ملفات خاصة

 
 
 

هاماغوتشي الفائز بـ"الأسد الفضّة" في البندقية لـ"النهار": بحثتُ في فيلمي عن مصدر الشر وفيكتور إريثه ملهمي الأول

هوفيك حبشيان

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

"لا يوجد شر" للمخرج الياباني #ريوسوكي هاماغوتشي (44 عاماً) الذي ذاع صيته أخيراً مع "قودي سيارتي” (“أوسكار” أفضل فيلم أجنبي)، نال مساء السبت الماضي جائزة لجنة التحكيم الكبرى (“الأسد الفضّة”)، في ختام الدورة الثمانين من مهرجان #البندقية السينمائي. من فكرة كان ينوي توظيفها لعمل استعراضي، تحوّل "لا يوجد شر" إلى روائي طويل، وكان في رأيي أحد أضعف الأفلام وأكثرها غرقاً في الادعاء داخل مسابقة هذا العام، لكن كان للجنة التحكيم برئاسة المخرج الأميركي داميان شازيل رأيٌ آخر.

تقع الأحداث في قرية محاصرة بالغابات، على مقربة من طوكيو. مشروع جديد قيد الدراسة، سيغير حياة سكّانها ويبثّ فيهم القلق: انشاء منتجع سياحي ذي تأثير سلبي على بيئة يعيش فيها الناس الذين سيتلقونه كضربة لعيشهم الهانئ مع الطبيعة. لكن هناك هواجس أخرى أيضاً، تتجاوز المشروع وامكان تحقيقه، ونرى انعكاساتها على رجل وابنته وواقعهما اليومي. ما يصوّره هاماغوتشي هو ما سيولّده هذا المشروع من ردود على الأصعدة كافة، لكن الفيلم لا يكتفي بهذا الحدّ، بل يدخل في "متاهات" أخرى، لا تكون دائماً لمصلحته.

يسعى المخرج إلى كتابة قصيدة، صوتاً وصورة، إيقاعها متمهّل وصوتها خافت، لكن هناك شيء لا يتطور وانفعال لا يحضر. حتى النحو الذي يلتقط فيه الطبيعة، لا يفضي إلى نتيجة مرضية على المستوى الجمالي. أما مقاربته لها فمبسّطة، اذ يجرّدها من قسوتها، ليلقي هذه القسوة على عاتق الإنسان، مصدر كلّ الشرور على ما يبدو.

في الآتي، مقابلة أجرتها "النهار" مع هاماغوتشي في مهرجان البندقية.

·        عنوان الفيلم ملتبس بعض الشيء، اذ نقرأ في جنريك البداية "يوجد شر"، ثم يتحوّل إلى "لا يوجد شر” تدريجاً. لماذا هذا الخيار؟

- هكذا وجدته ملائماً. أما بالنسبة إلى سؤالك "لماذا اخترت عنواناً مماثلاً؟"، فلأن هناك لحظة أدركتُ فيها ان الطبيعة ستكون "موتيفاً" مهماً من الفيلم. حينما كنت أستعّدُ لنوع المَشاهد الذي سنصوّره داخل هذه المناظر الطبيعية، خطر في بالي العنوان بشكل طبيعي. لا أعتقد انه من الصعب جداً الإحساس بهذا الشعور، لأنه اذا أمعنتَ النظر في الطبيعة، فسيصعب عليك ان تجد فيها شراً. طبعاً، هناك عنف، لكنه عنف مختلف عن ذلك الذي يبثّه البشر الذين يتعاملون بعضهم مع بعض بقسوة شديدة. الشر غير موجود في الطبيعة، لكن السبب الذي يجعلني أعتقد انه غير موجود في الطبيعة هو ان المعطيات تتبدّل ما ان يحضر فيها الإنسان، ويصبح الشر حاضراً بقوة عند دخول الإنسان على الخط، ليصبح السؤال الملح هو الآتي: ما هو مصدر الشر؟ أين منبع هذا الشر؟ وأعتقد ان الفيلم يحاول ان يفكّك هذه الظاهرة.

·        بعض الأفكار التي تحضر في الفيلم يأتي من بعض الميثولوجيات اليابانية، أليس كذلك؟

- لا أعتقد أنني قصدتُ ذلك. لم يخطر في بالي أي نوع من الحكايات الشعبية أو الأساطير اليابانية، ولم أفكر فيها خلال التصوير. لكن بعد العرض، التقيتُ بأشخاص كشفوا لي ان الفيلم ذكّرهم بكلّ ذلك. قد يكون هناك تشابه. أرى ان التشابه مع تلك الأساطير والميثولوجيات يأتي من فكرة ان العلاقة بين السبب والنتيجة في الفيلم ليست بذلك الوضوح، وقد تأتي المقارنة من هذا المحل.

