ملفات خاصة

 
 
 

«أحلام (جنس حب)».. لماذا صار فيلم مغمور الرابح الأكبر في برليناله 75؟

أحمد شوقي

برلين السينمائي

الدورة الخامسة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

تتغير مسيرة بعض صناع الأفلام المهنية بمجرد حصولهم على جائزة مهمة، فما بالك إذا حصد الفنان جائزتي الدب الذهبي والإتحاد الدولي للنقاد (فيبريسي) خلال يوم واحد؟ في الأغلب سيظل المخرج النرويجي داج يوهان هاوجيرود يتذكر طويلًا يوم السبت 22 فبراير 2025، الذي نال في بدايته بجائزة النقاد قبل يتوّج في المساء بأرفع جوائز برليناله 75.

وفقًا للتوقعات قبل انطلاق المهرجان، لم يكن فيلم «أحلام (جنس حب) Dreams (Sex Love)» بين الأعمال التي تحظى بترقب كبير، فلا يضم الفيلم نجومًا معروفة، ولا يناقش قضية سياسية راهنة، ولا يمتلك مخرجه الذي تجاوز الستين نجاحات دولية كبرى، فهو رجل مكتبات وروائي، صنع ثلاثة أفلام طويلة طوال مسيرته، قبل أن يُدشن في العام الماضي ثلاثية فيلمية أنجزها سريعًا، ليُعرض جزءها الأول «جنس Sex» في قسم البانوراما بمهرجان برلين 2024، ثم يشارك الجزء الثاني «حب Love» في مسابقة مهرجان فينيسيا، قبل أن يصل الجزء الثالث إلى مسابقة برلين.

كيف لفيلم لا يحمل أي من الأسباب المعتادة للجاذبية أن يوحد الآراء؟ فتختاره لجنتا التحكيم الأحسن في مسابقة ضمن 19 فيلمًا طويلًا منها الكثير من الأفلام المتميزة؟ ربما تكمن الإجابة في ثلاث كلمات: الإبداع، والروائية، والانتصار للموهبة.

الإبداع.. من القراءة وإليها يعود

يبدأ «أحلام» بفتاة تكتب عن نفسها وعن القراءة. مراهقة نرويجية تعيش مع أمها تنقلب حياتها عندما تقرر في لحظة ملل أن تقرأ رواية قديمة، تقودها متعة القراءة إلى أن تبدأ في تسجيل يومياتها بنفسها، ويتغير كل شيء عندما تصل إلى مدرستها معلمة شابة، تحمل اسمًا مشابهًا لاسمها، لتجد يوهان نفسها تقع في حب مُعلمتها يوهانا، لتسجل وقائع هذا الحب في دفتر اليوميات الذي لم تكن تنوي أن تُطلع أي أحد عليها، لكن الأمر لا يسير بالطبع كما كانت تتصور.

من البداية تضح مركزية أفعال القراءة والكتابة في الفيلم. الحكاية تبدأ بقراءة دفعت للكتابة، ثم تتحرك عندما تقرأ الجدة الشاعرة النص وتبدي إعجابها به. ذلك الإعجاب الذي يخلق المفارقة التي تدور حولها الدراما: الفتاة المراهقة كتبت نصًا بديعًا أشبه بالرواية، جماله يجعل من المستحيل عمليًا التمييز بين الواقع والخيال فيه، فمن جهة يجب أن يكون الحدث مُقلقًا للجدة والأم التي تطلع على اليوميات لاحقًا، خاصة ما كتبته يوهانا عن تفاعل المعلمة معها، ومن جهة أخرى تعرفان -لا سيما الجدة- أن المكتوب قد يتضمن من الخيال الأدبي (وتصورات المراهقة) ما يحمله من وقائع صادقة.

يُمثل الإبداع إذن أول العناصر المُشكلة لفيلم «أحلام»، فالإبداع هو ما جعل فتاة لم تعتد القراءة تُدمن الكتابة، والإبداع هو ما جعل يومياتها تفتح نقاشًا أكبر من كونها اعترافات مراهقة بوقوعها في الحب، والإبداع هو ما يجعل جدتها وأمها تنظران للوضع من زاوية أخرى، فتحاولان فهم ما جرى، تحديد قدر الحقيقة فيه، والتفاعل مع يوهانا ونصّها اللذين صارا منفصلين؛ فهي مراهقة يجب التعامل بحرص مع مشاعرها، بينما هذا نص قوي يُمكن أن يُنشر للعامة. كأنه تعبير درامي مثالي عن مفهوم موت المؤلف، أو لنقل انفصاله عن إبداعه، طالما امتلك الإبداع ما يكفي من القوة كي يسير وحيدًا.

الروائية.. أعمق من مجرد شخصيات فيلمية

«أحلام» فيلم نسائي بامتياز، لا يكاد يظهر فيه أي رجل حتى الدقائق الأخيرة. تعتمد الدراما فيه بالأساس على التفاعل بين ثلاث إناث تمثلن ثلاثة أجيال داخل العائلة، تُضاف إليهن المعلمة عندما تُقابلها الأم لتروي وجهة نظرها من الحكاية. المدهش في النص الذي كتبه المخرج داج يوهان هاوجيرود بنفسه ليس فقط قدرته على تقديم وجهات نظر متباينة لأربع نساء مختلفات، ولكن لقدرته على الإمساك بالتقلبات التي تحدث داخل نفس كل شخصية على حدة.

وإذا كان من المنطقي أن يعرض الفيلم الضبابية التي تسيطر على مشاعر يوهان بحكم كونها تختبر مشاعر الحب للمرة الأولى في حياتها، مختلطًا بهوسها تجاه معلمتها الشابة الفاتنة، فإن قدرات المخرج الروائية تظهر أكثر في رسمه لشخصيتي الجدة والمعلمة، بالتجليات المختلفة لكل شخصية وفقًا للحظة الدرامية.

الجدة كارين شاعرة مبدعة وأم متفتحة، تتفهم حفيدتها، بل تغبطها على قدرتها على الاستمتاع بتلك المشاعر البكر التي فقدت مذاقها بمرور الأعوام، تعرف قيمة النص الذي كتبته يوهان وتدافع عنه، وتكون حلقة الوصل التي تقرب المسافة بين الفتاة وأمها، فلولا وجودها ربما كان رد فعل الأم ليختلف. لكن ولأنها في النهاية فنانة تحمل غيرة المبدعين، لا تستطيع أن تمنع نفسها من الغيرة عندما تجد ناشرتها معجبة بالنص وراغبة في نشره، فتكاد تُخفي المعلومة عن يوهان. هذه التفصيلة البسيطة، خفيفة الظل، تكشف عن قيمة الخلفية الروائية للمخرج التي تجعله قادرًا على التعبير عن التناقضات التي تحملها نفوس البشر، خاصة المبدعين منهم.

