ملفات خاصة

 
 
 

"20 يوماً في ماريوبول":

شهادة بصرية صادمة

قيس قاسم

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 96)

   
 
 
 
 
 
 

يَحمل المخرج والمراسل الحربي مستيسلاف تشَرنوف (1985)، خامات ما صوَّره ووثّقه في 20 يوماً، في مدينة "ماريوبول" الأوكرانية، إلى زميلته ميشال ميزنير، طالباً منها أنْ تصنع فيلماً وثائقياً من تلك الخامات.

هكذا ربما يتصوّر من يُشاهد "20 يوماً في ماريوبول" (2023)، الفائز بـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي طويل (النسخة 96، 10 مارس/ آذار 2024)، ويتخيّل أيضاً كيف انبثقت فكرة إنجازه. تقبل المونتيرة المهمّة، وتشرع بعملية توليف خامات فيلمية مبعثرة، بُثَّ بعضها في وسائل إعلام دولية، أثناء حصار الجيش الروسي للمدينة، وبعد تدميرها وتهجير سكّانها منها، لتصنع فيلماً سينمائياً مذهلاً.

في غرفة المونتاج، تجري عمليات توليف الشهادة الحيّة لفريق صحافي صغير، يعمل في "وكالة أسوشييتد برس" (المخرج والمصوّر الفوتوغرافي يفغيني مالوليتكا، والمنتجة فاسيليسا ستيبانينكو)، ويُقرّر البقاء في المدينة أثناء اقتراب الجيش الروسي من أطرافها، في 24 فبراير/ شباط 2022. بقبوله التعليق، باللغة الإنكليزية، على مجريات الفيلم، يُدخل تشَرنوف وظيفته كمراسل حربي، عليه الالتزام بقواعد المهنة، بكونه مواطناً أوكرانياً، تملي عليه أخلاقياته الوطنية نقل ما يشاهده ويصوّره في اللحظة ذاتها إلى العالم، ليعرف حقيقة ما يجري في المكان الذي ينقل منه الأحداث.

هذا يعيد طرح السؤال الإشكالي عن الحدود الفاصلة بين مهمة المراسل الحربي وبينه هو كإنسان يتأثّر بما يرى، ويجد نفسه أحياناً مُلزماً بالتدخّل وتجاوز قواعد المهنة.

لا تمنح المدينة المنكوبة البطر النظريّ مجالاً. اللقطة الأولى من المشهد الأول تظهر فيها دبابة تدخل المدينة، كتب على صفائحها الحديدية حرف Z، وتُغيّر مسار مدفعها، مُوجّهة إياه إلى شبّاك في الطابق السابع من المشفى الوحيد، الذي ظلّ يعمل، ويتّخذ منه فريق العمل الصحافي موقعاً يصوّر منه مجريات الاجتياح الروسي للمدينة. هذا يدفع الفريق إلى الخروج من المشفى سريعاً، والبحث عن مكان آخر أكثر أماناً له. الانتقال من موقع مدمَّر إلى آخر، يكفي وحده كي يكتشف فريق العمل أنّه أضحى وسط أتون حربٍ عليه توثيق وقائعها.

الغريب أنّ صانع التوثيق، أثناء انطلاق الحرب، يثبّت جملة مُثيرة للحيرة، سمعها من أحدهم: "الحرب لا تبدأ بالقنابل، بل بالصمت". من الأرشيف، يأخذ التوليف مقطعاً من خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يعلن فيه بدء "العملية العسكرية الخاصة" ضد أوكرانيا، دفاعاً عن وجود بلده المُهدّد منها، ويؤكّد أنّ جيشه لن يتعرّض للمدنيين، ولن يمسّ البنى التحتية لأي مدينة يدخلها.

تَصْدُم وقائع الخراب الهائل المتعمَّد، وقتل سكّان المدينة الأبرياء، الفريقَ الصحافي. من دون تفكير بما ستؤول إليه خامات تصوير أعضائه لاحقاً، تفضح مشاهداتهم الحية وتوثيقها أكاذيب الرئيس. أكثر ما يمنح عملهم مصداقية المشافي المتحوّلة إلى نقطة تعبير مركزية في الفيلم، فكان وجودهم فيها مهمّاً مهنياً، ولاحقاً سينمائياً، لأنّ الخامات تصبح الركن الأهم في "20 يوماً في ماريوبول". فيها، تفقد الكلمات الكثير من قوّة تعبيرها، وتتخلّى برضى عن بعض ما تملك للصورة القادرة على قول أشدّ الوقائع تراجيدية، ببساطة مُدهشة، مصحوبة بصدمات مخيفة في آنٍ واحد.

كلّ لقطة لطفل مُقطّع الأطراف، أو لأمّ حامل تموت مع جنينها بفعل الإصابة بقذيفة مدفع، تفرض صمتاً على المشهد المُصوّر بكاميرات تلفزيونية مُهتزّة، لكنّها ثابتة في قوّة قولها. صمتٌ حاضرٌ كالذي يحلّ لحظة رمي جثث الموتى في حفرة كبيرة. ربما المُخيِّم نفسه على ذاك المشهد المؤلم والحزين يقصده تشَرنوف بجملته الأولى. في "ماريوبول"، يلازم ذلك الصمت النابع من الصدمة أصوات دويّ المدافع، ويتداخل معها. يتغلغل في النفوس، تاركاً فيها وجعاً.

بقدرٍ من التشابه معها، كانت تفعل التقارير القصيرة المُصوّرة التي يبعثها فريق العمل إلى الوكالة، ومنها يعرف العالم ماذا يحدث لمدينة صغيرة تُدَكّ بلا رحمة بالمدافع والقنابل، ولا يجد سكّانها أحداً يشكون له أمرهم، سوى الفريق الذي يصير وسيطهم إلى العالم، وعليهم حمايته.

يطلب الأطباء منهم تصوير الأجساد الممزّقة وجثث الموتى من المدنيين. يساعدونهم على إيجاد مناطق فيها تغطية لشبكة الاتصال، يُمكن منها نقل مَشَاهد قصيرة لما يجري إلى مكاتبهم خارج أوكرانيا، كي يضمنوا وصولها قبل انقطاع تغطية الشبكة، التي يُقلّلون من ثقل حجمها وزمنها، الذي لا يتجاوز ثواني قليلة. بعد أشهر، تتحوّل التقارير إلى جزءٍ من مسار الفيلم الوثائقي، الذي يكتمل بإضافةِ الخامات المهرّبة سرّاً خارج الحدود. كما في أفلام المغامرة، يتكاتف الجميع ـ وهم تحت وطأة قصفٍ مخيف لا يتوقّف عليهم وعلى مدينتهم ـ لنقل تلك الخامات وأصحابها إلى خارج البلد. مغامرة نقلها، عبر المرور على حواجز الجيش الروسي، مُخيفٌ التفكير فيها. لم يخطر على بال تشَرنوف أنّ ما يصوّره (تصوير الفيلم وكتابته له أيضاً) سيتحوّل إلى فيلمٍ مُذهل.

