ملفات خاصة

 
 
 

«مهرجان كان» يطوي أسبوعه الأول بأفلام عن الذاكرة والأحاسيس والنفس البشرية: يوغوس لانثيموس يشرّح علاقات السلطة... ونبيل عيّوش يبحث عن «تودا» في بارات المغرب

شفيق طبارة

كان السينمائي الدولي

السابع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

انقضى الأسبوع الأول من «مهرجان كان السينمائي الدولي» بدورته الـ 77 المحمّلة بالأسماء الكبيرة. هذا الأسبوع شهد محطّات بارزة مع اليوناني يورغوس لانثيموس بعوالمه الغرائبية وحفرياته «المزعجة» في النفس البشرية، فيما قدّم بول شريدر فيلماً صعباً ومعقّداً وعاطفياً، يحتوي على عناصر يمكن اعتبارها سيرة ذاتية. وأخيراً، جاء نبيل عيّوش ليقدّم قصّة امرأة في المغرب تحلم بأن تكون «شيخة» تقدّم فن «العيطة» المغربية ويواكب مكابداتها وجهودها للتحرّر، إلا أنّه وقع في الكثير من الأفخاخ!

◄ يورغوس لانثيموس ليس «لطيفاً» البتّة

كان | بعد نصف عام تقريباً على احتفال العالم بفيلم «كائنات مسكينة» (2023) في «مهرجان البندقية السينمائي» الأخير، وحصوله على «الأسد الذهبي»، حطّ يورغوس لانثيموس («ناب الكلب»/ 2009، «جراد البحر»/ 2015، «قتل الغزال المقدس»/ 2017، «المفضلة»/ 2018) رحاله في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان كان السينمائي الدولي»، بفيلمه «أنواع من اللطف». اختار المخرج اليوناني العودة إلى هواجسه الشخصية: العلاقات السادية المازوشية، وتعقيد العلاقات الزوجية، والحياة الموازية. في «أنواع من اللطف»، هناك قضايا مثل الإرادة الحرة، والهوية والإيمان. ثلاث قصص تلخّص تقريباً جميع أعمال لانثيموس، وجميع الاضطرابات بطريقة فوضوية ومزعجة في جوهرها، وممتعة جداً في طرحها. إنها السينما المصمّمة على بناء عالم تبدو فيه معاني الأشياء والعواطف مشرّدة تماماً، لكنّ الشخصيات تتفاعل مع محيطها بوعي وجدية شديدة. كل ما يحدث في «أنواع من اللطف»، مهما كان جنونياً وقاسياً وغريباً ومنحرفاً، لا يمكن إلا التفاعل معه وحتى قبوله بل أكثر من ذلك الاستمتاع به، والخروج منه في حالة من عدم الاستقرار الفكري والحسي.

في قصص «أنواع من اللطف»، هناك قسوة وسخرية وفكاهة تتناغم، وشخصيات تعاني من اليأس، بعيداً كلياً من أي سجل عاطفي. لا يوجد طريقة للتعريف بالشخصيات أو حتى القصص، إن المخلوقات التي تتدفق عبر الحلقات أو القصص الثلاث في الفيلم، تلعب دورها دائماً المجموعة نفسها من الممثلين والممثلات (إيما ستون، ويليام دافو، جيسي بليمونز، هونغ تشاو، مارغريت كوالي) وتمثل رموزاً أحادية البُعد للألم البشري. إذاً، لدينا ثلاث قصص (غير قصيرة، إذ يبلغ تقريباً كل واحدة منها 55 دقيقة)، مختلفة لكنها مرتبطة بطريقة غريبة وغير مفهومة. القصة الأولى تحمل عنوان «موت RMF»، حيث علاقات السلطة والخضوع، تتمثّل في رجل مستسلم لأهواء رئيسه أو «إلهه»، الذي يطبع حياته بطريقة سخيفة. القصة الثانية بعنوان «RMF يحلق» حيث تبدأ لعبة الصورة الرمزية عبر ضابط شرطة يشتاق إلى زوجته المفقودة. وعندما تعود، يزداد كل شيء غموضاً. والثالثة «RFM يأكل الساندويتش» حيث الاستفزازات غير المبررة، تتناول طائفة دينية معينة وامرأة تبحث عمّن لديه القدرة على إحياء الموتى.

مع لمسات من المأساة اليونانية، وخرافات تضيف إلى الواقع عنصراً أسطورياً أو بائساً أو باروكياً، يضع لانثيموس إصبعه على الجرح، ويقدم في «أنواع من اللطف» اعتلالاً اجتماعياً يقوم عبره بتشريح مجتمع محكوم عليه بالفشل. في الفيلم، أفكار ملموسة تزدهر عبر التعذيب الملتوي للشخصيات، وتشكّل فيلماً روائياً، فيه ما يكفي لرسم موضوع كبير، قد لا يكون مفهوماً لكن وجهة نظره واضحة. في ثلاث ساعات قادرة على خنق أي شخص، يقدم اليوناني كل الجنس المرح، والعنف الجنوني، والسخرية، والسوائل البشرية، وأكلة لحوم البشر. في كل قصة، يرتدي أبطالها أقنعة جديدة تكشف ما يمكن أن يخفوه، ويعانون جميعاً من عواقب كونهم دمية فارغة في أيدي من هم أقوى منهم.

أصبح لانثيموس أحد أهم المخرجين الأوروبيين واليونانيين تحديداً، لكن عكس زملائه، استغلّ شهرته ليغزو هوليوود، من دون التخلّي عن نفسه، وليكون أكثر استفزازاً وضد التيار الهوليوودي المعتاد. في «أنواع من اللطف»، كان لانثيموس أكثر هدوءاً من المعتاد، واستخدم اللقطات ذات الزاوية الواسعة وعمق المجال من دون المبالغة في ذلك. ومن ناحية أخرى، أطلق العنان لكل هواجسه، وتلاعب بنا وابتزّنا وهيمن علينا وعلى شخصياته.