هذا التفهم هو سبب الامتياز الثاني للفيلم. الروائية تجعلنا نشعر بجذور الشخصيات الضاربة في الواقع، فهم ليسوا مجرد أدوات تلعب دورها داخل السيناريو وإنما بشر من لحم ودم لهم حضور في الحياة، تُثبته السمة الأبرز داخل نفس أي بشري عاقل: التناقض.

الانتصار للموهبة.. ولرواية الحب

أما لو انتقلنا إلى المعلمة يوهانا، فسنجد أن الفيلم يمارس معها لعبتين دراميتين. الأولى لعبة وجهات النظر، فنحن نتابعها خلال الفصلين الأول والثاني من خلال العينين المشوشتين بالحب والإبداع ليوهان، لنراها امرأة جذابة لكنها متساهلة مع انجذاب تلميذة لها، بكل ما في ذلك التساهل من تساؤلات أخلاقية بالنسبة لشخص بالغ في موقع سلطة. يستمر الأمر حتى نراها في الفصل الثالث لنرى القصة من الزاوية الأخرى التي نعرف من خلالها أن أغلب ما تضمنته رواية الطالبة كانت تفسيراتها الرومانسية لوقائع عادية.

لكن حتى هذه الزاوية لا يقطع هاوجيرود أبدًا بصحتها، اعتمادًا على اللعبة الدرامية الثانية وهي توازنات القوى. تبدأ يوهانا اجتماعها مع والدة طالبتها وهي مرتبكة، خائفة من قيام الأسرة بالإبلاغ عنها اعتمادًا على النص المكتوب، بما يعنيه هذا لوظيفتها وسمعتها، وبالتالي تبدو روايتها مزيجًا بين النفي والاعتذار، تنفي القيام بأي تصرف مخالف للقواعد وتعتذر عن أي فهم خاطئ وصل الفتاة عنها. لكن بمجرد أن تدرك المعلمة أن أسرة يوهان لا ترغب في التحرك قانونيًا، ينقلب موقفها في اللقاء نفسه، لتقدم نسخة ثالثة من الحكاية، تظهر فيها الطالبة كمراهقة متطفلة تحاول فرض نفسها على حياة المعلمة. في المشهد نفسه نشاهد نسختين من العلاقة، كلتيهما مختلفة عن نسخة البطلة.

أي النسخ الثلاثة هي الصحيحة؟ لن نعرف أبدًا، وإن كنا نميل لتصديق الطالبة. ليس فقط لأنها الرواية التي نتابعها من بداية الفيلم ونتوحد معها، ولكن لإدراكنا التدريجي إنه إذا ما تعددت الروايات وتفتت مفهوم الحقيقة، فالنسخة المروية من أرضية الحب ستظل دومًا أصدق من تلك المدفوعة بالخوف أو الكبرياء، حتى لو كان أغلبها خيال جامح لكاتبة مراهقة موهوبة.

وفي النهاية

«أحلام (جنس حب)» فيلم صغير وكبير معًا. صغير إذا ما نظرت لحجمه الإنتاج ومعادلة صناعته، كان يُمكن -قبل الدب الذهبي بطبيعة الحال- أن يعبر أمامك في قائمة أفلام أي مهرجان دون أن تنتبه له أو تتحمس لمشاهدته، بل يُمكن أن تشاهده بلا تركيز فتراه يطرح مشكلة عاطفية تنتمي لأزمات العالم الأول. لكنه في الوقت نفسه فيلم كبير لمن يشاهده بتركيز، ويقرأ بين السطور، ويلمس كيف يمكن لقصة بهذه البساطة أن تحمل كل هذا الزخم الإنساني، فكريًا وعاطفيًا.

 

####

 

جورج خباز لـ«فاصلة»:

«يونان» تجربة مختلفة.. والتمثيل رحلة لاكتشاف الذات

حسام فهمي

عبر جورج خباز سجادة مهرجان برلين السينمائي الدولي، ليس كزائر عابر، بل كممثل عربي يحمل بصمته إلى المسابقة الرسمية للدورة الـ75، بصفته بطل الفيلم العربي الوحيد المتنافس على «الدب الذهبي»—فيلم «يونان» للمخرج أمير فخر الدين، المنحدر من هضبة الجولان السورية.

خباز، الذي اعتاد التألق في «هوليوود»، «كان»، و«البندقية»، يجد في برلين تجربة مختلفة، حيث يشارك لأول مرة في عمل يغوص في ثنائية المنفى والانتماء، الاغتراب والبحث عن الذات. في «يونان»، يجسد دور كاتب عربي منفي يجد نفسه في جزيرة ألمانية نائية، في سردية مشحونة بالتأمل والمفارقات الحياتية.

وفي حديثه مع «فاصلة»، أوضح خباز أنه لم يقدم كوميديا خالصة قط، بل تأتي أعماله الكوميدية متكئة على قاعدة درامية، حتى في «يونان»، حيث تتقاطع الكوميديا مع تراجيدية القصة. وأضاف: «الفرح والألم يسيران معًا، خصوصًا في عالمنا العربي، حيث تفرض علينا عبثية الواقع أن نكون صادقين في عكسه على الشاشة.» كما أشار إلى أنه يفضل التعبير بالصمت، حيث تكفي ملامحه لنقل الأحاسيس دون الحاجة إلى كلمات كبيرة.

عبر جورج خباز عن سعادته بتعلم اللغة الألمانية من أجل دوره في «يونان»، حيث خضع لتدريب مكثف على يد معلمة خاصة وصديقة له. لم يكن الأمر مجرد إتقان للحوار، بل نافذة لاكتشاف ثقافة مختلفة ورؤية العالم بعيون جديدة. وأوضح أن تعلم لغة جديدة يمنح الممثل بُعدًا أعمق في الأداء، ويجعله أكثر قدرة على التماهي مع الشخصية التي يؤديها.

 

####

 

«أحلام (جنس حبّ)»… هذا كتالوج لـ «إيكيا»!

شفيق طبارة

في الأيام الأخيرة من مهرجان برلين الخامس والسبعين، قدّم المخرج النرويجي داغ يوهان هايغيرود فيلمه الجديد «أحلام (جنس حبّ)»، في المسابقة الرسمية. وفي نهاية المهرجان، حصد الفيلم جائزة الدب الذهبي. جائزة كانت مفاجأة، فضفاضة بعض الشيء على الفيلم، لا بد من أن رئيس لجنة التحكيم، المخرج الأميركي تود هاينز، وجد الفيلم مألوفًا بعض الشيء، نسخة من أفلامه، فقرر إهداء الجائزة لنفسه!

