تبدو
السينما البريطانية محظوظة في انتاجها الذي حققته العام الماضي، الامر الذي
أهلها لجوائز عدة هذا العام، فالممثلة كيت وينسليت مثلاً، حصلت على جائزتين
من (غولدن غلوب) الاميركية كأحسن ممثلة وأحسن ممثلة مساعدة عن دوريها في
الفيلمين «طريق الثوري» و «القارئ». الجهة نفسها منحت فيلم المخرج داني
بويل «المليونير المعدم»، اربع جوائز رئيسية، بينها أحسن فيلم وأحسن اخراج،
وهذا مؤشر على ان الفيلم سيكون من المنافسين الرئيسيين على جوائز الاوسكار
التي ستعلن ترشيحاتها قريباً. الفيلم حصل أيضاً على جوائز جمعية النقاد في
نيويورك وتلك الموازية لها في لندن. وأخيراً توجته البافتا البريطانية
ومنحته احد عشر ترشيحاً لجائزتها التي تعلن في الثامن من الشهر المقبل. لكن
ما سرّ نجاح هذا الفيلم الذي تقع احداثه في بومباي واحيائها الرثة عن رواية
اولى لديبلوماسي هندي لم يصدق النجاح الكبير حتى الآن؟
تبدو
طبيعة الفيلم مشوشة قليلاً قبل مشاهدته، فالإعلان عنه يشير الى سعي شاب
صغير وفقير الى ربح الجائزة الكبرى في «برنامج من سيربح المليون» بصورة
قريبة من الكوميديا الخفيفة، وتوحي صوره ولقطاته الترويجية الى قصة حب
رومانسية، وعندما يبدأ الفيلم يستهل بمشاهد تعذيب للشاب داخل مبنى للامن
بصورة تذكر بافلام التشويق او الجريمة. انه في الحقيقة خليط من كل هذا،
بفضل المخرج داني بويل الذي اشتهر بأفلامه التي تعالج مشاكل اجتماعية
مركزها الشباب، وكان أشهرها فيلمه «ترانسبوتينغ» الذي اخرجه منتصف
التسعينات الماضية وتناول فيه عالم الشباب المنغمس بالمخدرات والضجر
والموسيقى الصاخبة. أما في فيلمنا هذا فلدينا عالم متنوع في مدينة كبيرة
مثل بومباي تحوي الاحياء العشوائية بفقرها المدقع وعالم الوصوليين ومحدثي
النعمة، وبعضهم يعتمد على الجريمة، من تهريب مخدرات وسلاح الخ. في هذه
المدينة وفي حي من العشوائيات يشهد الطفلان جمال وأخوه سليم مقتل والدتهما
في إحدى الهجمات الطائفية بين الهندوس والمسلمين. وبعد ان يحرق الحي، لا
يعود لهما من مكان سوى الشارع حيث يتجمع بعض الاطفال المشردين وبينهم
الطفلة الجميلة لاتيكا. وفي احدى المرات يقترب رجل غريب مع مساعدين اثنين،
من هؤلاء الاطفال ويمدونهم بالمشروبات الباردة والطعام ويؤمنون لهم مكاناً
للعيش، تحت اغراء انه سيختار منهم أصحاب مواهب غنائية ليدربهم ويقدمهم
للمجتمع. ثم يكتشف جمال ان الرجل قادم لاقتلاع عيون الصغار وبيعها للمرضى
الذين يدفعون ثمنها بسعر عال. يهرب الشقيقان ومعهما الطفلة لاتيكا،
فيحاولون تسلق احد القطارات، ولكن الصديقة تفشل في الصعود ويلحق بها الرجل
الشرير ورجاله، فتصير تحت سيطرتهم مرة اخرى، ويدفع بها الى عالم الرقص
والاستعراض في اماكن اللهو.
