ملفات خاصة

 
 
 

مؤتمر النقد السينمائي الأول:

حدث جاد بعيداً من البهرجة

هوفيك حبشيان

مؤتمر النقد السينمائي

الدورة الأولى

   
 
 
 
 
 
 

شهدت مدينة #الرياض أخيراً (7-14 الجاري) مؤتمراً للنقد السينمائي هو الأول من نوعه في #العالم العربي، وربما في العالم بأسره. طوال اسبوع، أضحى النقّاد والمتخصصون في الفنّ السابع، نجوم هذا الحدث، بدلاً من الممثّلين والمخرجين جرياً للعادة في التظاهرات السينمائية. نظّروا وناقشوا وشرحوا وبحثوا في مواضيع وشؤون واشكاليات من صميم الراهن السينمائي.

السينما في السعودية، أكانت صناعة أم عرضاً، اكتشاف حديث، بالمقارنة مع رصيدها في الدول العربية والغربية، دخلت إلى المملكة بدعم رسمي في الـ2018. بالتالي بدا مفاجئاً، ولكن مفهوماً، ان يهتم أصحاب المبادرة بالنقد، وهذا إن دلَّ على شيء، فعلى مدى وعي المنظّمين بأهمية النقد ودوره في مواكبة تطور الصناعة السينمائية.

سُجِّل المؤتمر الذي يرفع شعار "ما وراء الاطار"، في سياق مشروع كامل متكامل، مشروع مستدام وغير مشغول بالأمور السطحية والبهرجة، بالتالي لا يمكن فصله عن ملتقيات عدة أقيمت على مدار 2023 في مدن مثل بريدة وجدة وتبوك وأبها والظهران. هذه الملتقيات كلها مهّدت للمؤتمر التأسيسي هذا. وكان ضيف أحد هذه الملتقيات هو السينمائي وكاتب السيناريو الشهير، الأميركي بول شرايدر، الذي كان ناقداً في بداياته وكان وضع كتاباً مهماً عن سينما كلّ من بريسون وأوزو ودراير. قدم شرايدر محاضرة رغم الوعكة الصحية التي ألمت به.

معظم نشاطات المؤتمر مرتبط بالكلام، لكن عُرضت أيضاً بضعة أفلام، منها "صبيان وبنات" ليسري نصرالله وأفلام قصيرة للمخرج البرازيلي كليبير مندونسا فيلو، والمفارقة ان كليهما انطلقت حياته المهنية من النقد، مثلما هي الحال أيضاً مع شرايدر، وهذا الانتقال من القلم إلى الكاميرا بدأ مع "الموجة الجديدة".

*****

من الجلسات النقاشية التي شهدها المؤتمر: "من رؤى استعمارية إلى جغرافيا جديدة للسينما" (بيتر ليمبريك) وهو عرض عن بعض الطرق التي يمكن لتاريخ السينما ونظريتها ان يتحدّيا بها الرؤى الاستعمارية السابقة وتراث ما بعد الاستعمار الحالي. هذا نموذج لنوع الندوات التي قُدِّمت في المؤتمر، والتي كان من الصعب متابعتها جميعها، لكنها جاءت برؤية بانورامية عن سلسلة اشكاليات ذات تأثير على صناعة الفيلم وتلقيه من الجمهور.

"النقد بين المهنة والمعرفة" عنوان محاضرة للناقد والاستاذ الجامعي المغربي حمّادي كيروم، الذي تحدّث عن الفرق بين الناقد المتخصص والمشاهد الناقد، وهو فرق يشرحه على النحو الآتي: "يعتمد المشاهد على ذائقته في تقييم الفيلم كما يسعى إلى مشاركة رأيه رغبةً منه في الانضمام إلى "مجتمع النقّاد" بقواعده ورموزه وأساليبه". في رأيه ان وسائل التواصل الاجتماعي هدمت سلطة المؤسسات النقدية التي احتكرت "السماح بالكلام" لناقد دون غيره، فأعطت الكلمة للجميع وسهّلت التعبير المباشر ومشاركة مقاطع من الفيلم والتعليق عليها، فتأزّم مفهوم #النقد السينمائي الكلاسيكي.

ليس بعيداً من هذه الفكرة، قدّمت الناقدة السينمائية الهندية شبرا غوبتا حصّة كان من المفترض ان تكون عن "النقد في عصر وسائل التواصل الاجتماعي"، ولكن، بسحر ساحر، انقلبت لتكون عن السينما البوليوودية التي تحدّثت عنها طولاً وعرضاً، وبشغف ثرثار، من خلال عدد من الاعلانات الترويجية لعدد من النجوم. هذا الأمر أزعج بعض الحاضرين، ومنهم كاتب هذه السطور، ولم نفهم الغاية منه، خصوصاً انها بالغت في الحديث عن نفسها من خلال الآخرين. "النقد في زمن التواصل الاجتماعي" لم يحتل سوى بضع دقائق، وذلك رداً على سؤال عرضي من المُحاور. أهملت غوبتا كلّ المَحاور التي كنّا موعودين بها في البرنامج وأبرزها: هل تبقّى دورٌ للناقد السينمائي في زمن وسائط التواصل؟ ما الفرق بين النقد المتصوَّر والنقد المنطقي، وكيف يمكننا سد الفجوة بينهما؟

من بين المحاضرات التي تابعتها، أعجبتني تلك التي قدّمها الناقد العراقي قيس قاسم المقيم في السويد، الذي أجرى مقارنة بين فيلم "أو أزار بالتازار" لروبير بريسون و"إيو" ليرجي سكوليموفسكي (الفيلم الثاني اعادة قراءة للأول) وشاركه فيها المترجم العُماني ثابت خميس.

