كادت الدورة الـ62 تبدو متثائبة في انتظار المواعيد الكبرى. لكنّ صاحبة
«البيانو» قلبت المعادلة واستحضرت على ضفاف المتوسّط طيف الشاعر الرومنطيقي
جون كيتس. أما صوفي مارسو ومونيكا بيللوتشي فمثّلتا تحوّلات الجسد
والهويّات الجنسية الملتبسة، فيما تناولت كارين ييدايا العنصريّة الكامنة
في اللاوعي الإسرائيلي
الدورة الـ62 من «كان» تدخل الآن مرحلة الإثارة. وفي انتظار أفلام
لارس فون تراير وكين لوتش التي ستعرض اليوم، وبيدرو ألمودوفار وماركو
بيلّوكيو (غداً)، وألان رينيه وكوينتن تارنتينو (الأربعاء)، فإنّ جردة
سريعة للأفلام المعروضة حتى الآن تُبيّن أنّ سمة الدورة نسوية بامتياز. في
المسابقة الرسمية، تألّقت أفلام جين كامبيون (النجمة الساطعة) وأندريا
أرنولد (حوض الأسماك). أما خارج المسابقة، فاستقطبت أفلام نسائيّة عدة
الأضواء، بينها «لا تلتفت» لمارينا دي فان، و«يافا» لكارين ييدايا. بينما
كانت المفاجأة الأداء المبهر الذي قدّمته آبي كورنيش في فيلم جين كامبيون.
المحطة الأبرز حتى الآن كانت «النجمة الساطعة» للنيوزيلندية جين
كامبيون، المرأة الوحيدة التي نالت «سعفة ذهبية» في «كان» (البيانو ـــــ
1993). وقد سجّلت هذه السنة عودة مدوّية بعدما خيّبت الآمال في «كان 2003»
بفيلمها
Into
the Cut.
هذه السنة، ساد انطباع، فور عرض «النجمة الساطعة»، بأنّ كامبيون سجّلت
نقاطاً أساسيّة ضدّ ثلاثة سينمائيين، هم لارس فون تراير وتارانتينو وكين
لوتش الذين يسعون مثلها للحصول على «السعفة الذهبية» مرةً ثانية.
في هذا الفيلم الذي يعبق بالشجن والشاعرية، صوّرت كامبيون الشهور
الأخيرة في حياة الشاعر البريطاني جون كيتس (1795 ـــــ 1821) الذي يعتبر
من علامات الأدب الرومنطيقي، عبر قصة حب تراجيدية جمعته بعشيقته فاني براون.
وقد اقتُبس عنوان الفيلم من قصيدة شهيرة كانت آخر ما كتبها لها قبل أن يموت
بمرض السل في روما، وهو في السادسة والعشرين. حتى الآن، يمكن القول إن
الممثلة آبي كورنيش التي تقمّصت دور الحبيبة في الفيلم (راجع الكادر) ستكون
من الاكتشافات الكبرى هذا العام. وأجمع النقاد على أنّ العمل الذي اتّسم
بلغة تشكيلية بالغة الجمال ـــــ تعطي عمقاً بصرياً لمضمونه التراجيدي
ـــــ يُعدّ أفضل ما قدّمته كامبيون منذ «البيانو».
من جهتها، قدّمت البريطانية أندريا أرنولد في «حوض الأسماك» ـــــ ضمن
المسابقة ـــــ عملاً آسراً اتسم برؤية إخراجية محكمة. قد لا تكون قصته
جديدة، إذ تتعلق بتيمة جرى تناولها مراراً على الشاشة: تسليط الضوء على
أزمة الهوية لدى مراهقة تحاول تحقيق ذاتها والانعتاق من ضغوط محيطها
العائلي والاجتماعي. لكنّ الفيلم اكتسب تميّزه من لغته البصرية المختزلة
ورؤيته الإخراجية المينيمالية التي حملت بصمات واضحة من المعلم التركي نوري
بيلج شيلان. ضمن البرمجة الرسمية، لكن خارج المسابقة، كان اللافت شريطاً
لمارينا دي فان «لا تلتفت». العمل يعدّ أول مشروع مشترك بين صوفي مارسو
ومونيكا بيللوتشي، أعطى بعداً حيوياً للمهرجان الذي بدا مستغرقاً في سباته.
