يذهب في
الغياب الأخير ويتركنا عند باب الحديد وشباك السينما، عبث بأوراق حياتنا،
بعثرها وأعاد ترتيبها على هواه منذ أن وقف خلف الكاميرا، سرد أخطاءنا
وتطاول عليها.. وجد في تاريخنا منفذاً لرؤاه المستقبلية، فأعاد تركيب
مصيرنا بأدواته العتيقة ولكن بلغتنا البذيئة، التي اعتدنا اجترارها في
يومنا السادس، جعل أنبياءنا أقرب مما كانو من جرحنا اليومي.. هو ليس
مؤرخاً، لكنه مرآة تفضح سكوتنا عند التصوير، ففي لحظة الصورة نفتعل
الإبتسامة المزيفة التي يتناقلها الأجيال بعدنا ويباهي بنا الأحفاد من
خلالها، لكنها ليست نحن..
ذهب
بالحدوته المصرية الى آخرها، ووجد أن همومه الشخصية لاتختلف عن أحلامنا،
فرسم الأرض والعصفور والقاهرة بشكل يليق بنا، استطاع تقبل الآخر على
بشاعته، إلا أن الآخر لم يتقبله. لاحقته الإسكندرية في مشواره الطويل بكثير
من الأسئلة حتى تركته في نيويورك. إدعى انه الإبن الضال كي نغفر له صراعه
في الوادي والميناء، التبس عليه الحب عندما بدأ العشاق في النداء، حيث قالت
له سيدة القطار: ودّعت حبك مثل بونابرت.. عندها فقط باع خواتمه كلها لشيطان
الصحراء، فقد تأكد بأن ليس هناك حب الى الأبد، فكثير من النساء بلا رجال!
ترك
تواقيعه على ما تكتبه الإنتصارات والهزائم في رقعة العقل، فدخل زنزانة
بوحريد، وزار القدس مع الناصر صلاح الدين، ولم ينس ان يترك قصاصة تفسره بعد
11 سبتمبر.. وعندما أحس باقتراب وقت الإنطلاق وأنه سيصبح المهاجر الآخر
لهذه المجرة المرتبكة، لم تكن هناك حكمة أكبر من مشاركته الفوضى مع اكثر
التلاميذ جرأة وجنوناً، فليس أي شخص يليق برماله الذهبية يتركها كإرث بين
يديه، ليحمل رؤاه كفجر يوم جديد.
شخص يلتذ
بالتفاصيل.. لذلك ترى نفسك وسط كادراته وهي تحضنك مثل بيت حميم، فعلى مائدة
العشاء تصغي للنص المكتوب في السيناريو لكنك لو ركزت أكثر ستصغي لأكثر من
نص متكامل يدور في هامش الكادر بكل تفاصيله وانفعالاته، فلا يغفل أبداً عن
الهامش.. مثل مؤلف موسيقي يعطي الجملة اللحنية حقها من الآلات الأساسية،
لكنه لا ينسى الألحان المضادة التي تضفي معناً آخراً للجملة الأساسية
وتمنحها شرفة تبرزها بين النغمات. حس مثل هذا يجعل من المشهد السينمائي
حقيقة (مهما شطح التناول الفانتازي فيها) تأخذك من عالمك لتدخل معك في جدل
يتقنه شاهين ولا يتعب منه.
يساهم في
كتابة سيناريوهات أفلامه لأنه يؤمن بأن كل جملة مهما كانت صغيرة فانها
مؤثرة وتحمل جزءاً من شخصيته النادرة. يصر دائماً على دخول الأماكن التي
يخافها الآخرون وبما أن (الآخرون هم الجحيم) لذلك تركهم شاهين وأمعن في سبر
جحيم الخوف الذي يسكن فينا، وفتح علبته التي تحوي أدوات الفضح جميعها، منذ
أن فتح حديدة الباب، ثم بدأ في اختيار أكثر المواضيع استفزازاً وحميمية كي
يدخلنا في تفاصيل الدرس / الجنون.
يعشق
الموسيقى والرقص، فتراه يهذي بها في أغلب أفلامه.. صديق لفيروز التي باع
معها خواتم الرحابنة وسط ضيعة كأنها الحلم، وجاب الشارع مع ماجدة الرومي،
ورأى في كمال الطويل درباً أطول من النغمات، وأبعد من الموسيقى، فمؤلف مثل
الطويل يترك أثره الإنساني قبل موسيقاه في نفس يوسف شاهين، فعندما يسجل
تضامنه بشكل رسمي مع شاهين فيما واجهه مع (المهاجر)، جعل شاهين ينظر اليه
بشكل يتجاوز الموسيقى.
ثم رافق
نوحاً في مشواره حتى أصبح (مهاجراً) في موسيقاه وأغانيه، ولفرط حرصه على
إيصال أكثر الأفكار حميمية، قام بنفسه بالغناء في فيلم (اسكندرية كما
وكمان) من تلحين محمد نوح، حيث كانت المرة الأولى التي يسلم فيها صوته
لملحن، ويقضي عشرة أيام في الأستوديو كي ينهي تسجيل الأغنية اليتيمة.. ما
يهمه هو الصدق في الأداء، حتى لو كان صوته أقل احترافاً. مع ذلك لم يتنازل
عن منير الذي قال له منذ الحدوته: (انت حنجرتي) حيث رافقه في الكثير من
مشاهد الحياة والسينما معاً، وكان صوتاً مصرياً تعكس نبرته الألم الضارب في
أحشاء يوسف مما صادفه من إخوته. فحين يصرخ منير في حدوتته (دي الحكمه
قتلتني!) فإنه يترجم ما جاء في الكتب العتيقة (كلما ازددت معرفة .. إزددت
أسىً) فهنا يختار يوسف (ابن جبريل) شاهين صوت محمد منير كي يصف رؤاه الخاصة
والحميمة حتى في أكثر الكلمات خصوصية. وحيث أن منير يملك من الموهبة
النادرة ما يجعله ممثلاً مخلصاً، نرى يوسف يترك له الكلمات يغني منها ما
يطيب له، ويمثل ما تبقى.
وفي
موسيقى خيرت وجد شاهين ما يليق بأفلامه ويحاكيها سواء في اليوم السادس أو
سكوت هانصور، وهنا قام بأكثر الأمور جرأة، حيث قام وللمرة الأولى أيضاً
بتلحين أغنية للطيفة في فيلم (سكوت هانصور)، فلم يوقفه تأخر كمال الطويل،
مسك القصيدة وبدأ في صياغة اللحن ثم سلمه لخيرت كي يبدي رأيه، وبعدما رأى
خيرت ان في اللحن صبغة لاتليق إلا بملحن، بدأ الأخير بتوزيع اللحن كي تترنم
به لطيفة لتكون الشخص الوحيد الذي غنى من ألحان يوسف شاهين.
جنون لا
ينتهي.. وشهقة مستمرة كأنها الحب.. يتركنا عند رصيف الفخر ويذهب وحيداً
لرصيف الموت.. ستبدأ الفوضى يا يوسف.
meemaan@gmail.com
جهة الشعر في 4
أغسطس 2008
|