يمثل
رحيل
المخرج المبدع ''يوسف شاهين'' خسارة فادحة للثقافة العربية بمجملها. وإذا
كانت
السينما ''الفن السابع''، هو أكثر الفنون شمولية واحتواء لغيره
من الفنون والآداب،
فإن يوسف شاهين كان أكثر السينمائيين العرب انغماساً في مشكلات الواقع
العربي
السياسية والاجتماعية.
سينما
يوسف شاهين تحترم العقول، وتمثل إضافة جوهرية لمحيط
الثقافة العربية. بقدر ما تبهج وتبعث على انتشاء النفوس، بقدر ما تثير من
جدل وتطرح
من
إشكاليات على المتلقي. في السبعينات استوزر الرئيس ''السادات'' الأديب
''يوسف
السباعي'' وزيراً للثقافة والإعلام، ساعتها أطلق السباعي حملة
مكارثية على سينما
اليسار في مصر. وصفها الوزير بأنها سينما ''التلبك المعوي''، ودعا إلى
سينما ''هضم
الطعام''.
الوزير
نفسه ''السباعي''، هو الذي قام بإغلاق مجلتي ''الطليعة''
و''الكاتب'' فيما بعد. كانت سينما يوسف شاهين وصلاح أبوسيف وشادي عبدالسلام
آنذاك
تمثل صداعاً لنظام قد قرر الاتجاه يميناً بضراوة. كانت سياسات السادات -
السباعي
آنذاك تهدف إلى إضعاف ''السياسة'' في المجتمع المصري أو كما
قال البعض تهدف إلى ''تتييس
الشعب المصري''.
كان
الانحياز الاجتماعي لشاهين منذ بدء مشواره
السينمائي واضحاً. حتى في فيلمه الأول ''بابا أمين'' يبدو تقديس قيمة العمل
والتهكم
على ''الارستقراطية'' و''الطبقة العليا'' وقيمها الزائفة جلياً. ورغم
انبهار شاهين
بتقنيات السينما الأميركية ''الهوليودية''، إلا أنه لم يتوقف
أمام الشكل بل أعطاه
مضامين اجتماعية وقومية ويسارية. في مجرى السينما العربية الجادة تبرز
مدرستان
متنافستان كانت المدرسة الأولى هي المدرسة الواقعية وناظرها الراحل صلاح
أبوسيف،
والمدرسة الثانية هي المدرسة الرمزية والسياسية وناظرها يوسف
شاهين، ومرت المدرسة
الأخيرة وناظرها بتحولات متعددة في مسيرتها.
ينتقل
يوسف شاهين من المرحلة
القومية ''الناصر صلاح الدين'' و''جميلة أبوحيرد'' إلى مرحلة
المعارضة بعد النكسة
في
''العصفور'' و''عودة الابن الضال'' ثم إلى التأمل الذاتي والكوني. تمتع
شاهين
بالقدرة على التجدد الدائم والبعد عن النمطية في مسيرته. وهنا تبدو قيمة
''الحرية''،
حرية ''الفنان'' و''المواطن''، كبوصلة لتوجهات إبداعاته. عقب النكسة
أخرج فيلم ''العصفور'' وظل الفيلم حبيس ''العلب'' ممنوعاً من
العرض في مصر.
وفي
صيف 1973 تم عرضه على شاشات دور السينما في بيروت، وقابله المتعصبون، الذين
ظنوا أن
انتقاداته للنظام الناصري تمثل هجوماً رجعياً على ثورة يوليو،
بمحاولة إيقاف عرضه
برمي زجاجات الحبر الأسود على شاشات السينما أثناء عرضه. لم يُسمح بعرض
الفيلم في
مصر إلا بعد حرب أكتوبر ,1973 وبعد التنويه بالانتصار المصري في نهايته.
تعرض يوسف
شاهين للمنع أيضاً عندما تمت مصادرة فيلم ''المهاجر'' نتيجة
لضغوط المتعصبين
السلفيين.
في فيلم
''عودة الابن الضال'' الذي عرض في موسم 76-,77 يقدم شاهين
رؤية، بل نبوءة، لانهيار المشروع الوطني في مصر والقومي في العالم العربي.