·        كيف تم اختيار الممثّلين في "لا يوجد شر"، خصوصاً الفتاة الصغيرة التي تؤدي دورها راي نيشيكوا؟

- اخترتهم بناءً على اختبار تمثيلي. اختبرنا ثلاث فتيات وكنّ تقريباً في العمر نفسه. طلبنا منهن ان يتحدّثن بعضهن مع بعض، لأرى كيف يتعامل بعضهن مع بعض، وهكذا تم الاختيار. أما بالنسبة الى الاستعدادات، وتعلّم الحوارات، فأجرينا قراءة سيناريو مع راي نيشيكوا، علماً ان دورها لا ينطوي على الكثير من الحوارات. ما تعلّمته من عملية إنجاز هذا الفيلم هو انك عندما تعمل مع الأطفال، عليك ان تثق بهم، وان تدعهم يفعلون ما يرغبون فيه أو ما يعتقدون انهم قادرون على فعله. وعندما أطلب اليهم ان يفعلوا ما يعتقدون انه الفعل الصائب، يشغلون الفضاء بشكل عظيم.

·        كيف تعاونتَ مع مؤلفة الموسيقى أيكو إيشيباشي، وإلى أي مدى كان مختلفاً عن تعاونكما السابق؟

- في "قودي سيارتي"، كانت رؤيتنا لمَا نخلقه جد واضحة. هذه المرة، لم نكن نعلم مسبقاً إلى أين نذهب وما الذي سينتج من عملنا معاً. بدأنا من المجهول، لكننا تعاونا بشكل وثيق معاً، ضمن علاقة كانت فيها الثقة المتبادلة الشعار الأهم. الآن، وأنا أفكّر في هذا الموضوع، تذكّرتُ ان أيكو سألتني عن هذا المشروع قبل نحو سنتين، لكن أعتقد أن الأمر تطلّب مني وقتاً طويلاً للتوصّل إلى فكرة نهائية عمّا سنفعله. كنت أريد للموسيقى وللمؤثرات البصرية ان تنوجد بعضها بمعزل عن بعض، وان يتلاصق بعضها مع بعض في الآن نفسه. احتجتُ إلى بعض الوقت كي أفهم هذا. في مرحلة من المراحل، وجدتُ نفسي أحاول ان أكون قريباً جداً من موسيقاها، وكنت أبذل الكثير من الجهد لأتخيل ما الذي يرضيها في عملي. باختصار، كنت أحاول ان أنال اعجابها. ثم، أدركتُ انها تثق فعلاً في ما أقدّمه، وشعرتُ انها تريد مني ان أكون نفسي، وهذا كان يرضيها تلقائياً. عندما فهمتُ ذلك، كلّ شيء أصبح أسرع إلى حد ما، ولم نحتج إلى أكثر من ستّة أشهر كي نباشر التصوير.

·        أفلامك الثلاثة الأخيرة عُرضت في أهم ثلاثة مهرجانات في العالم، برلين، كانّ والبندقية. هل كان ذلك مقصوداً؟ قصدي، هل سعيتَ إلى المشاركة فيها على التوالي؟

- أنجزتُ "دولاب الحظ والفانتازيا" مع الفريق ذاته الذي أنجز فيلمي "ساعة سعيدة" وتمويل شركة الإنتاج نفسها. كانا فيلمين شبيهين أحدهما بالآخر. كارلو شاتريان الذي كان المدير الفنّي لمهرجان لوكارنو حيث عُرض "ساعة سعيدة"، كان انتقل في تلك الأثناء إلى برلين، ولهذا السبب سجّلنا "دولاب الحظ والفانتازيا" في برلين، وكنت في الفترة نفسها انهيتُ إخراج "قودي سيارتي"، وكان فيلماً مختلفاً فأردنا مهرجاناً مختلفاً له، وذلك بطلب من شركة الإنتاج التي كانت ترى انه ملائم لكانّ. وهذا ما حصل. عرضنا الفيلم في كانّ وحصلنا فيه على جائزة. أما بالنسبة إلى "لا يوجد شر"، فكان جاهزاً في الفترة المسموح بها لاقتراحه على البندقية، لذلك قررنا تسجيله هنا. البندقية مهرجان لم أشارك فيه يوماً، ففكّرتُ انه قد يكون فكرة جيدة.

·        ما الذي تغير بالنسبة إليك بعد فوزك بـ”الأوسكار" عن “قودي سيارتي”؟

- بصراحة، لا أعرف. لكني، بالطبع، ممتن لفوزي بهذه الجائزة. أشعر بأنها أُعطيت إلى المشروع ككلّ، لا إليَّ فحسب. لا أعتقد ان الأمر مرتبط بي وبشخصي. ليست لي علاقة قوية بجائزة كـ"الأوسكار"، وفي الوقت عينه لا أعرف ما هي تأثيراتها في عملي.

·        بعد نجاح "قودي سيارتي"، كثر في أوروبا اعتقدوا بأنك من السينمائيين الذين تأثّروا بالأدب أكثر من تأثّرهم بالسينما. هل هذا صحيح؟ هل أنت قارئ أكثر منك مشاهداً؟

- يسرني أني أعطيتُ الآخرين هذا الانطباع. أعتقد أنني استطعتُ "غشّهم"، لأنني لا أقرأ الكثير من الأدب. لا أعتبر نفسي قارئاً نهماً. أنا شخص يميل إلى الأفلام أكثر من الأدب. شاهدتُ في حياتي أفلاماً أكثر ممّا قرأت كتباً. لكنني، في المقابل، ميزتي أني أحتاج إلى حوارات لأكتب نصوص أفلامي، وأستلهم كثيراً من السينمائيين الحواريين. ومن هؤلاء إريك رومير وجان أوستاش وجون كاسافيتس.

