في "قرطاج السينمائيّ" واقع افتراضيّ عن وجع حقيقيّ!
المصدر: تونس-
ابراهيم توتونجي
"يعيش
أوتو... يعيش".
لقد تمكّن للتوّ من دفن الغازي. جرّه إلى ما فوق البحيرة
وحفر حفرة وهال عليها التراب. ساعده كلبه سكيبي. حمل المجرفة وهزّ ذيله.
أنا أيضاً، من فوق الكرسي الصغير، في جناح "الأفلام ذات الواقع المعزّز"،
ضمن "أيّام قرطاج السينمائيّة 2024"، شاركتهما في التخلّص من ذلك الغازي
المتغطرس العنصري السارق المحتلّ.
وبعدما عادا صوب الأرجوحة وشجرة الفاكهة المباركة، حدّثت
نفسي، من دون أن أشعر بالخجل أو الخوف من اتّهامي بالهلوسة، وبصوت مسموع:
يعيش أوتو... يعيش.
إنّ مشاهدة الأفلام المنفّذة بهذه التقنية تنقل المشاهد من
كنبة المتلقّي إلى مركز الفعل، بشرط التخفّي خلف "النظّارة".
أنت تُبحرُ في عالم افتراضيّ من دون أن تغادر مكانك، ثم
تنفّذ ما تطلبه شخصيات الفيلم منك، كرفع البطل إلى مستوى الشجرة، أو إسقاط
ثمرة منها، أو شقّ الكوكب إلى نصفين، ذلك يجعلك تحرّك أصابعك كأنّك مايسترو
مقنع.
يميناً، يساراً، فوق، تحت... ترسم خطوطاً في الهواء، يشاهدك
المارّة، والقيّمون على الجناح، وأنت لا تشاهد أحداً منهم. أنت في عالم
آخر، موازٍ، في فضاء افتراضيّ، لكنّ دماغك قاصر على فهم هذا الجو المجسّد
تماماً لكي يقنعك أنّه واقعيّ.
شيء من الإثارة، شيء من الخفّة، كثير من الحرية الداخلية،
تنتابك، وأنت تشاهد "كوكب أوتو"، فمن المنطقي أن يراك الآخرون المقيّدون في
عالمهم "الواقعيّ" مجنوناً.
ولكن، سرعان ما ستصيبهم هذه "الهلوثة"، ويهرعون إلى شباك
التذاكر، لينضمّوا إلى "اللعبة" وإلى نادي حفّاري قبور الغزاة على كوكب
أوتو الوديع.
تقع "مدينة الثقافة" في تونس، وهي تحتضن معارض ولقاءات
وأفلام ونشاطات كثيرة ضمن الدورة الـ35 من المهرجان المصنّف الأعرق من نوعه
في تاريخ المنطقة وأفريقيا.
وذلك على بعد كيلومترات قليلة من وسط المدينة الممتدّ إلى
عمقها التاريخيّ، أو ما يسمّى بـ"المدينة العربيّة".
وفي فضاء تلك الأحياء، ثمّة شوارع تحمل أسماء "الأنهج"، من
بينها "نهج فلسطين"، "نهج باريس"، "نهج قرطاج" وغيرها المئات.
بعد أحداث السابع من أكتوبر من العام الماضي، وصولاً إلى
اللحظة الراهنة، حملت جدران كثيرة من تلك الأنهج كتابات ضدّ مرحلة
الاستعمار الفرنسيّ لتونس، ورسوم تتحدّث عن ضحايا فلسطين ولبنان الذين قضوا
جرّاء آلة السلاح الصهيونيّ والتكنولوجيا الإسرائيلية.
نرى أيضاً أفيشات مسرحيات عرضتها فرق من الداخل الفلسطينيّ
مثل "العاشق" عن سيرة الشاعر محمود درويش، أو بوسترات أفلام سينمائية عن
فلسطين، احتفى بها مهرجان السينما في دورته الأخيرة.
هذا إضافة إلى غرافيتي عن تآخي الزيتون والأرزّ عند تقاطع نهج "أمّ كلثوم"
مع نهج " قرطاج".
شعارات "النار بالنار والدم بالدم على جدار "المركز
الفرنسي" في "نهج باريس" وأعلام فلسطين ترفرف تحت نوافذ كثيرة. في داخل
"المدينة"، غير بعيد عن "كوكب أوتو"، معرض استعادي يوثق تاريخ سينما
فلسطين، مع سينوغرافيا تستوحي من الكوفية وأشعار درويش وسامر أبو هواش.
"الضباع في ليلها المعدني تلهث تلهث.." و"الصدى الوحشي بطانة الرأس وحشاة
العين وسويداء القلب ووحشة الروح".
وهذا ما شعر به "أوتو" وكلبه "سكيبي" تحديداً على كوكبهما
الهانئ بعدما هجم "ضبع" معدني بلباس رائد فضاء، على بقعتهما، نتيجة حادثة
تحطّم طارئ، فعاوناه، وأطعمه أوتو وأشربه وعالجه، وهزّ سكيبي ذيله فرحاً
به، فإذا بالضيف، حين استعاد قوّته، قام باحتلال نصف الأرض، بنى جداراً
فاصلاً، حرمهما من الشجرة المباركة، وتركهما على أرجوحة رتيبة منهكين
بـ"وحشة الروح".
أتحمّس. أجد لي دوراً نضالياً في الواقع الافتراضي لا أجده
في العالم الواقعي. أقبل، متجاهلاً أنّ حريتي هي أيضاً مرسومة مسبقاً
ومبرمجة عبر كودات وحاسوبيات وضعها صنّاع الفيلم، على خطّة التخلّص من
الغازين وندفنه في النهاية، نحن الثلاثة.
يطلب المخرج منّي أن "أطرطق" الإبهام بالأوسط، فينشقّ
الكوكب، كأنّنا في "القيامة". في جوفه الغامض الحزين، جذور الشجرة تتشعّب
وتلتفّ في كلّ مكان حول جثث وأعناق جموع من الغازين السابقين.
أفتح فمي مدهوشاً لروعة الإحساس. الانتصار الافتراضيّ... أهلّل: يعيش
أوتو... يعيش! |