شيء عادي
جداً أن يتعرض كل فيلم جديد للمخرج «يوسف شاهين» لحملة من الهجوم والتنديد
بعبارات، وأفكار أصبحت شائعة ومتكررة، لا تبدأ بأن السيناريو مرتبك والفيلم
غير مفهوم وغامض ومشوش، وبأنه يزور التاريخ أو الواقع، ولا تنتهي بأنه
يداهن الغرب، ويسعي لاسترضائه ويروج لمفاهيمه، ويشوه الأمة لحسابه، سعيا
وراء الجوائز العالمية، أو خضوعا لشروط الأجانب الذين يشتركون في تمويل
أفلامه، قيل بعض هذا الكلام منذ أربعين عاما، عندما قدم «يوسف شاهين» فيلم
«باب الحديد» الذي فهمه الناس والنقاد وبعد ذلك تجاوبوا معه، واستبدلوا
أكاليل العار التي وضعوها علي رأس صاحبه بأكاليل الغار، وقيل عندما قدم
«الاختيار» و «اسكندرية ليه» و «وداعا بونابرت» وغيرها من أفلامه، ثم تحول
من كلام ينشر في الصحف، إلي عرائض تقدم إلي ساحات المحاكم، ليكون بين
حيثيات مصادرة فيلم «المهاجر».أما وذلك هو الحال، فإن الحملة علي آخر
أفلامه «المصير» لا تبدو خروجا عن النص الذي يقضي بأن يختلف المثقفون حول
أفلام يوسف شاهين وهو أمر طبيعي، فالناس.. خاصة أصحاب الرأي منهم - لا
يختلفون حول الأفلام العادية أو الهابطة، أو التي لا قيمة لها، فإذا
اختلفوا لا يعنون بالتعبير عن هذا الحال الذي لا دلالة له، إلا أن المصير
ككل أفلام يوسف شاهين هو فيلم من النوع المقلق، الذي لا تستطيع بعد أن
تشاهده أن تظل كما أنت، فلابد وأن تغضب وأن ترضي، وأن تتفق وتختلف وتنبهر
وتحبط، وتلعن يوسف شاهين لأنه يدعوك للتفكير، مع أنك دخلت السينما لتتسلي
وتستمتع بالتكييف.وهي حالة تعكس في ثناياها، وعلي عكس ما قد يوحي به ظاهر
الكلمات، إعجابا فائقا بـ «يوسف شاهين» وثقة بأنه كان يستطيع أن يقدم أكثر
-وأفضل- مما قدم، يصل إلي حد يتقمص فيه بعض هؤلاء المعجبين الشتامين دور
صانع الأفلام، فيؤلفون فيلما آخر بنفس العنوان ونفس المضمون بل ويختارون له
الأبطال، وهي طريقة معيبة في التفكير، لا يسعي أصحابها لفهم يوسف شاهين بل
لقسره علي أن يكون صورة منهم وأن يفكر بطريقتهم!ومع أن الاتفاق يكاد يكون
تاما علي امتياز الفيلم من النواحي الفنية من التمثيل إلي التصوير ومن
الموسيقي إلي الاكسسوار وهو في ذاته اعتراف من الناقدين بما أصبح مستقرا عن
عبقرية «يوسف شاهين» التي ينكرونها، فقد أخذ عليه بعضهم، أنه استخدم دون
ضرورة رداءً تاريخياً ليعالج من خلاله قضية آنية ومعاصرة، وهي قضية الإرهاب
والتطرف وقمع الحرية بدعوي الدفاع عن المقدسات وهو مأخذ يقع في المحظور
الذي يحذر منه الفيلم، ويصادر علي حق «يوسف شاهين» في أن يعالج قضيته
بالشكل الذي يختاره والذي يجعله أكثر حرية في معالجته وما فات علي القائمين
بذلك، إن هذا «الرداء التاريخي» قد حرر القضية من الزمان ومن المكان ومن
قيود المعاصرة، والإفلات من الرقابة وأعطي الفيلم تميزه، واحتفظ له
برسالته، كدفاع حار عن حرية الفكر وحق الاجتهاد يدين تسلط الحاكمين