قبل حصوله على "أوسكار"، توقّع نقّادٌ إمكانية وصول الفيلم إلى الترشيحات النهائية، لا لكونه كاشف حقائق وفاضح أكاذيب فقط، بل لأنّ فيه تجمّعت عناصر فنية وإنسانية، جاء بعضها صدفةً، أو بسبب الحضور النادر للّحظة التي تتحوّل فيها الأشياء البسيطة إلى فعلٍ مؤثّر، وأحياناً إلى مُنجزٍ سينمائي، على بساطة اشتغاله يضحى مَثَلاً على قدرة الوثائقيّ في نقل أشدّ الحقائق إيلاماً، من دون أنْ يفقد جمالياته، أو يُسطِّح عمقه.

مشهد نهب بعض سكّان المدينة محلاتٍ تجارية مثلٌ على هذا. لو غاب هذا المشهد من مساره، لبدا كما لو أنّه يتعمّد إلغاء ما في دواخل البشر من قوّة شرّ، تزداد في الحروب حدّة. وعلى عكسها، يظهر بعض الناس شجاعةً واتزاناً إنسانياً، في أحلك لحظاتها ظلمة وأشدّها قسوة.

هل نضيف إلى هؤلاء صنّاع الوثائقي؟

 

####

 

مستيسلاف تشَرنوف:

"يهمّني أنْ يصبح فيلمي تذكيراً بما حدث في ماريوبول"

أجراها محمد صبحي

عندما علمَ مُراسلا وكالة "أسوشييتد برس (AP)"، مستيسلاف تشَرنوف ويفغيني مالوليتكا، مع زميلتيهما المنتجة الميدانية فاسيليسا ستيبانينكو، بالغزو الروسي الوشيك لأوكرانيا (24 فبراير/شباط 2022)، شقّوا طريقهم إلى "ماريوبول". لكونها مدينة ساحلية على بحر "آزوف"، تمتّعت "ماريوبول" بأهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة إلى القوات الروسية، فتعرّضت للهجوم بعد ساعات قليلة على بداية الغزو. وخلافاً لتأكيدات "الكرملين"، أصبح المدنيون الهدفَ المباشر للغارات الروسية.

فوجئ تشَرنوف ـ المراسل الحربي ذو الخبرة، والصحافي الفائز بجائزة "بوليتزر" ـ بأنّ المدينة انهارت بسرعة: "الآن أعلم أنّ ذلك كان بسبب نقص الاتصالات"، بحسب ما قاله في حواره مع "العربي الجديد". نما الذعر واليأس بين السكّان المتروكين للعزلة وانعدام اليقين، وتفاقمت الحالة بسبب الهجمات الجوية العشوائية المستمرة، التي لم تترك مكاناً آمناً للاختباء. في هجومٍ، أصيبت مستشفى للولادة، وهناك التقط تشَرنوف ومالوليتكا صُوراً لافتة للانتباه لهذه الحرب الغاشمة، ضمّنها الأول في فيلمه الوثائقي المؤلم والمهمّ "20 يوماً في ماريوبول" (2023)، الفائز بـ"أوسكار" أفضل فيلم وثائقي، في النسخة 96 (10 مارس/آذار 2024).

يُقدّم الفيلم توثيقاً أولياً للحياة في الحصار الروسي لـ"ماريوبول"، كما شاهدته عدسة تشَرنوف. بتناوب الانتقال من الملاجئ المرتجلة إلى الشوارع المنهوبة والمنازل المحترقة، يوثّق الفريق الصحافي كيف تداعت المدينة بسرعة تحت الضغط. يتتبع الفيلمُ الفريقَ أثناء توثيقه الظروف اليائسة، بما في ذلك آخر مستشفى قائم يعمل بلا كلل على إنقاذ الجرحى، وسط تضاؤل الموارد. قطع الروس الخدمات الأساسية، كالكهرباء والمياه وإمدادات الغذاء، ما أغرق المدينة في مزيد من الفوضى. تختفي اتصالات الهاتف الخليوي في النهاية، مع تفاقم الوضع، ما جعل تشَرنوف ومالوليتكا المُراسلَين الدوليين الوحيدين في المدينة المحاصرة.

رغم حصار "ماريوبول"، وغياب ممرات خضراء مفتوحة للإخلاء، ووجود أسمائهم على قوائم نقاط التفتيش الروسية، كافح الفريق الصحافي لمغادرة المدينة، لتهريب اللقطات المُصوّرة. بعد إخفاء الكاميرا في مقاعد السيارة، هرب الفريق مروراً بـ 15 نقطة تفتيش روسية. ومع تزايد قتامة الوضع بالنسبة إلى الفريق، تحوّلت سردية تشَرنوف من التقريرية إلى تأمّلات حميمة عن الحرب، ودوره كمراسل.

في محاولة لتحقيق التوازن بين النبرة الصحافية الصارمة للّقطات والمحتوى العاطفي الغامر، سجّل تشَرنوف تعليقاً صوتياً، باستخدام ميكروفون جهاز "آيفون" خاص به، مُفضّلاً اختيار "تسجيل أوّلي بسيط" بدلاً من الوضوح عالي الدقّة، رأى أنّه الأنسب لنبرة الفيلم، ليجعله "ليس عاطفياً جداً، ولا بعيداً".

عُرض الفيلم للمرة الأولى في الدورة الـ39 (19 ـ 29 يناير/كانون الثاني 2023) لـ"مهرجان ساندنس السينمائي" في الولايات المتحدة الأميركية، وفاز بجائزة الجمهور في فئة الأفلام الوثائقية العالمية. أقيم العرض الأول لأوكرانيا في الدورة 21 (2 ـ 8 يونيو/حزيران 2023) لـ"مهرجان Docudays UA" (كييف)، وفاز بجائزة أفضل فيلم في المسابقة الوطنية، وجائزة الجمهور. قبل هذا كلّه، حصل تشَرنوف عن عمله المحفوف بالمخاطر على جوائز دولية عدّة، منها "جائزة دويتشه فيله لحرية التعبير"، و"جائزة نايت للصحافة الدولية"، و"جائزة الإعلام الحرّ". في 18 فبراير/شباط 2024، فاز بجائزة "بافتا" البريطانية في فئة أفضل وثائقي.

في حوار مع "العربي الجديد"، تحدّث مستيسلاف تشَرنوف عن فترة بقائه في "ماريوبول"، والإخلاء، وصناعة الفيلم وردّ فعل الجمهور عليه، والتأمّل في ما رآه.