يختتم النروجي في «أحلام (جنس حبّ)»، الثلاثية التي تشكلت من الجنس والحب والآن الأحلام. في الأولى «جنس» (مسابقة بانوراما، برليناله 2024)، تساءل المخرج عن المشاعر الذكورية، حيث اعترف رجلان بأحلامها ورغباتهما المثلية الجنسية. وفجأة، تم تقديم عالم كامل عن الأبوية بكل فظاظتها. في الثاني، أفضل أفلام الثلاثية، «حبّ» (المسابقة الرسمية لمهرجان البندقية 2024)، تم تحليل الأشكال المتعددة لذلك الشيء المسمى حبّ، الذي يشمل أيضًا العاطفة، والحياة المشتركة، والملل المشترك، والسعادة من وقت إلى آخر. الآن، في الثالث، يتم تشريح الدافع الأول لكل ما سبق بمشرط غير حاد. يصوّر داغ يوهان هايغيرود قصة اكتشاف الرغبة الأولى والحب الأول، رغبة يوهان (إيلا أوفيرباي)، البالغة 17 عامًا، التي تبدأ باكتشاف معنى الوقوع في حبّ معلمتها يوهانا (سيلوم امنيتو). تبدأ يوهان بكتابة كلّ شيء، تاركة سجلًا مكتوبًا يُروى بصوت عالٍ عما يحدث لها، في محاولة للحفاظ على مشاعرها، وتوثيق عواطفها وتجربتها.

سنسمع كلّ شيء عن أفكار يوهان، سنقلب كل صفحة معها ونسمع كل ما تقرأه لنا. لإضفاء بعض المساحة لهذه القصة الكثيفة (وأحياناً التافهة، لأن الحبّ الأول يكون غالبًا تافهًا)، وإخراجها من عالم يوهان الداخلي المهتز إلى العالم الخارجي، يقدم هايغيرود تعليقًا ميتافيزيقيًا من خلال شخصية والدة يوهان، كريستين (آني دال تورب)، وجدتها كارن (آنّ ماريت جاكوبسون)، اللتين قرأتا النص. تتفاجآن في البداية بمحتواه الحميمي، لكن سرعان ما تأسرهما صفاته الأدبية، وتفتح هذه القراءة بدورها تأملًا عميقًا في الماضي الرومانسي وما بعده للمرأتين. الأجيال الثلاثة وأحلامهن، تتشابك وتختلط بفضل قوة الكلمة المكتوبة بقلم الجيل الصغر. تجلب الأم والجدة منظورًا منعشًا لهذا الفيلم المنطوق للغاية، والمهتم جدًا بذاته، لكن الأسئلة تظل قائمة حول ما حدث حقًا بين يوهان ومعلمتها: أين تنتهي الحقيقة ويبدأ الخيال؟ وهل تجد هذه الكتابات الشخصية طريقها إلى النشر؟

قبل أن يكرّس نفسه للسينما، كان داغ يوهان هايغيرود كاتبًا. وهذه حقيقة بارزة في التعامل مع أفلامه وفيلمه الأخير الذي هو «سينما أدبية»، بالمعاني المتعددة التي يمكن أن تمتلكها هذه الصيغة. «أحلام (جنس حبّ)»، فيلم «أدبي»، بالمعنى السلبي والإيجابي لهذا المصطلح. يحتفل بحبّ بطلته اللامحدود للأدب الرومانسي، وهو الشغف الذي كُرّست به المشاهد الأولى من الفيلم، مما أدخلنا جسديًا تقريبًا في القراءة. كما أنه فيلم يثق بالحوار بين شخوصه، الذي هو المركزية المطلقة لديناميكيتهم. كما أن المخرج يستخدم «التعليق الصوتي» كأداة سرد من خلال تحديد البطلة الشابة الفجوة بين ما نراه على الشاشة ومعنى أفكارها، وفي بعض الأحيان لتأكيدها وفي أحيان أخرى لتناقضها.

قصة الفيلم كان يمكن أن تستقر على أكثر الكليشيهات شيوعًا في الصوابية السياسية السائدة اليوم، مع ما يترتب عليها من نتائج من ثقافة الاستيقاظ (Woke)، التي تتمتع بقوة مفرطة خاصة في العالم الأنجلو ساكسوني، وبشكل عام في ما يسمى الغرب. لكن الفيلم النرويجي يطوّر نفسه وسرده من العديد من الشكوك والتناقضات والأسئلة، التي تجعل القصة التي يتناولها، على وجه التحديد، خالية من الدوغمائية النموذجية. كما أن الفيلم يصرّ على النقاء المبهر لبطلته المراهقة، القادرة كما المراهقين فقط على إدراك المشاعر النقية والصادمة. كما يستكشف المرأة في ديناميكيتاها الجدلية بين الأجيال بعض النظر عن الأعمار. لا يمكن إغفال المناوشات الجدلية بين الأجيال الثلاثة من النساء اللواتي يمثلهنّ، حيث كل واحدة تحمل حساسية أخلاقية واجتماعية وسياسية مختلفة.

«أحلام (جنس حبّ)»، لا علاقة له ربما بدافع الخوف أو الحكمة، وبجرأة الجزأين الأولين. يفقد السرد نبضه مع تقدم الفيلم، ويصبح الصوت المسموع متكلّفًا، والأسوأ من ذلك كله، أن الفيلم نفسه يضيع في مناقشات دقيقة وذكية ولكنها في النهاية عقيمة، إنّ لم تكن تافهة. كما أن الفيلم إشكالي في حرفيته. إنه فيلم عن الرغبة، لكنه لا يجرؤ في أي نقطة على التحقيق بدقة في تلك الحدود بين ما هو مرغوب فيه وما حدث، وبين ما يختبره المرء وما يلاحظه الآخرون، وبين ما يُعرض في الخيال وما يتجسد بين الأجساد. كلّ هذا من دون مراعاة أن الفيلم بإخراجه وتصميم الإنتاج (Production Design)، بوسائده ووشاحاته وبطانياته وأضوائه المريحة الدافئة، أشبه بكتالوج إيكيا.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

01.03.2025

 
 
 
 
 

"المَخبَأ" الفرنسي في "برليناله 2025":

اشتغال سلس وحكايات مُستعادة

نديم جرجوره

مسألتان يُتوقَّف عندهما، إثر مشاهدة "المَخبَأ" (2025)، للسويسري ليونيل بايْر: إنّه الفيلم الأخير للممثل الفرنسي ميشال بلان (مواليد 16 إبريل/نيسان 1952)، المتوفّى في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2024؛ إنّه استعادة للحظة تاريخية فرنسية (لها ما يُشبهها في دول أوروبية وغربية أيضاً)، معروفة بـ"أيار 68"، والاستعادة حاصلةٌ بنبرة كوميدية ساخرة، وإنْ بشكلٍ مُخفَّف، من دون المسّ بجوهر الحكاية، و"بطلها" الأساسي، الشاهد وقائعها رغم صِغر سنّه: الصبي (6 أعوام)، الذي يؤدّي دوره إتيان شيمانتي، ويُكتشَف في الفيلم أنّه الروائي الفرنسي كريستوف بولتانْسكي، كاتب رواية بالعنوان نفسه (2015)، يُقتَبس منها سيناريو باتريك ليندنْماير.

