الذين كانوا في دورة العام 2002 من مهرجان كان السينمائي قد شاهدوا
فيلم «يد
إلهية» للمخرج الفلسطيني ايليا سليمان حين عرض ضمن اطار المسابقة الرسمية،
كانوا من
القلة التي لم تفاجأ حين أعلن عن فوز الفيلم بجائزة لجنة التحكيم الكبرى
وهي ثاني
أهم الجوائز في هذا المهرجان السينمائي العالمي الكبير. ومنذ
ذلك الحين نعرف كيف
قدم سليمان مساهمة أساسية في عالمية السينما الفلسطينية في درب سبقه فيها
مواطنوه
ميشال خليفي ورشيد مشهراوي ولحقه آخرون مثل هاني أبو أسعد وهن ماري جاسر
ونجوى نجار
وغيرهم من مبدعين يحسب لهم حساب، في المهرجانات العالمية على الأقل، وليس
دائماً
لأسباب سياسية تعاطفية. اليوم ها هو ايليا سليمان من جديد في
«كان» وتحديداً في
المسابقة الرسمية يخوض منافسة كبرى مع بعض كبار مبدعي السينما في العالم
بفيلمه
الجديد «الزمن الباقي» وهو فيلم يشتغل سليمان عليه منذ ما لايقل عن خمس
سنوات. وهي
في الحقيقة سنوات تبدو على الشاشة مثمرة، وببساطة لأن هذا
المخرج الفلسطيني الذي له
عمر القضية، يبدو هنا أكثر مما في أي فيلم سابق له قابضاً تماماً على لغته
السينمائية الخاصة جداً والتي سبق لها أن ظهرت بقوة في أفلامه السابقة
جميعاً سواء
طويلة كانت أو قصيرة: لغة تجمع البعد الذاتي بالتاريخ والراهن
العامين وتستند إلى
تاريخ طويل من الهزل الصامت في السينما الأميركية (تراث تشارلي شابلن، أداء
باستر
كيتون التعبيري الايحائي...) مدغمة إياها بأبعاد ما بعد حداثية يسمح المخرج
(الذي
هو كاتب أفلامه ومنتجها وكذلك ممثل الأدوار الرئيسة فيها) لنفسه من خلالها
بنوع من
الكولاج الذي يسهل له قول أشياء كثيرة وأشياء أساسية. ومن هذه
الأشياء القضية
الفلسطينية وموقعه كفرد من هذه القضية والتساؤل عما إذا كان من حق
الفلسطيني أن
يضحك أن يحب أن يشتم أن يسخر من كل شيء ومن ذاته قبل كل شيء. في اختصار،
مقابل
سينما اليقين التي كانت بامتياز السينما الفلسطينية أتى ايليا
سليمان منذ عقد ونصف
العقد بسينما القلق الفلسطيني. وهو أتى بهذه السينما ليس كامتداد لسينما
فلسطينية
ما، بل من «الريبرتوار» العالمي (مسرحيات بريخت وبيكيت مثلاً، وسينما
جارموش) ثم
استعار من الحياة اليومية الفلسطينية الأغاني الرائحة والشتائم
المبتذلة والخناقات
الصغيرة والحواجز الإسرائيلية وقصص الحب واللقاءات المستحيلة، «كاتباً بذلك
تواريخ
صغيرة لفلسطين لأهله في فلسطين لاستحلة العيش في فلسطين، وخصوصاً لذاته
الفلسطينية
التي تحضر وسينماه في كل لقطة وصورة في كل فيلم من أفلامه، إلى
درجة يرى كثير أنها
تدنو كثيراً من حدود النرجسية التي تجعل منه ناني موراتي السينما
الفلسطينية».
كل هذا شكل سينما ايليا سليما ولا سيما في أفلامه الأساسية مثل
«يوميات
اختفاء» و»يد الهية» و»سيبر فلسطين». في هذه الأفلام كتب سليمان تواريخ
صغيرة
ومتفرقة لفلسطين أو بالأحرى لفلسطينه الخاصة داخل فلسطين وبقي عليه أن يكتب
التاريخ
الكبير، وهذا ما فعله اليوم في جديده «الزمن الباقي» الذي ثمة من بدأ يراهن
على فوز
أساسي له يوم تعلن النتائج في اختتام المهرجان مساء السبت المقبل. ويقيناً
أنه لو
حدث هذا فلن يكون الفوز سياسياً. وذلك لأن سليمان حتى حين حاول هذه المرة
أن يكتب
التاريخ جعله مرة أخرى خاصاً وذاتياً كما كانت حاله دائماً.