(*) ما شعورك الآن بعد ما مررت به في "ماريوبول" وإطلاق الفيلم؟

أشعر أننا بحاجة إلى العمل بجدّية أكبر. غادرتُ "ماريوبول" في 14 مارس/آذار، وفي اليوم التالي، سمعتُ عن قصف "مسرح ماريوبول للدراما". فكّرتُ كثيراً في حقيقة أنّه ربما كان عليّ المغادرة لاحقاً. عُرض الفيلم في بلدان عدّة. رأيتُ كيف يتلقّاه الجمهور، وأدركت أنّنا بحاجة إلى بذل مزيدٍ من الجهد. في حرب المعلومات الجارية بيننا وبين روسيا، يعدّ السياق أحد أهم مكوّنات التفسير الصحيح للمعلومات التي نتلقّاها. تساعد في ذلك الأفلام الوثائقية والأبحاث المُعمَّقة والتحقيقات والأفلام والكتب.

مستمرّ في العمل مع الأشخاص الذين ظهروا في الفيلم. أُجري مقابلات معهم، وأشركهم في التحقيق في الجرائم الروسية. هذا ليس شيئاً تفعله وتنساه، لأنّ قصة "ماريوبول" لم تنته بعد. لذا، يستمرّ العمل.

(*) مع زميليك في وكالة "أسوشييتد برس"، كنتم الصحافيين الوحيدين الذين تمكّنوا من إظهار ما كان يحدث في "ماريوبول" في الأيام الأولى للغزو الشامل. عنوان الفيلم نفسه يعطي، بالفعل، سياق ما سيُعرض فيه. لكنْ، هل هناك جديد يقدّمه الفيلم بالنسبة إلى الأوكرانيين أنفسهم؟ ولماذا يجب أنْ يشاهدوه؟

هناك لقطات كثيرة لم أتمكّن من إرسالها بسبب انقطاع الاتصالات. نحو 30 ساعة فيديو. كانت هناك لحظات لم يرها أحدٌ، لأنّ أصحابها كانوا في أيدي الروس، ولم نتمكّن من نشرها. شعرتُ بالقلق قليلاً عندما شاهد سكان "ماريوبول" الفيلم. كنت أخشى أنْ يصيبهم هذا بصدمة نفسية، فيعيشوا الأحداث مجدّداً. هؤلاء لم يكتفوا بالمشاهدة، وبإعادة (عيش) تجربة جزء صغير مما حدث لهم، بل أدركوا أنّ العالم كلّه شهد ما حصل لهم.

صوّرتُ الفيلم بطريقة تجعل حتى المتفرّج البعيد عن أوكرانيا يجد نفسه وسط الأحداث الموصوفة. آخذه إلى الأحداث المأسوية، ومن هناك لا يمكنه المغادرة. يختبر المتفرّج الأمر مع أهل "ماريوبول". الأوكرانيون يرون أن هذا لن يُنسى. يهمّني أنْ يصبح فيلمي تذكيراً بما حدث.

(*) ما اللقطات المهمّة التي لا تظهر في النسخة النهائية من الفيلم؟

هناك موت ومعاناة ودمار كثير. لكنْ، أي منها لم يظهر في الفيلم. عليك المحافظة على التوازن هنا، ليس لجعل تصوّر الحرب أسهل، بل كي لا تُبعد المتفرّجين الأجانب، بإجبارهم على إشاحة النظر. أردتُ إظهار كلّ من فَقدَ عائلته وبيته، وهذا مستحيل. بعض اللحظات فظيع ومؤلم، إلى درجة أنّ هذا البعض كان سيدفع المتفرّج بعيداً.

في المونتاج، صعبٌ اختيار ما أردتُ عرضه. لأنّه، إذا أدخلتُ المتفرّج إلى هذه الفوضى، هناك خطر أنْ ينزعج ويرفض الفيلم. لكنْ، في الوقت نفسه، أريد إظهار ما حدث كما حدث، ولا أريد أنْ أكون ليّناً بهذا المعنى. هناك توازن صعب بين الرغبة في إظهار ما حدث، ومحاولة التأكّد من أنّ الجمهور لن يرفض رؤيته.

(*) لماذا قرّرت أنْ تصنع فيلماً، بما أنك معروف في المقام الأول كمصوّر فوتوغرافي؟

وظيفتي كصحافي التأكّد من وجود سجل دقيق لما حدث في "ماريوبول". لستُ في موقف ـ ولا أعتقد أن أيّ شخص في وضع يسمح له ـ لأقرّر نيابة عن أيّ شخص آخر ما يفكّر به، أو ما الاستنتاجات التي يجب استخلاصها. أفضل من هذا أنْ أعطي الناس سياقاً، وإلاّ سيصبحون عرضة للأكاذيب. هذا أحد الأسباب الأساسية لإنجاز الفيلم.

عندما يكون الناس بعيدين عن الحرب، ولا يرون شيئاً ما في الأخبار، فإنّهم يعتقدون أنّها لا تحدث. مهمّ بالنسبة إليّ صنع شيءٍ لتذكير الناس بالحرب، خاصة لمن لا يقرأ الأخبارالفيلم وسيط مختلف، بجمهورٍ مختلف. أحد المواضيع المهمّة في الفيلم حرب المعلومات، وكيف تنتشر المعلومات في موجات حول العالم، وكيف تؤثّر على الناس، وكيف يرى العالم الأحداث في أوكرانيا ويفسّرها. للحديث عن هذا، أحتاج إلى وقتٍ وسياق.

(*) بالعودة إلى الأيام الأولى للغزو، كيف كان الوضع عندما كنتَ محاصراً ومتنكّراً في زي طبيب، بانتظار وصول القوات الروسية؟

أتذكّر تلك اللحظة، عندما حاصرتنا الدبابات في المستشفى رقم 2. في كلّ دقيقة، هناك انفجار. في كلّ دقيقة، كنا ننتظر سقوط قنبلة على المستشفى. في كلّ لحظة، كنا ننتظر دخول الجنود الروس. فكّرتُ أنّ لدي كاميرا، فيها لقطات يجب إرسالها بطريقة ما. شعرتُ أنّه مهمّ للغاية أنْ يتمكّن الناس من رؤية دبابة روسية، تحمل الحرف Z، وتطلق قذائفها في منطقة سكنية. هذه لحظة نادرة، أنْ يكون لديك مجرم يرتكب جريمة أمام الكاميرا. طبعاً، كنّا قلقين على حياتنا، لكنّنا شعرنا أنّنا لسنا وحدنا. كان حرّاس المستشفى والأطباء معنا. لذلك، كان هناك دائماً بصيص أمل.

(*) يصوّر الفيلم قصفاً روسياً لمستشفى ولادة. بعده، تموّه البروباغندا الروسية الجريمةَ.

بعد قصف مستشفى الولادة، هرعنا إلى هناك، وأدركنا ما حدث. شعرتُ بأهميةٍ وهول كبيرين، إلى درجة أنّي فكّرت فوراً: "حسناً. سيكون لهذا صدى في العالم كلّه، وطبعاً سيتردّد صداه في روسيا". حدث لي شيء مشابه جداً عام 2014، عندما كنت من أوائل الصحافيين الدوليين الذين وصلوا إلى موقع تحطم طائرة بوينغ MH 17، أسقطها الروس.