حضور ميشال بلان، بدور جدّ الصبي، يُثير حنيناً إلى زمنٍ سينمائي فرنسي، يشارك الراحل في صُنعه. ويُذكِّر بحيوية ممثل، وحِرفية مهنية في أداء يوحي بسهولة وبساطة، لكنّه يمتلك واقعية ومصداقية جاذبتين. أمّا اللحظة التاريخية تلك، فتُصبح منعطفاً في تاريخ فرنسا واجتماعها وثقافتها، وسينماها أيضاً، من دون إغفال ما يحصل في ذاك العام في دول أخرى، أبرزها الولايات المتحدّة الأميركية (الربع الأخير من ستينيات القرن الـ20 شاهدٌ على تبدّلات في تفكير واشتغال، في مسائل كثيرة)، و"ربيع براغ" (5 يناير/كانون الثاني ـ 21 أغسطس/آب 1968).

لكنّ ليونيل بايْر غير مُكترثٍ بخارجٍ عن "أيار 68" الفرنسي، من خلال يوميات عائلةٍ مؤلفة من أربعة أجيال، آخرها ذاك الصبي المُدلَّل والمُراقِب والحيوي، المُقيم في منزل جدّه، مع والدة جدّه (ليليان روفِر) وجدّته/زوجة الطبيب (دومينيك ريمون) وعمّيه (ويليام لِبغيل وأورليان غابرييلّي). أمّا والداه (أدريان بارازوني ولاريسا فايبر)، فمنشغلان بالحراك الثوري الطالبي، مع تمكّنهما من زيارة منزل العائلة بين حين وآخر.

مسألة أخرى تَلفت الانتباه: لا أسماء للشخصيات في "المَخبَأ"، المشارك في مسابقة الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)". هذا متداول في أفلامٍ عدّة. لكنّ فيلماً كهذا، يُبنى على شخصيات تريد أنْ تكون فاعلة في صُنع تحوّلات تشهدها باريس حينها، من دون إعطاء الشخصيات أسماء، يُثير تساؤلاً عن المغزى. أيكون السبب رغبةً سينمائية في القول إنّ الأهمّ من الأسماء أفعالٌ ميدانية، وتساؤلات يطرحها أناسٌ يحضرون في الحاصل، بطريقة أو بأخرى؟ ربما.

تفاصيل كثيرة تحصل، في المنزل وخارجه. كتبٌ ولوحات ونقاش في الثقافة والسياسة والعلاقات، والماضي يحضر بدوره، فللجدّة الكبيرة تاريخٌ حافلٌ في حياةٍ، لا بُدّ أنْ تنتهي ذات لحظة. ماضٍ آخر يحضر: الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) والمحرقة النازية بحقّ اليهود. فـ"المَخبَأ" لن يبقى عنواناً لرواية/فيلم فقط، ولن يرمز إلى منزل في مجمّع سكني صغير في قلب باريس فقط. ففي حيّز منه، هناك مخبأ له مدخل ضيّق الحجم، سيُقيم فيه الجدّ اليهودي أشهراً طويلة للغاية، هرباً من النازيين وأزلامهم الفرنسيين. في المَخبَأ الصغير هذا، سيأتي الجنرال شارل ديغول، "الهارب" من مهامه الرئاسية والضغوط الشعبية والثقل السياسي (1968)، مع أنّ "هروبه" هذا مؤقّت وعابر.

إلى الأداء اللافت للانتباه والمتابعة، هناك متعة الإنصات إلى تاريخ نابضٍ في ذاكرة أفراد، وجمالية تأمّل في أحوالٍ ومسارات. ومع أنّ الشقّ اليهودي غير مُفيد، سينمائياً ودرامياً (أهناك حاجة، سينمائية ودرامية فعلاً، إلى كشف سرّ هذا المَخبَأ الصغير؟)، يبقى "مَخبَأ" ميشال بلان وداعاً له.

 

العربي الجديد اللندنية في

07.03.2025

 
 
 
 
 

"يونان": مخاض عسير وولادة ثانية

محمد هاشم عبد السلام

في الفيلم الروائي الأول الطويل، "الغريب" (2021)، للمخرج الشاب أمير فخر الدين، كتابة وإخراجًا، كانت هنالك محاولة ناجحة لتقديم شخصية غريبة عمن حولها. من خلال سياق الفيلم وأحداثه، نتعرف على عدنان (أشرف برهوم)، ومعاناته من أزمة أحبطته، وتركته حُطامًا، وجعلته غير مرغوب فيه من أسرته، ومحيطه الضيق، ومجتمعه. التوق إلى مبارحة المكان، ونفض ثقل الماضي وصدماته، وإزاحة إرث النظام الأبوي عن كاهله، والبدء مجدّدًا، والهجرة بعيدًا عن مرتفعات الجولان المحتلّ، إلى باريس، أو برلين، أو غيرهما، كلها، تطل بوجهها وتفرض حضورها على بطل الفيلم، والأجواء، والسرد برمته.

"يونان" يشكل الجزء الثاني في ثلاثية بعنوان "الوطن"، يعقبه آخر بعنوان "الحنين"، لتكتمل بهذا ثلاثية تؤكد على طموح مخرج يقدم نفسه بثلاثية خلال فترة زمنية وجيزة. ما يعني أن لديه كثيرًا ليقوله، ورؤية فنية يود طرحها، وفيضًا من الهموم الذاتية والأفكار المؤرقة الراغب في تقديمها بجهد ومثابرة وصدق. من هنا، لم يكتف أمير فخر الدين (المولود في العاصمة الأوكرانية كييف عام 1991، لأبوين من بلدة مجدل شمس في الجولان المُحتل) بتقديم عالم الوحدة الخانق، أو "الاغتراب" القاتل لبطله السباق، عدنان، إذ يتناول الغربة والعزلة وفقدان الانتماء والهوية عبر صورة أخرى تتجلى في المنفى، ويكابده بطل "يونان" الذي يشعر أيضًا بعدم القدرة على التأقلم والاندماج في محيطه.