فقد شهد الدرج الشهير للمهرجان، بسجادته الحمراء، حشداً قياسياً لدى عرض
«لا تلتفت»، في دورة تتسم بالفتور، حتى لحظة كتابة هذه السطور على الأقلّ.
هذا النجاح الاستعراضي الذي حقّقه الشريط بفضل نجمتيه، لا يجب أن يُنسينا
أن مخرجته أبعد ما تكون عن السينما التجارية. مارينا دي فان خرجت من معطف
سينما المؤلف الفرنسية، وشهدت بداياتها مع فرانسوا أوزون، ثم قدّمت عام
2002 باكورتها «في جلدي» الذي صوّر قصة حب سادية، مغرقة في الغرابة
والسوداوية. في عملها الجديد، تواصل استكشاف تيماتها الأثيرة: تحوّلات
الجسد والهويّات الجنسية الملتبسة، عبر كاتبة فصامية تشترك صوفي مارسو
ومونيكا بيللوتشي في تقمّص الوجهين المتناقضين لشخصيتها الإشكالية.
أما الفيلم النسائي الرابع، فعُرض ضمن تظاهرة «نظرة ما» (خارج
المسابقة الرسميّة، علماً بأن «الكاميرا الذهبيّة» تكافئ أحد أفلام «نظرة
ما» و«أسبوعي المخرجين»). إنّه «يافا» للإسرائيلية كارين ييدايا. اكتشفنا
هذه المخرجة التي تجاهر بمناهضتها للصهيونية، حين قدّمت عملها الأول «أور»
وقد أحرز «الكاميرا الذهبية» (2004). ويتذكّر كثيرون نداءها إلى العالم
خلال تسلّم جائزتها: «متى سيفهم الغرب أن أفضل خدمة يمكن إسداءها لنا، نحن
الإسرائيليين، هي منعنا من مواصلة الاحتلال؟».
يروي الفيلم قصة حب محرّمة بين فلسطيني وإسرائيلية. ومن خلالها تكسر
ييدايا الصورة المروّجة في السينما الإسرائيلية عن يافا (تحديداً أفلام
عاموس غيتاي)، بوصفها الأكثر «تسامحاً واختلاطاً»، حيث يتعايش «الوافدون»
الإسرائيليون مع جالية هي الأكبر في أراضي فلسطين التاريخية، من أهل
المدينة الأصليين، أي فلسطينيي الـ48. تدور أحداث الشريط في ورشة تصليح
سيارات تديرها إسرائيلية تدعى روفين، برفقة ابنها ماير وابنتها مالي،
ويشتغل فيها فلسطينيان هما حسن وابنه توفيق، وتعاملهما صاحبة الورشة كأفراد
العائلة. لكنّ قناع التسامح سرعان ما يسقط بعدما تنشأ علاقة حب محرّمة بين
توفيق ومالي. هنا تعود إلى الظهور الذهنية العنصرية التي تتحكم في قطاعات
واسعة من الإسرائيليين ذوي الأفكار اليسارية ممن يزعمون ظاهراً أنهم يؤيدون
السلام ويعترفون بحقوق الفلسطينيين، لكنّهم في أعماقهم يتماهون مع أسطورة
«النقاء العرقي» التي تنادي بها الصهيونية.
الأخبار
اللبنانية في 18
مايو 2009
آبي كورنيش... هل تفوز بجائزة أفضل ممثّلة؟
لم تكن الأوسترالية آبي كورنيش (1982) تتصوّر أنها ستستقطب الأضواء
يوماً فوق البساط الأحمر الشهير في «مهرجان كان». فقد بدأت عارضة أزياء في
سن الثالثة عشرة، ولفتت أنظار الأوساط الفنية بسرعة، ما فتح أمامها أبواب
التمثيل. هكذا، اختارت التلفزيون، وأدّت بطولة أفلام ومسلسلات أوسترالية
عديدة، لعلّ أشهرها «مستشفى الأطفال» (1997). لكن ذلك الخيار لم يكن
موفّقاً، لأنه أغلق في وجهها لاحقاً أبواب العمل السينمائي، لأنّ أوساط
الفن السابع تنظر دوماً بفوقية إلى ممثلي التلفزيون وممثلاته.