«أنواع من اللطف»، فيلم كبير، مخلص تماماً لروح مخرجه، غريب أكثر من اللازم ربما، لكنه مفاجئ، مرح، لا يمكنك التغاضي عنه، ولا حتى تجاهله. فيلم يأكلك ويمضغك ثم يتركك في حالة غير مفهومة. في «أنواع من اللطف»، تتألق نية لانثيموس العظيمة، وهي إذا كانت لديك فكرة مظلمة، استخدمها وحوّلها إلى فيلم من دون الانتظار حتى تتّضح.

◄ وصيّة بول شريدر

بعد ثلاثية العنف والتسامح «أول إصلاح» (2017)، و«عدّاد الورق» (2021)، و«السيد البستاني» (2022)، يقدم كاتب فيلم «سائق التاكسي» (1976)، الكبير بول شريدر (1946) فيلمه «أوه، كندا» في المسابقة الرسمية لـ «مهرجان كان». شريط قد يكون الأكثر شخصية في عمر ناهز السابعة والسبعين عاماً. استناداً إلى رواية بالاسم نفسه للكاتب الأميركي المتوفى حديثاً راسل بانكس (1940 – 2023)، يقدم شريدر فيلماً صعباً ومعقّداً وعاطفياً، يحتوي على عناصر يمكن اعتبارها سيرة ذاتية. يختلف فيلم شريدر الجديد عن معظم أفلامه، إذ يبتعد عن الأبطال المتدينين والمعذبين، ليقدم شهادة سينمائية شاعرية لموت فنان وهشاشة الذاكرة. فيلم كأنه وصية ذو نكهة قديمة وصناعة دقيقة وقلب رقيق يحتضر، حول اعتراف غير محتمل عن الحياة، وبمثابة تمزيق أسطورة الذات. «أوه، كندا» حزين كما هو، ذو صلة بالحالة البشرية والوجود والإرث والفن. سلسلة طويلة من الأفراح الصغيرة، والآلام، والحب، وتجارب رجل يحب الفن والثقافة، ويتذكّر حياته وأحباءه وخياناته وملذّاته ومعاناته.

الفيلم هو عن اللحظات الأخيرة لليونارد فايف (ريتشادر غير)، مخرج أفلام وثائقي، عارض حرب فيتنام والمؤسسات السياسية والعسكرية، وهرب من الولايات المتحدة إلى كندا. فايف مخرج أفلام سعى عبر عمله إلى كشف حقيقة المجتمع الذي يجد نفسه فيه. يوافق فايف على طلب طالبيه السابقين مالكوم (مالكوم إمبريولي) زوجته ديانا (فيكتوريا هيل)، بتصوير فيلم وثائقي عنه. يُصوَّر الفيلم باستخدام كاميرا ابتكرها فايف بنفسه وحصل على براءة اختراعها، وهي كاميرا الاعتراف، إذ يتفاعل من هو أمام الكاميرا مع من هو خلفها، بطريقة فرويدية. لا يريد فايف، أن يكون مالكون خلف الكاميرا، بل زوجته وشريكة حياته إيما (أوما ثورمان)، التي بسببها وافق على الوثائقي الذي سوف يحكي فيه عن نفسه وحياته وأسراره.
«
أوه، كندا»، عمل عن السينما كوسيلة غير مكتملة لكشف الحقيقة، ونقاش حول الأكاذيب التي نقولها لأنفسنا وللآخرين، أي سيرة ذاتية مزيّفة. فايف (ريتشارد غير مثير للإعجاب في الفيلم)، يتحدث عن أطفاله الذين هجّرهم، والأحبّاء الذين تركهم، وعن حياتك عندما تكون على حافة الموت. هو مريض جداً ومشوّش، يعاني مشكلات خطيرة في الذاكرة، وهذا يعني أنه سوف يذهب ويعود بكلامه وذكرياته التي ستكون مؤقتة ومربكة ومتناقضة ومتكررة. يُنظَّم الفيلم بهذه الطريقة، إذ يتنقل ذهاباً وإياباً في الزمن والأشكال، ويعود باستمرار إلى حالة المقابلة نفسها، وغالباً ما يضع المشاهد في المنطقة العقلية الهشّة التي يتحرك فيها بطل الرواية
.

في ثلاث ساعات قادرة على خنق أي شخص، يقدم يورغوس لانثيموس كل الجنس المرح، والعنف الجنوني، والسخرية، والسوائل البشرية، وأكلة لحوم البشر

وللحفاظ على تصوّر فايف للوقت، يزيد شريدر إرباك المشاهد ويستخدم الشاشة ويعرضها ويصغرها ويبدل عدسات التصوير وحتى الألوان، ويجعل السرد مربكاً وغير مركّز، بالطريقة نفسها التي يرى فيها فايف العالم. كل هذا التشتّت الشكلي والكلامي والإيمائي في رسم الشخصية والفيلم يثقل الإيقاع، لكن مرة أخرى، لا ينوي شريدر الخضوع للاحتياجات العامة للمشاهد، فهو عاش الحياة وحاربها وعاش السينما ويرويها عبر الطريقة التي يراها فيها.

هناك متعة متلصّصة يقدمها لنا شريدر في الفيلم وفي الطريقة التي يقدم فيها شخصياته، ويبني فيلمه. فهو يومئ برأسه إلى كلاسيكياته، ويحافظ على تماسك أعماله العصرية. ما ينقله شريدر بشكل مثالي، ويغمر فيلمه به هو الهشاشة الجسدية والعقلية لبطله، ولا يهتم بالسيرة الذاتية بل بأسئلة العالم حول صراع الذكريات وفقدان القدرة على ربط الأحداث. «أوه، كندا»، هو فيلم عن الأمتار الأخيرة الجسدية والعقلية في الحياة. ترجم شريدر ذلك على الشاشة بطريقة معقّدة بعض الشيء، لكن متماسكة، ليقول لنا بأنّ كل شيء يمكن أن يتحطّم بمجرّد فقدان ذكرياتنا.