""يونان" يشكل الجزء الثاني في ثلاثية بعنوان "الوطن"، يعقبه آخر بعنوان "الحنين"، لتكتمل بهذا ثلاثية تؤكد على طموح مخرج يقدم نفسه بثلاثية خلال فترة زمنية وجيزة"

"الغريب"، وكان أول مُشاركة للمخرج في مهرجان دولي كبير، باختياره ضمن "أسبوع النقاد" في الدورة الـ78 لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" (1 ــ 11 سبتمبر/ أيلول 2021) عمل بالغ الذاتية ينقل الشعور بالعجز والخواء لدى بطل لا يزال يكابد مأساة وطنه. ومع ذلك، لا يستطيع فعل شيء من أجله، ولا من أجل نفسه وأسرته ومحيطه. وذلك في استعارة شعرية كئيبة للغربة، التي يشعر بها أيّ إنسان، في المستويات كلّها، عندما يعيش في الأسر، ويكون الأسر هو الوطن ذاته.

في "يونان" المشارك في "المسابقة الرئيسية" لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي" في دورته الـ75 (13 - 23 فبراير/ شباط، 2025)، يمد أمير فخر الدين خيوط الشخصية الرئيسية في فيلمه السابق على امتدادها، مواصلًا طرحه واستكشافه لأزماتها الوجودية، الناتجة هذه المرة عن المنفى تحديدًا. صحيح أن المخرج لم يوضح إن كان المنفى هنا طوعًا، أو قسرًا، إلا أنه في النهاية حالة انسلاخ كاملة عن الأهل والجذور والوطن والهوية واللغة.

يتجلى هذا في إقامة بطل "يونان" منير (جورج خباز) في ألمانيا، وتحدثه الألمانية طوال الفيلم. أيضًا، يعاني منير من ضيق في التنفس على هيئة أزمات تنفسية مباغتة. بعد الفحوصات اللازمة يؤكد الطبيب على أنه مجرد إجهاد، علة نفسية بالأساس. يقترح عليه القيام بإجازة، والابتعاد عن محيطه وعمله، وبالأخص "الذهاب في نزهة على الأقدام". مكتئبًا، غير قادر على مواصلة الكتابة، أو التواصل الجنسي مع صديقته، يحمل منير معه ثقل المنفى، الذي نلاحظ ازدياد وطأته بعد المكالمة التي أجراها مع أخته وأمه (نضال الأشقر)... في بلدهما، وتبينه معاناتها من مرض الزهايمر، وصعوبة تذكرها له.

في محاولة منه لإنعاش ذاكرتها، وربما ذاكرته هو، يطلب منها رواية قصة اعتادت أن ترويها له، وهي عن راع ملعون (علي سليمان) "لم يكن لديه شيء على الإطلاق. لا فم، ولا أنف، ولا أذنين. فقط قطيع كبير من الأغنام، وزوجة الصامتة (سيبيل كيكيلي)، أجمل من القمر". تتوقف الأم وتغرق في التكرار، عاجزة عن إكمال القصة، فيما يبدو. تظل سطور القصة/ الأمثولة/ الأسطورة/ الخرافة تتكرر مرارًا على امتداد الفيلم، لدرجة تصبح عبئًا على السرد وتطوره أحيانًا، وليس العكس.

ورغم إحالاتها المتعددة، المحفوفة بغموض يصل حد الاستغلاق أحيانًا، أرادها المخرج كانعكاس لحالة المنفى والشوق والذكريات التي تهرب من الذاكرة. وكونها العنصر الوحيد في الفيلم الذي يربط منير بالعائلة والوطن، بذاكرته وجذوره. من هنا، نلاحظ أن الأماكن والملابس والأجواء كثيرًا ما تتشابه والبيئة العربية الصحراوية. وبصرف النظر عن التأويل والدلالات والإحالات، وبعيدًا عن حسن توظيفها، أو مرات استخدامها داخل الفيلم، فقد تعامل معها المخرج تنفيذيًا ببراعة لافتة. إذ، رغم عدم التطور الدرامي لها، نجدنا كل مرة إزاء أجواء وطبيعة مشهدية وإضاءة وألوان مختلفة كثيرًا، ساحرة أحيانًا. ثم، يمضي المخرج لما هو أبعد من مجرد استعراض مشاهد صامتة للراعي وزوجته. إذ قرب نهاية الفيلم، نجد منير في القلب منها، نراه يتفاعل فيها، وحتى يتلامس مع الراعي وزوجته. ولاحقًا، ذات ليلة، يجلس لتناول الطعام في منزلهما.

"قرب النهاية، يُفسد أمير فخر الدين كثيرًا من الغموض، والحالة الشعرية المنسوجة بمهارة على امتداد الفيلم، بغية إيضاح وتفسير الملتبس والغامض"

أيضًا، نلاحظ اختلاف الحضور الشكلي لمنير تمامًا، على الأقل مع هيئته على امتداد الفيلم. ففي إحدى المرات نراه حليق الرأس، مصفف الشعر، ولحيته مشذبة بأناقة، والملابس التي يرتديها مغايرة بدورها، وفاتحة اللون، وليست غامقة، وقد تخلى عن معطفه الداكن. كذلك، يتعمد المخرج كسر زمن الحكاية، أو الأمثولة، سيما في ما يخص العلاقة بالوقت. إذ يظهر منير وقت تناول الطعام وفي معصمه ساعة يد عصرية، وذلك على نحو يَخِلُّ عمدًا بالمعتاد في مثل هذه المشاهد من ناحية، وبكسر منطق الإيهام، أو الحلم، أو الذكرى، وخلق إحالات أخرى كثيرة تمزج مفردات عديدة مختلفة، ملتبسة، أو مستدعية للتأمل، من ناحية أخرى. وبعيدًا عن الخيط السردي للحكاية الخيالية الصامتة تمامًا، والبطيئة التطور دراميًا، يمضي الخيط الواقعي بوتيرة طبيعية بعض الشيء، بالغة الواقعية، من دون الإيغال كثيرًا في الرمزية، أو الاستعارة.
غير قادر على انتشال نفسه من اكتئابه، يستقل منير عَبَّارَة من هامبورغ باتجاه بحر الشمال، حيث يصل إلى جزيرة "هاليج". مكان معزول وهادئ ومناسب للانتحار بمسدس أحضره في حقيبته. بصعوبة يجد غرفة في مكان معزول بجوار الفندق الوحيد في الجزيرة، الذي تديره العجوز فاليسكا (هانا شيجولا). يمضي منير أيامه في التجول في المراعي الممتدة المكشوفة، التي تتخللها منازل فردية مبنية فوق تلال صغيرة، حيث نرى المراعي والحيوانات، في مشاهد تستدعي للذهن فيلم "الغريب
".