بغياب
الزعيم ''عبدالناصر'' يتفكك التحالف الرابط للأسرة وينتهي الفيلم بحرب
أهلية يقتل
فيها الأخ أخاه. يقول في أحد أحاديثه إن تلك النهاية هي ''ما
حدث في لبنان''،
والحقيقة أن غياب المشروع الوطني والقومي قد أدى على تلك
النهاية المرعبة والتي
مازلنا نشهدها حتى اليوم. كان يوسف شاهين صاحب رؤية، مفكراً، وأيضاً مؤرخاً
لمسيرة
أكثر من نصف قرن من التطور السياسي والاجتماعي العربي والمصري.
لم تكن
مصادفة أن
يقترب ''شاهين'' ويتعاون مع ''لطفي الخولي'' و''حسن فؤاد''
و''صلاح حافظ''. كانت
تلك مدرسة ''اليسار'' في الثقافة المصرية في الستينات والسبعينات من القرن
الماضي.
تلك المدرسة لم يتوقف إنتاجها وإبداعها على الصحافة وإصدار الكتب بل تغلغلت
إلى
المسرح والسينما وأيضاً إلى الإذاعة والتليفزيون عبر المسلسلات الرصينة
الهادفة.
كان مشروع اليسار الثقافي يخترق حواجز الأمية الأبجدية ليصل إلى أوسع قطاع
من
المتلقين
وبأبسط الوسائل. في داخل تلك المدرسة اندلعت المناقشات والاختلافات حول
لغة شاهين السينمائية ومدى تعاليها على المشاهد العادي واقتصاره في بعض
أفلامه على
توجيه خطاب مثقف للخاصة فقط. في خضم ذلك الجدل كان شاهين ينحاز
إلى حريته في
التعبير عن نفسه، رافضاً الانصياع لأي قوالب أيديولوجية أو فكرية جامدة أو
قيود
تفرض عليه الانحناء أمام جماهيرية وشعبوية مرتجاة.
لكن هل
كان شاهين عازفاً عن
الوصول إلى الجماهير؟. لم يكن إصرار شاهين على حريته وعلى لغته
السينمائية المنطلقة
أو
المنفلتة معناه التخلي عن هدف الوصول إلى الجماهير. مال شاهين إلى استخدام
''الأغنية''،
أكثر الأشكال الفنية وصولاً إلى الناس، في أفلامه التي تعد في أحد
جوانبها بمثابة دراما موسيقية. كان أول من قدم الشيخ إمام على الشاشة
الفضية عبر
مقدمة ونهاية فيلم ''العصفور''.
ومن منا لا يتذكر نهاية فيلم ''الأرض'' ويدَّا
الفنان محمود المليجي بطين أرضه وأغنية الكورال تأتي مع المشهد في نهاية
ملحمية.
اختيار شاهين للمطرب ''محمد منير'' لم يكن عشوائياً، كان الرجل يعرف قيمة
ما يقدمه
''منير'' وما ينتظره من شعبية. كانت استخدام شاهين للفانتازيا عبر الموسيقى
والرقص
والغناء،
ذلك الجو الخيالي الخصب، بمثابة محاكاة للفرجة الشعبية في تراثنا، ولكن
بشكل مغاير يبدو لأول وهلة غريباً وأجنبياً.
ما الذي
تبقى من يوسف شاهين
ومدرسته؟. تبَّقى الكثير. ترك يوسف شاهين جيلاً من المخرجين
الذين تعلموا على يديه
وتأثروا به. استطاع أن يكون مدرسة ذات امتدادات مستقبلية. كانت أفلامه فصول
هذه
المدرسة، حيث تعلم تلاميذه منه ''الرؤية'' فضلاً عن ''الصنعة''. تبقت
أفلامه بمئات
المشاهد التي علقت بأذهان أجيال بكاملها، وتبقى أيضاً معها
إصراره واختياره الفني
المنحاز إلى ''اليسار'' بمعناه الأشمل الاجتماعي والقومي والوطني.
ولعل
فيلمه
الأخير ''هي فوضى'' الذي قام بإخراجه بمشاركة تلميذه ''خالد يوسف'' يقدم
نبوءة أخرى
لمستقبل وطنه السياسي والاجتماعي. نبوءة لا تقل قسوة عن نبوءته
في عودة الابن
الضال. انهيار الدولة بعد أن عاث فيها الفساد وانسحاق ''المواطن'' بين تعسف
السلطة
وانتهازية وظلامية ''الإخوان''. هكذا كان ''شاهين'' دائماً في قلب الوطن
وهمومه. لم
يكن بعيداً عن الأحداث، بل منغمساً فيها حتى النخاع.
الوقت البحرينية في 4
أغسطس 2008
|