·        هل في بالك أفلام عندما تصوّر أفلامك؟ أم انك تستلهم من اللحظة التي أمامك؟

- الحلّ الأنسب هو ان تستكشف الأشياء التي تحدث أمام عينيك وان تستلهم منها. إلا أنني، على المستوى الشخصي المحض، لستُ من الذين يستطيعون بناء كلّ شيء من الصفر، لذلك أحتاجُ إلى مراجعي السينمائية. خلال التصوير، أفكّر دائماً في كيفية التقاط المَشاهد، بناءً على تأثّري بهذا السينمائي أو ذاك.

·        هل يمكن ان تسمّي سينمائياً أثّر فيك؟

- هذا أمر صعب، لكن هناك فيكتور إريثه وفيلمه "روح خلية النحل".

·        آه، واحد من الكبار. هل شاهدتَ فيلمه الأحدث "اغماض العينين"؟

- لا، لم أشاهده بعد.

·        تحفة! ماذا تحبّ في إريثه؟

- أحب لقطاته. كلّ واحدة منها تجعلني ألمس وجود البشر، وهي تمدّني بإحساس انهم موجودون فعلاً، لا سينمائياً فقط. وأشعر بهذا كله فقط عبر المشاهدة. عندما اكتشفتُ أفلامه، شعرتُ بأن ليس كلّ ما فيها قابلاً للاستيعاب، لكنها تجعل الجمهور يتسلل إلى الفيلم بلطف. وهو بارع جداً في هذه التقنية وفي بثّ هذا الشعور.

·        هل شاهدتَ أفلام المتسابقين معك هنا في البندقية؟

- للأسف، لا. ضيق الوقت لم يسمح لي بذلك.

 

النهار اللبنانية في

13.09.2023

 
 
 
 
 

لا ضير من عرض أفلام وودي آلن ورومان بولانسكي في كان والبندقية إن كانت جيدة

هنا في مهرجان البندقية السينمائي، يسرح رجال هوليوود الأشرار بين محتف بهم ومتودد إليهم على رغم سحب الاتهامات القاتمة التي تحوم فوق رؤوسهم من حركة #أنا_أيضاً

جيفري ماكناب 

هل تتحول مهرجانات الأفلام الأوروبية إلى الملاذ الأخير للأوغاد المسنين في قطاع السينما؟ هذا سؤال طرحه كثيرون على أنفسهم خلال مهرجان البندقية السينمائي بنسخته الـ80 الذي اختتم في عطلة نهاية الأسبوع الماضي. فهم يتساءلون عن سبب الاستقبال الحار الذي يلقاه حتى الآن مخرجون أو نجوم سينمائيون تشوهت سمعتهم، في شارع لا كروازيت في كان أو جزيرة ليدو في البندقية. يمنح أشخاص تلاحقهم مزاعم اغتصاب وتعنيف لزوجاتهم واعتداءات على أطفال فرصة عرض أفلامهم. ويرسم منظمو المهرجان خطاً فاصلاً بين سمعة هؤلاء في الصحف الصفراء من جهة، وأعمالهم من جهة أخرى.

وليس رومان بولانسكي سوى واحد من الفنانين المخضرمين سيئي السمعة الذين عرضت أفلامهم الجديدة في البندقية هذا العام. وطرح فيلمه الكوميدي المريع الجديد، "القصر" The Palace، خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي. وانضم إلى المخرج البولندي في ليدو، وودي آلن الذي عرض فيلمه الطويل "ضربة حظ" Coup de Chance المصور باللغة الفرنسية، ولوك بيسون الذي حضر العرض الأول لفيلمه الجديد والغريب، "دوغمان" Dogman. كل واحد من بين هؤلاء المخرجين متورط بدعاوى قانونية فاضحة وفاقعة تتعلق بحياته الخاصة.

ويعتبر بولانسكي شخصية جدلية إلى أبعد الحدود. ما بعد حركة #أنا_أيضاً، تجدد تسليط الضوء على اغتصابه فتاة قاصرة اسمها سامنثا غيمر في سبعينيات القرن الماضي، وفراره من القضاء الأميركي، كما تجدد طرح التساؤلات إن كان من المناسب الاستمرار بعرض أعماله.

أما آلن، فلا يستطيع التخلص من مزاعم التحرش الجنسي التي اتهمته بها ديلان فارو ابنة زوجته التي تبناها، مع أنه يستمر بنفي هذه الادعاءات بشدة. ومن جانبه، واجه بيسون مجموعة من الاتهامات بالاغتصاب.

وتسبب وجود الثلاثي في الليدو بانقسام حاد في الآراء. يرى بعضهم في انتقاد هؤلاء الفنانين، وهو أقسى بكثير في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة من القارة الأوروبية، دليلاً على النفاق وعلى سرعة مقلقة في إصدار الأحكام. ففي النهاية، برأ بيسون من الاتهامات كافة الموجهة ضده. وكرر وودي آلن في مقابلته مع مجلة "فاريتي" Variety هذا الأسبوع رداً على سؤاله عن ادعاءات فارو، قوله "خضعت القضية للتحقيق من قبل. هيئتي تحقيق كبيرتين. وخلصت كل منهما، بعد تحقيقات مطولة ومفصلة، إلى أن هذه الاتهامات باطلة ولا أساس لها من الصحة".

