في إطار
المسابقة الرسمية الخاصّة بالدورة الثانية والستين (13 ـ 24 أيار 2009)
لمهرجان «كان» السينمائي الدولي، ومن أصل عشرين
فيلماً اختارتها إدارة المهرجان للتنافس على
«السعفة
الذهبية» وجوائز أخرى، عُرضت أربعة أفلام آسيوية، لغاية الآن: «كيناتاي»
للفليبيني بريانت ماندوزا، «ليالي السُكْر
الربيعية» للصيني لو يي، «عطش» للكوري
بارك شان ـ ووك و«انتقام» للصيني أيضاً جوني تو؛ علماً أن هناك
فيلماً آسيوياً
خامساً لم يُعرض بعد، بعنوان «وجه» للسينمائي الماليزي تساي مينغ ـ ليانغ،
المختلف
كلّياً عنها، بحسب التعريف الصحافي به، الذي أورد أنه يدور في كواليس الفن
وصناعة
المسرحيات. هذا نمط آخر من صناعة الصورة السينمائية. هذا شكل مستقلّ بحدّ
ذاته، مزج
روحانية الشرق الأقصى بمفردات العيش الواقعي في مجتمعات
متحرّكة دائماً، وجعل
الصورة أقرب إلى كوريغرافيا العنف منها إلى أي نسق تعبيري آخر. هذه تفاصيل
مستلّة
من واقع إنساني مجبول بالألم والانكسار، وقائم على لعبة التحدّي الدائم
للخروج من
نفق الخراب العظيم.
العنف
فعلى الرغم من التنويعات المتفرّقة التي قدّمتها
الأفلام الأربعة تلك، هناك رابط خفي يجمعها معاً في لحظة السقوط المدوّي
للفرد في
بؤر التوتر الجماعي القائم على الخديعة والقهر: العنف بدلالاته
وتحوّلاته وتعبيراته
كلّها. في الفيلمين الصينيين، اتّخذ العنف شكلين مختلفين، جاهر الأول
بحضوره من
خلال قصّة حبّ بين شابين يدفعهما ومحيطهما إلى التحطّم القاسي على صخور
الواقع
والانفعال المرتبك وارتفاع الجدران الحديدية بين المرء ونفسه
أحياناً (ليالي السكر
الربيعية)؛ وعبّر الثاني عن حيويته الدموية إثر مقتل عائلة كاملة، باستثناء
الأم،
جرّاء تصفية حسابات بين عصابات وقتلة مأجورين (انتقام). لكن العنف الكوري
(عطش)
مرسوم في أروقة الحكاية التقليدية المعروفة عن مصّاص الدماء، في محاولة
سينمائية
جميلة للانتقاد العنيف للمؤسّسات الدينية والاجتماعية والسياسية المتسلّطة
بخرافاتها وقمعها وهوسها بالسلطة؛ في حين أن براءة الولادة
الجديدة عبر العرس
صباحاً، تحوّلت سريعاً في فجر اليوم التالي (أليس الفجر ولادة جديدة
ودائمة؟) إلى
خيبة الحياة، إثر المشاهدة السلبية لجريمة بشعة، وسط الانهيار وضجيج
المدينة
والانفصام القاتل بين تناقضات شتّى (كيناتاي).
والعنف، إذ يتّخذ أشكالاً بصرية
متفرّقة، يصنع من الآنيّ في المجتمعات البشرية صدى التمزّق
الحادّ في الذات الفردية
وعلاقاتها بالجماعة. في حين أن التعبير عنه، وإن ارتدى أنماطاً عدّة قد
تكون
متناقضة أحياناً، جعل السينما أقرب إلى «محلّل نفسي» للذات البشرية أساساً،
مختبئ
في داخل الفن البديع وتداعيات دلالاته وأهواء صانعيه. غير أن
التفاوت في المعالجة
الدرامية واضحٌ بين الأفلام الأربعة، إذ بدا «عطش» أجملها زخرفة في مقاربة
التحلّل
الجسدي والروحي إزاء بطش المؤسّسة الأخلاقية في معاينتها اليوتوبية قضايا
الحياة
والعلاقات؛ في حين تشَابَه «ليالي السكر الربيعية» و«كيناتاي»
في تصويرهما نبض
المدينة (نانكين في الأول ومانيلا في الثاني)، على الرغم من انفصالهما
الكلّي على
مستوى الحبكة والسياق والمناخ، إذ غاص الأول في الأحاسيس القائمة بين
شابين،
والخراب الناتج منها؛ وتابع الثاني مسار جريمة قذرة أبطالها
رجال شرطة مدنيون
وضحيتها عاهرة وشاهدها شاب بريء، بدا أنه تلقّى «معمودية» الولادة بالدم
والقذارة
اللذين كلّلا تلك الليلة المجنونة، بعد زواجه رسمياً في الصباح، ظنّاً منه
أن
الزواج ولادة ثانية مليئة بالحبّ والفرح والمتع. أما «انتقام»،
الذي أدّى فيه
المغنّي والعازف الموسيقي والممثل الفرنسي جوني هاليداي دور البطولة
الأولى، فظلّ
عادياً في قراءته الانحدار الدموي لطالبي انتقام لا ينتهي إلاّ بالموت
والسكينة.
