-الطريق
من مطار دبي الدولي الى مقر إقامة ضيوف هذه المدينة الناهضة والمحتفلة
بدورة مهرجانها السينمائي الخامسة، يدخلك مباشرة في عالم أقرب الى
الافتراضي منه الى الواقعي. الأفتراضي هنا يأخذ بتلابيب الزائر ويسقط من
يده ما علق في ذهنه من مقارنات بين صور مدن وأنماط عيش. ولعلها الفرادة هنا
تدعوك الى أكبر حقل تجريبي لمدينة قيد الإنشاء. أما صيغة صورتها النهائية
فهو متروك لقدرة الخيال وسمعة المكان. شوارع فارهة ومتعددة الطوابق
والاتجاهات منثورة على أديم رمال هذه الإمارة. فنادق تتعانق عند حدائقها
رمال الصحراء والبحر بدل العشاق، كما تجسده حال أسطورة أتلاتنتس. أبراج
تناطح عنان السماء بقاماتها. مدن التبضع التي يطلق عليها «ميغا مول».
كم هائل
من رافعات البناء، 70 بالمئة من رافعات العالم، وجدت مستقرها الدائم في هذا
الحقل. جيوش من العمالة، تقدر بأكثر من خمسة ملايين عامل مقابل أقل من
مليون مواطن، تحتل فيها تلك القادمة من شبه القارة الهندية وجاراتها الحصة
الأكبر. ومع ذلك، تبدو هذه المدينة غير معنية، في الأقل بالظاهر، بما ترتب
على «العضة المالية» التي هزت أسواق العالم. بالمقابل تنهال على الزائر
أحاسيس شتى أقلها الغربة والإقصاء. العابرون هنا كثر، وأحسب ان أول
ماسيفتقدونه هو الحميمية التي تمنحها المدن التقليدية بفعل تراتب الزمن.
لكن هل هي حقاً تعني المقيم؟. أغلب الظن إن فرص العمل والرزق ووعود الثراء
هي ما تلهم الناس أزاء الأزمنة ورزنامات التواريخ الشخصية وتقويماتها
الهجرية والميلادية.
-ثمة
مفردة تشكل عصب كل هذه التحولات الكبيرة، ألا وهي «الأكبر»، حتى غدت موسوعة
غينيز عاجزة عن جمعها في دفات كتابها دأب وصراع، حب وخيانات، وعود
وإنتظارات ممضة، أحلام تنقلب الى كوابيس، نجاحات وخسائر، تجتمع كلها في
مصهر هذه المدينة على شكل «كولاج» فريد. ألم تستقي السينما من كل هذا الفيض
سرديات قصصها وتحولها الى أفلام تحتضنها الشاشة الفضية؟ يستحضر الحديث عن
مدينة دبي الحديث أيضاً عن مهرجانها السينمائي. فما صرف من أموال هائلة،
وخطط طموحة، وتوظيف خبرات دولية لتكريس صورة هذه المدينة كنقطة جذب مالي
واستثماري وسياحي وتسليعها عالمياً. هي نفسها اليوم تقف وراء هذه التظاهرة
السينمائية الطموحة ووضعها على الجدولة الرسمية لمهرجانات العالم. فالمتابع
للشأن السينمائي، يستطيع القول ان مهرجان دبي السينمائي الدولي، وبعد خمسة
أعوام من إنطلاقته، قد خطى خطوات ثابتة في اتجاه تثبيت أهداف موقعه كمهرجان
سينمائي للمنطقة العربية. وعبر فقرات مسابقاته الأساسية، الروائية والقصيرة
والوثائقية والبرامج الموازيه لها. ولو أضفنا الى ذلك استحداث فقرات جديدة،
مسابقة المهر الأسيوي- الافريقي للأفلام الروائية والقصيرة والوثائقية، و
أفلام التحريك، وجائزة الاتحاد الدولي لنقاد السينما «فبريتشي»، يكون
الرهان قد شمل مناطق جغرافية واسعة. بكلام آخر، انه مهرجان يود قول الكثير
من الأشياء، وعلى رأسها ردم الفجوة بين منطقة الخليج والفن السابع، وفي
جعبته خطط مستقبلية تعني بترميم تراث السينما العربية. أما اشاراته الأبعد
فهو جمع هذا الكم الهائل من السينمائيين تحت شعار (تحيا السينما). تلك التي
شدد عليها رئيسه عبد الحميد جمعة في الكلمة الافتتاحية للمهرجان، وهو
يستعرض تفاصيل هذه المغامرة الطموحة والخطوات التي تحولت الى واقع فعلي.