◄ نبيل عيوش أتخمنا بالكليشيهات

يبدأ فيلم نبيل عيوش الجديد «الجميع يحب تودا»، المشارك في «مهرجان كان» بتعريفنا بتاريخ الشيخات، وفن «العيطة» المغربية. العيطة باللهجة المغربية تعني النداء، وكانت لغة تواصل مشفّرة اعتمدها المقاومون أيام الاستعمار ولمناهضة الظلم والقهر إلى جانب الحبّ، وغنّت الشيخات أشهر أشعارها المتحرّرة. تطوّر هذا الفن وحفظه الناس، وغنّته الشيخات في الأفراح والاحتفالات حتى اليوم. تودا (نسرين الراضي)، تحلم بأن تكون شيخة، فهي ليست أكثر من مغنية مغربية تقليدية تغني من دون خجل عن الحب وتحرّر المرأة، وتؤدي كل ليلة عروضها في حانات بلدتها الريفية، وتجذب أعين النساء وتسحر الرجال. ولكن تعرّضها الدائم لسوء المعاملة والإذلال، يجعلها تريد ترك كل شيء وتسافر إلى الدار البيضاء لتسعى وراء النجومية، ولتوفير مستقبل أفضل لابنها الأصم.

افتتح عيوش فيلمه بمشهد قوي، عالي الكثافة، ثم عرّج على الميلودراما الكلاسيكية، لقصة تحرّر امرأة في المغرب، الذي شاهدنا منها الكثير، وهي بحدّ ذاتها فكرة هشّة ومحفوفة بالمخاطر، فوقع عيوش في أفخاخها، وتسارع في السرد بشكل غريب، ليفقد الفيلم زخمه، وتتكرّر مشاهده، ليصل إلى نهاية غير مرضية. امتلأ فيلم عيوش بالأغاني والموسيقى وبتودا التي تؤدي أغانيها، كأنه ليس لديه الكثير ليقدمه، أو كأنه لا يعرف إلى أين يأخذ فيلمه. وعادة ما تدفع مثل هذه الأفلام الثمن في نهايتها، عندما لا تستطيع ربط الحبكة بشكل مرض، فبدا الفيلم كأنه حكي على عجل، وبنهاية أقل ما يُقال عنها بأنّها لا تقول أي شيء.

يعود نبيل عيّوش إلى فنّ العيطة الذي كان لغة تواصل مشفّرة اعتمدها المقاومون في زمن الاستعمار

عبر الألوان، والبارات المغربية، والبيرة والموسيقى والأغاني والرقص، خلق عيوش قصة تخفي واقعاً قبيحاً، قدم فيه تصوراً واقعياً (كما في أفلامه القديمة) للمشكلات الاجتماعية المغربية، وخصوصاً ما يتعلّق بالنساء. لكن لم يكن لدى عيوش أي عمق ليقدمه لنا، فأصبح الفيلم غير مبال وتعسفياً، وأفقدنا الاهتمام، حتى جعلنا نشعر بالملل في بعض أوقاته. أتخم عيوش فيلمه بالكليشيهات، والميلودراما التي لا داعي لها، فأصبح فيلمه بمثابة قصة لا معنى لها. لا يتعمق أبداً في الحدود الأخلاقية والاجتماعية في بلده، وبسبب جدية طرحه، لا يدرك المخرج أو لا يريد أن يدرك أن فيلمه يسير على خط السخافة المفرطة، إلى درجة أنّ بعض المشاهد المغالية في الجدية، تنتهي لتصبح فكاهية!

«الجميع يحب تودا» يدّعي أنه معركة ضد الأعراف والتقاليد، ولكنه يقدّمها بكثير من الكآبة، التي لا توفر الكثير من الأمل. في النهاية، يصبح الفيلم نفسه عبئاً على المخرج وعلينا، غير مريح وثقيلاً بعض الشيء. كل ما أراد قوله عيوش جاء بلا حميمية، ليصبح مجرد صورة لامرأة عزباء عازمة على تغيير حياتها. أجمل وأهم ما في فيلم عيوش هي، تودا نفسها، إذ أبهرتنا نسرين راضي بأدائها وصرّتها وعيونها وجمالها، كانت كل شيء في الفيلم، وغالباً هي التي أنقذت عيوش من مزيد من الأفخاخ.

 

الأخبار اللبنانية في

20.05.2024

 
 
 
 
 

"البحر البعيد" في "كانّ 2024":

يوميات سينمائية حادّة لمهاجر مغربي

كان/ سعيد المزواري

يبدأ "البحر البعيد" بلقطةٍ جميلة لمياه بحر تشقّها باخرة تبتعد عن الشاطئ، بينما ينظر نور بتدبّر نحو ضفة تبتعد شيئاً فشيئاً. نور شاب مغربي عشريني، مهاجر "غير شرعي" في فرنسا، في الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج والمنتج المغربي سعيد حميش بن العربي، المُشارك في النسخة الـ63 لـ"أسبوع النقاد" (قسم "عروض خاصة")، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ".

شخصيات أخرى تدور في فلك نور الدين (أيوب كريطع)، مانحة الفيلم طابعاً كورالياً جذّاباً وملحمياً. وفياً لوصية ألفرد هيتشكوك باستحسان البدء بالكليشيه، بدل الانتهاء به، يظهر نور الدين، في المشاهد الأولى التي تدور أحداثها عام 1990، رفقة خليلته الفرنسية وصديقَيه وخليلة أحدهما الجزائريين، ينفّذون عمليات سرقة بالسلاح، ويسهرون ليبدّدوا كلّ ما سرقوه ليلاً في الشرب والرقص على موسيقى الراي، ثم يمتهنون بيع الملابس والساعات نهاراً، في الأسواق الشعبية في مارسيليا.

الأمور تتعقّد حين يُقبَض عليهم من دون أوراق إقامة، فيتظاهرون بأنّهم برتغاليون. لكنّ نور يدفع الثمن، حين يحرق ضابط الشرطة سيرج (غريغوار كولان) جواز سفره، بعد ملاسنة معه في مشهد قوي، يقبض على قسوة كلبية وكامنة يبديها ضابط الشرطة بعيداً عن المعتاد، من شتمٍ وصفع. هذا اللقاء، الذي يُظنّ أنّه ينتهي هنا، يحمل في الثلث الثاني من الفيلم تطوّرات مليئة بمصادفات ميلودرامية، تعطي الفيلم طابعاً فصلياً وعمقاً روائياً، إذْ ينبري كلّ جزء منه لقصة نور عام 1992، ثم سيرج عام 1994، فزوجة الأخير عام 1996، قبل الفصل الختامي عام 1998.

