ملفات خاصة

 

>>>

11

12

13

14

<<<

 
 
 
 
 
 
 

سيمياء عماد حمدي التي رسمت تراجيديته!

 

بقلم: هاني نديم*

 
 
 
 
 
 

ثمة أشخاص نتوارث محبتهم من الأهل كما نرث طقم سفرةٍ من الخزف الصيني الفاخر. هكذا ورثت عماد حمدي ومحبته عن أبي وأمي، لم أكن أفكر في تفاصيل هذا الاهتمام الفطري، إلى أن ظهرت لي هوامش عماد حمدي التي أنستني متونه، وجعلتني أحبه لما قدمه لي من دروسٍ بليغة.

فإن كنت أحبه في أبي فوق الشجرة وأتعاطف معه في ميرامار، وأترقبه في ثرثرة فوق النيل، إلا أن سيرته الذاتية شكلت لي كإنسان وصحافي درساً بليغاً محتشداً بالقصص التي تروى.

أناقته الشديدة، صوته، شارباه، نظرته، وسامته الأصيلة، كل هذه العدّة كانت ما كانت إلا ليصنع روايةً هائلة هو اسمها، وهو بطلها والضحية! وهذا يدفعني كصحافي مرة أخرى أن أدعو صنّاع الوثائقيات لصناعة فيلمٍ عن شخصية يجب إعادة قراءتها وتصديرها.

 

بطل عربي بالصلاة على النبي

دون أن نعرف، سنقرأ في شكل عماد حمدي بأنه نشأ في جوٍّ ثقافي، إذ كانت والدته رسامة وتهوى العزف، بينما كان أبوه موظفاً محترماً، ما انعكس انضباطاً هائلاً على عماد حمدي الذي يقول: مثلت 450 فيلماً لكنني لم أتأخر سوى مرتين في حياتي على اللوكيشن لظرف خارج عن إرادتي.

في الأربعينيات كانت السينما المصرية تشهد نهضة هائلة، وكانت كغيرها، مفتونة بالسينما الغربية وأبطالها، فكان على البطل العربي أن يكون في نفس سياق الصورة البصرية "الملونة" من هنا كنا نرى يوسف وهبي وأنور وجدي، ليظهر في نفس العقد البطل المصري الأصيل مثل فريد شوقي، وبالطبع عماد حمدي الذي أسند له دور البطولة في أول فيلم يعرض عليه "السوق السوداء – 1945". شعرٌ أسودٌ مجعد، ونظرات تشي بالأخلاق والصرامة، وصوت من عمق الأرض.. بدأ عماد حمدي بالدخول إلى كل بيت في الوطن العربي بهذه الصفات التي تتبعها بالضرورة أناقة مفرطة وفطرية أيضاً.

 

شادية.. الحب الحقيقي!

في سيمياء عماد حمدي، لا يمكن إغفاله كـ"دونجوان" على الإطلاق، فقد أحبته النساء وأحبها، بل أهدر بقية عمره بين يديها!

تزوج 4 مرات كما يقول المؤرخون، لكن حمدي يقول في مذكراته: عشت تجربة الزواج ثلاث مرات؛ المرة الأولى مع المونولوجست المعروفة فتحية شريف عام 1946 والمرة الثانية مع شادية 1953 والمرة الثالثة مع نادية الجندي عام 1961 وأرجوكم لا تظلموني مرة أخرى قائلين إنني رجل مزواج!

كانت شادية في الرابعة والعشرين وكان هو في ضعف عمرها حينما تحدّت أهلها ومجتمعها وقررت الزواج منه بعد قصة حبّ عاصف نشأت بينهما في "قطار الرحمة" الذي كان تظاهرة فنية لدعم ثورة يونيو، إلا أن سنوات ثلاث كانت كافية لتبدأ الخلافات والانفصال، ولن يكون صفع عماد حمدي لدلع شادية أمام الأصدقاء مستهجناً، بحسب أنساق وسيمياء الشخصية أيضاً، كما لن يكون مستغرباً أن سبب تلك الصفعة هو الغيرة بالطبع، والتي رافقت عماد حمدي كربطة عنقه طيلة حياته. ولكن رغم هذا الانفصال "العقلاني" لن نستهجن بقاء الصداقة والشراكة الفنية بين شادية وعماد، فهما من نسيج واحد. رغم أنه دخل باكتئاب بعد انفصاله عنها وتوقف عن العمل لمدة طويلة.

يقول عماد حمدي: "كان كل شيء هادئاً حتى ظهر ذلك القطار العجيب قطار الرحمة الذي هزني حتى الأعماق وزلزل روحي. عشت صراعاً نشب فجأة في داخلي. صراعٌ بين الزوج الوقور الذي يريد أن يتجنب العواطف التي توشك أن تهب فتقتلع جذور استقرار حياته الزوجية وبين مشاعر الشباب المتأججة التي لا تعترف في معظم الأحيان بالعقل أو المنطق وتندفع هائجة غير عابئة بشيء".