الدعاية الروسية تهدف إلى إحداث إرباك وتعكير للماء. الطريقة الرئيسية التي تستخدمها ليست خلق نسخة من الحقيقة، بل خلق نسخ عدّة ومختلفة لإرباك الناس. إذا ألقيت نظرة على إحصائيات المستشفيات التي دُمّرت في أوكرانيا، تُلاحظ نظاماً ما: تشير الإحصائيات إلى أنّ الضربات متعمّدة، على الأرجح، بسبب حجم المستشفيات المتضرّرة، والدقّة التي دُمّرت بها.

(*) لماذا ذهبت إلى "ماريوبول"؟ لماذا قرّرت البقاء فيها، بينما كان الصحافيون والمنظمات الدولية يغادرون؟

كان طاقم التصوير في الوكالة يغطّي منطقتي "دونيتسك" و"لوغانسك"، حيث عملنا هناك 9 سنوات. نحن نعمل في "ماريوبول" منذ سنوات عدّة. لم يكن الفريق يعرف بالضبط كيف وأين سيبدأ الهجوم، لكنْ كان واضحاً أنّه ستكون هناك بالتأكيد موجة تصعيد جديدة. بدا أنّ "ماريوبول" أحد الأهداف الرئيسية، لأنّ الروس فشلوا في احتلال المدينة عام 2014. ما لم نأخذه بالاعتبار سرعة التطويق، وقلّة عدد الصحافيين الذين سيبقون هناك. لم نكن نعتقد أنّه سيتمّ عزلها بالكامل عن أوكرانيا، بعشرات الكيلومترات من الأراضي المحتلة.

بالنسبة إلى قرار البقاء في المدينة، أتيحت فرصة المغادرة للشرطة والجيش والأطباء. واصل متطوّعون عديدون العمل، رغم القصف. لم يُقرّر فريق واحد فقط من الصحافيين البقاء. أناس كثيرون فعلوا هذا. كما بقي مخرج الأفلام الوثائقية الليتواني مانتاس كفيدارافيسيوس، الذي، عندما حاول المغادرة، أعدمته القوات الروسية. كان يُمكن أنْ يحدث هذا لنا أيضاً.

فعلتُ ما فعله مئات، بل آلاف الأشخاص الذين قاموا بواجباتهم. صحافيون دوليون عديدون أعرفهم، لم يغادروا البلد، لأنّهم كانوا خائفين. بدا في ذلك الوقت أنّ أهمّ مرحلة في هذه المعركة تجري في كييف. كان الروس في طريقهم إليها. كان هناك خطر من دخول الجيش الروسي إلى العاصمة.

(*) متى قرّرت مغادرة المدينة؟ كيف حدث ذلك؟ كيف هرّبت اللقطات المُصوّرة؟

هناك طرق عدّة لحفظ اللقطات الأصلية. أردتُ دفنها أو إخفاءها، حتى يتمكّن أصدقاء من تسلّمها لاحقاً. كان يُمكن أنْ ينقلها مدنيون عبر طريق أخرى، كي لا أضطرّ إلى إخراجها بنفسي. لكنّي لم أرد تعريض الآخرين للخطر. لذلك، قرّرتُ إخراجها. مررت بـ 15 نقطة تفتيش. كانت الفوضى عارمة. كنتُ أعلم أنّ الروس يعرفون أسماءنا جميعنا، لكنّنا كنا محظوظين، لأنّه لم يكن هناك نظام للتحقّق من المستندات والهواتف، وغيرها.

أخفيتُ الأقراص الصلبة والكاميرات تحت مقاعد السيارة، وفي الملابس. بطاقة بيانات قدّمتها لنا تايرا (المسعفة والمتطوّعة الأوكرانية يوليا باييفسكا ـ المحرّر) وُضعت في صندوق السدادات القطنية، الخاص بالمنتجة فاسيليسا ستيبانينكو.

(*) في مقابلة سابقة، قلتَ إنّك لا تتذكر أشياء كثيرة من مقاطع الفيديو. كيف كان شعورك وأنتَ تشاهد مقاطع الفيديو والُصور من "ماريوبول"؟ هل فكّرت بما مررت به؟

كلّ شيء تعاوده مجدّداً، لأنّك تشاهد مراراً كلَّ لحظة في الاشتغال، وتعيشها مجدّداً. تكتب نصّاً، وتقود المَشاهد في هذه الأحداث، موضِّحاً ما يحدث. لا أتذكر اللحظات التي وضعت فيها الكاميرا جانباً، وكانت معلّقة على كتفي في مكان ما. عندما أتحدث مع شخص، أو أتفاعل مع حدثٍ حولي، لا أطفئ الكاميرا، لأنّي أخشى أنْ يفوتني شيء ما. لكنّي لم أتذكّر تلك اللحظات.

حين يموت طفل، أنزلق على الحائط، وأجلس على الأرض. هذه اللحظات الإنسانية اكتشاف عظيم (أثناء مشاهدة اللقطات). هذا لا يمكن أنْ يظهر إلاّ في فيلمٍ.

(*) هناك مشاهد موت وألم ويأس عدّة في الفيلم. هل راودك شكّ أو تردّد بشأن نشر لحظات أو مشاهد معيّنة من "ماريوبول"؟

في الواقع، إذا شاهدتَ الفيلم بعناية، لن تجد فيه دماً كثيراً. ربما تصعب مشاهدته، لأنّي أختبره عاطفياً مع الشخصيات، فسكان "ماريوبول"، الذين نراهم، أناس حقيقيون يفقدون أحبّاءهم وأطفالهم ومنازلهم ومدينتهم. هذا صعب ومؤلم. لكنْ، في كلّ لحظة، هناك مَن يدعمهم، وهذا أيضاً أمل وقوة. المبدأ الأساسي في عملية المونتاج معاملة الناس باحترام وكرامة.

الاتجاه الوحيد الذي رأيته في "ماريوبول" أنّه، كلما زاد تدمير المدينة، اقترب مزيد من الناس، وطلبوا منّي تصوير كلّ شيء حولهم. أرادوا أنْ أصوّرهم، ليتمكّن أقاربهم من العثور عليهم. قالوا إنّ علينا أنْ نُظهر للعالم ما يفعله الروس بالمدينة.

هناك مَن لم يرغبوا في أنْ نصوّرهم. وهؤلاء ليسوا في الفيلم. كان يهمّني إظهار كلّ ردود الفعل، لأنّ هناك ارتباكاً وذعراً. هذا جزء من التأثير الذي حاولت روسيا تحقيقه عندما لم تطوِّق المدينة فحسب، بل عزلتها أيضاً عن العالم. أدّى هذا إلى تصديق الناس لكلّ ما سمعوه. لذا، وكما أسلفت، يُعدّ موضوع حرب المعلومات من أهم المواضيع في الفيلم.