مثلّث حبّ وكراهية غير اعتيادي، برع سعيد حميش في اللعب على أضلاعه بناقوس تحكّم درامي كبير، وحوار لافت بدقّته ورهافته، ليعكس بفضله نصّاً خبيئاً يقول الكثير عن علاقة الجاذبية والنفور التي تجمع المهاجرين المغاربيّين في فرنسا، لعلّ أبرز تعبير عنها مشهدٌ يسأل فيه نور الضابطَ سيرج: "لماذا تساعدني؟"، فيجيب: "لا أعرف".

يوجّه "البحر البعيد" نقداً لاذعاً لثقافة العنصرية، الكامنة في فرنسا (حتّى لدى الإيطاليين من عائلة سيرج)، والنظرة التحقيرية للعرب، بالهمس والغمز. لكنّه لا يستثني المهاجرين أيضاً من نقده اللاذع، حين يوضح نزعتهم إلى تمضية الوقت مع خليلاتهم والتظاهر بحبّهم، قبل أنْ يبحثوا عن نساء أخريات للزواج بهنّ. بل إنّ نقد تصرّفات العرب يصدر عن نور نفسه في لحظات ضعفه، على غرار اللقطات المؤثّرة التي يتحدّث فيها هاتفياً مع أمّه، في عزّ الصعوبات التي يعيشها. لكنّها، بدل مواساته، تلومه بناءً على ما تتناقله الألسنة عن تصرّفاته في فرنسا. تظلّ الأم خارج الحقل، إلى الفصل ما قبل الأخير (ليس أفضل أقسام الفيلم)، حين يعود نور إلى المغرب، ويواجه ماضيه.

من نقاط قوّة العمل استعمال موسيقى الراي لغرض مزدوج: ترسيخ مشاعر الفرح والغضب والخيبة والحزن بألحان شجيّة وأصوات مسكونة، خاصةً أنّ اختيار عدم وضع ترجمة للكلمات عزّز من فكرة أنّ الأغاني نفسها ترجمةٌ لصرخات الشخصيات المغاربية ونظراتها ودموعها بلغة الأحاسيس التي لا تضاهيها لغة في قوّة التأثير والنفاذ إلى مكنون النَفس البشرية، لتغدو ملجأهم في منفاهم، كمثل ما يشكّله البلوز للأفروأميركيين، والتانغو للأرجنتينيين. الغرض الثاني (ليس أقلّ أهمية) إحالة إلى أنّ المغاربة والجزائريين يغدون لحمة واحدة في مواجهة الصعوبات، والرقص على موسيقى الراي، خاصةً أنّ نور الدين يتحدّر من "وجدة"، في إشارة إلى مناطق التلامس، حيث ينتفي أي معنى للحدود الجمركية، فيتجلّى المشترك في الموسيقى واللغة والثقافة. لفتةٌ إنسانية رائعة، توضح وظيفة الفنان الحقيقي في البحث عن المشترك، في زمن يقرع فيه آخرون طبول الحرب.

يدين "البحر البعيد" بالكثير إلى لحظات الهزل التي تتخلّله، لتخلق توازناً بين الحلو والمرّ. بل لتقطّر ضحكاً حتى الدموع بين أصدقاء ـ على غرار "كم أحببنا بعضنا البعض" (1974) لإيتوري سكولا ـ من رحم المتاعب، كمشهد اجتماعهم لخِطبة شابّة للكهل حسن، الذي يحضر الموعد ثملاً (تفادياً للضغط النفسي)، فيفشل مسعاهم. هذا يبدو كأنّه طرف نقيض للمشاهد المؤثرة، التي نرى فيها حسن يشقّ حقول العنب وحيداً ومؤطّراً من الظهر، كنايةً عن المشقّة والجهد المبذول في عمل جاحد.

في القسم الأخير، ينسج المخرج وكاتب السيناريو سعيد حميش، ربما لأول مرة في السينما بعد "علي: الخوف يأكل الروح" (1974) لراينر فيرنر فاسبندر، قصة حبّ حقيقية بين مهاجر مغربي وساكنة أصلية، بشكل يقطع مع قصص الزواج للحصول على أوراق الإقامة، أو للإشباع الجنسي. لكنّ هذه العلاقة تسقط سريعاً في امتحان التصوّرات الجماعية، المُغرقة في العنصرية والأحكام الجاهزة من الجانبين.

اللافت للانتباه أيضاً أنّ "البحر البعيد" يبدو كأنّه دمجٌ خلّاق لشكل الفيلمين السابقين لمخرجه: الطويل "عودة إلى بولين" (2018)، من ناحية مواجهة أسئلة ماضٍ مرير، بالعودة إلى مكان الترعرع والانكباب على العنصرية الكامنة في المجتمع؛ والقصير "الرحيل" (2021)، بموضوع التمزّق والامتداد في الزمن، عبر التركيز على أحداثٍ طبعت الثقافة الشعبية (إخفاق هشام الكروج في تحقيق "الذهب" بأولمبياد سيدني عام 2000)، التي تجلّت في "البحر البعيد" في اغتيال مطرب الراي الشاب حسني على أيدي إسلاميين متطرّفين، أو الشغف بفريق "أولمبيك مارسيليا".

اقترب "البحر البعيد" من شرط إنساني مُعقّد للمهاجرين المغاربيين في فرنسا. تكثيف ميلودرامي، ونَفَس روائي، وشخصيات جذّابة، نجح في أدائها ممثلون بارعون، أبرزهم أيوب كريطع، من وجهة نظر صادقة لا تشوبها غرائبية أو بكائية. أمّا المؤكّد فكامنٌ في أنّ موهبة سعيد حميش تعد برؤيةٍ من الفئة التي تعيد تناول الثيمة نفسها من وجهات نظر عدّة، وأشكال متجدّدة وطموحة.