قال قاسم: "فيلم بريسون الذي أُنجز في العام 1966 يظهر طليعية مخرجه، اذ ان سينمائياً مهماً من طينته يرى العالم بعين حيوان لا إنسان. ويبدو ان الحمار عند سكوليموفسكي هو امتداد لحمار بريسون، لكن بعد مرور 57 عاماً، وهو الزمن الذي شهد فيه العالم متغيرات كبيرة، وكان لا بد ان نرى هذا العالم مرةً أخرى من خلال حمار مختلف. يفترض المخرج ان هذا البطل الذي لا ينتمي إلى البشر مقبولٌ من المُشاهد على الرغم من صعوبة هذا الأمر. هذا الكائن في الحقيقة يتأملنا ويرى مدى قساوتنا وظلمنا ووحشيتنا، وهو ظلم يمس الإنسان في الدرجة الأولى. قبولنا لهذا الكائن متأتٍّ من قوة الاشتغال السينمائي التي تقنعنا بأن هذا الذي يرانا هو نحن. عند بريسون نظرة مسيحية إلى العالم، بمعنى انه يجب ان نشعر بجميع الكائنات التي على وجه الأرض. في حين ان لدى سكوليموفسكي عمقاً أكثر وبُعداً سياسياً واضحاً، كونه يتحدّث عن بولندا في متغيرها الحديث الآني. فيلمه هذا عن المكان الأوروبي، وهو ينظر إلى الأشياء نظرة نقدية لا متعالية، جاعلاً من الحيوان مؤشراً للتدهور الأخلاقي، في حين كان "بالتازار" أكثر هدوءاً، بمعنى انه حمل دلالات على التحولات الناشئة في المجتمع الفرنسي على مستوى القرى قبل المدن، وأدّعي انه مهّد إلى أحداث أيار 1968".

أغرب المحاضرات، تلك التي قدّمها جلال توفيق، أستاذ الدراسات السينمائية في الجامعة الأميركية في القاهرة، عما يُعرف بـ"المغلق جذرياً"، وأجد نفسي مضطراً، حتى بعد حضور المحاضرة السوريالية التي عُرضت خلالها مقاطع فيديو لأفلام ديفيد لينتش وغيره، ان أستعين بكتيب المؤتمر، كي أنقل اليكم فحوى الحديث. يقول الكتيب: "هل هناك أُطرٌ خارج السينما (والرسم)؟ نعم، ثمّة أطر جذرية في الكون. فعلى سبيل المثل: أفق الحدث للثقب الأسود، والأفق الكوني، والمخروط الضوئي". سأوقف الاقتباس عند هذا الحد. لا تعليق اضافياً!

أخيراً، وليس آخراً، "تجاوز الوهم بين الرواية والسينما"، محاضرة لسعد البازعي (ناقد ومترجم وأستاذ جامعي)، تناول فيه مفهوم "الميتافيكشن" أو "الميتاسينما"، الذي يعني عملياً تجاوز حاجز الوهم، وهي ظاهرة معروفة في الرواية والسينما من بين فنون اخرى. وقد لفتتني الحرية التي تمت مقاربة هذا الموضوع فيها، حتى انه تم التطرق إلى الرقابة، لا تلك التي تمارسها السلطة فحسب، بل المتعششة في الفنّان والمجتمع الذي يقيم فيه.

*****

بين ندوة وأخرى، موعد فآخر، ثمّة تجمّعات بين النقّاد كان مسرحها قاعة من قاعات قصر الثقافة، حيث المأكولات والمشروبات تساعد في بعض الاسترخاء وتكوين حلقات كلامية صغيرة بين النقّاد والمشاركين في الحدث. ليس من عادات النقّاد العرب ان يتبادلوا الآراء حول السينما ويخوضوا نقاشات طويلة في شأنها، الا اذا تعلّق الموضوع بقضية أو ظاهرة أو حدث سينمائي، لكن وجدتهم هنا محكومين بإطار مكاني وزماني واحد. البيئة تفسح المجال لذلك، فتجد نفسك تلقائياً وسط نقاش حول فيلم أو ندوة حضرتها للتو. واذا سلّمنا اننا لم نخرج بفائدة من هذا المؤتمر - وهذا غير صحيح - فعلى الأقل يجب الاعتراف بأننا، ولمرة واحدة، باتت وظيفتنا موضوع نقاشنا.