ولنكن أكثر تحديداً:
كتب من خلال تاريخ فلسطين حكاية أمه وأبيه المتطابة زمنياً مع حكاية
القضية. وهو في
الوقت نفسه كتب حكاية والديه من خلال حكاية الوطن الضائع.
هذه ليست المرة
الأولى التي نتعرف فيها على والدي ايليا سليمان من خلال سينماه. فالمتفرجون
الذين
تابعوا هذه السينما يتذكرون بالتأكيد ذلك المشهد الشهير في «يد الهية» حين
يقود
والد ايليا سليمان سيارته عابراً باشمئزاز شديد شوارع وأزقة
مدينته الناصرة شاتماً
كل من يراه في تأتأته فيما هو يسلم عليه علنا. أما الذين شاهدوا الروائي
الطويل
الأول لسليمان «يوميا اختفاء» فإنهم توقفوا طويلاً عند المشهد الختامي في
الفيلم:
مشهد يرينا والدي المخرج جالسين ليلاً أمام التلفزيون، إنهما الآن غافلان
تماماً،
إذ انتهت برامج المحطة الرسمية الاسرائيلية التي كانا يتفرجان عليها (في
وقت لم تكن
القنوات الفضائية العربية قد وجدت فيه لتصل إلى كل بيت
إسرائيلي عربي فلسطيني لتحل
تماماً مكان القنوات الإسرائيلية في حياة عرب «إسرائيل» الذين ينتمي ايليا
ووالداه
إليهم). يومها كان مشهد هذين الكهلين الفلسطينيين مدهشاً وغريباً وأثار
الكثير من
التساؤلات عن وجودهما. عن حزنهما. عن مشاهدتهما المحطة
الإسرائيلية وخاصة عن وجود
النشيد الوطني الإسرائيلي في خلفية المشهد بشكل استفز كثيراً من العرب
الذين لم
يفهموا المشهد رغم بساطته ووضوحه. لم يفهموا دلالة أن ينعس الكهلان أمام
الشاشة ولا
يشعران بأية مبالاة تجاه رمز الكيان الإسرائيلي الذي صار رمزهما قسراً
حسناً ربما كان في إمكاننا القول إن فيلم ايليا سليمان الجديد قد ولد
من
رحم ذلك المشهد: من رحم رغبة المخرج في أن يجيب على أسئلة تبقى على الدوام
شائكة،
من هم هذان الشخصان؟ ما هي هويتهما «ماذا يفعلان هنا؟ هل تهما
تاريخ خاص حتى خارج
اطار القضية التي لم نعد ندري أصارت عبئاً عليهما أم صاراً عبئاً عليها.
للوصول إلى إجابات مقترحة على هذه الاسئلة يروي لنا ايليا سليمان هنا.
إذاً
ستون سنة من عمر القضية بالتوازي مع ستين سنة من عمر والديه وسنوات كثيرة
من عمره
هو، وهو يروي جزءاً أساسياً من هذا من خلال رسائل وأفكار وفقرات وأحلام
كتبها أبوه
خلال كل تلك المرحلة تأتي شهدت تجواله ونضالاته وافتراقاته مع حبيبته
وخيباته
واستسلاماته. يروي هنا سليمان على هذه الطريقة ليس فقط تاريخ
فلسطين بل التاريخ
الفلسطيني الذي نتذكر فجأة كيف انه لم يروَ بعد.
فنحن جميعاً في غمرة
اهتمامنا بفلسطين، بالسياسات الكبرى، بالصراعات، بالشتات، بالهزائم، وحتى
بالانتصارات وخاصة الوهمية منها، نسينا شيئاً أساسياً وهو الإنسان
الفلسطيني وحسناً
يفعل ايليا سليمان حين يذكرنا بهذا بفضل سينماه الكبيرة المميزة. ولا بأس
أن يكون
قد فعل عبر فيلم قد يراه الكثير نرجسياً. لكنها بالتأكيد تلك
النرجسية الخلاقة التي
لا يملك سرها سوى المبدعين الكبار. وايليا سليمان هو بالتأكيد واحد منهم.
وكان سبق
لمهرجان «كان» أن اعترف له بهذا مرة أولى فهل يعيد الكرّة مرة ثانية الآن؟
الوسط
البحرينية في 21
مايو 2009
|