(*) أثناء عملك الصحافي، صوّرت حروباً عدّة، بما فيها حرب أوكرانيا منذ عام 2014. لكنْ، ما نوع الحرب التي رأيتها في "ماريوبول"؟

حربٌ لم أر مثلها قبلاً في أفغانستان والعراق وسورية وكاراباخ وأوكرانيا (قبل الغزو الشامل). سابقاً، لم أر مثل هذه الحِدّة في القتال والقتل وجرائم الحرب. لم أر مثل هذا المستوى من المعاناة.

(*) ماذا تودّ قوله للجمهور قبل مشاهدة الفيلم؟

لا أريد تقديم أي نداء، فهذا ليس فيلماً أخلاقياً أو وعظياً. لا أكلّف نفسي بمهمة تعليم أي شخص. مهمّتي مواصلة العمل، وتناول ما حدث، وطرح الأسئلة حوله.

 

العربي الجديد اللندنية في

22.03.2024

 
 
 
 
 

10 منها تتنافس على أوسكار 2024... لماذا نحبّ أفلام السيرة؟

بدأت مع فجر السينما وازدهرت خلال السنوات الأخيرة

سامر أبوهواش

مؤلف موسيقي وقائد أوركسترا، وعالم فيزياء، وقائد نازي، ثلاث شخصيات تاريخية تتنافس سيرها السينمائية، بين أفلام أخرى، على مختلف جوائز الأكاديمية الأميركية (الأوسكار) 2024، من ضمنها جائزة أفضل فيلم. وإن لم يكن الفوز بهذه الجائزة الأخيرة من نصيب أحد هذه الأفلام الثلاثة، فالأرجح أن يكون من نصيب "قتلة زهور القمر" لمارتن سكورسيزي الذي لا يبتعد بدوره تماما عن جنس السينما السيرية Biopic، وإن كان لا يصنّف تقنيا ضمن هذه الفئة. فهو لا يروي سيرة شخص بعينه، بقدر ما يروي سيرة "أمة الأوساج" مع جرائم الرجل الأبيض في الولايات المتحدة الأميركية.

لطالما كانت السيرة، بفرعيها الذاتي والغيري، مثار اهتمام الكتاب والفنانين وجمهور القراء والمشاهدين على امتداد تاريخ الكتابة والفنون. فنجد أشكالا من السيرة في الكشوفات الآثارية (أوصاف ملوك وملكات الفراعنة المدونة على الأضرحة)، إلى الأساطير (غلغامش)، إلى ما حفل به التراث اليوناني والروماني من سير الأبطال والقادة والفلاسفة، مرورا بقصص الأنبياء والرسل في الأديان السماوية الثلاثة، وصولا إلى السيرة النبوية لابن هشام، ثم ما سمّي طويلا في التراث العربي القديم بالتراجم، بما في ذلك سير وتراجم بعض أبرز الشعراء العرب. بل إن السيرة بوصفها "الطريقة والحالة التي يكون عليها الإنسان"، كما جاء في "لسان العرب"، يمكن إرجاعها زمنيا إلى بداية وعي الإنسان بذاته وبفكرة نقل ذينك الطريقة والحالة إلى من يأتي بعده، وهو ما نراه متجسّدا بصورة أولية في رسوم الكهوف التي يعود أقدمها (في إسبانيا) إلى نحو 64 ألف سنة.

  لفن السيرة، بفرعيها الذاتي والغيري، عند العرب مكان ومكانة واضحان، سواء عبر كتب التراجم المعروفة التي تناولت سير مجموعات من الشخصيات، أو تلك التي تناولت شخصية بعينها

التراجم العربية

وإذا كانت "اعترافات" القديس أوغسطين التي كتبت في بدايات القرن الخامس الميلادي، تعدّ أول سيرة ذاتية غربية، وكتاب جيمس بوزويل، "حياة صموئيل جونسون" (1791)، يعدّ أول سيرة غيرية، فإننا نجد لفن السيرة، بفرعيها الذاتي والغيري، عند العرب، مكانا ومكانة واضحين، سواء عبر كتب التراجم المعروفة التي تناولت سير مجموعات من الشخصيات في عصور وحقب محددة، ومنها "طبقات الصحابة" و"طبقات فحول الشعراء" و"الأغاني" و"وفيات الأعيان" و"بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس" و"الصلة" وغيرها الكثير، أو تلك التي تناولت شخصية بعينها، ومنها كما أسلفنا السيرة النبوية و"مناقب الإمام" و"التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا" و"أخبار أبي نواس" و"طوق الحمام" لابن حزم الأندلسي، أو تلك السير الشعبية الأسطورية مثل سير عنترة والزير سالم والظاهر بيبرس، أو التي تضمنت سيرا ضمنية جزئية كالتي نراها في أدب الرحلة، امتدادا إلى القرن العشرين حيث تحول فنّ كتابة السيرة، كما في العالم أجمع، إلى فنّ شعبي يتمتع بجاذبية قرائية عالية وإلى نوع أدبي راسخ، سواء جاء على هيئة مذكرات أو شهادات تتنوع أسلوبيا بين الأسلوب الأدبي والروائي والأسلوب الصحافي، وبعض كتّابه الأشهر عربيا طه حسين وأحمد أمين والعقاد وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم ونجيب الريحاني ولطيفة الزيات وعبد الرحمن بدوي وغازي القصيبي وإدوارد سعيد ومحمد شكري وغيرهم العشرات إن لم يكن المئات.

مع ظهور فنّ السينما، كان بديهيا أن تكون السيرة جزءا لا يتجزأ من عالمها وسردياتها، فمثلما جذبت سير العظماء والشخصيات التاريخية وقصص العشاق والأبطال جلساء المجالس والمقاهي طوال قرون، جاءت السينما (ومن بعدها الإذاعة والتلفزيون واليوم مقاطع الفيديو القصيرة عبر "يوتيوب")، لتتخذ باكرا من تلك السير مصدرا أساسيا من حكاياتها. وعلى الرغم من أن كلمة biopic نفسها لم تشهد رواجا حتى نهايات القرن العشرين، فإن نحتها يعود إلى 1945 بحسب قاموس أوكسفورد، ككلمة تجمع بين السيرة biography والفيلم picture. ويرجع المؤرخون الفنيون أول إرهاص لسينما السيرة إلى فيلم ألفرد كلارك، "إعدام ماري ستيورات ملكة اسكتلندا" (1895)، الذي أنتجه توماس إديسون، والبالغة مدته 18 ثانية فقط، لتكرّ من بعده سبحة الأفلام السيرية: "جان دارك" (1900)، "حياة موسى" (1909)، "الملكة إليزابيث" (1912)، "حياة وأعمال ريتشارد فاغنر" (1913)، "كليوباترا" (1917)، "آل روزفلت المقاتلون" (1919)، "نابليون الصغير" (1923) إلخ، وقد بلغ عدد الأفلام السيرية المنتجة هوليووديا فحسب بين 1927 و1960 أكثر من 300 فيلم، مع زهاء عشرة أفلام تنتج في العام الواحد أحيانا.