لقد مر 46 عاماً على واقعة ممارسة الجنس غير القانونية بين بولانسكي وسامنثا غيمر ذات الـ13 سنة في 1977. أخرج الرجل أفلام عدة، وفاز بالأوسكار منذ ذلك الوقت، فيما سامحته غيمر نفسها منذ وقت طويل (مع أن عديداً من النساء غيرها وجهن إليه تهماً، هو ينفيها).

حتى بعد تبرئتهم في المحاكم، أو مسامحة الضحايا لهم، وجد صانعو الأفلام أنفسهم أشخاصاً منبوذين من فعاليات عدة، ولا سيما تلك في المملكة المتحدة أو أميركا الشمالية. ومن المعبر جداً أن مهرجاني تورنتو ولندن لم يختارا أياً من الأفلام التي من أخرجها بيسون أو بولانسكي أو آلن للعرض (مع أنهما عادة يعرضان أفلاماً بارزة من مهرجان البندقية).

ما زالت المهرجانات السينمائية الأوروبية على قدر كبير من الاستيعاب والمجاملة. حتى عندما كانت المزاعم الموجهة ضد صناع الأفلام والممثلين تستند إلى وقائع، لم تسحب الدعوات الموجهة لهم. صدرت في حق جوني ديب أحكام تشهير متناقضة، أولاً في المملكة المتحدة إذ خسر الدعوى التي أقامها ضد صحيفة "صن"، على خلفية اتهامها له بتعنيف زوجته، ثم في الولايات المتحدة، حيث ربح الدعوى بعدما صدر أمر بأن تدفع له زوجته السابقة آمبر هيرد تعويضاً لقاء التشهير بسمعته. لكن على رغم الجدل المحيط به إلى الآن، ما يزال الوجه الإعلاني لعطر "سوفاج" Sauvage الذي ينتجه دار الأزياء الفرنسية "ديور" Dior وما يزال يدعى إلى فعاليات سينمائية كبيرة مثل كان وسان سيباستيان.

قدم ديب أداء ساحراً، قاتماً ويغوص في أعماق الذات، عندما لعب دور ملك فرنسا لويس الـ15 في الفيلم الدرامي التاريخي الفخم "جان دو باري" للممثلة والمخرجة مايوين، الذي افتتح به مهرجان كان في مايو (أيار)، ومع ذلك، امتعض كثيرون من وجوده هناك. كما سافر إلى الريفييرا في أعقاب طلاقه المرير من هيرد، وسط استمرار تلك الاتهامات بالتعنيف الأسرى. استخف مدير المهرجان تييري فريمو بهذه الهواجس، ولفت إلى أن أحداً لم يمنع ديب من التمثيل في فيلم. ولو فعلوا ذلك "ما كنا هنا، نتحدث عن (فيلمه الجديد)".

رداً على سؤال وجهته له "اندبندنت" أخيراً حول خسارة ديب لمكانته السابقة، شبه تيم بورتون، مخرج فيلم "إيد وود" Ed Wood الذي يتعاون بشكل منتظم معه في مشاريعه، دعاة تطبيق العدالة الأهلية الذين يعبرون عن سخطهم وامتعاضهم الأخلاقي في الفضاء الإلكتروني ويستهدفون ديب، بالقرويين الغاضبين في فيلم فرانكنشتاين. وقال "كنت دائماً أرى المجتمع هكذا، مثل القرية الغاضبة. ترى ذلك بشكل متزايد الآن. إنها دينامية بشرية غريبة جداً، وصفة إنسانية لا أحبها ولا أفهمها تماماً".

مثل فريمو في كان، لم يشعر مدير مهرجان كان السينمائي، ألبرتو باربيرا، بأي أسف في شأن استضافة شخصيات تطرح أسماؤها علامات استفهام كبيرة. وقال لصحيفة "غارديان"، "لست قاضياً أنيطت به مهمة إصدار حكم حول سوء سلوك أحدهم. أنا ناقد سينمائي، ووظيفتي هي الحكم على نوعية أفلامه".

لكن الحجة المضادة البديهية هي أن تخصيص مساحة لفنانين مثل بولانسكي في المهرجانات يعني تأييد سوء سلوكه المزعوم أو الحقيقي واستغلال السلطة. وهذا يشكل خطراً بتقويض منجزات حركتي #أنا_أيضاً MeToo# و#الأوسكار_أبيض_جداً OscarsSoWhite# من ناحية تغيير المواقف المتجذرة في القطاع. فما الجدوى من كل ذلك الكلام عن التنوع والمساواة بين الجنسين في ظل الاحتفاء اليوم بأشخاص اتهموا بارتكاب انتهاكات جسيمة؟

صحيح أن واينستين المسجون تلاشى من المشهد. لكن الأمر نفسه لا ينطبق على بولانسكي وآلن. ما يزال صانعا الأفلام هذين يستقطبان الانتقادات. وفي البندقية الأسبوع الماضي، أثارا تساؤلات صعبة للجمهور والمعجبين والنقاد على حد سواء.