لذا لم تحظ آبي ـــــ على رغم جمالها الساحر وحضورها المميز أمام
الكاميرا ـــــ بأي فرص للتمثيل في السينما، إلى أن اختارها ريدلي سكوت،
بالمصادفة، لأداء دور صغير في فيلمه «موسم خصب» (2007).
ذلك الشريط تقاسم أدواره الرئيسية الأميركي راسل كرو والفرنسية ماريون
كوتيّار.
وإذا بذلك الدور الصغير يلفت انتباه السينمائي شيكار كابور، فيقرر
بدوره منحها دوراً صغيراً في فيلمه «إليزابيث، العصر الذهبي» (2007) الذي
أدّت بطولته النجمة كيت بلانشيت.
لكن آبي كورنيش تعتبر أن بدايتها الحقيقية في السينما هي دور البطولة
الذي أسندته إليها جين كامبيون في «النجمة الساطعة» الذي يشارك حالياً في
المسابقة الرسمية في مهرجان كان السينمائي».
هنا، تؤدي آبي كورنيش شخصية فاني براون، الحبيبة السرية للشاعر جون
كيتس.
وتقول: «أنا سعيدة بالحفاوة التي استُقبل بها الفيلم هنا في كان...
وما أسعدني أكثر ليست إشادة النقاد بأدائي كممثلة، بل استحسانهم للفيلم،
واعتباره أفضل أعمال جين كامبيون منذ «البيانو».
من خلال عملي معها على هذا الفيلم، أُبهرت بعبقريتها الفنية وببساطتها
وتواضعها في الوقت ذاته. لذا، أتمنى من كل قلبي أن تنال «سعفة ذهبية» ثانية
عن هذا الفيلم، لأنها تستحقها وأكثر».
على الرغم من أنّ لعبة التكهنات بخصوص «السعفة الذهبية» تبدو أكثر
تعقيداً هذه السنة من أي دورة أخرى من دورات المهرجان، إلا أنّ غالبية
النقاد يرجّحون بأن أول ما ستفكر فيه لجنة التحكيم، إذا أحجمت عن إدخال
كامبيون إلى النادي الضيق لـ«أصحاب السعفتين»، هو منح آبي كورنيش جائزة
أفضل ممثلة عن أدائها المبهر في هذا الفيلم.
الأخبار
اللبنانية في 18
مايو 2009
تحفة بالأبيض والأسود... من جنى الكروم هكذا
استعاد كوبولا «شرفه الضائع»
عثمان تزغارت
فيلم رذله جيل جاكوب فصار حدث المهرجان.
Tetro
هو التجربة الأكثر اكتمالاً في مسيرة صاحب «العرّاب» الذي يسيطر على
أدواته، عبر رؤية إخراجية مبهرة
ربّ فيلم رذله جيل جاكوب فصار حدث المهرجان.
Tetro هو التجربة الأكثر نضجاً واكتمالاً في مسيرة صاحب «العرّاب» الذي
يحكم السيطرة على أدواته، عبر رؤية إخراجية مبهرة حين أعلن فرانسيس فورد
كوبولا أنه يعتزم تصوير فيلم ملحمي مستوحى من سيرة ثلاثة أجيال في عائلته،
توقّع كثيرون أن ينجرّ صاحب
Apocalypse Now نحو سقطة مدوّية على غرار العثرات المتكررة التي اشتهر بها، طوال
مسيرته الحافلة بالتحوّلات التي جعلته يُلقّب بـ«نابليون السينما» حيناً،
و«نيرون الفن السابع» حيناً آخر! لذا، تخوف كثيرون من أن يسبب هذا المشروع
الملحمي ذو المنحى البيوغرافي سقطة جديدة تقضي نهائياً على أحلام كوبولا
بالعودة إلى واجهة السينما العالمية. وقد تزايدت هذه المخاوف حين أُعلن
برنامج هذه الدورة من «مهرجان كان»، واتّضح أن الفيلم الجديد لصاحب «العرّاب»
لم يُقبل في المسابقة الرسمية، ما أثار حفيظة كوبولا، فقرّر عرضه في افتتاح
«أسبوعي المخرجين» التي أُطلقت قبل ربع قرن كتظاهرة موازية للمهرجان ثم
تحوّلت إلى «ضرّة» تنافس البرمجة الرسمية.