أيضًا، في "الغريب"، تمتد سماء خريفية فوق المرتفعات الخلابة للجولان المُحتل. تتساقط الأوراق، وينضج التفاح ويُحصد. تغمر الأمطار الأرض التي تفيض بالأوحال، في توظيف ماهر للمناظر الطبيعية. يُمكن للمُشاهد أنْ يشعر بأجواء ترقّب وتوتّر، وموت وحياة، وبداية دورة ونهاية أخرى. وربما بما هو أضخم وأخطر. أمر ينسحب على "يونان"، وفيه يمعن فخر الدين في رصد أجواء الجزيرة لدرجة تخطف الأنفاس فعلًا، برع فيها المصور السينمائي رونالد بلانت، بكاميرا كثيرًا ما كانت تمسح الأفق ببطء ينقل جمالياته الخلابة، وتقلبات الطقس العاصف، وقسوة ورِقّة الطبيعة. كما الحضور الشاعري للطيور والحيوانات، ناهيك بالتباين اللوني في مشاهد عديدة، خاصة قبل وأثناء وبعد الفيضان. حيث نرى في لقطة واحدة مُركَّبة، مثلًا، السماء الباهتة والغيوم الرمادية والأمواج الداكنة والخضرة الزاهية، ويغلف هذا كله صوت البحر الهائج والرياح العاتية.

قطعًا، توظيف المكان ليس مصادفة أبدًا. الجزيرة ليست مجرد خلفية لعلاقة منير وفالسيكا صاحبة النُزل وابنها وأهل الجزيرة. لها حضورها الخاص، ودورها المحوري وشخصيتها إن جاز التعبير، في تصوير عزلة وتمزق وصراع منير الداخلي. يعد الطقس القاسي والفيضان بمثابة استعارات لاضطراباته الشخصية، وللقوى التي يعجز عن السيطرة عليها والمُتحكمة في مصيره. وكيف أنها تعكس، إزاء التهديد المستمر للبحر، مدى هشاشة الواقع، وحياته. من هنا، تحضر ثنائيات كثيرة، تتصارع وتتواجه، المد والجزر، الصخب والسكون، القوة والضعف، الاختفاء والبقاء، الحياة والعدم... إلخ. ويتجلى هذا أيضًا في مشهد العراك بالأيدي الذي يُقدم عليه منير ضد ابن فالسيكا.

ثنائيات كهذه، وأكثر، حاضرة على امتداد رحلة منير المادية والروحية، الخارجية والداخلية، تجعله يفطن إلى أن الأرض التي غمرتها المياه، وبفضل مرونتها وصلابتها، تظهر مجددًا، وقد صمدت بعد انحسار الفيضان، مواصلة وجودها، وازدادت خصوبتها وقدرتها على التجدد والعطاء. صحيح أننا نرى صورة مهيبة للدمار والفناء والموت، لكن يعقبها أيضًا استعراض لمدى قدرة الطبيعة على الولادة والتجدد والبقاء. وهذا أيضًا هو ما يتعلمه منير من خلال علاقته الحريصة مع فالسيكا، ورحلته بأكملها.

على النقيض من بنية "الغريب"، نجد أن بنية "يونان" تحتمل كثيرًا من الأبعاد النفسية والوجودية والأسطورية، أو حتى الدينية. مثل إحالة عنوان الفيلم للنبي يونان، أو يونس، الذي لفظه الحوت في إشارة إلى العودة مجددًا إلى الحياة، أو الولادة من جديد. يتأكد هذا في مشهد بالغ الدلالة نرى فيه الحوت الصغير بعد الفيضان. ما يمكن تشبيهه بالحمل والولادة. وإن كنا في "الغريب" قد شاهدنا فترة الحمل، فقد عاينا في "يونان" المخاض والولادة. ولادة بكل ما تحمله من إمكانيات جديدة، وانطلاقة متفائلة، وأمل في العثور على عزاء وهدف للحياة والعالم. إحالات كهذه لم تثقل كثيرًا على الفيلم وأحداثه وخيوطه وإيقاعه. استوعبها نسيجه العام، المنتمي وبقوة للسينما التأملية والفلسفية والجمالية البحتة، مقارنة بفيلم "الغريب".

مع ذلك، أثقل أمير فخر الدين "يونان" بما لم يكن ضروريًا أبدًا، وفي أكثر من مكان. مثلًا، افتتاحية الفيلم ببيت شعري مقتبس للمتنبي، "أُغالِبُ فيك الشوق والشَوق أغلبُ. وأعجبُ من ذا الهَجرِ والوصل أعجبُ". ورغم جماله وعمقه، سرعان ما نسي مع تعاقب الأحداث، وانقضاء زمن الفيلم. الأكثر إزعاجًا من هذا، عدم ثقة المخرج في أن سرده البصري، أو طريقته في الحكي، قد أوصلت الحالة النفسية والشعورية والفلسفية المُرادة للمتفرج، من دون حاجة للتكرار. أيضًا، قرب النهاية يُفسد كثيرًا من الغموض، والحالة الشعرية المنسوجة بمهارة على امتداد الفيلم، بغية إيضاح وتفسير الملتبس والغامض. ما أدى، ليس للإيضاح، أو التأكيد، أو التفسير، بل تشويه البناء المكتمل، وإسقاطه في المباشرة المزعجة. ما يعيد إلى الأذهان خاتمة فيلم "الغريب"، وتفسير ما لا ينبغي تفسيره.

في "يونان"، كما في "الغريب"، ثمة جدية وصدق وطموح فني ملحوظ. وقبل هذا، جماليات بصرية لافتة، نابعة من عين فنية مثقفة وواعية ومرهفة، تؤكد إجمالًا على أننا إزاء مخرج موهوب فعلًا. مهتم بكل التفاصيل، وجاد في مشروعه الفني والفكري والإنساني، وصاحب بصمة بصرية جذابة وراقية، يُنتظر منه كثير. فقط، يُرجى في الجزء الثالث أن يثق أكثر في جمهوره، وفي أن الغموض والالتباس والإلغاز لهم وقع أقل وطأة من المباشرة. أيضًا، ضرورة الابتعاد عن المشاهد المكررة، أو الكليشيهات السينمائية، مثل مشهد الرقص على إيقاع أغنية "مَيّل يا غنّام"، كي يخرج الجزء الثالث مكتملًا ومتخلصًا من العيوب، أو الشوائب التي لحقت بسابقيه.

 

ضفة ثالثة اللندنية في

10.03.2025

 
 
 
 
 

شاشة الناقد: المستعمرة

لندنمحمد رُضا

المستعمرة ★★★

* إخراج: محمد رشاد

* مصر | دراما مجتمعية

* عروض مهرجان برلين (2025).