«إن المسامحة (يُمكن القول أيضاً المغفرة أو الغفران) أنبل
الانتقامات». هذا ما
قاله لاعب كرة القدم الفرنسي السابق إريك كانتونا لصديقه إريك بيشوب (ستيف
إيفيتس)،
في الفيلم الأخير للإنكليزي كن لوتش «البحث عن إريك»، المُشارك في المسابقة
الرسمية
أيضاً (لي عودة نقدية لاحقة إليه). لكن كوستيلّو (هاليداي) في «انتقام» بدا
أكثر
انتماءً إلى مقولة الزوجة/ الأم المفجوعة بموت وحيدها (شارلوت
غاينسبيرغ) في رائعة
الدانماركي لارس فون ترير «المسيح الدجّال» (المسابقة الرسمية أيضاً)،
ومفادها أن «الطبيعة كنيسة الشيطان»، إذ بدا واضحاً أن
«الطبيعتين المادية والبشرية» مسكونتان
بالشيطان، أمير العتمة (لي عودة نقدية إليه لاحقاً). فكوستيلّو
هذا لا يعرف النبل
والفضيلة، لأنه متحدّر من ماض مليء بالقتل والتصفيات، وها هو اليوم مُطالَب
بالانتقام لمقتل عائلة ابنته، تلك الفتاة الجميلة إيرين تومبسون (سيلفي
تستود) التي
نجت، بأعجوبة، من المجزرة. وكوستيلّو، الآتي إلى ماكاو وهونغ
كونغ للبحث عن القتلة
بهدف تصفيتهم الجسدية، بات طبّاخاً يملك مطعماً في باريس، من دون أن يتحرّر
كلّياً
من ماضيه الدموي هذا. غير أن للانتقام صُوَراً مختلفة، في الأفلام الثلاثة
الأخرى:
انتقام الزوجة الشابة لين كسيو (جياكي جيانغ)، في «ليالي السكر الربيعية»،
اصطدم
بتمزّق المشاعر العشقية بينها وبين زوجها وانغ بينغ (واي وي)، المغرم
بعشيقه جيانغ
شينغ (هاو كين). وانتقام الأب سانغ ـ هيون (سونغ كانغ ـ هو)،
في «عطش»، مال إلى
التمرّد المبطّن على سطوة المؤسّسة الدينية المسيحية المنتمي إليها، إذ عاش
صراعاً
داخلياً بين رغباته المنفتحة على العشق والشبق الجنسي المكبوتين في أعماق
ذاته بسبب
التزاماته الدينية، والأشكال البغيضة للقمع الديني المفروضة عليه، ما دفعه
إلى
التطوّع في اختبار طبي جعله، من دون قصد، مصّاص دماء متعطّشا
للدم والجنس والتخريب،
قبل أن تُثقل عليه وحشيته المتحرّرة من أسرها، فيذهب وحبيبته إلى حتفهما
برضاه هو،
لأن الموت خلاصٌ من جحيم الدنيا هذه.
لا يجد المُشاهد دلالة واحدة على الانقتام
في «كيناتاي»، لأن المناخ العام للحبكة وتفاصيلها المتشعّبة من
ركيزة درامية (التحوّل
الداخلي المبطّن للمرء) إلى عناوين متفرّقة (الجريمة، اللامبالاة، العنف،
الضجيج، المدينة، إلخ.) انعكاسٌ شفّاف وقاس للآني والراهن في
الذات الفردية
والمدينية (إذا صحّ التعبير). ذلك أن بيبينغ (كوكو مارتن)، المقبل على
الحياة بفرح
وطمأنينة صنعتهما علاقة الحب القائمة بينه وبين من أصبحت زوجته في صباح يوم
الأحداث
المتتالية، غرق سريعاً في الجحيم الذي صنعته الأرض، ما جعله
رجلاً سلبياً في تعاطيه
مع المسائل الحياتية، إلى درجة أنه، في صباح اليوم التالي على الحدث
العنفي، عاد
إلى زوجته وابنهما «كأن شيئاً لم يكن»، وإن لم يُعبّر عن اللامبالاة بوضوح
وقسوة،
على نقيض رجال الأمن المدنيين الذين قتلوا العاهرة بعد إخضاعها
لممارسة الجنس مع
أحدهم، وقيامهم جميعهم بتقطيعها ورمي أجزائها في أماكن مختلفة، قبل أن
يتناولوا
الطعام فجراً، كأنهم لم يفعلوا شيئاً إطلاقاً.
