤاد ورجل آخر حتى يعتقل بتهمة تهريب أسلحة من لبنان. خلال
عملية القبض عليه يكون بين الجنود عربي يخدم في الجيش “الإسرائيلي”، وهي
المشكلة التي تفاقمت فيما بعد ولاتزال مستمرة حتى يومنا هذا.
في المرحلة الزمنية الثالثة يصبح ايلي شابا، وهنا يركز المخرج على التحولات
الاجتماعية التي بدأت تلوح بوادرها، الصمت هو عنوان هذه الشخصية حتى في
مراقبته من شرفة المنزل لمشهد المواجهات في الشارع مع الاحتلال، وفي نهاية
هذه المرحلة. هنا مشهد مركب في معناه، ربما أراد خلاله المخرج ان يقول كل
ما أراد خلال هذه المرحلة، حيث يتجول بائع الجرائد في الشارع ومعه جريدتا
“الوطن” و”كل العرب”، ويقول بصوت عال: “الوطن بشيكل (العملة “الإسرائيلية”)
وكل العرب ببلاش”.
ويجسد المخرج ايليا سليمان شخصيته الحقيقية في المرحلة الزمنية الرابعة من
سيرة العائلة، واللافت أن الشخصيات الثلاث التي ظهرت، وهي والده وشخصيته
وهو شاب والشخصية التي ظهرت أخيرا تكاد تكون متطابقة في الأداء، بل إن
المرء ربما سيتمكن من معرفة الشبه النفسي الشديد بين هذه الشخصيات حتى لو
تابع الفيلم على اجزاء منفصلة ومستقلة.
موسيقا الفيلم متميزة، ووجه التميز أن الأغاني كانت لشخصيات الفيلم وليس
للمشاهد، وتنوعت هذه الأغاني بين ليلى مراد، ونجاة الصغيرة، وفيروز، ومحمد
عبد الوهاب، وصولاً إلى نجوى كرم في المشاهد الأخيرة في تسلسل اعتبره
المخرج في المؤتمر الصحافي غير مدروس أو لم يقصد تأويل الحياة الاجتماعية
من خلالها. في “الزمن الباقي” الذي اهداه لذكرى والديه، قال الصمت كلمته.
أعقب عرض الفيلم مؤتمر صحافي للمخرج ايليا سليمان الذي نفى بداية ان يكون
العنوان الثاني للفيلم “سيرة الغائب الحاضر” إشارة للشاعر الراحل محمود
درويش، بل هي الكلمة التي أطلقها “الإسرائيليون” على فلسطينيي 1948 الذين
لم يتركوا أرضهم ولم يطردوا منها، لكن خطة طردهم لا تزال موجودة، والعنوان
يعود للشخصية المراقبة في الفيلم، شخصية ايلي نفسه.
واكد أن الصعوبات التي واجهها في الانتاج أعطته دفعا معنويا للنشاط
والتفكير بالبدائل، معبرا عن ذلك بقوله “أردت في الفيلم أن أفعل الكثير
وأقول القليل”. وعن الأماكن التي اختارها للتصوير أوضح أنه يزور المكان قبل
قرار التصوير ليرى مدى ملاءمته ليس فقط للكاميرا بل للطبيعة النفسية
للشخصيات، “أكتب ما أراه أولا ثم أبدأ بتلوينه”. وكشف أن نهاية الفيلم لم
يكن من المفروض ان تنتهي بهذا الشكل، لكن وفاة امه وضع حدا للفيلم عند هذا
الحدث “لكن فيلمي الرابع سيبدأ بها”.
وعن علاقته بالناصرة كمكان قال انها تغيرت بعد وفاة والدته، “لم تعد لي
العلاقة نفسها مع المدينة، لست مرتبطا بمنزل خاص، وهناك الكثير الذي تعلمته
من عدم العيش في مكان واحد، ومن الضروري ان نعيش حياة الآخرين وثقافاتهم
لأنها تقلل من التعصب الأيديولوجي، حتى إنني أرى في العالم أكثر من فلسطين،
لننظر إلى افريقيا والأماكن التي تنتشر فيها الصراعات، كل هذه الأماكن التي
تريد العدالة اعتبرها فلسطين.
وتحدث عن النضوج السينمائي الذي لا علاقة له بعمر المخرج وتاريخه، مؤكداً
أنه ليس مهووساً بالسجادة الحمراء التي يمشي عليها الناس والمشاهير، فما
يهمه أن يرى الناس أفلامه. ورفض الربط بين التمويل الكبير والفيلم الجيد
رغم الصعوبات التي واجهها. وأكد أنه كان بإمكانه استخدام التواريخ “لكني لم
أرغب ان يفهم الناس اني أقدم فيلما تاريخيا، بل التاريخ من وجهة نظري،
واللحظات الأسوأ في حياتي وحياة والدي”. وعن سبب عدم ترجمته للأغاني
العربية في الفيلم إلى الانجليزية، شدد أنه ليس بوارد ترجمتها على الاطلاق
ولن يقع في فخ منح الآخرين مادة ليدرسونا من خلالها. وعن الدبابة التي تم
تفجيرها على الجسر قال انها دبابة فرنسية لأن “الإسرائيليين” رفضوا منحنا
دبابة لتفجيرها في الفيلم.
الخليج الإماراتية
في
15/10/2009 |