توظيف

أما عربيا، فلا يبدو أن السيرة الذاتية احتلت الأهمية ذاتها التي رأيناها في الغرب، ولعلّ أحد أسباب ذلك يعود إلى صعوبة إنتاج هذا النوع من الأفلام. ففي حين رأينا أن كثيرا من أفلام السيرة الذاتية الغربية (الأميركية والأوروبية) يستند إلى مؤلفات، سواء خيالية (روائية) أو تأريخية أو صحافية تلقى رواجا واسعا، فإن هذا المنتج ظلّ محدودا على مساحة النشر العربية، والسبب الآخر الأهم هو الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي، الذي يجعل من الصعب فتح النقاش حول الشخصيات التاريخية أو "الإجماع" حول شخصية من الشخصيات. لكننا مع ذلك رأينا عددا من المحاولات، تركز معظمها في مصر، مع أفلام مثل "خالد بن الوليد" (1958) و"جميلة" (1958) و"الناصر صلاح الدين" (1963) و"سيد درويش" (1966)  (جميعها تبدو نتاجا للمرحلة العروبية الناصرية)، ولعل مخرج اثنين منهما (جميلة والناصر صلاح الدين)، أي يوسف شاهين، بإنجازه سلسلة أفلام السيرة الذاتية بداية من "اسكندرية ليه" (1978) وصولا إلى "المهاجر" (1994) الذي استلهم سيرة النبي يوسف، و"المصير" (سيرة ابن رشد، 1997)، كان جزئيا يقوم بمراجعة ذاتية للحقبة الناصرية نفسها وللواقع السياسي المصري والعربي بعد مرحلة الثورات وما عرف بـ"الناصرية".

في هذا السياق يبدو لافتا الجهد الذي بذله المخرج حسن الإمام بإنجازه أفلاما تناولت سير فنانات في الرقص الشرقي والطرب، "شفيقة القبطية" (1963) و"بديعة مصابني" (1975)، و"سلطانة الطرب" (سيرة المطربة منيرة المهدية، 1979)، وهو شبيه بالاتجاه الذي حاول الممثل أحمد زكي في مرحلة لاحقة تكريسه عبر أفلام سيرية مع عدد من المخرجين تناولت سير جمال عبد النصر وعبد الحليم حافظ وأنور السادات وكان يبدو أنه يعتزم مواصلته بفيلم رابع على الأقل عن الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، لكن وفاته المبكرة حالت دون ذلك.

الجدير ذكره في هذا السياق أيضا أنه، وفي حين لم تتحول أفلام السيرة إلى أن تكون خطا إنتاجيا مستداما في السينما العربية، فقد وجدت ولا تزال تجد حيزا واسعا جدا في الدراما التلفزيونية، ومن المفارقات أن إحدى أبرز الشخصيات التي وجدت طريقها إلى الشاشة الصغيرة هي سيرة طه حسين في مسلسل "الأيام" (1979)، وقد تلقى هذا النوع دفعة كبرى عبر المسلسلات الدينية والتاريخية في شهر رمضان، بداية من مسلسل "محمد رسول الله" (1980) ثم عبر المسلسل السيري الأشهر "رأفت الهجان" (1988)، لتتوالى بعد ذلك مسلسلات السيرة حتى باتت جزءا راسخا في الدراما الرمضانية السنوية. ولعل من أسباب الميل إلى إنتاج هذه المسلسلات هو شعبيتها وضخامة إنتاجها غالبا، ناهيك بتناسبها مع الأجواء الدينية والروحانية، خصوصا عندما تعالج قصص شخصيات دينية معروفة.

أورسون ويلز وتغيير الاتجاه

على الرغم من أن فيلم أورسون ويلز الأيقوني، "المواطن كين" (1941)، ليس فيلما سيريا بصورة مباشرة، لكن من المعروف منذ صدوره، أنه يروي قصة حياة قطب الإعلام والمال وليام راندولف هيرست الذي توفي بعد عشر سنوات من صدور الفيلم، ولعلّ كونه كان لا يزال على قيد الحياة عند إنجاز الفيلم هو السبب، لأسباب محض قانونية، وراء هذه التورية. لم يكن "المواطن كين" أول فيلم يتناول شخصية خلافية أو "شريرة"، فلطالما جذب هذا النوع من الشخصيات مخيلة السينمائيين، ومنهم تشارلي شابلن الذي أنجز في الفترة نفسها تقريبا "الديكتاتور العظيم" (1940) مستلهما شخصية أخرى كانت لا تزال حية وهي الديكتاتور النازي أدولف هتلر، وقبل ذلك بثماني سنوات كان هوارد هوكس استلهم قصة حياة الخارج على القانون آل كابون في فيلم "ذو الندبة" (1932)، الذي يحظى بحصة الأسد بين الشخصيات الإجرامية التي أنجزت أفلام عنها (أكثر من ستة أفلام).

مثلما جذبت سير العظماء والشخصيات التاريخية وقصص العشاق والأبطال جلساء المجالس والمقاهي طوال قرون، جاءت السينما لتتخذ من تلك السير مصدرا أساسيا من حكاياتها

لعل أهمية "المواطن كين" تكمن في كونه أبرز فيلم يحوّل السيرة إلى فن رفيع، يتضمن، إلى دراسة الشخصية وتطورها، الطبقات المتعددة التي تحفّ بتلك الشخصية والسمات التي تحولها إلى شخصية تراجيدية تؤدي معالجتها إلى طرح أسئلة وقضايا اجتماعية وسياسية ووجودية كبرى، ولا تقف عند حدود تفاصيل حياة الشخصية أو تقف موقفا محايدا منها. وقد فتح هذا الباب واسعا بعد ذلك على معالجة كل أنواع الشخصيات من زاوية نظر مختلفة، لا تهمل الجانب النفسي على وجه الخصوص. كما أسّس فكرة أنه يمكن لأفلام السيرة معالجة حياة (أو جزء من حياة) أي شخصية، بصرف النظر عن تاريخيتها أو "عظمتها"، وسواء كانت نبيلة أم لا، فالمهم هو مدى تركيب الشخصية والجوانب المظلمة فيها، والصراعات التي تعيشها أو تجعل الآخرين يعيشونها، ولا ريب في أن ويلز استفاد من تربيته الفنية الشكسبيرية وولعه بتلك الشخصيات المسرحية التراجيدية، ليقدم نسخة معاصرة من تلك الشخصيات التي تبدو محكومة بقدر مأسوي.