كان من الصادم أن ترى التناقض بين المزاج الجيد للنقاد الخارجين من فترة العرض الصباحية للأفلام أمام الصحافة يوم الإثنين بعد مشاهدة فيلم وودي آلن الجديد من جهة، وسخط المتظاهرين خارج العرض الأول للفيلم في وقت لاحق من اليوم نفسه. فيما تفاجأ الحشد الأول إيجابياً بدرجة الفطنة وحس الفكاهة والعمق العاطفي لفيلم "ضربة حظ"، صاح الحشد الثاني بالمخرج معبرين عن ازدرائهم الصريح له وغضبهم منه.

يرغم بولانسكي وآلن على العمل مع ممولين أوروبيين لأن الأميركيين لا يقربوهما حتى، يلمح بعض المعلقين إلى أن القطاع في أوروبا متساهل أكثر بكثير في شأن الأمور الأخلاقية مقارنة بجماعة الأستوديوهات الأميركيين المتزمتين الذين لا يقبلون أبداً أن يربطوا أنفسهم بنجوم سمعتهم مشوهة. لكن هذه الفكرة سخيفة تماماً. أذكر أني قابلت الممثل نيك نولتي منذ سنوات عدة، بعد فترة قصيرة من اعتقاله بتهمة قيادة السيارة على الطريق السريع على ساحل المحيط الهادئ فيما كان ثملاً. التقطت الشرطة له صورة جنائية بعد اعتقاله. وتصدرت صورته تلك بمظهره غير المرتب وقميصه المزركش عناوين الصحف حول العالم. هل شعر بالقلق من التأثير السلبي المحتمل عليه؟ أبداً، كما أجابني بسرور. ما دام الأمر لا يتعلق "بتصرفات إباحية مع أطفال ولم تقتل أحداً"، لا يكترث الأستديو بما تفعله طالما ما زال قادراً على كسب المال من خلالك.

عندما ألغت أستوديوهات أمازون اتفاق تصوير فيلم مع آلن عام 2019، زعم عملاق البث أن السبب هو سمعته والتعليقات التي جعلت تسويق أفلامه كما يجب أمراً مستحيلاً. لكن الرسالة ما بين السطور هي أنه ما عاد بالإمكان الاستفادة منه مالياً. فالقرار إذاً مالي بقدر ما هو أخلاقي.

إن الأمر الذي يتضح أكثر فأكثر هو التناقض وانعدام المنطق الظاهر من طرفي الجدال حول أي من صناع الأفلام يجب إقصاؤهم ولماذا. ليس آلن وبولانسكي وبيسون المخرجين الوحيدين الذين وجهت إليهم ادعاءات خطرة بإساءة التصرف. إذ كشف أحد الأفلام الأخرى المعروضة في البندقية، وهو وثائقي أخرجه ماثيو ويلز بعنوان فرانك كابرا: مستر أميركا، عن أن صانع الأفلام الأميركي من أصول إيطالية الذي أخرج عام 1946 فيلماً عن عيد الميلاد يعد من الأفلام المفضلة لدى الجميع، وهو "إنها حياة رائعة" It’s a Wonderful Life، كان في الحقيقة عنصرياً كال الإهانات لكل المجموعات العرقية التي يمكن للمرء تصورها، بما فيها تلك التي ينتمي إليها. هل علينا إلغاؤه كذلك أم السماح بعرض أفلامه في المهرجانات فحسب؟

ماذا عن أوتو بريمينغر الذي اشتهر بميوله السادية، أو جون فورد، المتنمر اللئيم الذي من المستبعد تحمل سلوكه في موقع التصوير في أيامنا هذه، أو هيتشكوك الذي اعتدى على تيبي هيدرين وتحرش بها جنسياً أو مايكل باول، الذي يعرف بأنه كان يرهب أعضاء فريق العمل أو إنغمار بيرغمان وفورات غضبه الأسطورية الشهيرة أو برناردو بيرتولوتشي ومعاملته المخزية للصبية ماريا شنايدر أثناء تصوير فيلم "آخر تانغو في باريس" Last Tango in Paris (1972)؟ اللائحة تطول.

لو نويتم أن تسيروا على مبدأ ثابت في التعامل مع مزاعم سوء السلوك والتصرفات البغيضة، ستضطرون على الأرجح إلى إلغاء نصف صناع الأفلام في تاريخ السينما بدءاً بـ دي دبليو غريفيث على أساس عنصريته الصارخة ووصولاً إلى شخصيات معاصرة مثل بريت راتنر الذي واجه اتهامات عدة بسوء السلوك الجنسي (وهي اتهامات ينفيها بقوة). وفي الوقت نفسه، يبدو ضرباً من الجبن عدم إدانة المخرجين عندما يضايقون زملاءهم وأصدقاءهم وأفراد أسرهم أو يرهبونهم أو يعتدون عليهم أو يستغلونهم.