- مهرجان
دبي السينمائي هو نوع آخر من المهرجانات السينمائية، في الأقل في المنطقة
العربية، ولمفهوم المشاهدة. عروض حسب المواعيد المعلنة، نسخ نظيفة عالية
الجودة، سيطرة على القاعات لجهة دخول الجمهور وخروجه، الالتزام بعدم
استخدام الهاتف النقال داخل دور العرض، منع الثرثرة داخل العروض، تقديم
صناع الفيلم السينمائي الى الجمهور قبل العرض والحوار معهم في الختام،
صالات أنيقة مزودة بكل التقنيات الحديثة. كل هذه المزايا جعلت أيام
المهرجان السبعة، عرض 181 فيلماً من مختلف الأجناس السينمائية، من بينها 19
فيلماً دشنت عروضها العالمية وقادمة من 66 بلداً، وخصوصاً دورته الحالية
الأكثر إثارة عن سابقاتها. والاثارة بدأت مع شريط «دبليو» لأوليفر ستون،
سبق وان أفتتح عرضه العالمي الأول في مهرجان لندن افتتاحة فقد السينمائي
الدولي، والذي سبقه جدل داخل أمريكا وخارجها. وقد أضافت كلمات ستون قبيل
العرض والندوة الصحفية التي سبقته، إثارة أخرى كانت كافية لتصفية حساب
المخرج مع سيد البيت الأبيض وحاشيته. انه فيلم عن العقلية العدوانية التي
تتحكم بنا، حسب كلمات المخرج، ودراسة لمنطقها في التعاطي مع الآخر، وللجهل
الأمريكي، ولتعقيدات السياسة التي لم يفهمها جورج دبليو بوش يوماً. فقد
اجتمعت في الأخير خصال التهور والغباء والعنجهية وعقد توكيد الذات والبحث
عن الشهرة، مضافاً اليها المس الديني الذي اتخذه كقناع لستر شروره. انه
مقاربة شخصية لأسوء رئيس امريكي شهدته الولايات المتحدة، ولشخص جاء من لا
شئ ليصبح أقوى وأخطر رجل في العالم.
-أما
حقيقة جورج دبليو بوش، فقد جمعها ستون من عشرات الالاف من الوثائق
والحوارات والمقابلات الشخصية ومن كتاب السيرة الذاتية وما تسرب الى
الاعلام من أسرار عائلية. لذا بني الشريط على تقابلات ثنائية
الحاضر/الماضي، واللعب على التنقل بين زمنيهما، كون الأول يخبرنا عن الثاني
وليس العكس. الإعداد للحرب هو ما يفتتح به الشريط، حيث يجتمع مطبخ صناع
القرار لتدارس خطط شنها. ثم ينتقل الفيلم الى العام 1966، ولفترة شباب بوش
وحالة العبث التي كان يعيشها، إنغماره في تعاطي الكحول لإثباب رجولته،
إنتماءه الى احدى المنظمات اليمينية، ظهور ميلوله الدينية، علاقته المعقدة
بوالده الذي ضاق به ذرعاً، حبه للعبة البيسبول، إذ يظهره الفيلم في رحاب
ميدان رياضي يعج بجمهور معجب بقدراته. وعلى هذا المنوال يتوقف الشريط عند
مراحل بعينها، والغرض نبش التاريخ الشخصي لبوش واماطة اللثام عن ما هو مخفي
فيها. وعبر رحلة البحث هذه يكشف الشريط للمشاهد عن ثلاث قضايا محورية،
علاقة بوش الأب المعقدة بأبنه الذي لم يأخذه على محمل الجد يوماً، بعد ان
فشل هذا الأبن العاق في إثبات كفاءته لأكثر من مرة. مما تطلب من والده الى
التدخل الشخصي لإنقاذه سواء من السجن او في إيجاد وظيفة تليق باسم العائلة،
وتفضيله الأخ الأصغر جب حاكم ولاية فلوريدا الذي ينتظره مستقبل سياسي واعد.
والمسحة الدينية التي اتخذ منها واجهة اعتبارية وسياسية. وقرار شن الحرب
على العراق، والذي كان وراءه صقور المحافظين الجدد، وعلى رأسهم ديك تشيني
ورامسفيلد وولفوفويتز ومستشارة الأمن القومي وقتها كوندوليزا رايس.
- يمر
الفيلم بموقف كولن باول، وزير الخارجية حينها، والذي بدا متردداً بامتلاك
العراق أسلحة الدمار الشامل، لكن رايس أحرجته وغير موقفه في آخر الأمر. ما
دفع ديك تشيني للتعليق، من ان باول حرق ورقة مستقبله السياسي. كانت
الولايات المتحدة تحتاج الى الدعم السياسي العالمي، ووظفت في هذا الشأن
التعاطف الدولي أزاء هجمات 11 أيلول 2001 الأرهابية، وثقلها السياسي كأكبر
قوة عسكرية واقتصادية، لكن ذلك لم يشفع لها في تغيير الموقف الروسي
والفرنسي والألماني. وحتى بريطانيا، كما يظهره الشريط، ظلت تماطل في خيار
الحرب، وحجتها الذهاب الى مجلس الأمن من أجل استصدار قرار دولي يوفر غطاء
قانوني لمثل هذا الخيار، دور هامشي ومخجل لرئيس الوزراء البريطاني توني
بلير. أما الدول الراغبة « «Welling
Nations
التي قدمتها جردة رايس لم تكن بذلك الحجم، وللسخرية أبدت المغرب رغبتها في
إرسال 1000 قرد مدرب لكشف الألغام. شريط ستون هو في آخر الأمر مسمار في نعش
جورج بوش، ووداع لسنواته العجاف، ما جعله يكرر وقوفه وحيداً في ملعب
البيسبول تأكله الوحدة.
- ولئن أفتتح المهرجان بشريط مثير للجدل، فان حفل توزيع جوائزه لم يخلو هو
الآخر من مفارقة التوظيف السياسي لفعلة الصحافي العراقي منتظر الزيدي. فقد
أهدت الفلسطينية آن ماري جاسر، صاحبة «ملح البحر» الذي عرض ضمن فقرة مسابقة
المهر العربي للأفلام الروائية الطويلة، جائزتها له وسط تصفيق جمهور ليلة
الختام التي احتضنها منتجع «عين الشمس» الصحراوي.
المدى العراقية في 22
ديسمبر 2008
|