 

العربي الجديد اللندنية في

20.05.2024

 
 
 
 
 

النظام الإيراني والسينما: عداوة بلا حدود

بشير البكر

قبل يوم من افتتاح مهرجان "كان" السينمائي في الرابع عشر من الشهر الحالي، تمكن المخرج السينمائي الإيراني المعروف محمد رسولوف، من الهرب من إيران. وقال في بيان "كان يتعين عليّ أن أختار بين السجن ومغادرة إيران". وكشف أن السلطات ساومته على سحب فيلمه الجديد "بذرة التين المقدس" من الدورة الحالية في المهرجان. لكن ذلك لن يعفيه من تنفيذ القرار بتأييد الحكم ضده بالجَلد والسجن لثمانية أعوام. وتبين من الضجة المثارة حول هروب السينمائي، الذي صادرت سلطات بلده جواز سفره منذ العام 2017، أنه يحظى بتقدير كونه أحد المخرجين الذين يخوضون معركة مع الرقابة والدفاع عن حرية التعبير، وأنه واصل العمل في ظل ظروف صعبة، وفاز العام 2020 بالجائزة الكبرى لمهرجان برلين السينمائي عن فيلم "لا يوجد شر".

ما تعرض له رسولوف يلخص جانباً من معركة بين صناع السينما والنظام في إيران. ثمة عداوة بين الحكام وأهل السينما في هذا البلد. تبدو العلاقة معقدة، لا يمكن تفسيرها بمقال سريع، بل تحتاج إلى دراسة نفسية، لأن الحالة تبدو وكأنها تتجاوز في بعدها تأثير السينما في الناس، والدور النقدي الذي تلعبه على المستويين السياسي والاجتماعي. ومع عدم إنكار أهمية ودور هذين العاملين، فهناك محرك خفي لكراهية رجال الدين للسينما، غير ظاهر، لا يمكن تلخيصه في التحريم الديني، ومن المؤكد أن تصوير السينما لهم على نحو سلبي يشكل أحد الأسباب، لكنه ليس الوحيد.

في العام 2022، كان المخرج جعفر بناهي، واحداً من بين ثلاثة مخرجين تم إلقاء القبض عليهم في طهران، في أقل من أسبوع، لتنفيذ حكم بالسجن لمدة 6 أعوام، صدر في العام 2010 حين دِينَ بتهمة "الدعاية ضد النظام"، وأمضى في السجن حوالى سبعة أشهر، وأُفرج عنه في شباط 2023، بعد إضرابه عن الطعام، وحملة دولية كبيرة من أجل إطلاق سراحه، هو الحائز على جائزة "الأسد الذهبي" في مهرجان البندقية 2000 عن فيلمه "الدائرة"، وفي العام 2015، نال جائزة "الدب الذهبي" في برلين عن فيلم "تاكسي طهران"، وفي العام 2018 فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان "كان" عن فيلم "ثلاثة وجوه".

وفي العام نفسه، منعت السلطات الإيرانية عرض فيلم "إخوة ليلى" في الصالات، واعتبرت مشاركته في مهرجاني "كان" و"ميونيخ" خرقاً للقواعد. وقال وزير الثقافة الإيراني، محمد مهدي إسماعيلي، إن سبب ذلك قيام بعض الوجوه السينمائية المعروفة بـ"الترويج لصورة سوداوية" عن إيران في المهرجانات الخارجية. وعليه قضت محكمة في طهران بحبس المخرج الشهير سعيد روستايي، ومنتجه جواد نوروز بيكي، ستة أشهر، بسبب عرض فيلمه في مهرجان "كان" السينمائي، حيث نال جائزة الاتحاد الدولي للنقّاد، ودانتهما المحكمة بـ"المساهمة في دعاية المعارضة ضد النظام الإسلامي" في إيران.

من غير المفهوم سبب منع عرض فيلم يتحدث عن عائلة فقيرة على وشك التفكك، في إيران الغارقة في أزمة اقتصادية كبرى، تحت مبرر أنه "خرق القواعد" عبر المشاركة من دون إذن في مهرجان كان، ومن ثم ميونيخ، كما أنه ليس الفيلم الوحيد الذي عرض في ذلك المهرجان، وأزعج السلطات الإيرانية. ففيلم "عنكبوت مقدس" واجه انتقادات أكثر حدة، إذ اعتبرت أوساط إيرانية أنه "يهين" المقدسات الإسلامية لدى الطائفة الشيعية، واتهمته منظمة السينما الإيرانية بأنه "نتاج ذهن منحرف لدنماركي من أصل إيراني"، في إشارة إلى مخرجه الدنماركي الإيراني علي عباسي. وتبدو الاتهامات الرسمية واهية، كون الفيلم يستوحي أحداثه من قصة حقيقيّة شهدتها إيران قبل أكثر من عشرين عاماً في مدينة مشهد، حيث كان القاتل سعيد حنائي، المعروف بـ"العنكبوت"، يلاحق عاملات الجنس بدراجته النارية، أو بسيارته، وقتل 16 منهن، وقال قبل إعدامه العام 2002، أثناء جلسات المحاكمة، إنه قتلهن لأنهن كن "زانيات عاهرات".

وكما هو واضح، هناك منع يتكرر لأفلام سينمائية، واعتقالات وأحكام بالسجن ضد مخرجين. ولم يقتصر الأمر على فيلم واحد، أو مخرج بعينه، ليس هناك مخرج بالتحديد تناصبه السلطات العداء، أو فيلم واحد، بل تحول الأمر إلى ظاهرة تشمل السينما ككل. وقد أعطى ذلك نتائج عكسية، كما هو الحال لدى منع أي عمل فني، فإنه يحظى بشهرة أكبر في وسائل الإعلام، ويثير فضول قطاع من الجمهور من أجل مشاهدته، كما أنه يحرض مخرجين آخرين على خوض هذه التجربة، التي صارت واحدة من خصوصيات السينما الإيرانية، وساهمت في تشكيل نظرة جمهور السينما العالمي لها، فبات من المسلّم به أن السينما في إيران في الموقع المعادي للنظام.