اعتقد بعضهم أن استبعاد الشريط يعني أنه غير ناجح. بينما رجّح آخرون
أن السبب يعود إلى تدهور العلاقة بين كوبولا ورئيس المهرجان جيل جاكوب. وفي
المؤتمر الصحافي الذي عقده على هامش عرض «تيترو» في «أسبوعي المخرجين»، لم
يعلّق كوبولا على ما رُوِّج عن خلافه مع جاكوب. قال إنّه رشّح الفيلم
للمسابقة، لكنّ إدارة المهرجان اقترحت تقديمه في عرض خاص خارج المسابقة، ما
دفعه إلى سحبه، وعرضه في «أسبوعي المخرجين» «نوعاً من التحدي» كي يُتاح
لرواد المهرجان مقارنة عمله بالأفلام التي قُبلت في المسابقة الرسمية. وقد
كان كوبولا محقّاً. إذ أجمع كل من شاهد الفيلم على أنّه يعد الأكثر نضجاً
واكتمالاً في مسيرته. وهو هنا لا يتحدى إدارة «مهرجان كان» فحسب، بل يكسر
كل المعايير التي تتحكم في الأوساط السينمائية العالمية، وفي مقدّمها
الاستوديوات الهوليودية التي تربطه بها عداوة متجذّرة منذ نصف قرن.
في
Tetro،
يستعرض كوبولا وقائع بيوغرافية في حياة عائلته، ومنها العداوة التي اتسمت
بها علاقة والده بعمّه تيترو الذي يحمل الفيلم اسمه. وكان عمّه «عرّاب»
العائلة قد فتح أمامها فرصة الهجرة إلى أميركا. وكان طريفاً أنّ كوبولا
ـــــ حين سُئل عن تشابه بعض أجواء عمله البيوغرافي مع عوالم ثلاثيته
المافياوية «العرّاب» ـــــ أجاب ضاحكاً: «حين أنجزت «العرّاب»، لم أحتج
إلى مقابلة أي قادة عصابات، بل استوحيت الشخصيات من عمّي تيترو وإخوته».
يسلّط كوبولا الضوء في عمله على جوانب خفية في صلاته بوالده الذي كان
عازفاً شهيراً في «أوركسترا نيويورك السيمفونية» وورث عنه كوبولا أناه
الفنية المنتفخة، إذ لم يتقبّل كارمين كوبولا فكرة دخول ابنه فرانسيس الوسط
الفني، وظل يكرر حتى وفاته أن «العائلة لا تتسع سوى لعبقرية فنية واحدة»!
لكن الأهم في «تيترو» ـــــ ككلّ أفلام كوبولا ـــــ تلك اللغة البصرية
الساحرة والرؤية الإخراجية المبهرة. ويقول كوبولا إنه استطاع أن ينجز هذا
الفيلم مستقلاً عن أي ضغوط، لأنه موّله (20 مليون دولار) من عائدات النبيذ
الذي يحمل اسمه، والذي تفرّغ للاعتناء به طوال عشر سنوات، ما سمح له بأن
يقدم شريطاً يحوي خلاصة رؤاه الفنية وتصوّره لما يجب أن تكون عليه السينما
في عالمنا المتحول.
والمذهل أن كوبولا جرّب مرارة الفشل سنة 1984، بسبب إصراره على تصوير
فيلمه
Rusty James
بالأبيض والأسود، ما جعل الجمهور يعزف عن مشاهدته. وبسبب تلك السقطة، ظل
مديوناً طيلة 15 سنة. لكنّ ذلك لم يمنعه من معاودة الكرة، حيث صوّر «تيترو»
بالأبيض والأسود أيضاً! وقال خلال مؤتمره الصحافي: «قنوات التلفزيون
التجارية هي التي تضغط على شركات الإنتاج لعدم تصوير أفلام بالأبيض
والأسود. والشركات المنتجة، بما فيها الاستوديوات الهوليودية الكبرى ترضخ
لهذه الديكتاتورية التلفزيونية. أما أنا، فلا يهمّني شبّاك التذاكر. في
سنّي، لم أعد في حاجة إلى الكسب المادي. أنا سعيد وسط كرومي وأقبية نبيذي»!
الأخبار
اللبنانية في 18
مايو 2009
|