لا شك أننا بحاجة إلى بعض التوازن ومنظور أوسع الآن؟ حصلت تغييرات إيجابية هائلة في القطاع السينمائي الأوروبي والأميركي خلال السنوات الخمس الماضية. أصبحت عضوية أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية، الهيئة المسؤولة عن التصويت لجائزة الأوسكار، أكثر تنوعاً وعالمية بكثير مما كانت عليه عام 2016، حين قاطع سبايك لي الفعالية لأن المرشحين كلهم تقريباً من البيض.

تكلمت المخرجة النمساوية جسيكا هاوزنر (كان العرض الأول لفيلمها الجديد "نادي زيرو" Club Zero التي تدور أحداثه في بريطانيا في مهرجان كان) أخيراً عن الشوفينية السائدة التي واجهتها في بداية مسيرتها المهنية قائلة إن هذا السلوك ما عاد مقبولاً في قطاع السينما الأوروبي. "تحدتنا جميعاً حركة #أنا_أيضاً وبينت لنا أن هذه السلطة الأبوية موجودة. كنت على وشك أن أنسى ذلك. كنت أعيش في عالم قررت فيه أن أتقبل الوضع. لكن عندها، ظهرت #أنا_أيضاً وقررت أنني غير مضطرة ربما إلى القبول به، ولست مجبرة أن أتعايش معه. بالنسبة إلي، فتحت حركة #أنا_أيضاً عيناي فعلاً وغيرت كثيراً".

لا أحد يريد إلغاء هذه التغييرات لكن لا بد أن يمنح مهرجان كان والبندقية الحق بعرض أفلام لأمثال بولانسكي وبيسون وآلن إن كانت جيدة ما فيه الكفاية. لأن البديل هو أن تقع تلك المهرجانات في حفرة لا قعر لها من الصوابية السياسية، بحيث يتوقف منظمو المهرجان عن الحكم على عمل بحد ذاته بل يقيمون كل فيلم جديد على أساس القصص الشخصية الملتوية لمن صنعوه.

إن احتكمنا إلى الناحية الجمالية وحدها، فلا شك أنه كان من الحكمة أن يلقي رئيس مهرجان البندقية السيد باربيرا بكرات فيلم "القصر" لبولانسكي، وهو ربما أسوأ فيلم أخرجه البولندي على الإطلاق، في بحر البندقية بدل أن يعرضه على الجمهور. فشراسة الهجوم الذي شنه النقاد على الفيلم جعلت سلوك الكلاب القاتلة في فيلم التشويق الغريب الذي صوره بيسون يبدو لطيفاً بالمقارنة. لكنهم في الأقل هذه المرة، كانوا يهاجمون الفيلم بدل أن يطلقوا هجوماً شخصياً على الرجل الذي صنعه.

© The Independent

 

الـ The Independent  في

15.09.2023

 
 
 
 
 

يوميات الموسترا (4)

بولانسكي وودي آلن

أمير العمري- فينيسيا

أمس كان يوم “القصر”، فيلم رومان بولانسكي المنتظر الذي عرض خارج المسابقة في الدورة الـ80 من “الموسترا”. واليوم كان يوم قطب آخر كبير من أقطاب المبدعين المؤلفين، هو وودي آلن وفيلمه الفرنسي “ضربة حظ”.

بولانسكي في التسعين من عمره. وراءه تاريخ حافل بالأفلام البديعة. منذ ثلاث أو أربع سنوات، أصبح الرجل محاصرا داخل منزل في جبال الثلج في سويسرا، لا يمكنه السفر خارج ذلك البلد البارد. لا يستطيع التصوير في باريس التي عاش فيها ردحا من الزمان كما كان يفعل في الماضي، ناهيك بالطبع عن أنه لو حاول دخول فرنسا أو غيرها، يمكن أن تعتقله السلطات وتقم بترحيله مقيدا بالأغلال إلى الولايات المتحدة حيث يواجه أحكاما بالسجن لما يقرب من 80 سنة (!!) عن تهمة تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، رغم أن السيدة التي وقع الاعتداء الجنسي عليها عندما كانت مراهقة، ناشدت السلطات القضائية الأمريكية مرارا وتكرارا، بالعفو عنه وأعلنت تسامحها مع بولانسكي، لأن “الجميع” كانوا في ذلك الوقت “أطفالا” أو شبانا في مقتبل العمر، يعبثون.

ربما تكون هذه المشكلة المركبة قد دفعت بولانسكي لكي يختتم مسيرته في عالم السينما التي بدأت في بولندا في ستينيات القرن الماضي بفيلم “السكين في الماء”، بصنع فيلم “القصر” The Palace كملهاة هزلية شبيهة بمسرحيات الفودفيل من القرن التاسع عشر، الذي جاء الفيلم بمثابة صدمة كبرى، ليس للنقاد فقط، بل لجمهور بولانسكي ومحبيه، من النقاد أو غيرهم.