ومن دون شك هناك مخرجون على مسافة من السلطة ولهم مواقف نقدية منها، لكن ذلك لا يعني أنهم مناضلون سياسيون مباشرون، أو أنهم يترجمون مواقفهم السياسية في السينما. بل إن المسألة أعقد من ذلك بكثير، وتتخطى هذه المباشرة في عرض المسألة، وهي ذات طابع لا يمكن شرحها في مقال عابر، لأن ما تقوم به السينما ليس لعبة سياسية مبنية على معادلات رياضية ميكانيكية، وإلا لكانت السلطات وجدت لها حلاً من خلال القمع المنهجي الذي تقوم به لكل أشكال الاحتجاج، وصارت تمتلك خبرة مهمة في ذلك، لكنها لا تزال عاجزة عن منع مجموعة من المخرجين عن مواصلة الإبداع.

في مقابل ذلك هناك حضور مهم للسينما في إيران، عبرت عنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة، الموجة الكبيرة من المخرجين الذين تميزوا على مستوى عالمي، وبات لهم موقع شبه محجوز في المهرجانات السينمائية الدولية، وذلك بفضل جودة الأعمال التي قدموها، وهي تحقق نجاحاً ملفتاً في الشكل والمضمون، مما أهّل العديد من الأفلام لحصد جوائز في مهرجانات دولية مرموقة مثل كان والبندقية وبرلين، ونخص بالذكر جعفر بناهي، سعيد روستايي، علي عباسي، محمد رسولوف، وغيرهم.

 

المدن الإلكترونية في

20.05.2024

 
 
 
 
 

عبر مبادرة "المرأة في السينما" على هامش مهرجان كان

مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ومجلة فانيتي فير يحتفيان بالمرأة

شيماء صافي

إيلاف من كانجدد مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي تعاونه مع مجلة فانيتي فير-أوروبا باستضافته لمبادرة "المرأة في السينما" التي أقيمت على هامش الدورة الـ77 من مهرجان كان السينمائي في فندق دو كاب-إيدن-روك الخلاب في مدينة كاب دي أنتيب الواقعة في الريفييرا الفرنسية.

وكرّم كل من مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي ومجلة فانيتي فير-أوروبا ست نساء فريدات أعدن تعريف ما يمكن تحقيقه للأجيال النسائية القادمة، ورسمن آفاق واعدة لإلهام المواهب النسائية حول العالم.

يأتي حفل "المرأة في السينما" ضمن مساعي مؤسسة البحر الأحمر السينمائي للاحتفاء بالأصوات النسائية الصاعدة في صناعة السينما وتسليط الضوء على إنجازاتهن، أمام الكاميرا وخلفها، واستعراض مجهوداتهن المبذولة في تشكيل صناعة السينما وإلهام الجيل الجديد من المواهب في المملكة العربية السعودية وأفريقيا وآسيا والعالم العربي.

قائمة المكرمات

تتضمن قائمة المكرمات لهذه النسخة من حفل "المرأة في السينما" الممثلة السعودية المتميزة سلمى أبو ضيف، التي خاضت أولى تجاربها السينمائية في عام 2017 عبر دورها في فيلم "شيخ جاكسون" الذي مثّل مصر في سباق جوائز الأوسكار عن فئة أفضل فيلم بلغة أجنبية للعام 2018، وأدت دور البطولة في الفيلم القصير "لا يهمني إن انهار العالم" بجانب مشاركتها في الدورة الـ48 لمهرجان كليفلاند السينمائي الدولي.

وتضمنت القائمة كاتبة السيناريو الشهيرة "راماتا تولاي سي" التي استهلت مسيرتها الفنية بالمشاركة في فيلم "سبيل" من إخراج تشاغلا زنجيرجي وغيوم جيوفانيتي، وكتبت فيما بعد فيلم "نوتردام دو نيل" للمخرج عتيق رحيمي الذي حصد جائزة الدب الكريستالي في مهرجان برلين السينمائي، وتمكن فيلمها الروائي الأول "بانيل وآدما" من تأمين مقعدٍ في مهرجان كان السينمائي لعام 2023.

احتفى الحفل كذلك بالممثلة السعودية الموهوبة أضوى فهد، التي شاركت في الفيلم السعودي الفائز بجائزتين في الدورة الـ42 لمهرجان القاهرة السينمائي، فيلم "حد الطار"، بجانب مشاركتها في فيلم "بين الرمال" الذي عرض خلال الدورة الثانية لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي. تبذل أضوى جهودًا حثيثة لتترك بصمتها على الساحة السينمائي في المملكة العربية السعودية.

أسيل عمران تلفت الأنظار

لفتت الممثلة والمغنية السعودية أسيل عمران الأنظار في عالم الموسيقى وعالم صناعة الأفلام على حد سواء، شاركت من العام 2009 في العديد من المسلسلات التلفزيونية من أبرزها: مسلسل قابل للكسر، مسلسل غرابيب سود، مسلسل هارون الرشيد، مسلسل أكون أو لا.

وبجانب هذه الإسهامات التلفزيونية، تعاونت أسيل عمران في عام 2016 مع الفنان الموسيقي "ريدوان" في أغنية " Don't You Need Somebody" بمشاركة كوكبة من النجوم، إنريكيه إغليسياس، شاغي، جينيفر لوبيز، وغيرهم. كما تعاونت مع المغني الأميركي جيسون ديرولو في النسخة العربية لأغنية كوكاكولا الرسمية لكأس العالم لكرة القدم 2018.

تكريمات
وشهد الحفل تكريم الممثلة الهندية اللامعة "كيارا أدفاني" الاسم الرائج في السينما الهندية، التي شاركت في سبعة أفلام سينمائية تمكنت من اكتساح شبّاك التذاكر في كل مرة، ولديها اليوم قائمة من الأعمال السينمائية المرتقبة، مثل فيلم "Game Changer" و" War 2"، "Don 3".