وإرهابهم وانفرادهم بالسلطة وادعاءهم العصمة كما يدين تزمت المتطرفين
وإرهابهم وانتحالهم القداسة، وهي ظواهر لا تتعلق بمكان أو زمان وراء قديم
وجديد، كان قائما بالأمس، وسيظل باقياً إلي الغد!وكما حدث في فيلم
«المهاجر» الذي حوسب فيه «يوسف شاهين» علي كل كلمة وكل مشهد، لم يرد في
سيرة «النبي يوسف» كما روتها الكتب المقدسة، علي الرغم من أن الفيلم لم يكن
ترجمة سينمائية لهذه السيرة، بل ولم يرد لصاحبها اسم فيه بل كان مجرد
استيحاء لها فقد حوسب فيلم «المصير» بأنه تجاهل تفاصيل من سيرة «ابن رشد»
غير في بعض الأحداث التي عاصرها، بعبارات قاسية وصلت إلي حد القول بأنه «غش
فكري» و «بكش تاريخي» مع أن الفيلم قد اختار من هذه السيرة محوراً رئيسياًَ
ليركز عليه، وهو الصراع بين الداعين لإعمال العقل، والداعين لإيقافه عن
العمل، ومع أن الأخطاء التاريخية لا تتعدي دمج شخصيته «الخليفة يعقوب» في
شخصية ابنة «الناصر» وتقديم زمن الهجوم الاسباني لمدة 1 عاما، فقد بالغ
الناقدون في التركيز عليها بطريقة مدرسي التاريخ في المدراس الثانوية،
وعجزوا عن إدراك الضرورة الفنية التي اقتضت تبسيط القضية الرئيسية لكي تصل
بوضوح إلي جمهور السينما، والتركيز علي الدور التاريخي الأهم الذي لعبه
«ابن رشد» في الدفاع عن الاسلام باعتباره دينا للعقل وللحرية، في مواجهة
الصراع بين مدعي العصمة الذين يحكمون، ومدعي القداسة الذين يعارضونهم!وعلي
عكس الحملات علي أفلام «شاهين» السابقة فإن «المصير» متهم بالتبسيط
والسطحية وافتقاد العمق، والذين يطالبون بتعميقه وتعقيده هم خصوم «يوسف
شاهين» الذين اتهموه من قبل بالغموض والتعقيد والتشويش، ويأخذون عليه اليوم
بأنه تجاهل المناظرات الفلسفية بين «ابن رشد» و «الغزالي» ولم يشر إلي أهم
كتبه، مع أن المطلوب من «يوسف شاهين» أن يقدم فيلما سينمائيا وليس حصة في
الفلسفة لتلاميذ المدارس العالية!وفي هذا السياق تعرض استخدام الفيلم
للعامية في الحوار، لهجوم كاسح، بدعوي أنه ركيك، فضلا عن أنه تزييف
للتاريخ، إذ لم يكن الناس في عصر «ابن رشد» يتكلمون العامية، وهو رأي يعتمد
علي استنتاج خاطئ بأن لغة الكتب التي بقيت لنا من هذا العصر بما فيها كتب
ابن رشد هي ذاتها لغة الكلام، وهو ما لا يمكن الجزم به لأن بعض كتب هذا
العصر ذاته تدل علي أن هناك لغة أخري تولدت من امتزاج اللهجات واللغات بين
القبائل والشعوب التي امتزجت في الأندلس، فضلا عن اختيار العامية للحوار قد
جاء في سياق حرص «يوسف شاهين» علي أن تصل رسالة الفيلم المعقدة بطبيعتها
إلي الناس بسلاسة ووضوح.وكالعادة فقد قفزت تهمة الفرانكفونية ومحاباته
الغرب لتتصدر الحملة علي الفيلم مع أنه يبدأ بمشهد بالغ الدلالة علي أن
التطرف والإرهاب وحرق الأدمغة وليس مجرد الكتب بدأ في الغرب، علي عهد محاكم
التفتيش ولم يبدأ في بلاد المسلمين في إشارة واضحة إلي أن معسكر التعصب