هنا لا بد من ذكر الرسائل المتبادلة التي كتبتها شادية لعماد وعماد لشادية في مجلة “الاثنين والدنيا” التي طلبت من الفنانين أن يكتب "جواباً" للآخر، وكأنها كانت تريد أن تنفي أو تؤكد الشائعات بينهما للجماهير..

جاء في رسالة شادية: "يا عماد أنا قلبي اختارك من بين عشرات ممن طرقوا بابه وحاولوا أن يقتحموه، أما حيثيات الاختيار فهي سر من أسرار عمري لن أبوح به لواحدة حتى لا تخطفك مني. شخصيتك طلعت زي البحر! كنت فاكرة بصراحة إني أعرف عنك حاجات كتير قبل الزواج، لكن بعد الزواج اكتشفت فيك حاجات كتير قوي، عرفت إنك بتحب الناس وبتبالغ بثقتك فيهم، أرجوك خفف ثقتك في الناس وفي حبهم. لأن الناس مش ملائكة زي ما أنت شايفهم.. الثقة في الناس لازم لها حدود وأسباب، وأنت يا عماد لا توفي جسمك حقه من الراحة، لأنك تعمل كثيرًا ولا ينال منك التعب. ولا تنس يا عماد أنك زوج وفنان، وأن عليك أن تضع صفتك كزوج قبل صفتك كفنان، ومعنى هذا أن توفي زوجتك التي هي أنا حقوقها عليك، تخرجان للنزهة وتذهبان في رحلات قصيرة أو طويلة حسبما تسنح الفرص وتسند رأسك وتشكو لزوجك ما بك وتفضي لها بما عندك، فستجد عندها – أقصد عندي – دائما قلبا متفتحا ليبذل لك الحب ويخفف عنك المتاعب. تعال نتعاهد على ألا تفسد الوشاية الرخيصة الثقة المتبادلة بيننا. وتعال نصم الآذان عما يعوق الناس. فالحاسدون يقتلهم غيظا أن يروا موكب السعداء ونحن فيه. هذه يا عماد بعض خواطري أردت أن أبوح بها لك.. فهي نابعة من أعماقي، منبعثة من حبي.. وإليك تحياتي.. ومليون قبلة".

كانت تلك الرسالة شرحاً وافياً وقراءة واسعة لشخصية حمدي البيتوتية والصارمة، عكس شادية المنطلقة لحياتها كطفلة لا تكبر.

وأقتطف من رد عماد حمدي لشادية قوله: "زوجتي شادية.. تعلمين يا شادية أنني كنت أقدرك كفنانة تخلص لعملها، ثم انقلب تقديري لفنك إلى حب لك، لأنني أعرف أن من في طبعها الإخلاص، تتمسك به في كل أمور حياتها.. تخلص كزوجة، وتخلص كأم، وتخلص بأي صفة تختارها لنفسها، وبعد شهور يا شادية تصبحين أماً، وأنت الآن زوجة، وأحسب أن الإخلاص للفن قد يتعارض مع الإخلاص لواجبات الأم. إذ ذاك أشير بأن تبذلي أقصى الجهد للأمومة، وتصرفي أكثر الاهتمام للبيت، فهو جنتنا وعش حبنا، وسعادتنا فيه أضعاف أضعاف سعادة المجد والشهرة! وعليك أيضا أن تقرأي كثيرا.. فالعلم ماء وهواء، ولا تقولي لي في عصبيتك المحبوبة أنا متعلمة، فأنا أعلم هذا، ولكني أعلم أيضا أن العلم بحر واسع المدى، لا تبلغ العين مداه، ولا يسبر العقل غوره!".

 

الدون جوان الذي يكبر وبمبة كشر!

في عام 1960 وخلال تصوير فيلم "زوجة في الشارع" أحب عماد حمدي ناديا الجندي وبينه وبينها 40 عاماً.. ناديا الجندي أحبته بدورها وقالت في وقت لاحق: لقد أحببت نجوميته وأنا فتاة في أول الطريق، لكنه بسبب غيرته لم يدفعني إلى الأمام!..

هذه العلاقة كانت بمثابة القاضية لحياة عماد حمدي حسبما ذكر في مذكراته، حيث قال: أنا الآن لا أمتلك شيئاً حتى الشقة المتواضعة التي أسكن فيها! لقد تركت لنادية الجندي شقة تمليك في الزمالك مكونة من تسع حجرات، كانوا أصلا شقتين ضممناهما لبعضهما لتصبح شقة مجهزة بأفخر الأثاث. وكنت قد أحضرت ورق الحائط وقماش التنجيد من الخارج، ولم أبخل عليها بشيء. وضعت بعد ذلك كل ما معي من مال في فيلم "بمبة كشر" الذي أنتجته لتكون هي بطلته وخرجت من البيت وأنا لا أمتلك شيئاً سوي حقيبة واحدة بها بدلتان. خرجت بلا شيء، لكنها بعد ذلك، لم تتركني أعيش بقية أيامي في هدوء. فكانت تأتي إلي لتتشاجر معي وتلمح بأنها يمكن أن تستولي حتى علي هذه الشقة المتواضعة التي أسكن فيها مع إبني وزوجته وأمه وأولاده! وتلمح إلى أنها يمكن أن تستولي عليها لابنها أقصد ابننا هشام. وكنت أستغرب سائلاً نفسي: ألا يكفيها كل ما تركته له؟".

