لم يكن
ابتكار
مشهد
الساعة العمومية في داخل محطّة القطار عبثياً. ذلك أن مخترعها،
بعد تكليفه صناعتها
لشهرته في هذا المجال، ارتأى أن تسير عقاربها بشكل معاكس للمألوف، لعلّ
الزمن يعود
إلى الوراء، فلا يموت الشباب، بل يكبرون ويعيشون حياة «طبيعية» ويتزوّجون
وينجبون
ويربّون، كبقية «خلق الله». فالصدمة القاتلة التي أصابت
المخترع في صميمه،
والمتمثّلة بمقتل ابنه الوحيد في الحرب العالمية الأولى، جعلته يذهب
بمخيّلته إلى
حدود السعي الجدّي إلى التلاعب بالزمن، لعلّ ابنه لا يتطوّع في الجيش، ولا
يخوض
المعارك، ولا يُقتل في إحداها. والتمزّق الذاتي أفضى بالرجل/
الأب إلى الانكسار
أمام بشاعة اللحظة، فأراد أن ينتقم من هذه اللحظة بإخضاعها، معنوياً على
الأقلّ،
للتراجع إلى الوراء، بدلاً من التقدّم إلى الأمام؛ أي أن يجعل الزمن يتقدّم
إلى
الوراء، لعلّه يتسنّى له إنقاذ وحيده الحبيب؛ أو لعلّ أموراً
كثيرة تتبدّل أحوالها
في
هذه الدنيا.
لعبة
الزمن
غير أن
هذا المشهد، في بداية «الحالة الغريبة
لبنجامين بوتون»، الفيلم الأخير للمخرج الأميركي ديفيد فينشر (تمثيل: براد
بيت
وكايت بلانشيت وتيلدا سوينتون وتاراجي ب. همسون وجوليا أورموند)،
مرتبط بالمناخ
العام للنصّ الدرامي، المقتبَس (بتصرّف كبير جداً) عن قصّة بالعنوان نفسه
للكاتب
الأميركي فرنسيس سكوت فيتزجيرالد؛ ومتعلّق بالسياق الحياتي الذي عاشه بوتون،
كما لم
يعشه أحدٌ آخر. كأن فينشر، باختراعه وكاتب السيناريو إيريك روث
مشهد الساعة (غير
الموجود في القصّة، كتفاصيل أخرى كثيرة)، أراد تحريض مُشاهده على التنبّه
إلى
المعاني الإنسانية المعتملة في مفاصل الفيلم وتعرّجاته الزمنية، لأن بوتون
«وُلد
عجوزاً ومات طفلاً» (تيمّناً بعنوان جميل ارتأى الراحل حسين
مروّة أن يوضع لحوار
طويل أجري معه قبل أعوام طويلة، تناول فيه فصولاً من سيرته الذاتية: «وُلدت
شيخاً
وأموت طفلاً»)، هكذا بكل بساطة. وإذا أراد مخترع الساعة إعادة الزمن إلى
الوراء
لتغيير مسارات الدنيا وناسها، فإن فينشر/ روث جعلا المسار
الحياتي «التراجعي»
لبوتون
محاولة ثقافية وأخلاقية وإنسانية (بلغة سينمائية صرفة) لفهم المعاني
المتدفّقة من العلاقة التناقضية بين حالة فريدة من نوعها، والعالم الذي لم
يعتد
حالات كهذه. كأن فينشر وروث، وفيتزجيرالد قبلهما، أرادوا المضي
قدماً في اختبار هذه
التجربة، التي تُختصر بما يلي: كيف ينظر المرء، الذي وُلد عجوزاً في
الثمانين من
عمره (أو في الخامسة والسبعين من عمره، بحسب القصّة الأصلية) ومات طفلاً
رضيعاً،
إلى الدنيا وأحوالها، وإلى المشاعر والتجارب والعلاقات والعيش؟
كيف يتصرّف إزاء
عالم يراه معكوساً، لأنه كلّما كبر في السنّ (كما هي العادة الحياتية
للبشر)، ازداد
شباباً وأناقة وحيوية، بينما الجميع من حوله يذبلون ويموتون؟ ربما لهذا
السبب
أيضاً، اختار فينشر/ روث داراً للعجزة مكاناً لـ«نمو» بنجامين
بوتون، بعد أن تخلّى
والده عنه، تاركاً إياه أمام عتبة باب الدار ليلاً، بعد لحظات قليلة على
ولادته: أن
يعيش المرء وسط حالات متتالية من الموت، وأن ينظر إلى الدنيا من ثقب الرحيل
الدائم.