تجارب
ومهن
يمر
الاخوان الصغيران بتجارب صعبة ويتنقلان بين مهن كثيرة، بعضها خطر، ويشق
الاثنان مسارهما في عالم يسيطر عليه احياناً المجرمون من كل الاشكال. هنا
يختلف مسار كل منهما في سن المراهقة، فسليم يصير مساعد احد رجال العصابات،
ويشعر بالقوة بعد ان يستلم السلاح بيده، فينتقم من الرجل الذي خطفهم اول
مرة ويحرر لاتيكا مع اخيه، لكنه يغتصبها لاحقاً، ما يدفع بالاخ الاصغر جمال
الى الهروب منه ومقاطعته ليشق طريقه في الكد في مهن خفيفة، كان آخرها عمله
«صبي شاي» في مركز اتصالات. في هذا المكان تمكن الشاب الصغير من التقاط بعض
المهارات والمعلومات، ولانه يتابع مثل الملايين غيره في الهند حلقات برنامج
«من سيربح المليون» ينتبه الى انه يعرف الكثير من الاجابات، فقد تعلمها من
قسوة الحياة بصورة او بأخرى. يكتب للبرنامج وتقبل مشاركته، وفي الحلقة
الموعودة ينجح في الاجابة عن كل الاجابات بصورة صحيحة.
لا يصدق
مقدم البرنامج ان هذا المتشرد عرف الاجابة بمفرده ويعتقد انه يغش بصورة او
باخرى، فيسلمه الى رجال الامن. ويبدأ الفيلم من هنا، من تعذيب بالكهرباء
وبطرق اخرى في انتظار ان يقر جمال بشيء، لكنه لا يفعل. وعندما يحضره الضابط
الى مكتبه ويبدأ باستعراض البرنامج سؤال بسؤال، يطلب من الشاب ان يشرح له
كيف عرف الاجابة. كانت محفورة في تاريخه المؤلم، في تشرده وتسوله، في آلامه
ولحظات فرحه القليلة، كأن يعرف من هي الشخصية السياسية الاميركية التي وضعت
صورتها على ورقة من فئة مئة دولار؟ سيتذكر الطفل الذي اقتلعت عيناه والتقاه
بعد سنوات يتسول في نفق للقطارات وينتظر عطاء من الاغنياء والسياح. اعطاه
المئة دولار التي حصل عليها للتو من سائح وزوجته تعويضاً عن ضربة على عينه
من رجل شرطة، كان يشعر تجاه الطفل الاعمى بالذنب لأنه لم يتمكن من انقاذه
من براثن تاجر القطع البشرية. في ذلك المشهد سأله الاعمى عن الصورة التي
على ورقة المئة ليتأكد من ان جمال لا يسخر منه. ومن هنا لصقت الصورة
وصاحبها في ذاكرته.
أسئلة
الحياة
مع كل
سؤال من اسئلة البرنامج نتعرف الى حياة جمال في الماضي والحاضر، ونتابع
طموحه الشديد للفت نظر معشوقته لاتيكا التي يعرف انها تتابع البرنامج،
ويريد ان يحررها من قبضة رجل العصابة ويعيش معها في وضع مادي ميسور. لكن
مقدم البرنامج (نجم بوليوود انيل كابور) لا يتعاطف مع الشاب مستكثراً عليه،
وهو القادم من بيئة تعسة جداً، ان يكون ناجحاً ومتفوقاً وغنياً، فيرمي
تعليقات اثناء البرنامج تسخر من اصول الشاب وعمله صبي شاي. وهو امر يعكس
موقف المجتمع الهندي عموماً من سكان الاحياء العشوائية المعدمة.
يقتنع
المحقق بتفسيرات جمال ويطلق سراحه ليعود الى البرنامج كي يكمل السؤال
الاخير، سؤال العشرين مليون روبية، وسط ترقب المشاهدين له على نطاق واسع.
السؤال الاخير يذكره بطفولته، عندما منح هو واخوه تفسيهما اسمين مستمدين من
رواية (الفرسان الثلاثة) لالكسندر دوما المقررة عليهما في المدرسة. وعندما
قررا الموافقة على ضم لاتيكا الصغيرة الى مكان نومهما وهي تقف تحت المطر،
منحاها اسم الفارس الثالث، وهو السؤال الذي كان مطلوباً اجابته. يتوقع جمال
الذي نسي الاجابة ان يساعده شقيقه سليم في تذكر الاسم، ولكن الهاتف الجوال
الخاص بسليم اعطاه للاتيكا التي هرّبها من بيت رجل العصابة لتلحق بجمال.