استمر الزواج 12 عامًا، لكنه انتهى بطريقة مفجعة، وضعت عماد حمدي في قفص الكآبة الأبدي حيث ذكر ابنه "نادر" أن الجندي لم تعه حقه من عائدات الفيلم الذي يعد واحداً من أنجح أفلام السينما المصرية.

يقول عماد: "أخذت حقيبةً ووضعت فيها بعض الملابس ثم تركت بيت الزوجية وعند منتصف الليل كنت أدق جرس باب بيت أخي الذي نظر إلي منزعجاً، وقال: إيه يا عماد فيه إيه؟ فقلت بوجوم: لالا مفيش حاجة! عندما انفصلت عن شادية ظلت الصحف والمجلات تكتب لفترة طويلة وكان انفصالنا حدثٌ هام يستحق الكلام والتعليقات والتأويلات كان انفصالي عنها مفاجأة غير سارة صدمت أغلب الناس، لكن عندما حدث انفصالي عن نادية الجندي لم تكتب الصحف أكثر من خبر موجز عن واقعة الانفصال. وكأن أحداً لم يندهش لما حدث. وكأن تلك النهاية كانت منتظرة، ومتوقعة".

 

ابيضت عيناه من الحزن.. آخر العمر ليس كأوله

بعد موت أخيه التوأم الذي تزامن مع تصوير فيلم "سواق الأتوبيس"، آخر أعمال عماد حمدي على شاشة السينما، دخل عماد حمدي في حالة اكتئاب وظل في داره لمدة 3 سنوات لا يخرج ولا يرى أحداً، حتى وأنه فقد بصره كالأنبياء.. 

يقول في مذكراته: "تفرق الأصدقاء وما عادوا يسألون عني. فمن سيتحمل مريض القلب الذي فقد شبابه وحيوته وضحكاته ولم يعد قادراً على الابتسام. ومن سيتحمل إنساناً يشكو الاكتئاب النفسي؟".

وأوضحت إيريس نظمي كاتبة مذكراته، أنها لم تجد حتى منضدة في شقته لوضع مسجلها عليه من أجل تسجيل مذكراته، وعندما طلبت منه أن يحسن من صورته قليلا من أجل التصوير، أزاح بيده لها، في إشارىة إلى أنه لا يكترث.

على أن أنتهي بهذا، يذكر حمدي في مذكراته إنه تأخر عن موعد التصوير آخر عمره ربع ساعة، وفوجئ بالمخرج المغمور يصيح في وجهه.. لقد بدأ يعي عماد حمدي انحسار الأضواء عنه.. يقول في مذكراته: بعد اعتكافٍ طويل في البيت أرسل لي المخرج حسام الدين مصطفى لكي أعمل معه في فيلم "سونيا والمجنون" لكي أؤدي دور والد سونيا الأب الذي كان ممثلاً معروفاً ثم دارت الأيام ليصبح مهملاً في زوايا النسيان، لا يجد من يذكره ولا من يواسيه، ولا من يحمي ابنته من السقوط، فتضطر لبيع جسدها لكل عابر طريق، تعاطفت مع الممثل الذي كان لامعاً فاصبح منسياً، الذي كان ثريا فأصبح معدما، الممثل الذي كان شاباً وسعيداً فأصبح صديقاً للكآبة والأمراض، لن أنسى كيف كان أولادي في الفيلم يتسابقون علي مساعدتي في ارتداء البدلة الجديدة التي سأعود بها إلى الأضواء مجدداً، في دور جديد أو بمناسبة عودة الأضواء لي في فيلمٍ جديد بعد خصامٍ طويل. لكن سعادتي بالدور تضيع عندما يعتذرون لي فجأة عن أداء الدور، فاخلع بدلتي لأشتري بثمنها زجاجة ويسكي أغرق فيها أحزاني وبحوارٍ رائع مع مانولي الذي يعمل في البار.. تعاطفت جداً مع تلك الشخصية بل وتوحدت معها، وجدت نفسي في تلك الشخصية إنني مثل والد سونيا، كنت مشهوراً وكنت غنياً وكنت ما نولي ثم وجدت نفسي فجأة أعيش على هامش الحياة وفوجئت وأنا أشاهد الفيلم بعد انتهاء التصوير بأن المخرج حذف مشاهداً كاملة وشعرت بأن الشخصية التي أحببتها اختفت وحينما قلت للمخرج لماذا حذفت كل تلك المشاهد؟ جاء رده الصاعق: تضيع الشخصية لكن مستحيل أضيع الأبطال نجلاء فتحي ومحمود ياسين.. في تلك اللحظة بالذات أدركت الحقيقة الغائبة عني، إني لم أعد نجماً ولا ممثلاً أول. أصبحت مجرد ممثل".

 
 

* شاعر وصحفي سوري

 
 
 
 
 
 
 

خاص بـ «سينماتك» في

 

01.08.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004