انها دورة تأسيسية اذاً، لها ما لها وعليها ما عليها، تبقى الإيجابيات فيها أكثر بكثير من السلبيات، لكن حبذا لو أثارت أسئلة ونقاشات استمرت على صفحات الجرائد. لكننا نعيش في عالم عربي قاحل ثقافياً وفكرياً، حيث تتراوح الانشغالات بين تحرير القدس وتأمين لقمة العيش، وكلّ ما بينهما ما عاد يعني الكثير، لا بل يُنظَر اليه كترف. كان على هذا المؤتمر ان يثير السجال، قافزاً فوق طابعه النخبوي، مع العلم ان النقاش الحقيقي على مستوى الاعلام من سابع المستحيلات في العالم العربي، حيث ان أكثر ما يعاني منه الجسم النقدي هو التقوقع. كلّ ناقد يمارس عمله في عزلة تامة وصمت مطبق، وهذه أسبابها عديدة لا مجال لمناقشتها هنا. قنوات التواصل نادرة. لكن، يمكن لهذا المؤتمر ان يؤسس لأرضية للنقّاد وان يكون بيتاً لهم، في تجربة غير مسبوقة حتى على المستوى العالمي. الا انه، علينا قبل ذلك، ان نفصل النقّاد عن الذين يكتبون النقد أو ما شابهه بين وقت وآخر، وأيضاً عن الذين يحومون حول النقد، من دون ان يكون طرح مثل هذا الموضوع محل خلاف.

 

النهار اللبنانية في

27.11.2023

 
 
 
 
 

مؤتمر النقد السينمائي:

رؤية غير مسبوقة تستنطق جماليات السينما خارج إطار الصورة

منصورة الجمري

ما مدى ضرورة النقد السينمائي اليوم؟ هل هناك من لا يزال يؤمن بضرورة النقد السينمائي بين أبناء الجيل الجديد من المشتغلين بالأفلام أو من المتابعين لها، على الأخص ووسائل التواصل الاجتماعي تعج بحسابات تصنيف وتقييم الأفلام وعرضها، وهي الحسابات التي يعدها عدد لا بأس به من رواد قنوات ووسائل التواصل الاجتماعي، ومتابعي هذه الحسابات، على أنها حسابات تقدم نقدًا للأفلام وربما كان نقدًا رصينًا؟ 

هذه التساؤلات وغيرها كثير راودتني طيلة تواجدي في مؤتمر النقد السينمائي الذي نظمته هيئة الأفلام السعودية في العاصمة الرياض في الفترة من 7 ولغاية 14 نوفمبر 2023. ولأكون أكثر دقة فإنني لم أكن على ثقة بما إذا كان لا يزال هناك معرفة حقيقية بماهية النقد السينمائي، أو بالفرق بين النقد السينمائي الحقيقي بكل أشكاله، أكاديمية أو سواها، وبالثورة، أو الفورة في الممارسات الحاصلة في وسائل التواصل الاجتماعي والتي تعتبر ما تقدمه نقدًا سينمائيًا، وتنعت أصحابها بالنقاد السينمائيين

إذن هل لا يزال النقد السينمائي ضروريًا؟ وهل هناك ضرورة لعقد مؤتمر للنقد السينمائي؟ 

بنظرة سريعة أولى تبدو الإجابة عن كل تساؤلاتي محسومة، إذ إن إقامة مؤتمر للنقد السينمائي، وهو الأول عالميًا على ما يبدو على الأقل في العقود الأخيرة الماضية إن لم يكن على الإطلاق، وبمعايير دولية، وهو مؤتمر جاء ضمن مشروع متكامل إذ سبقته عدة ملتقيات متخصصة أقيمت في مدن متعددة في جميع أرجاء المملكة العربية والسعودية. المؤتمر والملتقيات جمعت المختصين وغيرهم في مجال النقد السينمائي وتم خلالها تعزيز الوعي بثقافة المشاهدة، وبالنقد ومفاهيمه وتطبيقاته. هذه النظرة الأولى والمسح السريع إذن للمشروع بأكمله يشير بشكل حتمي لأهمية وضرورة النقد السينمائي والاحتفاء به، والنقد المقصود به هنا سيكون قطعًا النقد الرصين المبني على فهم حقيقي لماهية السينما ولعملية صناعة الأفلام ووعي ثقافة المشاهدة

الأسبقية وتفرد الشعار

مزيد من الإجابات على أسئلتي جاءت حال أن وقع كتيب المؤتمر في يدي. المؤتمر أولًا اختار لدورته الأولى شعارًا هو بذاته يستحق التوقف عنده «ما وراء الإطار»، ثم إنه زين غلافه بعبارة مستعارة من كتاب «النحت في الزمن» لشاعر السينما ومُنظّرها، المخرج السينمائي الروسي أندريه تاركوفسكي، لشرح ما يعنيه ذلك الشعار «ما يشاهَد داخل الإطار لا تحده الصورة المرئية إنما هو إشارة إلى شيء آخر يمتد خارج الإطار إلى اللانهائية، إشارة إلى الحياة». ربما بدت لي العبارة مبشرة بما سيتضمنه المؤتمر، فهذه العبارة تشرح بشكل قاطع ما تعنيه السينما التي لا تتوقف مضامينها ورسائلها عند حدود الإطار، لكنها فعليًا تبدأ بعد ما وراء الإطار. هكذا يقدم منظمو المؤتمر أول رسائله، ليس لنقاد الأفلام فحسب، بل للمخرجين وصناع الأفلام والمهتمين بحضور المؤتمر أو بالكتابة حول السينما وعوالمها

بعد هذا الشعار المبشر الذي شكّل خير فاتحة لي لهذا المؤتمر، أدهشني ما وجدته خارج إطار هذا الشعار، احتفاء غير مسبوق بالنقد السينمائي وبالنقاد السينمائيين، بالمنظرين والمفكرين في هذا المجال وبأسماء غابت لعدم وجود وعي كافٍ بقيمة أصحابها وبتأثير رؤاهم حول السينما والحياة بشكل عام على ساحة النقد السينمائي وصناعة الأفلام. هيئة الأفلام جاءت لتعيد هؤلاء فجاءت صورهم مزينة الساحة الرئيسة المقابلة للمبنى الذي ضم فعاليات المؤتمر. ومن بين أبرز تلك الأسماء الناقد والمخرج المصري سامي السلاموني الذي رحل عن عالمنا عام 1991 بعد أن ترك إرثاً نقديًا مهمًا، ما جعل كثيرًا من معاصريه يعتبرونه واحدًا من أهم أعمدة الثقافة السينمائية في مصر والعالم العربي في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبالمناسبة فقد انتقل السلاموني، كما فعل يسري نصر الله، من النقد والكتابة السينمائيَين إلى عالم الإخراج.