بعد بداية تُثير القلق حول مستوى الفيلم، تتبدَّى الخيوط على نحوٍ أوضح يقود المخرج الجديد محمد رشاد فيلمه صوب نتائج فنية ملائمة لما يريد الحديث فيه وكيف.

تدور الحكاية حول الشاب حسام (أدهم شوقي)، يبدأ العمل في معمل حديدٍ حيث سقط والده قتيلاً قبل أيام. أُبلغ حسام بأن الموت كان حادثاً، يقبله وفي قرارة نفسه لم يقتنع. معه في المصنع شقيقه الصغير الذي يعد نفسه بأن ينتقم حسام من الجاني. بيد أن لحسام حسابات أخرى. هو ذو سوابق ويريد تأمين العيش لوالدته وشقيقه. الأمور لن تجري حسب هذه الرغبة طويلاً، لكن السيناريو الذي كتبه المخرج بنفسه ونفّذه بعناية يمرُّ على تلك المواقف الحادة بين حسام ورفاق العمل، وبينه وبين شقيقه كما بينه وبين نفسه بثقة ومعرفة تامَّة بما يحاول تحقيقه.

هناك خيط تشويقي لهذا الفيلم، من دون أن يُحيد العمل عن ناصيته الاجتماعية. هو في الأساس دراسة بصرية تعنى بوضع البيئة الاجتماعية التي تقع فيها الأحداث وبقصد تعريَة هذا الواقع ونقده من دون أي خطابة أو تكلُّف.

هناك هنَّات في بعض التفاصيل ونزوع إلى تبسيط مفردات العمل البصرية والتصويرية غالباً بسبب ميزانية الإنتاج المحدودة. هذا يؤثِّر على بعض الخيارات بيد أن الفيلم ينجو بنفسه من التردي بسببها.

LIVING THE LAND

★★★★

* إخراج: هيو مينغ

* الصين | دراما

* عروض مهرجان برلين (2025).

استحق «ليڤينغ ذَا لاند» (أو «العيش من الأرض») جائزة مهرجان «برلين» لأفضل مخرج. إنه دراما كاشفة معالجة بكاميرا تسجل ولا تفرض، تنقل ولا تشارك وتحيط في ساعتين و16 دقيقة بأوجه حياة الريف الصيني في مطلع التسعينات.

القول إن النقلة من الصين قبل تلك الفترة إلى ما بعدها كانت تلقائية وآلية ليس صحيحاً. لقد تضمَّنت إلى جانب التغييرات السياسية والاقتصادية والإدارية الشاسعة، تغيير معالم الأمس عند نقطةٍ تذوب فيها التقاليد تحت وطأة المتغيِّرات.

فيلم هيو مينغ يتحدّث عن ذلك بهدوء مريب، إنما بقدرٍ كبير من المعرفة لا فيما يتولَّى الإيحاء به أيضاً، بل بالمعالجة الصحيحة التي تجعل كل شيء واضحاً من دون التباس، وجاذباً للمراقبة على نحو غير بعيد عن أسلوب الإيطالي إرمانو أولمي في «شجرة القبقاب الخشبي» (1987) أو سواه من أعماله.

هناك صبي صغير في وسط مجموعة من الفلاحين الذين نراهم يتابعون عملهم ويَشكُون من قلّة الإيراد ويتساءلون عن المستقبل. الطفل (وانغ شانغ) خسِر عناية والديه اللذين نزحا إلى المدينة بحثاً عن مستقبل أفضل، وجدّته هي التي تهتم به وترعاه. معه ومن خلاله نكتشف المكان والبيئة منذ أن يُفتح الفيلم عليه وهو يراقب استخراج قبر جدّه الميت منذ زمن بعيد، واستخراج الرصاصة التي قتلته والتي لا تزال في تربة النعش. لاحقاً سنشهد مآتم أخرى، بيد أننا سنشهد كذلك أفراحاً، فهذه البيئة التي يرصدها الفيلم كما لو كانت لوحاتٍ طبيعية معلّقة، ومن تدخّل من جانبه خلال العمل لإبراز فعلٍ دون آخر، هي نتيجة نبشٍ في الماضي شاء المخرج أن يبقيه كما هو، وأن ينقله كما كان من دون تفعيل ما.

الكاميرا التي يديرها غيو دامينغ تمسح تلك الحياة بتؤدة وبساطة عميقتين. تواكب بلقطات عريضة ومتوسطة إلى بعيدة ما يدور. تواكب يميناً، وترتفع من الأرض إلى الوجوه، وفي مشاهد أخرى تترك أشخاصاً إلى آخرين من دون قطعٍ أو منهم إلى الأرض. تصوِّر الزرع والمسافات والأشخاص مثل عالِمٍ يفحص حياة.

حيال ذلك، الفيلم المقسّّم إلى 4 فصول، يحمل تسجيلاً صوتياً للطفل، وقد غدا اليوم رجلاً ينظر إلى الماضي لاستعراضه حاملاً حزن الأيام في نبرة صوته.

في الصَّالات

* The 8th Day ★★★

- إخراج جاكو ڤان دورميل | كوميديا بلجيكية حول صديقين؛ أحدهما بائع متجوِّل والآخر يقيم في مستشفى طب نفسي مع دانيال أوتويل وباسكال دوكوا.

* The Last Supper لم يُشاهد بعد

- إخراج مورو بوريللي | إنتاج إيطالي- كندي صُوِّر في المغرب عن الأيام الأخيرة من حياة السيد المسيح من خلال أنظار أتباعه.

* Opus ★★

- إخراج: مارك أنتوني غرين | تشويق متكلِّف المعالجة لشخصيات نصف مطبوخة، وفكرة ضائعة بين التَّشويق والرُّعب عن نجم غناء معزول وغريب الأطوار.

* The Day the Earth Blew Up

- إخراج بيتر براونغارد | أنيميشن من بطولة شخصيّتي الكرتون دافي دَك وبوركي بيغ كان الأفضل تركهما في الحلقات التلفزيونية القديمة

ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز

 

الشرق الأوسط في

13.03.2025

 
 
 
 
 

"ميكي 17" في "برليناله 75": الاستنساخ البشري يُخيف صانعه

قيس قاسم

يغيب الكوري الجنوبي بونغ جون هو (1969) مدّة، ليعود بعدها مُحمّلاً بمنجز سينمائي جديد، لا يشبه الذي قبله، ولا يقلّ عنه جمالاً. ينطبق هذا على جديده "ميكي 17" (2025)، الآتي بعد تحفته السينمائية "طفيلي" (2019). يذهب في منجزه هذا، المعروض في الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، إلى تخوم الخيال العلمي، المختلف في تفاصيله عن الكثير منه، بعمق أسئلته الوجودية، ومخاوفه المتأتية من التطوّر الحاصل اليوم في مجالات علمية جديدة، تُثير شهية أصحاب المصالح الرأسمالية للاستحواذ عليها، وتسييرها وفق إرادتهم السياسية.