وكرمت النجمة التايلاندية المحبوبة "ساروتشا تشانكيمها" والشهيرة بـ"فرين" التي حققت نجاحًا غير مسبوق إزاء أدوارها السينمائية والتلفزيونية المؤثرة، لا سيما دورها في الكوميديا الرومانسية التايلاندية الشهيرة، مسلسل "Gap".

وخلال أمسية "المرأة في السينما" استضاف كل من رئيسة مجلس أمناء مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، جمانا الراشد، والرئيس التنفيذي لمؤسسة البحر الأحمر السينمائي، محمد التركي، والمديرة التنفيذية لمؤسسة البحر الأحمر السينمائي، شيفاني بانديا مالهوترا؛ عددّا من الأسماء والمواهب اللامعة في عالم السينما، والتلفزيون والموضة، من أبرزها: أوما ثورمان، والفنانة المصرية يسرا، والممثل الأميركي ريتشارد جير، والمخرجة السينمائية أسماء المدير، والممثلة ناتالي إيمانويل، والنجم الفرنسي فانسن كاسل، والممثل الأمريكي الشهير جيمس فرانكو، والنجمة لوسي هيل، بالإضافة إلى: إكرام عبدي، روزي هنتنغتون-وايتلي، كارلا بروني، أليكسا تشونغ، روسي دي بالما، إيمي جاكسون، لوكاس برافو، ناعومي كامبل وميشيل رودريغيز.

وبهذه المناسبة، علقت رئيسة مجلس أمناء مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، جمانا الراشد: "في مؤسسة البحر الأحمر السينمائي، لا تقتصر مبادرة المرأة في السينما على أمسية واحدة فحسب، بل تعد حجر أساس في رؤيتنا وأهدافنا الرامية إلى دعم الأصوات النسائية التي لم تحظ بالتمثيل الكافي، وامتلكن مهارات وقدرات استثنائية، دافعة الصناعة السينمائية نحو آفاق واعدة. منذ بدايات المؤسسة، قمنا بدعم أكثر من 79 فيلمًا من إخراج نساء، وساعدنا أكثر من 75 صانعة أفلام ومبدعة، عبر برنامج معامل البحر الأحمر.

مستقبل المرأة

بات مستقبل المرأة في يومنا هذا أكثر إشراقًا وأملًا من أي وقت مضى، ومكرمات أمسيتنا في هذه الليلة خير دليل على هذا التحول السينمائي والتلفزيوني."

من جانبه، علّق الرئيس التنفيذي لمؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، محمد التركي قائلًا: "تحمل إنجازات مكرماتنا الست دلالة على القدرات والإمكانات الهائلة لصانعات الأفلام حول العالم، ونرغب في تقديمهن كرمز للإلهام؛ لتبصرهم أعين الأجيال القادمة من صانعي الأفلام والممثلين والكتّاب، كنماذج يُحْتَذَى بها، بفضل قدراتهن على التأثير وإعادة تغيير المفاهيم السينمائية. تكرّس مؤسسة البحر الأحمر السينمائي جهودها لدعم صانعات الأفلام، وكوثر بن هنية خير دليل على ذلك، إذ تمكنت من دخول التاريخ كأول امرأة عربية تترشح مرتان لجوائز الأوسكار، ومتحمسون اليوم لرؤية مستقبل مكرماتنا الست في الساحة السينمائية."

يستضيف مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي حفل "المرأة في السينما" بالتعاون مع مجلة فانيتي فير-أوروبا، مؤكدًا على دور مؤسسة البحر الأحمر السينمائي في دعم وتعزيز الأصوات النسائية الصاعدة في صناعة السينما وتسليط الضوء على إنجازاتهن، عبر عددٍ من المبادرات الفعالية والبرامج المتنوعة، ويترقب مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي لاستضافة المواهب السينمائية المتميزة خلال دورته الرابعة المقرر انعقادها من 5 إلى 14 كانون الأول (ديسمبر) 2024م في مقر المهرجان الجديد والنابض بالحياة "البلد" جدة التاريخية.

 

موقع "إيلاف" السعودي في

20.05.2024

 
 
 
 
 

كوبولا يكتب وصيته في مهرجان كانّ: المستقبل يصنعه الحالمون والمجانين

هوفيك حبشيان

يعيد #فرنسيس فورد كوبولا امتلاك السينما. إنها، بكلّ بساطة، عملية استرداد. ينجز مخرج "العراب" مع "ميغالوبوليس"، أكثر فيلم كان منتظراً هذا العام في مسابقة #مهرجان كانّ السينمائي (14 - 25 الجاري)، خاتماً به صمتاً دام 13 عاماً. إنه فيلم معلّق في الزمن، بين سطح الأرض حيث الواقع الذي يفكّكه ويعيد تركيبه مرات ومرات، على هواه وإلى ما لا نهاية، والفضاء الذي لا حدود له، وذلك على غرار آدم درايفر في الافتتاحية الباهرة.

يشن كوبولا فتحاً سينمائياً. فيلمه ممعن في براءة البدايات، يذكّر بكلّ السينمائيين الذين يقحمون كلّ شيء في عملهم الأول خشية ألا تتسنّى لهم فرصة ثانية للوقوف خلف الكاميرا. وجد كوبولا نفسه في ذلك المطرح أيضاً، فالزمن يدهمه، ولكن يا للمفارقة، فهذا فيلم لا يمكن ان يتجرأ على إنجازه بل على التفكير فيه، من لم يعش طويلاً ولم يكتسب الحكمة عبر تجربة السنوات.