احتفاء بالنقد السينمائي

جاء حضوري لفعاليات المؤتمر ليقدم إجابة أكثر شمولية ودقة لاستفساراتي أعلاه، إذ إنه مكنني من القيام بنظرة فاحصة لهذا المشروع الفريد من نوعه، والذي يكشف عن وعي عميق لدى القائمين عليه في هيئة الأفلام السعودية بماهية السينما وبعملية صناعة السينما، وينم عن إدراك حقيقي لما تنطوي عليه هذه العملية وما تحتاجه من أسس وبنى تحتية. بدا واضحًا أن هيئة الأفلام في سعيها لتعزيز مكانة السعودية الثقافية والسينمائية عالميًا، تعي تمامًا ما يعنيه أن يكون للسعودية قَدَمٌ ثابتة في مجال صناعة السينما عالميًا، ولذا فإنها لا تغفل أي عنصر وجزء من أجزاء هذه البنية التحتية، بدءًا من تأسيس جيل متمكن من صناع الأفلام، وصولًا إلى توفير كل ما تحتاجه صناعة السينما من فنيين وكُتّاب وعاملين في مختلف أجزاء صناعة الفيلم، وانتهاءً بتعزيز دور النقد السينمائي وبنشر الوعي به وبأهميته عبر مؤتمر مخصص، وهي بهذه الخطوة تقدم مشروعًا رائدًا منحها شرف الأسبقية على كثيرين، وهو مشروع يبشر بمستقبل أكثر إشراقًا لصناعة السينما في المملكة العربية السعودية ولمستقبل السينمائيين فيها

فعاليات المؤتمر وبرنامجه الحافل والثري شكّل قصة أخرى، بل صنع واجهة مختلفة، أشد ألقًا، للنقد السينمائي، وهو، أي البرنامج، الذي أُثري بمشاركات من قامات نقدية مهمة على مستوى الوطن العربي والعالم، من بينها المخرج المصري يسري نصر الله الذي تحدّث خلال كلمته التي جاءت في حفل افتتاح المؤتمر عن بداياته النقدية التي قادته للإخراج وعن مدى تأثير قراءاته وممارساته النقدية على فهمه لجماليات السينما، وتَمَثّل ذلك الفهم في أعماله السينمائية التي يُعدّ معظمها من أفضل ما أنتجته السينما المصرية طوال تاريخها. وبالمناسبة فقد عُرض خلال المؤتمر واحد من أفلام المخرج يسري نصر الله وهو فيلم «صبيان وبنات» الذي أُنتج عام 1996، وتلى الفيلم ندوة حوارية جاءت ضمن زاوية «بصحبة النقاد» وهي إحدى زوايا برنامج المؤتمر. وتمت الندوة بين مخرج الفيلم يسري نصر الله بصحبة رئيس الاتحاد الدولي لنقاد السينما «فابريسي» الأستاذ أحمد شوقي

عبر الزاوية ذاتها، «بصحبة النقاد»، استضاف المؤتمر أفلامًا أخرى لها دلالات خاصة لدى النقاد السينمائيين، من بينها فيلم «ميكروفون»، للمخرج المصري أحمد عبدالله، وتلى عرضه ندوة حوارية ضمّت محادثة بين مخرج الفيلم أحمد عبدالله، والمخرج السعودي عبدالمحسن الضبعان. وجاءت أهمية هذا الفيلم كونه شكّل مسارًا جديدًا وجادًا للسينما المصرية والعربية، حيث قدّم فيلمًا من أفلام سينما المؤلف التي تعرف الفيلم بمخرجه. عرض المؤتمر عددًا من الأفلام العالمية، كما عرض أفلامًا قصيرة متنوعة، بعضها قدّمه صناع سينما سعوديون فيما ضمت الأخرى مخرجين وصناع أفلام من دول أخرى في العالم

خارج الإطار.. وبعيدا عنه «جدًا»

من أهم زوايا المؤتمر، زاوية الماستر كلاس التي استضافت في إحدى ندواتها أستاذ استطيقياالسينما بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، البروفيسور حمادي كيروم، وهو مُنظّر سينمائي وناقد وأستاذ في جماليات السينما. وقد جاء الماستر كلاس الذي قدّمه تحت عنوان «النقد بين المهنة والمعرفة»، وخلاله قدّم كيروم رؤيته الفلسفية للسينما المبنية على نظرة استطيقية، أي وعي حسي بالجمال وقدرة على استكشافه عبر السينما. كيروم استعرض أزمة النقد الكلاسيكي قبل أن يقدّم رؤيته الخاصة في النقد، ثم طبّق رؤيته النقدية الاستطيقية التي تناقش السينما وتستوعبها خارج إطار الصورة، وذلك من خلال فيلمين هما «سارقو الدراجة» الذي قدّمه الإيطالي فيتوريو دي سيكا عام 1948، وفيلم «القربان» الذي قدّمه أندريه تاركوفسكي عام 1986.  