لا ريب في أن ظلال "المواطن كين" ظلت حاضرة في كلّ  فيلم كبير تناول شخصية تاريخية منذ أربعينات القرن الماضي، من "إيفان الرهيب" بجزءيه الأول (1944) والثاني (1958)، إلى "ثعلب الصحراء" (1951)، إلى "شهوة الحياة" (قصة الرسام فان غوغ، 1956)، إلى "لورنس العرب" (1962) وصولا إلى "كل هذا الجاز" (1979) و"غاندي" (1982) و"أماديوس" (1984)، وعشرات الشخصيات الأخرى من مناحي الحياة كافة، من قادة عسكريين وسياسييين وجواسيس ورجال أعمال وعلماء وكتاب وفنانين ورياضيين وصولا إلى المجرمين وحتى القتلة المتسلسلين.

انتعاش النوع

 يرى الباحث السينمائي وليام كوهلر، أن الطفرة التي شهدتها أفلام السيرة الذاتية في الألفية الجديدة، عائدة إلى أسباب محض إنتاجية، فهذه الأفلام تحقق في الغالب مشاهدات عالية شبه مضمونة، نظرا إلى اهتمام الجمهور المستمر بحكايات المشاهير وتفاصيل حيواتهم، وربما الفضائح المرتبطة بهم، أو نموذج القدوة أو مصدر الإلهام الذي يشكلونه لكثيرين، أو حتى دروس الحياة (ثنائية الفشل والنجاح)، وغير ذلك من الأسباب.

وإذ تراجع خلال العقود الأخيرة إقبال الناس، في أميركا والعالم، على دور السينما، وهو ما رأيناه في صورته القصوى خلال فترة جائحة كوفيد19، فقد وجد المنتجون، السينمائيون والتلفزيونيون، مجددا ضالتهم في أفلام السيرة لإعادة جذب الجمهور من خلال أفلام متوسطة التكلفة الإنتاجية، ربما لا تحقق أرقاما قياسية على شباك التذاكر، لكنها تضمن قدرا معقولا من الربحية، كما أن مجرد وجود شخصية مشهورة في محور أيّ  فيلم، من شأنه توفير دافعية تسويقية تغني عن الإنفاق المسرف على الحملات الترويجية.

الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي، يجعل من الصعب فتح النقاش حول الشخصيات التاريخية أو "الإجماع" حول شخصية من الشخصيات

أحد العوامل الذي ساهمت في انتعاش هذا النوع السينمائي، هو ولادة نمط جديد من المشاهير، منهم من يتمتع بجاذبية شبابية لافتة، ومن هؤلاء على سبيل الأمثلة لا الحصر مؤسس "فيسبوك" مارك زوكربيرغ ("الشبكة الاجتماعية"، ديفيد فينشر، 2010)  ومؤسس "أبل" ستيف جوبز ("ستيف جوبز"، 2015، داني بويل)، ومنهم شخصيات مثيرة للجدال مثل النصّاب والمزور فرانك أباغنال ("أمسك بي إن استطعت"، 2002، ستيفن سبيلبرغ)، والمضارب في البورصة جوردان بيلفورت ("ذئب وول ستريت"، 2013، مارتن سكورسيزي) أو شخصيات ملهمة مثل العالم جون ناش ("عقل مثالي"، 2001، رون هاورد)، أو الرسامة فريدا كالو ("فريدا"، 2001، جولي تايمور)، أو الملاكم جيمس برادوك ("رجل السندريلا"، 2005، رون هوارد)، أو رجل الأعمال كريستوفر غاردنر ("مسعى السعادة" 2006، غبريال موتشينو). ومنهم شخصيات برزت واشتهرت ما بعد منتصف القرن العشرين، ولا سيما في سبعينات وثمانينات القرن العشرين ومنهم المغني راي تشارلز ("راي"، 2004، تايلور هاكفورد) والمغني جوني كاش ("امشِ الخط"، 2005، جيمس مانغولد) ورجل الفضاء نيل أرمسترونغ ("الرجل الأول"، 2018، داميان شازل)، والممثلة ماريلين مونرو ("شقراء"، 2022، أندرو دومينيك).

أوسكار 2024

تشمل الأفلام السيرية جزئيا أو كليا المرشحة لنيل جوائز أوسكار 2024، في جميع الفئات، عناصر أو اتجاهات من كلّ ما سبق ذكره من أنواع الشخصيات. فنجد شخصية الفنان الموسيقي لينارد برنستين في "مايسترو" (تمثيل وإخراج برادلي كوبر)، والناشط السياسي الأسود بايارد راستن في "راستن" (إخراج جورج سي سكوت) والعالم روبرت أوبنهايمر في "أوبنهايمر" (كريستوفر نولان) والسباحة الأولمبية ديانا نياد في الفيلم الملهم "نياد" (جيمي تشين وإليزابيث تشاي فيرسهيلي)، والقائد العسكري نابليون بونابرت في "نابليون" (ريدلي سكوت)، والقيادي النازي رودولف هاس في "منطقة الاهتمام" (جوناثان غليزر) والناشط السياسي والموسيقي الأوغندي بوبي واين ("بوبي واين: رئيس الشعب" لموسى بوايو وكريستوفر شارب)، والناشط والصحافي التشيلياني أوغوستو غونغورا وزوجته باولينا أوروتيا في التسجيلي الشعري، "الذاكرة الأبدية" (مايتي ألبيردي)، والأم التونسية ألفة حمروني في "أربع بنات" (كوثر بن هنية)، ورئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير في أحد أسوأ أفلام السيرة، "غولدا" (غاي ناتيف).

بين هذه الأفلام العشرة (إذا ما استثنينا الفيلمين الوثائقيين)، فإن الأفضل فنيا هي بالفعل تلك المرشحة لجائزة أفضل فيلم و/ أو إخراج، أي "مايسترو" و"منطقة الاهتمام" و"وأوبنهايمر". كلّ من هذه الأفلام هو المفضل لديّ شخصيا، لأسباب مختلفة. ففي قصة الموسيقي الأميركي لينارد برنستين نرى طبقات عدة من الشخصيات والخطوط الدرامية، فهناك إشكاليات المثلية الجنسية، والهوية الجنسية عموما، والعملية الإبداعية وتعقيداتها ووطأتها، والزواج والعائلة، والأسئلة حول معنى الوجود نفسه، جميعها ينسجها برادلي كوبر ممثلا ومخرجا باقتدار واضح وتفكير متمهّل، وإذا ما تجاوزنا الربع الأول من الفيلم حيث الإيقاع اللاهث والأجواء التي تذكر بفيلم "لالا لاند"، فإن الفيلم يقدّم مشهديات سينمائية وبناء شخصيات ولحظات شعرية قلما نراها في موجة الأفلام الأخيرة.