كنت شخصيا أترقب في حماس، عرض هذا الفيلم، وأتطلع إلى رؤية مخرج “ضابط وجاسوس” الذي عرض في دورة مهرجان فينيسيا 2019، متصورا أنه سيتجاوز ما حققه في فيلمه السابق الممتع، ويحلق بنا إلى آفاق عالية في سماء الفن السينمائي مرة أخرى، أما وقد شاهدت الفيلم، وصبرت صبر أيوب عليه، فقد خذلني بولانسكي كما خذل عشاق أفلامه، وخيب آمالنا بعمل ضعيف، رديء، مسلوق، يقوم على سيناريو مفتعل، وشخصيات مزعجة، يحاول أن يوجه لطمة إلى كل أعدائه، داخل وخارج صناعة السينما، في الولايات المتحدة عموما!

القصر” ليس قصرا بل فندق كبير وسط جبال الألب السويسرية، يستقبل من يفترض أن يكونوا من عُلية القوم، أو بالأحرى الأثرياء ونجوم المجتمع، وغالبيتهم من الأمريكيين. وقد أخذ هؤلاء يتوافدون على “القصر” للاحتفال بليلة رأس السنة التي ستعلن رحيل الألفية الثانية وقدوم الألفية الثالثة، أي عام 2000.

الشخصية الرئيسية التي توجد في قلب الأحداث إن جاز القول إن هناك أحداثا أصلا، هي شخصية مدير هذا الفندق السويسري (مستر كومف). فهو موجود في كل مكان، يحاول العثور على حلول لأكثر المشاكل سخافة وفظاظة. وجوه جروتسكية مشوهة لعجائز، ونساء مترهلات، ورجال متهتكون، منهم المحتالون الذين يخططون للاستيلاء على أموال بنك سويسري، ومنهم أحد نجوم الأفلام الإباحية الذي كان قد أمن على عضوه الذكري بخمسة ملايين دولار، وامرأة فرنسية عجوز شمطاء تعاني من الشبق الجنسي (فاني أردان في دور من أقبح أدوارها وأكثرها تفاهة وسطحية)، تصطحب معها كلبها ثم تصاب بصدمة عقلية عندما يقضي حاجته فوق فراشها، لأنه لا يستطيع أن يقضيها إلا فوق الحشائش، ورجل من أوروبا الشرقية، يظهر مع زوجته وأبنائه يزعم أنه ابناً للمحتال الأمريكي، رجل الأعمال الذي يضع باروكة شقراء سخيفة فوق رأسه تذكرنا بدونالد ترامب (يتضح أنه الممثل الأمريكي ميكي رورك)، الذي يخطط بالتعاون مع موظف بنك سويسري لاستغلال موضوع تغير الأرقام على أجهزة الكومبيوتر لتحويل عدة ملايين إلى حسابه، وعدد من أعضاء المافيا الروسية يحملون حقائب مليئة بالدولارات المهربة من روسيا لكي يسلمونها للسفير الروسي ويطالبون بنصبيهم من الغنيمة.

يقوم جون سليس بدور ملياردير أمريكي ثري تجاوز التسعين من عمره يصطحب زوجته البالغة من العمر 22 عاما، يتناول الفياجرا ولا يكف عن المضاجعة، إلى أن يموت في الفراش، ولكن لكي ترث الزوجة يجب أن تمر الليلة لندخل عاما جديدا- طبقا لوصيته- وإلا تذهب ثروته إلى أسرته، لذلك تتحايل مع مدير الفندق على إخراجه ودفنه صباح اليوم التالي سرا بعد أن يوضع فوق كرسي متحرك، ويظهر بنظارات سوداء كما لو كان في غفوة.

كلها شخصيات شريرة، قبيحة، معتوهة، تدور وتثرثر وتأكل وتفرط في الشراب، وتمارس سلوكيات سخيفة قبيحة يرغب بولانسكي في أن يضحكنا عليها، لكن الضحك يستعصي، والكوميديا المفترضة تصبح مجموعة من الاسكتشات الثقيلة الظل التي لا تضحك ولا تسلي، ولا تنقل أي رسالة سوى غضب بولانسكي على تلك الطبقة، وسخريته من كبار السن، واهانته للمرأة التي تبدو كحيوان جنسي شبق، أو عجوز تتعلق بآمال عمليات التجميل لتجعل وجهها مقبولا، أما الرجل فهو كاذب ومحتال وتافه ومغرور ويتظاهر بالعظمة رغم أنه مفلس، والروس لصوص وعاهرات، وهكذا يسقط الفيلم بعد مرور أقل من 20 دقيقة من بدايته في السطحية والنماذج الكرتونية السخيفة والانتقالات التي تفيض بالسذاجة والرعونة السينمائية، والمشاهد الجامدة التي تمتلئ بالثرثرة، مع الإخراج المستهتر، الذي يمتليء بالأخطاء، والأهم من هذا كله، أن كل هذه الأنماط لا تضحك أحدا، فهي تبدو قادمة من عالم قديم، كما تدعو للنفور والاستهجان.

سنأتي في النهاية بالطبع، إلى الحفل الصاخب الذي يقذف خلاله الجميع بكل ما في جوفهم من قاذورات، لينتهي قرن ويبدأ قرن جديد، يجده بولانسكي مليئا بالأشرار، فكل الناس قبيحون، وأشرار، وكل النساء تافهات أو عاهرات، وكل الأثرياء لصوص، ولا يوجد خير في هذا العالم، ولم يبق سوى أن تبصق عليه، ولكن حتى هذا المعنى لا يصلك من خلال “رؤية” فنية وفلسفية، بل من نظرة مليئة بالقبح والسطحية. خسارة كبيرة أن ينتهي مخرج كبير إلى هذا المستنقع!