ضم المؤتمر عديدًا من الزوايا التي ناقشت المفهوم والحاجة إلى النقد السينمائي، بعيدًا عن النقد وخارج إطار الصورة، حيث تطرقت بعض تلك الزوايا إلى قضايا تتصل بالسينما وبنقدها السينمائي مباشرةً أو على نحو غير مباشر، مثل المحاضرة التي ألقاها المفكر وصانع الأفلام وأستاذ الدراسات السينمائية في الجامعة الأمريكية بالقاهرة جلال توفيق حول «حديث الفنان المغلق جذريًا» والتي تناول من خلالها أعمال صناع الأفلام الذين يميلون لمناقشة قضايا الكيانات التي لا تمتّ للعالم أو للتاريخ بصلة، وهي موضوعات لا تخصص لها مهرجانات السينما أو ملتقيات صناعها أي مساحة، وربما لا تكترث لأهميتها بأي شكل من الأشكال، لكن مؤتمر النقد السينمائي الذي يعي صنّاعُه شمولية واتساع أفق السينما والتنوع اللانهائي لاهتماماتها ولأُطُر تركيزها، فرد لها مساحة خاصة

رؤية نافذة وإجابات واضحة

لن تسعني -قطعًا- مساحة هذه الصفحات للحديث عن ذلك التنوع والثراء اللذين زخر بهما مؤتمر النقد السينمائي، والآفاق اللامحدودة التي سعى إلى اكتشافها أو إلى التنقيب فيها، مستعينًا بأساتذة ومفكري الدراسات السينمائية، وبالمثقفين وأصحاب الرؤى المنفردة من المخرجين وصناع الأفلام والكُتّاب والنقاد السينمائيين

هذا البرنامج الحافل الذي احتفى بالنقد وبالسينما من زاوية طالما أهملتها ملتقيات السينما ومهرجاناتها، أجاب قطعًا عن سؤالي عما إذا كانت لا تزال هناك حاجة، بل ضرورة وحاجة ماسة، إلى النقد السينمائي الرصين المبني على الفهم والدراسة العميقين للسينما

هي رؤية نافذة من قِبَل هيئة الأفلام السعودية، قائمة على وعي عميق، ولعله يمكنني القول إنه غير مسبوق في الأوساط السينمائية العربية على أقل تقدير، ولا أتحدث قطعًا عن الأوساط الأكاديمية، وليستميحني العذر كبار نقادنا السينمائيين، لكن مؤتمر النقد السينمائي سبق الجميع ببؤر تركيزه التي تجاوزت حدود كل ما كُتب عن النقد السينمائي، عربيًا على أقل تقدير

نتمنى أن تستمر هذه المبادرة الواعية والمميزة على مستوى ثراء ما تقدمه لساحة النقد السينمائي أولًا، وللساحة الثقافية ثانيًا، وللسعودية التي أضحت وجهة ثقافية محترمة ورصينة لقاطبة المثقفين العرب إن لم يكن لسواهم

__________________________

الهوامش:

استطيقيا السينما هي دراسة العناصر الجمالية في الأفلام، مثل التصوير، التحرير، الصوت، والسرد، وكيف تتفاعل هذه العناصر لخلق تجربة سينمائية فريدة ومعبرة.

 

منصة "ميم" السعودية في

29.11.2023

 
 
 
 
 

علي سعيد: "مؤتمر النقد السينمائي" مرآة الفيلم السعودي

المدينة -جدة

ثمّن الكاتب علي سعيد جهود هيئة الأفلام لدفع الحركة السينمائية في المملكة، من خلال إقامة المحافل التي تركز على إثراء صُنّاع الأفلام والجمهور بالثقافة السينمائية، مشيداً بالبرنامج الغني لمؤتمر النقد السينمائي الذي نظمته الهيئة خلال الفترة (من 7 إلى 14 نوفمبر 2023) في الرياض. وقال: "في الزمن الذي أصبح فيه تقييم الأعمال الفنية بما فيها الأفلام يعتمد على عدد (الإعجاب) أو عدد (المتابعين) في صفحات التواصل الاجتماعي، تأتي هيئة الأفلام لتقدم مؤتمراً متكاملاً لا يعتمد على الكم، بل يركز على جمع النخب السينمائية من داخل وخارج المملكة، لتبادل الأفكار وتحليل الأفلام بناء على نظريات النقد السينمائي، وتذوّق الأعمال الفنية من حيث القصة والإخراج، والموسيقى والتمثيل والمونتاج، وهذا الأمر ُيحسب للقائمين على هذا التجمّع لكونهم يساهمون في تعزيز الوعي المعرفي لدى ُصنّاع الأفلام، عبر جلسات المناقشة والحوار الفلسفي والرؤية العميقة للأعمال المطروحة في المؤتمر".