الجنس
إلى ذلك، يُمكن القول
إن العنف والمشاهد القاسية الناتجة منه حاضران في أفلام عدّة مشاركة في
الدورة
الحالية لمهرجان «كان»: عنف الأصولية الدينية والشبق الجنسي والانهيار
العصبي
الذاهب بصاحبه إلى أقصى تخوم التمزّق والبؤس؛ عنف الجريمة
المنظّمة والجرائم التي
يرتكبها أناس غارقون في أعماق الخراب والانفصال عن الذات، وإن بدا بعضهم
إنسانيين
يمتلكون «أخلاقاً» رفيعة إذا وجدوا أنفسهم في حالات تُحتّم عليهم إبداء
قليل من
الاحترام للأعداء، خصوصاً أمام الأطفال («انتقام»، مثلاً).
والجنس مكمّل طبيعي
للعنف الممُمارَس على الفرد والجماعة: في الأفلام الآسيوية الأربعة هذه،
شكّل الجنس (سواء ارتبط بالحبّ والانفعال الشبقي بين
رجلين أو بين رجل وامرأة، أو بتلك الرغبة
القديمة في امتلاك الآخر وإخضاعه لنزوتة ما بسبب انغماس المرء
باللذّتين الحسية
والروحية) عنواناً إضافياً للأفلام المشاركة في «كان». كأن الرابط بين
العنف والجنس
قوي لاستحالة الفصل بينهما وبين نتائجهما. أو كأن ممارسة العنف، بتداعياته
وتأثيراته، لا تختلف كثيراً عن ممارسة الجنس، بملذاته وقدرته
على إثارة المتع
الحسية والروحية.
مسألة أخرى مثيرة للاهتمام النقدي: المغنّي والموسيقي الفرنسي
جوني هاليداي ممثّلاً في فيلم صيني، علماً أن للأفلام الآسيوية، عموماً،
نمطاً
خاصّاً بالعنف، أقرب إلى تصميم الرقصات (إقرأ «كوريغرافيا»
العنف) منه إلى أي شيء
آخر. غير أنه، على الرغم من ممارسته مهنة التمثيل سابقاً (من دون التوقّف
عند مدى
قدرته على إيفاء هذه المهنة شروطها الفنية الإبداعية)، لم يُقدّم دوره كأب
مفجوع
بمقتل عائلة ابنته، التي أصيبت بشلل شبه كامل، ولم يظهر على
الشاشة الكبيرة/ الحياة
الواقعية رجلاً مقبلاً إلى الانتقام (أصيب، قبل أعوام طويلة، برصاصة في
الرأس باتت
تُفقده ذاكرته) بروحية قاتل مأجور سابق، ولم يكشف مواهب فذّة أو متواضعة
حتّى في
التمثيل. على النقيض من هذا كلّه، بدا مترهلاً وبطيئاً وعاجزاً
عن امتلاك
المتطلّبات الضرورية لشخصية أب وقاتل وطبّاخ ومنتقم، علماً أن جوهر الحبكة
لم يكن
مُقنعاً على المستوى الدرامي: تورّط ربّ العائلة في مشاكل مافياوية، ورغبة
الزعيم
الظاهر في أكثر من مشهد أقرب إلى المهرّج منه إلى صاحب
امبراطورية فاسدة في تصفية
أعدائه جميعهم، وأقرب المقرّبين إليه لشكّه في إخلاصه له، وإن حلّل البعض
المسألة
بالقول إن المخرج جوني تو أراد، بهذا كلّه، إظهار نوع من السخرية
السينمائية، مع أن
قراءة الفيلم انطلاقاً من هذا النوع كفيلةٌ بجعل «انتقام» مجرّد عمل عنفي يخلو من
دلالات مؤشّرة على فلسفة الوجود والحياة والقدر والصدفة، على غرار أفلام
آسيوية
أخرى برع صانعوها في مزج الفلسفة المذكورة بالعنف والمطاردة
والنَفَس البوليسي. بل
إنه مجرّد عمل عادي يروي العنف بلغة بسيطة.
السفير
اللبنانية في 19
مايو 2009
|