ترد لاتيكا على الهاتف، تصمت قليلاً محاولة ان تتذكر الاسم ولكنها لا تعرف
الاجابة، فيعلو ضجيج الجمهور المتحمس داخل الاستوديو وخارجه، وقد تجمع
الناس في الشوارع ليتابعوا الحلقة، لم ينسحب جمال، ويقرر ان يجيب وتكون
الاجابة صحيحة. تعم الفرحة الجمهور المتماهي في غالبيته مع شخص مثله فقير
ومعدم ويحلم بالحصول على الملايين بطريق مشروع.
الممثلون
جميعهم من اصول هندية وقد قدموا اداء جيداً ولافتاً واعتقد ان واحداً من
الطفلين اللذين أديا دوري جمال وسليم على الاقل يستحق جائزة، فقد قدما اداء
احترافياً في التمثيل. أما الممثل الذي ادى دور جمال الشاب فهو من سكان
لندن واسمه ديف باتل. باتل رشح لجائزة احسن ممثل في البافتا، منافساً
ممثلين مثل براد بيت، شين بن، وميكي روركي.
زمن
متأرجح
«المليونير المعدم» لا يروى بمسار افقي تتابعي، فالزمن طوال الفيلم يروح
ويجيء بين الماضي والحاضر، بايقاع سريع ركبت عليه موسيقى بروح هندية تم
تأليفها خصيصاً للفيلم، فلم تغرّبه عن بيئته، واستحق مؤلفها أ.ر. رحمن
جائزة غولدن غلوب مع ترشيح للبافتا أيضاً. مشاهد الفيلم صممت وصورت بدرجة
عالية من المهنية وهي تظهر جمالية المدينة الهندية الكبيرة من كل الزوايا.
الكاميرا قدمت جمالاً من قبح الاحياء العشوائية. كذلك تم التعامل مع
الالوان بحساسية تربط ما بين المكان والوان البهارات والاقمشة والطبيعة.
حتى تاج محل صور بطريقة جذابة من داخل المكان وايقاع حركة السياح فيه،
والمواقف الطريفة التي يمر بها الطفلان، واستغلالهما النسوة اللواتي يردن
التقاط صورة على المقعد نفسه الذي جلست عليه الاميرة الراحلة ديانا. وقد
رشح التصوير للبافتا وهو بإدارة انطوني دود مانتل.
وعلى رغم
الانتقالات الكثيرة في المكان والزمان، وتنوع روحية المشاهد ما بين الحزن
والفرح والتشويق والرومانسي، الا ان ايقاع الفيلم يبقى متماسكاً من غير
تذبذب. ويختتم الفيلم برقصة فرحة داخل محطة القطارات شارك فيه جمال ولاتيكا،
وهي تشبه الرقصات التي تقدم في الافلام الهندية بايقاعها السريع والوان
ملابس الراقصين الزاهية. واذ بدت الرقصة في بداية الامر نافلة، الا انها في
الحقيقة خاتمة جميلة، وربما اراد المخرج من خلالها، ان يوجه التحية للسينما
الهندية، وجمهورها الذي يتشوق الآن لرؤية العرض بعد النجاح الذي ذاع صيته
في اميركا وبريطانيا.
ننوه
أخيراً بأن قصة الفيلم أخذت عن رواية صدرت عام 2003 باسم «سين وجيم» لفيكوس
سواروب. وهو ديبلوماسي هندي يعمل في افريقيا، وكانت هذه اولى رواياته التي
«فوجئ انها تصلح للسينما»، كما قال في اللقاءات معه، ثم فوجئ أكثر بالنجاح
الكبير للفيلم. الا ان كاتب السيناريو سيمون بوفيه لم يلتزم بالرواية وغير
فيها كثيراً مع المخرج، وقد كان لاعداده المتين جائزة استحقها من (غولدن
غلوب) كأحسن سيناريو معد عن نص اصلي، السيناريو تلقى أيضاً ترشيحاً لجوائز
البافتا.
باختصار،
نجح صانعو الفيلم في تقديم مزيج ناجح لفيلم سيشد الجمهور ويحقق دخلاً
عالياً في شباك التذاكر، من غير ان يخسر في الوقت نفسه اعجاب النقاد.
الحياة
اللندنية في 23
يناير 2009
|