وأضاف: "تأتي أهمية مؤتمر النقد السينمائي الأول، بهذا التنظيم والأسماء المهمة التي تم حشدها له، للفت انتباه صُنّاع الأفلام والجمهور إلى أن ظاهرة السينما السعودية اليوم لم تعد مجرد عرض للأفلام، إنما تتضمّن نقاشات حول هذه الأعمال وما تحتويه من مضامين وأفكار ورؤى إخراجية، كما يقدم المؤتمر نظرة أشمل للعمل السينمائي السعودي والعالمي".

وأكد الكاتب علي سعيد أن المؤتمر الذي جاء بعد خمس ملتقيات سابقة زاخر بأسماء مهمة على مستوى المملكة والعالم، وناقش مواضيع دقيقة في كيفية الارتقاء بالمشهد السينمائي السعودي والعربي، وهو ما سينعكس إيجاباً بدفع ُصنّاع الأفلام لاحترام النقد السينمائي بوصفه تحليلاً وتقييماً وقراءة للأعمال الفنية.

يذكر أن هيئة الأفلام تسعى من خلال إطلاقها لـ "مؤتمر النقد السينمائي" الذي أقيم بشراكة إعلامية مع موقع "سولييود" تحت عنوان "ما وراء الإطار" لدفع قطاع الأفلام بالمملكة، من خلال جمع المتخصّصين والمهتمين في مجال النقد السينمائي، لتعزيز المشاركة الوطنية والإقليمية والدولية في الحوارات المتعلقة بصناعة الأفلام، حيث ناقشت جلسات المؤتمر عناوين مختلفة ركّزت على الدور الحيوي الذي يؤديه النقد السينمائي في بيئات الوسائط الإعلامية التي تزداد تعقيدًا كل يوم، عبر جلسات حوارية وعروض تقديمية وورش تدريبية وبرامج متنوّعة.

 

المدينة السعودية في

29.11.2023

 
 
 
 
 

مؤتمر النقد السينمائي في الرياض: إعادة السلطة إلى كلمة الناقد

هوفيك حبشيان- الرياض

لو قيل لي قبل بضع سنوات، ان مؤتمراً للنقد السينمائي يحمل شعار #"ما وراء الإطار"، سيُقام في #السعودية، لاعتبرته ضرباً من ضروب الواقعية السحرية. ولو قيل لي أيضاً انه سيمتد على مدى اسبوع وسيطرح اشكاليات النقد من خلال مواضيع لا تخطر في بال أعرق المجلات السينمائية، لسخرت من القائل. مع ذلك، وخلافاً لكلّ التوقّعات، شهدت الرياض من السابع إلى الرابع عشر من الشهر الماضي، مؤتمراً كهذا، حاول من خلاله المسؤولون لم شمل أهل النقد من سائر أقطار العالمين العربي والغربي.

استغرابي لا يتأتى من كون السينما، صناعةً وعرضاً، دخلت السعودية حديثاً، بل لأن نشاطات كهذه يصعب تخيّلها حتى في البلدان الغربية التي تمتلك تراثاً فيلمياً ونقدياً تعود بداياته إلى مطلع القرن الماضي. لا غرابة ان تُعقد ندوة هنا وطاولة مستديرة هناك محورههما النقد، وذلك على هامش مهرجان أو داخل تظاهرة ثقافية أو بمبادرة من مؤسسة أكاديمية، في باريس وبرلين ونيويورك وروما، لكن تخصيص أيام متتالية لحدث يدور على النقد ويضم نقّاداً من أنحاء العالم كافةً، وعلى مدار اليوم، وبهذه المساحة، فعملة نادرة ولحظة طارئة على العالم العربي الذي يعيش أزمات لا تُحصى تجعل للأسف من الثقاقة ترفاً، لا ضرورة. لكن مدى الاستغراب قد يتضاءل اذا ما تذكّرنا ان طاقات شبابية لطالما كانت السينما هاجسها، تقف خلف هذا الحدث، وهي التي كانت صبرت لسنوات لنيل الضوء الأخضر والحصول على الامكانات المطلوبة.

جاء هذا المؤتمر في الرياض، في أعقاب ملتقيات نقد عدة عُقِدت في كلّ من بريدة وجدة وتبوك وأبها والظهران، وكان ضيف أحدها (تمسّكوا جيداً!)، السينمائي وكاتب السيناريو الشهير الأميركي بول شرايدر، الذي بدأ حياته المهنية ناقداً، وهو صاحب كتاب شهير عن بريسون وأوزو ودراير.

ثمة ملخّص على صفحة وزارة الثقافة يُعرّف المشروع على النحو الآتي: مؤتمر رئيسي عام وملتقيات متخصصة يجمع المختصين وغير المختصين في مجال #النقد السينمائي وثقافة الفيلم، لتبادل الخبرات وتعزيز المشاركة الوطنية والإقليمية والدولية في الحوارات الدائرة حول الطرق والمستجدات في مجال النقد ومفاهيمها وتطبيقاتها.

صحيح ان المؤتمر كان تعبيراً عن هذا كله، لكن مطالعة بيان تختلف جذرياً عن المشاركة في الحدث وحضوره.