بين هذه الأفلام فإن الأفضل فنيا هي بالفعل تلك المرشحة لجائزة أفضل فيلم و/ أو إخراج، أي "مايسترو" و"منطقة الاهتمام" و"وأوبنهايمر"

أما "أوبنهايمر" و"منطقة الاهتمام" فكأنهما – على اختلاف النطاق والأسلوب السردي والفني – وجهان من حكاية واحدة. حكاية الشرّ الكوني الذي أمسك بلباب البشرية خلال الحرب العالمية الثانية، فرأينا في "أوبنهايمر" جحيم القنبلة النووية، والألعاب السياسية القذرة التي سبقت ورافقت وتلت اختراعها واستخدامها، كما رأينا في "منطقة الاهتمام" شخصية القاتل الإباديّ المتجرّد من كلّ شعور إنساني، الذي يشكّل القتل بالنسبة إليه عملا بيروقراطيا وارتقاء في السلم الوظيفي، وفي الوقت نفسه يعكس الفيلم بصورة استعارية صادمة مناخ اللامبالاة الشامل في أثناء وقوع الهولوكوست، وهو ما يذكّر إلى حدّ كبير بما يجري اليوم في غزة، وفكرة أن يقف العالم شاهدا على الإبادة، عاجزا عن فعل شيء أو غير راغب في فعل شيء.

فيلم سكورسيزي، "قتلة زهور القمر"، الذي كما أسلفنا لا يندرج تقنيا ضمن أفلام السيرة، يأتي كأنه صورة خلفية لمنطق التفكير الإبادي أو أصله ومنشئه، وكأن سكورسيزي في هذا الفيلم يستخلص كلّ العبر والدروس من الشخصيات الكثيرة، الحقيقية والمتخيلة، التي عالجها على امتداد مسيرته المهنية، ليصل إلى الجوهر الذي وصل إليه أورسون ويلز في "المواطن كين"، وهو أن الشرّ المؤدّي إلى الإبادة ليس في نهاية المطاف فرديا، ولا يمكن أن يتجسد في شخص واحد مهما بلغ جنونه أو عنفه، بل هو نتاج منظومة وتاريخ ونمط أفكار وتصوّرات وتحيّزات تتحوّل في لحظة عمياء إلى "طريقة أو حالة يكون عليها الإنسان" كما جاء في تعريف السيرة، لغةً.

 

مجلة المجلة السعودية في

11.02.2024

 
 
 
 
 

"ذا كولور بيربل"... ظلمته جوائز أوسكار مرتين وأنصفته NAACP

(رويترز)

في حين لم تحصل الممثلة في الفيلم الموسيقي "ذا كولور بيربل" The Color Purple دانييل بروكس على جائزة أوسكار لأفضل ممثلة مساعدة في حفل توزيع جوائز أوسكار في نهاية الأسبوع الماضي، لكنها حصلت السبت هي وأعضاء فريق العمل على جائزة NAACP Image لأفضل فيلم سينمائي.

وعلى السجادة الحمراء، صرحت بروكس لـ"رويترز" إنه من بين جميع الأوسمة التي حصلت عليها، فهي ممتنة للغاية لجوائز NAACP لتقديرها فريق "ذا كولور بيربل" بترشيحه للعديد من الجوائز.

وقالت: "إذا لم يرنا أحد، فأنا سعيدة لأن شعبنا يرانا"، في إشارة إلى عدم حصول الفيلم على ترشيحات طوال موسم جوائز 2024.

وعلى الرغم من أن هوليوود أحرزت تقدمًا في ما يتعلق بالتنويع منذ حملة OscarsSoWhite# عام 2015 عندما ذهبت جميع ترشيحات التمثيل العشرين إلى ممثلين بيض، إلا أن بعضهم يرى أن وتيرة التغيير ما زالت بطيئة ولم تصل إلى مرحلة العدالة والشمولية لتغطي كل الجوائز.

ففي حفل توزيع جوائز السكار التي أقيمت مؤخرًا، خسرت الممثلة ليلي جلادستون وهي من سكان أميركا الأصليين أمام إيما ستون في جائزة أفضل ممثلة على الرغم من أن جلادستون هي الأوفر حظًّا في الفوز بها، بعد أن حصلت على جائزة غولدن غلوب وجائزة نقابة ممثلي الشاشة عن دورها في فيلم "كيلرز أوف ذا فلاور مون" Killers of the Flower Moon.

تعتبر جوائز NAACP image التي تنظمها الجمعية الوطنية للنهوض بالملوّنين (NAACP)، من أبرز الجوائز الترفيهية التي تركز على الممثلين السود.

ولم تكن بروكس الوحيدة الذي استمتعت بإنجازها في تلك الليلة، فقد حصلت زميلتا الممثلة من العمل نفسه فانتازيا بارينو وتاراجي بي هينسون بدورهما على جوائز.

فقد فازت بارينو بجائزة الممثلة المتميزة وهينسون بالممثلة الداعمة المتميزة عن أدوارهما في الفيلم .

وحصل كولمان دومينغو على جائزتي الممثل المتميز والممثل المساعد المتميز عن أدائه في فيلمي "روستين" و"ذا كولور بيربل" على التوالي.

وتأتي هذه الانتصارات التاريخية بعد أن أثار التعديل الأصلي لرواية أليس ووكر عام 1985 الجدل من العديد من المنظمات التي يقودها السود، بما في ذلك NAACP.

فبالنسبة للكثيرين داخل فرع هوليوود لمنظمة الحقوق المدنية للسود، كان يُنظر إلى فيلم ستيفن سبيلبرغ المقتبس والذي حمل العنوان نفسه على أنه مهين للرجال السود.

يتتبع الفيلم حياة شقيقتين مراهقتين سوداوين، سيلي ونيتي، في الجنوب الأميركي خلال أوائل القرن العشرين. تشرع سيلي في رحلة للعثور على حريتها والتغلب على سنوات من سوء المعاملة التي تعرضت له، بعد أن كان الرجال في حياتها هي ونيتي سببًا في انفصال إحداهما عن الأخرى.

حصل الفيلم الأصلي من بطولة ووبي غولدبرغ في عام 1985 على أحد عشر ترشيحًا لجوائز أوسكار، لكنه فشل في الفوز بأي منها. وبالمثل، فإن الفيلم الموسيقي المقتبس عام 2023 والذي أخرجه المخرج الغاني بليتز بازاولي، لم يستطع أيٌّ من أعضاء فريق التمثيل الرئيسيين فيه من الحصول على أكبر جائزة في هوليوود.

ومن بين الفائزين الآخرين الشاعرة والناشطة أماندا جورمان التي حازت جائزة رئيس مجلس الإدارة، والمغني آر أند بي آشر الذي فاز بجائزة أفضل فنان لهذا العام.

أما للعديد من الممثلين السود، فقد كانت ترشيحات هذا العام بمثابة "الداعم لحياتهم المهنية".

وكما قالت دانييل بينوك، ممثلة فيلم "الأشباح" Ghosts، لرويترز: "لم نكن لنتمكن من لعب كل هذه الأدوار من دون الأشخاص الذين مهدوا الطريق لنا، كما تعلمون؟"

 

العربي الجديد اللندنية في

17.03.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004