* ليس
هناك أروع من عمل فني إلا عمل آخر يضارعه وينافسه علي طريقة لا يفل الحديد
إلا الحديد. وحديد الفن في الأيام الماضية كان أفلام مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي الذي اختتم دورته الثانية والثلاثين مساء الجمعة الماضي
حيث وزعت الجوائز علي الفائزين في مسابقاته الثلاثة. وأيضا جائزة جمعية
النقاد الدولية "الفيبريس" بحضور كبير. ونظام أكبر منع الكثيرين من
الازدحام في القاعة لتأخيرهم. فصعدوا إلي ألواج وبلكونات الأوبرا العالية..
مع ذلك لم يكن النظام والنظافة إلا مفردات صغيرة. وصولاً للأهم وهو تكريم
الأفلام الفائزة. والتي -مع جدارتها- لم تختلف كثيرا عن الأفلام الرائعة
التي لم تفز لأن المستوي كان متقاربا والمهمة صعبة علي لجان التحكيم. خاصة
في المسابقتين الدولية والعربية التي رأيت أغلب أفلامهما.. من الجميل أيضا
أنه مع "الشو" الكبير لنجوم السينما العالمية في الافتتاح. فإن حفل الختام
جاء بنجوم آخرين هم مخرجو ومخرجات الأفلام الفائزة والمخرج هو سيد العمل
برغم أهمية المؤلف والنجم. وأغلب مخرجي الأفلام الفائزة من الشباب الذين
عبروا عن مشاعرهم بحرية وديناميكية عكس مخرج فيلم "الجريكو" الذي بدت حركته
علي المسرح خبيرة مثل عمره. كذلك المخرج المكسيكي المكرم آرتورو ربشتاين
الذي قدم للشاشة رائعة نجيب محفوظ "بداية ونهاية" في فيلم حصل علي جوائز
عديدة.. لم تحضر يولاند مورو الحاصلة علي جائزة أفضل ممثلة في المهرجان
وتسلمها بدلاً منها مخرج الفيلم مارتن بروفست.. وهكذا حدث مع جائزة أفضل
ممثل وجائزة الابداع لممثلة أخري في الفيلم الفرنسي "بصمة ملاك" تسلمها
المخرج. أي أن نجمتي جوائز الأداء في المهرجان جاءتا من السينما الفرنسية.
بينما جاء نجوم الإخراج من فرنسا وبلجيكا وسويسرا واسبانيا. بينما فازت
تركيا بجائزة سينما الديجيتال والجزائر بجائزة السينما العربية. وفي كل هذه
النتائج نحن أمام جيل سينمائي جديد يصعد ليجسد وجهات نظر مختلفة ومفارقة
للأجيال السابقة. خصوصا فيما يتعلق بالعلاقة بين الاوروبي الأصل والاوروبي
المهاجر من بلاد أخري. وبالتحديد البلاد العربية والإسلامية. والفيلمان
الحاصلان علي ذهبية المهرجان "العودة إلي حنصلة" الاسباني. و"الضائع
البلجيكي" هما مثال مهم علي هذه الأفكار الجديدة في المجتمعات الاوروبية
التي تجسدت في أفلام. وغير هذين الفيلمين يناقش الفيلم السويسري الحاصل علي
جائزة أفضل إنجاز فني "قصة حب هندية" لقاء واختلاف الثقافات ما بين
الاوروبيين والهنود. كما يناقش الفيلم الدنماركي الذي عرض في قسم مهرجان
المهرجانات "مع السلامة يا جميل" قضية العلاقة بين العرب ومجتمعاتهم
الجديدة في المهجر من زوايا أخري. وهو ما يؤكد انتماء فن السينما لقضايا
حقوق الإنسان. خاصة السينما الاوروبية.. ويبدو هذا أكثر وضوحا في بعض
الأفلام التي لا تتعرض لقضايا معاصرة مباشرة. وإنما قضايا قديمة تتجدد من
خلال قصص استثنائية لشخصيات تحققت وتم الاعتراف بها بأسلوب أقرب إلي
المعجزة. وهو ما يقدمه الفيلم الفرنسي البديع سيرافين الذي حصلت بطلته علي
جائزة التمثيل بجدارة مع المنافسة الشديدة لمبدعات أخريات غيرها في أفلام
أخري. غير أن "يولاند مورو" لا يمكن إلا أن تذهلك وأنت تشاهد الفيلم.
بأدائها الخارق لدور الخادمة "سيرافين" التي تدور طوال اليوم علي البيوت
تنظفها في بدايات القرن الماضي لتعود في نهاية اليوم بحصيلة تنفقها في شراء
خضراوات وأشياء أخري تصنع منها ليلا النبيذ والألوان. تستخدم الأول في شحن
نفسها بالطاقة أثناء عملها الشاق طوال اليوم في البيوت. وفي ليلها تستخدم
الألوان لتضع كل مشاعرها وهمومها في ضربات الفرشاة علي الورق.. ظلت الخادمة
تخفي الرسامة ولا تجرؤ علي التفكير فيها حتي عثر مخدومها الجديد علي ورقة
مرسومة بين أوراق مهملة واكتشفها. وكان الرجل ناقدا وفنانا أدرك قيمة
وأهمية ما رآه فسعي إليها وقرر رعايتها وطالبها بالكف عن خدمة البيوت. ولم
تكف "سيرافين" بسهولة إلا بعد أن تجاوزت الحاجز النفسي بين الخادمة والسيدة
المعترف بأهميتها. وبعد أن أصبحت قادرة علي شراء الغرفة المجاورة لغرفتها
والإحساس بالراحة والجلوس في الحدائق ومناجاة الزهور والأشجار بدون إحساس
بالذنب لأنها تأخرت علي الخدمة في بيت هذه المرأة أو تلك.. لكن ظروف الحرب
العالمية تؤثر علي بيع اللوحات. وتؤخر انطلاق معرضها الذي ظلت تنتظره وفقا
لوعد راعيها. فتندفع إلي أحزان ومشاعر حادة تقودها للجنون. وفي المصحة تعيش
حالة اكتئاب عالية لا فكاك منها. وإن كان المخرج قد فضل أن ينهي فيلمه بها.
وقد تسللت من غرفتها بالمصحة إلي الحديقة لتسير إلي شجرة واقفة بكبرياء.
فتقف بجانبها.. إنها قصة حقيقية لفنانة تشكيلية راحلة هي سيرافين لويس التي
رحلت عام 1942 بعد اكتشاف موهبتها الفريدة. وهو الفيلم الثاني في نفس العام
الذي يأتي من السينما الفرنسية ليخلد ذكري فنانة مبدعة. حيث رأينا في بداية
العام الفيلم المهم عن حياة نجمة الغناء أديث بيان.. وهو فيلم جدير
بالمشاهدة علي نطاق أوسع لروعة تقديمه لعلاقة الإنسان بالطبيعة والتفاعلات
بينهما وتأثيرها علي بطلته بحساسية بصرية وفنية عالية.
magdamaurice1@yahoo.com
الجمهورية المصرية في 4
ديسمبر 2008
|