جئتُ وأنا كلّي فضول، لأرى ما المقصود بمؤتمر النقد السينمائي. غادرتُ ولا أدّعي أني فهمتُ كلّ أفقه، لكني على اقتناع بأني شاهدتُ وضع الحجر الأساس لحدث قد ينتهي هنا وقد يصبح مرجعاً مع الزمن، وهذا يتوقّف على إرادة المسؤولين وطول أناتهم. نعلم جيداً ماذا يعني مهرجان سينمائي، نقيس واحداً بآخر، لأن لنا مرجعيات في شأنها، لكن مؤتمر النقد السينمائي في الرياض هذه فكرة تخرج عن الصندوق، لا هدف تطبيلياً يلفّه ولا بُعد ترويجياً يبرره، ولهذا يجب ان يستمر ويتطور إلى الأمام.

من قصر الثقافة في الرياض أخذ الحدث مقراً له. مبنى شاسع في حي السفارات يفرض نفسه على العابر أمامه، سلالم كثيرة وصالات متعددة، عصرية ومجهّزة، وُظِّفت لأغراض مختلفة، فأصبحت لأيام مقصداً للنقّاد. وجوه بشوشة لموظّفين ورجال أمن ومتطوعين، تُرحِّب بك أينما توجّهتَ وكيفما استدرتَ. مهما يكن طلبك، ثمة مَن يعرض خدماته بطيبة خاطر. لافتات عدة ارتفعت في المكان لفتني ان واحدة منها مخصصة للناقد المصري سامي السلاموني، الذي يُعتبر أحد الأسماء المعروفة عربياً في النقد. وجه الرجل الأربعيني لم يحتل يوماً هذه المساحة في أي من الصور التي كانت تُنشر إلى جانب مقالاته. تمنيتُ لو رأى هذه التحية التي لم تُقَم له حتى في وطنه.

تحوّلت باحة قصر الثقافة الخارجية مسرحاً لنقاشات وتحليلات لأغرب القضايا. هل أكرر نفسي اذا قلتُ انه لم يسبق لي ان رأيتُ شيئاً كهذا في حياتي؟! الخشبة تبتعد بضعة أمتار عن الشارع حيث تمر السيارات، فيما نحن، حفنة من الحالمين، جالسون نستمع إلى آراء عن عصافير هيتشكوك أو حمار بريسون (لي عودة إلى هذين لاحقاً).

عشرات الكراسي وُضِعت أمام شاشة ظهرت عليها أسماء أصحاب المداخلات. ندوات وحلقات حملت شؤونا متفرقة، بعضها معقّد وعميق يحاول اعادة النظر في مفاهيم معينة وبعضها الآخر ينتمي إلى "ألف باء قراءة الفيلم"، من دون ان يلغي أحدهما الآخر. فالقضايا التي تُطرح عادةً في مجلات ودوريات سينمائية متخصصة أخذت فجأةً وجوهاً وأصواتاً وحركات جسمانية، بعضها لناس أمضوا دهراً في الكتابة السينمائية من دون ان تكون علاقتهم بالآخرين مباشرة إلى هذا الحد. هذا كله بعيداً من الأحرف الجامدة داخل المقالات. من خلال طرح عناوين كبيرة، بعضها فضفاض، حاول هذا الحدث ان يُنزل النقد من برجه العاجي، ليضعه في متناول الآخر، جاعلاً منه ضرورة تواكب مراحل تطور السينما، ولافتاً إلى كونه فنّا قد لا يرتقي إلى الفنون الأخرى، كما يقول الناقد الفرنسي الراحل ميشال سيمان، ومع ذلك لا يمكن تخيل السينما من دونه.

حوصر المؤتمر بحاملي الاعتمادات، من العاملين في النقد والضالعين فيه أو المهتمين بشأنه أو الساعين إلى دخوله. جاء هؤلاء من بلدان عربية وغربية، يتراوح فيها حضور السينما من صفر إلى عشرة على عشرة. اختار المنظّمون أسماء وجدوا فيها تجسيداً للنقد ماضياً وحاضراً، بعض هذه الأسماء خدم عسكريته وما عاد له الكثير ليقدمّه وأصبح الحضور شرفياً لا أكثر، لعله يتكرم ويتولّى بنقل المعرفة إلى مَن يأتي من بعده، مع العلم ان مسألة الصراع بين الأجيال في العالم العربي تحتاج إلى نقاش آخر.

أما البعض الآخر، فهم من الذين بدأوا في السنوات العشر والعشرين الأخيرة، ولا يزالون على نشاطهم لا بل يفيضون بالمشاريع وإن لم يتحقق الكثير منها. الأسماء المكرسة والمعروفة ضرورية لاعطاء الحدث صدقية وزخماً، لكن التعويل في حدث كهذا هو على جيل في طور التكوين، ومن الواضح ان هناك قراراً لاعطاء هذا الجيل فرصته كي يبرز في مجال صعب للغاية، اذ ان كثراً يضعونه في خانة الهواية لا المهنة.

نفهم من كلمة "مؤتمر" انه يخص المحترفين، وهذه أيضاً تفتح المجال للبس وتحض على النقاش: هل على مؤتمر كهذا ان يبقى محصوراً في النقّاد ومن يدور في فلكهم، أو عليه ان يكون مفتوحاً للجمهور؟ سؤال قد نعثر على اجابة عنه في الدورات المقبلة.

ما هو النقد وكيف يُمارَس وأي معايير يجب تطبيقها ومَن المؤهل ليحمل هذا اللقب؟ سؤال شغل الرعيل الأول، مذ بداية السينما، ولا خطأ في اعادة فتح هذا الملف وطرح الأسئلة في ضوء التغييرات التي طرأت على النقد في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع ظهور الاعلام الرقمي ووسائط التواصل وفقدان الكلمة السطوة التي كانت عليها في الماضي.