والقهر ملة واحدة مهما اختلفت أديانه في تأكيد واضح علي أن الدعوة لإعمال
العقل والدفاع عن حرية الفكر والاجتهاد هي بضاعة إسلامية صدرت للغرب والذين
يستدلون علي فرانكفونية يوسف شاهين بمشهد حرق كتب ابن رشد الذي علت فيه
هتافات بعض المتطرفين بعبارات «الله أكبر. يحيا العدل» ينسون أو يتجاهلون
عن عمد أن الفيلم يبدأ بحرق إنسان أمام كنيسة بعريضة اتهام تتضمن عبارات
كنسية لمجرد أنه قرأ كتب «ابن رشد».وبسبب تهمة الفرانكوفونية سابقة التجهيز
شاع علي السنة المنددين بالفيلم القول إن يوسف شاهين يخيرنا بين «مصيرين»
إما التطرف والجمود والتزمت والإرهاب في أقصي صوره غلواً وإجراما وحماقة
كما يمثلها في الفيلم «الشيخ رياض» وتابعه الجلالا أو الغناء والرقص
والطعام التي يري خصوم الفيلم أنها «العلمانية» في أكثر صورها غلواً ودعوة
للاستغناء عن الدين وفضلا عن هذا المفهوم المغلوط للعلمانية فإنه يعتمد علي
رؤية متحيزة لشخصيات الفيلم لا أساس لها ففضلا عن أن الرقص والغناء في
حواراته معادل موضوعي للفن وللحرية وتعبير عن حب الحياة كما جاء علي لسان
«ابن رشد» في احد مشاهده فهما يستخدمان علي الصعيد الرمزي، التأكيد علي أن
حقائق الدين لا تتصادم مع حقائق الحياة ولا تصادر حق الإنسان في التعبير عن
نفسه وتنظر للفن باعتباره ترقية لوجدانه وإرهافاً لمشاعره واحاسيسه.وفضلاًً
عن ذلك فإن الرقص والغناء أو الفن والحرية لم يكونا سوي أحد وجوه المصير
الذي يطرحه علينا يوسف شاهين، فقد كان ابن رشد يمضي أوقاته في تدوين
مؤلفاته ويجلس في مجالس الوعظ والقضاء ولم يكن تلاميذه مجرد فرقة للرقص
والغناء بل كانوا أقرب إلي فرق سياسية أو تجمع فكري يلتفون حول استاذهم
ويتعلمون منه الفكر والحياة والسياسة ينسخون كتبه ويخططون لتهريبها
ويتعرضون لعدوان الإرهابيين ويعملون علي إفشال مخططاتهم لتجنيد أحد أبناء
الخليفة مرة ليتقفزوا عن طريقه إلي السلطة، والتواطؤ مع الأعداء الخارجين
مرة أخري للهدف نفسه وإلا.والأهم من هذا كله أن ابن رشد لم يكف عن تحذير
الخليفة «المنصور» من التحالف مع المتطرفين وعن تنبيهه إلي مخاطر الاعتماد
عليهم إلي حد تعيين رئيسهم رئيساً لمجلس العشرة الذين يستشيرهم ولم يقصر في
الاعتراض علي انفراده بالسلطة وعن إعلانه بأنه هو الأندلس ولم يتوقف عن
مطالبته بتوسيع نطاق الشوري، حتي لا تضيع الخلافة.. ويضيع الوطن!لم يكن
البديل عن الشيخ رياض إذن هو ليلي علوي وحدها.. أو قل إن ليلي علوي في
الفيلم ليست الرقص والغناء ولكنها أيضا الفن والحرية والاجتهاد والسماحة
الدينية.أما وذلك هو الأمر فإنني لو خيرت بين «ليلي علوي» وبين «الشيخ
رياض» فسوف اختارها بلا تردد ليس لأنها تحمل كل هذه المعاني فقط بل لأن
الله جميل يحب الجمال.. ويحب كلك الإنصاف!..وحقك علينا يا عم «جو»!
جريدة القاهرة في 4
أغسطس 2008
|