أراد كوبولا فيلماً "خارج المنظومة" السينمائية، مموَّلاً من حسابه، انسجاماً مع فكرة الاستقلالية الفنية التي لطالما عبّر عن توقه اليها، معتبراً "العراب" ضربة حظ لا تعبّر عن طموحاته وتطلعاته. النتيجة: نصّ بصري هائل يدخلنا في دهاليز مخيلة فنّان ومفكّر سينمائي يكتب وصيته السينمائية، معانقاً العالم بأسره من أقصاه إلى أقصاه، على طريقة ماليك أو غودار. الرحلة التي نخوضها معه، فيها صعود وهبوط، ومطبّات، ودخول في أنفاق مظلمة، ولحظات تحلّق فيها أرواحنا عالياً. هذا فيلم يتجاوز المتوقّع، يتحدّى العلاقة التقليدية بالمشاهدة، ويخربط عادات التلقّي التي تكرست عبر قرن وأكثر من الفرجة. انه، باختصار، تجربة بصرية لا تقارَن مع أي شيء آخر، نتعامل معها بحواسنا وعقولنا وعواطفنا.

يلجأ كوبولا إلى الاستعارة السياسية والخرافة، من أجل طرح أفكاره عن عالمنا الحالي وخشيته على المستقبل،. ينقل روما إلى أميركا، حيث يعرفنا إلى مهندس لديه أفكار طليعية. المدينة التي هي في الواقع نسخة موازية لنيويورك الحديثة، تشهد حفلات وسباقا بالعربات ومصارعة، وليس من المستغرب ان نرى تماثيل قديمة متهالكة تقع. آدم درايفر هو هذا المهندس الذي يطمح إلى توظيف قواه السحرية لينقل المدينة من حالتها الرثة إلى مكان مثالي للعيش. لا يتطلّب الكثير من الوقت، قبل ان يدرك المشاهد ان درايفر هو الذات الأخرى لكوبولا الحالم بعالم أفضل.

يؤكد الفيلم، اذا كان لا بد من تأكيد، انه يحق لكوبولا ان يحلم ولو في ثمانيناته، بعدما أعاد بناء الجحيم في أدغال الفيليبين لتصوير "القيامة الآن"، وأعاد تجسيد فظائع الإنسان. فيلمه يحمل عذرية في النظرة، يمسح الغبار من فوق سطح الحياة. كوبولا لا يزال مؤمناً بالصورة وتوظيفاتها التي لا يزال في طور اكتشافها. في هذا الفيلم "الباروك" والطَّموح، كم هائل من اللقى التي ترينا بهجة مخرج يشاركنا ما لديه.

فيلم كوبولا يتعذّر الزجّ به في خانة، ينظر إلى العالم بكليته، من خلال نصّ على قدر هائل من الحرية والجنون والعبث والجرأة يستخدمه المخرج لفهم ما حلّ بنا ولتقييم التجربة الإنسانية. عمل له منطق خاص، يختزل المسافة بين التجريب والتنميط، لا يمتثل لقانون أو موضة أو حاجة عابرة. عمل مفصّل على قياس صاحبه، بل هو بورتريه له، لأفكاره وتطلعاته، يمعن في شخصانية تتجسّد على الشاشة من خلال آدم درايفر، النابغة الذي يملك رؤية محددة للمدينة الفاضلة، وهي رؤية ستزجّ به في صراع مفتوح مع محيطه وفي مقدّمة أعدائه عمدة المدينة التي لا يرى فيها أكثر من مدينة ملهاة. من أحداث وتطورات درامية كان من الممكن ان تكون هامشية في أفلام أخرى، يستمد كوبولا فيلماً مرجعياً عن الاصطفافات التي يشهدها العالم، طارحاً الأسئلة من التي تشغله، وفي مقدمها: "هل يمكن للحضارة الأميركية ان تنتكس كما حصل لروما القديمة؟".

ينطلق الفيلم من فرضيات لتصوير نظرتين إلى العالم، يموضوع كوبولا نفسه في واحدة منها منذ سنوات، يوم قرر عدم التوقّف عن الحلم، لأن المستقبل يصنعه الحالمون والمجانين وهؤلاء الذين يجترحون لحظات عدالة وحب، لا الذين سلّموا المفاتيح التي تفتح بوابة التغيير. نعم، هذا فيلم عن أميركا، لكنه أيضاً عن الخوف والحبّ والزمن الذي يتسرب من بين الأصابع. لا يتوانى كوبولا عن إطلاق رصاصة الرحمة على كلّ شيء يقلقه ويثير حفيظته، من مجتمع الاستهلاك إلى الرأسمالية فالأضرار الجانبية للمصالح السياسية، طارحاً نفسه معلّماً تنويرياً ومرشداً روحياً، يحمل في قلبه إيماناً عميقاً بالإنسان.

كما كانت الحال مع بعض أعماله السابقة، هناك مَن كره "ميغالوبوليس" ومن عشقه. الذين حملوا العصا في منتصفها نادرون. لا مشكلة في رفض أي عمل فني طالما كان لأسباب "منطقية". اللافت في كانّ ان العديد من النقّاد يدخلون إلى الصالة، وفي بالهم فكرة محدّدة عن السينما، حاملين معهم مسطرة يقيسون بها الأشياء. هؤلاء طبعاً، لن يحبّوا فيلم كوبولا، لأنه يخالف توقّعاتهم. يجب التذكير بأن سنوات من ارتشاف السينما الماء من ينبوع الأعمال المعلّبة، حيث كلّ شيء مدروس لينقل المُشاهد من هذه النقطة إلى تلك، لم تروّض المشاهدين فحسب بل النقّاد أيضاً. ثم هناك أيضاً مَن يريد لكوبولا ان يعيد تجربة "العراب" أو "القيامة الآن". لعله ينبغي تذكيرهم بأن الفنّانين ليسوا تماثيل في متحف. بل يتفاعلون مع الحياة، وتشهد نظرتهم تطوراً كبيراً عبر الزمن وتراكم التجارب. كوبولا ليس اليوم ما كان عليه قبل نصف قرن، لا بل ان بعض هؤلاء الفنّانين يتبرأون ممّا صنعوه في بداية مسيرتهم، مدفوعين برغبة في تجاوز الماضي والنظرة التي واكبته. صحيح ان المهندس يحاول تجميد الزمن في بداية الفيلم، لكن ذلك من أجل الحصول على المزيد من الوقت لاقتراف أشياء، لا كي يحبس نفسه فيه.

 

النهار اللبنانية في

20.05.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004