وإذا شدّد ديفيد فينشر، في حوارات صحافية عدّة، أن فيلمه هذا عن الحبّ؛ فإن
المشاهدة
تكشف، من بين أمور عدّة، إصرار الفيلم على قراءة العلاقة التناقضية بين
الحياة والموت، من خلال المسار الحياتي للموت نفسه، إذا جاز التعبير. في
أحد
حواراته تلك (المجلة السينمائية الفرنسية المتخصّصة «ستديو»،
شباط الجاري)، قال
فينشر إن ما أغراه في المشروع كامنٌ في «القصّة التي تتحدّث ببساطة عن
الحبّ، لكن
بطريقة مختلفة كلّياً»، مكرّراً تأثّره الفعلي بهذه الشخصية «التي تكبر في
دار
للعجزة، وتختلق حياتها وهي مُحاطة بالموت»، ومشيراً إلى وجود
فكرة «أليمة» أغرته
بدورها، تلك التي تقول «إن الحياة أقوى من الحبّ»، مضيفاً قناعته بأن
«الموتَ أساسي
في
قصص الحبّ، ما جعل أفلاماً كـ«قصّة حبّ» (لآرثر هيلر) و«تايتانيك» (لجيمس
كاميرون) تؤثّر كثيراً في المُشاهدين»، معتبراً أن «قصص الحبّ
الأجمل في السينما،
هي
تلك التي جعلت الموت مادة أساسية لها».
أقانيم
أساسية
العودة
إلى
الوراء،
العيش في داخل الموت، الحبّ: ثلاثة أقانيم اشتغل عليها الفيلم الجديد
لديفيد فينشر. ثلاثة أقانيم شكّلت الركائز الأساسية لنصّ سينمائي تحرّر،
كلّياً، من
الوطأة التاريخية للقصّة الأصلية، كي يعيد صوغ المشهد الإنساني
والتفاصيل الحياتية
كما يحلو له: فبالإضافة إلى إلغاء العلاقة القائمة بين الأب وابنه (عاد
الفيلم
إليها في منتصفه تقريباً، وللحظات سريعة)، وإقامة الابن في دار للعجزة؛
اختار
فينشر/ روث القرن العشرين زمناً لسرد الحكاية، مُسقطاً عليها
لقطات قد تكون مفصلية
في
هذا القرن، من دون التوقّف طويلاً عندها، على نقيض القصّة التي دارت
أحداثها في
الفترة الفاصلة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في
القصّة، غياب
شبه مطلق للنساء، على نقيض الفيلم الزاخر بهنّ. ثم إن بداية
الفيلم (المرأة
المحتضرة على فراش الموت تطلب من ابنتها قراءة مذكّرات رجل يُدعى بنجامين
بوتون،
على إيقاع الأمطار الغزيرة الهاطلة خارج الغرفة؛ وقصّة مخترع الساعة
العمومية في
محطّة القطار) لا وجود لها في القصّة إطلاقاً. لا يعني هذا
كلّه أن الفيلم مطالبٌ
بصون السرد الدرامي للقصّة، وباحترام مناخها الفني والثقافي والإنساني. لكن
التوقّف
عند هذه الملاحظة نابعٌ من رغبة ذاتية في القول إن قراءة
القصّة ممتعة، بعوالمها
وتفاصيلها وبساطة لغتها السردية (على الرغم من المعاني العميقة والمبطّنة،
حول
الذات والعلاقة بالآخر وتقبّل العالم والاختلاف الجوهري للمرء مع المحيطين
به،
إلخ.)، تماماً كمشاهدة الفيلم المختلف عنها، بأحداثه المتشعّبة
ومشاعر شخصياته
ومزالق الحياة التي عاشوها والمغامرات التي خاضوها والصدمات التي تعرّضوا
لها.