ببراعته المعهودة، يكتب بونغ جون هو نصّاً سينمائياً (السيناريو له)، يُبطّن فيه، لصالح الإبداعي، موقفه السياسي والأخلاقي، بمتخيّل بصري، مُذهلة اشتغالاته الجمالية. فيه، يتصوّر زعيماً سياسياً ثرياً وتافهاً، يقود مشروعاً فضائياً خطراً، يريد به تحقيق طموحه بامتلاك كوكب جديد، بعد أنّ مَلّ وجوده على كوكب الأرض، المُخرَّب والموشِك على الفناء.

للسيطرة المطلقة على كوكب "نلفْهايم"، لا بُدّ من وجود جيوش تحميه، وعبيد يخدمونه، ومُقرّبين إليه من دون شروط. يريد من هؤلاء أنْ يكونوا حماة سلطته وعبيده الخالدين. عبيد من نوع جديد، كلّما ماتوا، أعاد العلماء استنساخهم مُجدّداً مرّات ومرّات، كما يريد أصحابه الحفاظ على أشخاص آخرين أهمّ منهم ومن بقية البشر.

إلى المشروع، يأتي ميكي بارنز (دور مزدوج يؤدّيه باقتدار روبرت باتينسون) مُحبطاً إثر وفاة والدته، وأزمة مالية يمرّ بها. من دون الاهتمام بقراءته، يوقّع على عقد العمل الجديد، وعند مباشرته العمل، يكتشف أنّ وظيفته الحقيقية أنْ يموت ويُعاد ثانيةً إلى الحياة بشكل كائن "مطبوع"، قابل للاستبدال بنسخته الأصلية. ولأنّه كبقية الكائنات المختبرية الجديدة، قابل للخلق والإعادة، يُطبع منه خلال وجوده على الكوكب 17 نسخة. هكذا يضمن الاستنساخ البشري لصاحب المشروع، رجل الأعمال كينيث مارشال (مارك روفالو)، قوة عمل دائمة، تُرسّخ وجوده زعيماً لكوكب يقوده رفقة زوجته يِلفا (توني كوليت) ومجموعة مختارة، في خدمتهم يعمل البشر الصاعدون معه على متن كوكبهم السيّار بإخلاص وحذر. مع ذلك، يرتكب المشتغلون على آلة الاستنساخ خطأ في إصدار الطبعة الجديدة من ميكي.

لمعالجته بسرعةٍ، يأتي إلى المختبر ميكي آخر يشبه رقم 17، ويحمل مواصفاته الجسدية وذاكرته الأصلية. بوجود ميكي 18، ترتبك المعادلة العلمية، وتختلّ دقّتها. هذا يقود إلى مُتغيّر دراماتيكي في مسار سرد مُحكَم، كلّ انعطافة فيه تُجسَّد باشتغال سينمائي متماسك، الدقّة والإبهار البصري سمتهما الأساس. ذلك يُقرّبه أسلوبياً وصنعة من الهوليوودية، لكنّ متنه يجرّه إلى موقع مختلف، يقارب وضعاً بشرياً مُهدّداً بمخاطر تأتيه من شيوع شعبوية سياسية وهيمنة رأسمالية، لا يخفي النصّ المُتخيّل التلميح بها، واقترانها بأشخاصٍ موجودين في الواقع. أو على الأقلّ، يُحيل المُشاهد إلى التفكير بشدّة قربها من الرئيس دونالد ترامب، أو الملياردير إيلون ماسك، صاحب مشاريع إقامة كواكب فضائية، يُمكن للأثرياء الانتقال إليها، أو العيش فيها بعيداً عن كوكبٍ ساهمت شراهة الرأسماليين الصناعيين بتلويثه وتدمير بيئته.

التشابه بينها يأتي من الفيلم نفسه. هيئة مارشال، السياسي الديني المُضحك وتصرّفاته الهوجاء، تضفي على النصّ روحاً فكاهية مُحاطة بسوداوية متأتية من تصادم مُنتظر بين بشر أسوياء وأقلية تتحكّم فيهم، وتهدّد بتدمير كائنات أخرى، من دون إحساس بالإثم أو الخطيئة.

لترسيخ هيمنته على الكوكب الجديد، يشرع زعيم المشروع بإزالة كلّ الموجود عليه، عدا سكّان كوكبه. تظهر في السياق كائنات فضائية تُشبه الخنازير البرية، تعيش فيه، ولا تعرف شيئاً عن الشرّ المُقترب منها. يحدث التصادم المنتظر بينها وبين جيوش الكوكب المستحدث، ومعه تجري اصطفافات وانشقاقات بين سكان الكوكب.

ميكي 17 يشعر بالحبّ لأوّل مرة، بعد تعرّفه على الحارسة ناشا (نعومي آكي)، ويُدرك حينها معنى أنْ يعيش الإنسان كما هو، من دون حاجة إلى تذوّق طعم الموت أكثر من مرة. يعرف، بتجربته بصفته كائناً مستَنسخاً، براءة تلك الحيوانات، وشدّة تماسكها الأسري. يُهدّد خطف ابن زعيمة القطيع بحرب بين الجانبين. يحرّض دعاة الحروب قائدهم، وتلعب زوجة زعيمهم دور المحرّض عليها. يقابل رغبتهم الوحشية تيار بشري، تشدّه أواصر جينية متأصلة لكوكب الأرض.

تدمير مشروع مارشال حتمي، لكنّ الأسئلة التي تتركها المَشاهِد الأخيرة تمنح نص "ميكي 17" عمقاً وفرادة. الإطار التمهيدي لعرضها مُخادع بأوّله، لكنّ متابعة مسار حكايته، والتمتّع بحلاوة معالجتها السينمائية، يُذكّران بأن بونغ جون هو لا يقترح عملاً سينمائياً مُسطّحاً، لأنّ ميزته الأهم بصفة مخرج آسيوي تكمن في عمق رؤيته للعالم والرأسمالية الغربية خاصة. ربما لا يرتقي مُنجزه الأخير إلى مستوى "طفيلي"، لكنّه فكرياً يتجاوزه، مع أنّ "طفيلي" يقارب مفهوم الصراع الطبقي ويُجسّده باشتغال سينمائي بارع، استحقّ عليه جوائز عدّة، كالسعفة الذهبية للدورة 72 (14 ـ 25 مايو/أيار 2019) لمهرجان "كانّ". في النهاية، هناك مشتركات كثيرة بين الفيلمين، تأتي تباعاً إلى ذهن المُشاهد بعد تركه صالة العرض.

 

العربي الجديد اللندنية في

17.03.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004