أما عن حال النقد في العالم العربي وهل يعاني من موت سريري، فهذا ما طرحه الناقد المغربي حمادي كيروم، في ندوته، وهو هاجس قديم يتجدّد، لشدة ما يفسح المجال لجدال محموم بين مَن يراه حياً يُرزق ومَن يجده في حال احتضار. هذا النقد عصيٌّ على الموت، ما دام هناك جهتان، جهة تعرض وجهة تتلقّى؛ هو الذي لم يتوقّف عن الموت، لا بل دُفن مرات، في كلّ مرة ظهر ما يهدده. لكن هذا النقد في مرحلة تحوّل، محاولاً إيجاد ما يفيده ويضمن له استمرارية، عملاً بمقولة "يجب تغيير كلّ شيء، كي لا يتغير أي شيء". شخصياً، أميل إلى الفصل بين الحركة النقدية والنقد، فالحركة تحتاج إلى ظروف مناسبة وامكانات داعمة واستمرارية فعّالة، فيما النقد يُمكن ممارسته في ظلّ أعلى درجات الفردانية، خصوصاً في عصرنا هذا حيث كلّ شخص صار ناشراً.

هذا ما تطرق اليه في أي حال، سريعاً، الناقد العراقي قيس قاسم، عندما قال ان كلّ شخص هو ناقد. عبارته تذكّر بما صرح به فرنسوا تروفو ان لكلّ شخص مهنتين: مهنته الأصلية وناقد سينمائي. هناك في عبارة المخرج الفرنسي هذه، رؤيوية تجسّدت بشكل واضح مع ظهور وسائط التواصل، بحيث انه بات للجميع منبر يعبرون من خلاله عن آرائهم من دون ان يُطلب منهم ذلك، وأحياناً في منشورات تتجاوز ذكاءً نصوص بعض الذين يطرحون أنفسهم من المتخصصين.

هل من نظريات ومدارس نقدية خاصة بنا أم ان كلّ ما نمارسه هو نتيجة مكتسبات التراث النقدي الغربي؟ وهل يمكن ممارسة نقد حر في مجتمعات مقيدة حيث الكتّاب أنفسهم في الكثير من الأحيان، ضحايا الأفكار المسبقة والمسلّمات الدينية والمحظورات الاجتماعية؟ هذا ما أوحت به مداخلة الناقد العماني عبدالله الحبيب، خلال محاضرة للأردنية رانيا حداد والسعودي فراس الماضي عن فيلم "الطيور" لألفرد هيتشكوك، اذ علّق قائلاً: "لا خلاف على الأهمية الفنية والجمالية الاسثتنائية لهيتشكوك، فهو معلّم، ولكن كنتُ في فترة أعتقد ان المعيار الوحيد للتعامل مع هيتشكوك هو عبر التحليل النصّي، لكن الآن بما اننا في العالم الثالث، وبما ان هيتشكوك لا يزال يثير اهتمام الباحثين ونقّاد السينما، فلنتكلّم مثلاً عن ما بعد الكولونيالية أو النظرية النسوية في أفلامه، فهو في النهاية أنجز "الرجل الذي كان يعرف كثيراً" الذي تدور أحداثه في المغرب، أو "النافذة الخلفية" الذي هاجمته النسويات، أو تناول موقفه الإيديولوجي من الرأسمالية، كونه عاصر الحرب الباردة، وبالتالي كان له موقف من الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وهذا ما يتحدّث عنه "شمالاً إلى الشمال الغربي". لذلك، أعتقد انه آن الآوان لكي نبادر إلى أخذ قسط من الراحة من علم الجمال السينمائي والانتقال إلى النظرية السينمائية".

دورة أولى تعني عملياً أخطاء وخيارات قد تحتاج إلى المزيد من الدراسة. أحد النقّاد قال لي ممازحاً: "نحن فئران تجارب هنا". نحن فعلاً كذلك. لكن لم نخضع لتجارب المنظّمين فحسب بل لتجارب النقد نفسه، كوننا لم نواجه هذا الكم من الأسئلة بهذه الطريقة الجماعية من قبل.

في النهاية، مهما قلنا، فدورة تأسيسية كهذه تحمل إيجابيات تتجاوز سلبياتها. ولا يمكن الا تشجيعها مع توجيه بعض الملاحظات التي من شأنها التحسين. فهذا ليس فيلماً أو حفل عشاء، بل مشروع ثقافي لا يثمر الا عبر الاستمرارية والتراكم دورةً بعد أخرى، ولا تتوضح ملامحه إلى مع الزمن. الملاحظة الأهم تطال بشكل أساسي طبيعة المواضيع المطروحة ونوعها. أما الملاحظة الثانية فهي تمنٍّ لعرض كامل للأفلام التي تتم مناقشتها. مناقشة فيلم شاهدناه للتو فوائدها كثيرة قياساً بمناقشة فيلم شاهدناه قبل سنوات، والتفاعل سيكون أعلى. أما الملاحظة الثالثة والأخيرة، فتطال المشاركين أنفسهم. توسيع الدائرة مطلوب، والغربلة ضرورية أيضاً، لكن هذه أشياء قد تحدث من تلقاء ذاتها في السنوات المقبلة.

 

النهار اللبنانية في

06.12.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004