والمقارنة السريعة بين الفيلم والقصّة تبقى مجرّد لعبة عابرة، لتبيان قوّة
النصّ
المرئي في منح النصّ المكتوب «مزيداً» من براعته في استنباط المعاني
المختلفة
للمسار الفاصل بين الحياة والموت، بصورتيه المتناقضتين: المسار
المتداول للبشر (من
الطفولة إلى الشيخوخة)، والمسار الخاصّ ببنجامين بوتون (من الشيخوخة إلى
الطفولة).
لم يكتف
ديفيد فينشر وإريك روث باختيار دار للعجزة مكاناً لإقامة بوتون في
المراحل الأولى من حياته، بل أضافا إليه عالماً نسائياً
بامتياز، منح الرجل/ الطفل
أكبر قدر ممكن من المشاعر والأفكار. وإذا غابت صورة الأم البيولوجية لبوتون
كلّياً
عن
المشهد، في القصّة والفيلم معاً؛ فإن الفيلم أفسح مجالاً واسعاً جداً
للمرأة، كي
تمارس حضورها الأنيق (حياتياً وتمثيلاً في آن واحد) في حياته.
ثم إن «البداية
الأولى» (إذا صحّ التعبير) للفيلم (المرأة المحتضرة وابنتها في غرفة
المستشفى)، بدا
كأنه إعلانٌ مسبق للمُشاهِد عن أن المرأة (بشخصياتها وممثلاتها
المتنوّعات) تكاد
تكون «الشخصية» الأساسية في فيلم يروي سيرة رجل؛ مع أن «البداية الثانية»
(الساعة
العمومية) شكّلت إعلاناً آخر عن أن الزمن ومساراته ودوره أساسيٌّ، هو
أيضاً، في
«قصّة الحبّ الغريبة» التي أراد ديفيد فينشر سردها بلغته الخاصّة.
قصّة حب،
أو
سيرة موت،
أو علاقة مختلفة بالزمن والحياة والناس: هذا كلّه صحيح. لكن الأهمّ كامنٌ
في
تلك اللغة الفيلمية الجميلة والهادئة، التي صنعها ديفيد فينشر في سرده
حكاية
بوتون. فالتصوير (الإضاءة، الكادرات، اللقطات البعيدة
والقريبة) غاص في تشعّبات
الحالات المختلفة والمتناقضة للشخصية الرئيسة، كما للمناخات العامّة
والمراحل
الزمنية المختلفة؛ والتوليف شكّل أداة جوهرية في إعادة تشكيل الصورة
الكاملة للنصّ
والشخصيات؛ والتمثيل متقن في تفاصيله الدقيقة، خصوصاً في
الجانب النسائي، مع كايت
بلانشيت، التي تزداد براعة وجمالاً أدائياً فيلماً بعد آخر؛ وتيلدا سوينتون،
الصديقة والعشيقة، التي مرّت لـ«لحظات» داخل السياق، تاركة وراءها أثراً
إنسانياً
جميلاً؛ وتاراجي ب. همسون في دور الأم بالتبنّي، التي رافقت
نموّه المختلف، ومنحته
أجمل الحنان والحبّ.
بدأ عرضه
التجاري، بعد ظهر الخميس الفائت، في صالات
«سينما
سيتي» (الدورة) و«إسباس» (جونيه) و«غالاكسي» (بولفار كميل شمعون) و«غراند أ
ب
ث» (الأشرفية) و«غراند كونكورد» (فردان) و«غراند لاس ساليناس» (أنفة).
السفير
اللبنانية في 23
فبراير 2009
|