قانون الصدفة

أما وودي آلن، فهو على النقيض، لايزال يواصل التعبير عن فلسفته وحبه للحياة وتمسكه بما فيها من جمال حتى مع معرفة بأن الموت قريب، وأن وجودنا فيها مؤقت. وفيلمه الجديد “ضربة حظ” Coup de Chance يتسق تماما مع ما سبق أن عبر عنه في أفلامه السابقة، أي مع إيمانه بالصدفة والقدرية، وبأن الكثير مما يصيب الإنسان، من خير أو سوء، يمكن أن يكون نتاج الصدفة أو الحظ، وليس نتيجة تخطيط وجهد وعملوبالتداعي مع هذه الفكرة، هناك فكرة “عبثية الوجود” وفوضى العالم، وأن الاختيار الطبيعي، يقوم على العشوائية والفوضى.

فيلمه الجديد فيلم فرنسي تماما، سواء من حيث اللغة أو المكان أو الممثلين، فهو أيضا اضطر إلى تحويل السيناريو الذي كتبه إلى اللغة الفرنسية والأجواء الفرنسية حتى يستطيع أن يصوره ويخرجه في باريس وضواحيها، بعد أن تخلت عنه شركات الإنتاج الأمريكية، وقاطعه عدد كبير من الممثلين الذين سبق أن عمل معهم، رغم أنه لم يُقدم للمحاكمة، ولم يثبت أنه ارتكب جرما، ولم يصدر عليه حكم قضائي.

إنه يعيد اللعب على نفس الفكرة التي سبق أن عبر عنها في فيلمه البديع “نقطة المباراة” Point Match (2005)، أي فكرة الجريمة المبررة، التي تلعب الصدفة دورا كبيرا في عدم كشفها. مرة أخرى لدينا موضوع يتناول الحياة الزوجية، الملل، الوقوع في الحب الذي يصبح مبررا للخيانة، ثم الجريمة التي لا مناص من وقوعها من دون تخطيط أو قصدية. هذه كوميديا بسيطة تحمل كل فلسفة صانعها، من دون حذلقة أو ادعاء، تدور في جو باريسي يوحي بالأمل والحب.

فاني” الفتاة الفرنسية الجميلة التي تعمل في تنظيم المعارض الفنية، متزوجة من “جون”، وهو رجل أعمال ناجح ثري لا يؤمن بالحظ بل بأنه صانع حظه، وأن مهنته هي أن يساعد الأثرياء على تحقيق مزيد من الثراء. ورغم أنه يكبرها في العمر، ورغم الخلاف الكبير بينهما، إلا أن فاني تحبه، أو تقنع نفسها بأنها تحبه فقد تزوجته بعد تجربة زواج فاشلة، وانتقلت من الحياة البسيطة لفتاة باريسية متمردة الى حياة البورجوازية الفرنسية، تتمتع بالثراء والحياة السهلة.

تلتقي فاني ذات يوم (بالصدفة) بزميل قديم لها من أيام الجامعة هو “آلان” لا يضيع وقت طويلا قبل أن يصارحها بأنها كانت دائما فتاة أحلامه، وأنه لايزال يحبها ويهيم ويحلم بها. و”آلان” هو النقيض لجون، فهو شخص منبسط تلقائي رومانسي، مرح، يكتب روايته الأولى، ويعيش حياة متواضعة.

وستجد فاني نفسها مشدود إليه وقريبة منه، ويشك جون في انصرافها عنه فيراقب تليفونها ثم يكتشف وجود الشخص الآخر في حياتها، بينما تواصل هي الكذب عليه متسترة على علاقتها الجديدة، لكنه يخطط لقتل آلان، وينجح في ذلك ثم يستأنف حياته مع زوجته الجميلة التي يقدمها في الحفلات العامة التي يدعى إليها إلى رجال الأعمال، كحلية جميلة رقيقة. حماة جون، أم فاني، تشك في أمر جون، وفي سر الاختفاء المفاجئ لآلان، وتتعقب جون إلى أن يقع مع يقع بالصدفة.

الفيلم ليس القصة بل التعبير عن المشاعر خلال القصة، ودس الفلسفة الخاصة لوودي بين الأسطر. ومن “حظ” آلن أن يعود مدير التصوير الإيطالي الكبير فيتوريو ستورارو للعمل معه مجددا (وهو الذي صور له من قبل أفلامه الأربعة السابقة)، فهو يصنع صورة بديعة لأجواء باريس الرومانسية مع مسحة من الغموض والإثارة، بحيث يجعلها تبدو كما لو كانت تحدث في الخمسينيات، زمن جودار الذي يكن له آلن محبة وإعجابا كبيرين، ومزج بديع بين الصورة مع موسيقى الجاز التي تشغل حيزا كبيرا من الفيلم ومن جميع أفلامه.

وفق آلن كثيرا في اختيار طاقم الممثلين جميعا وعلى رأسهم الممثلة الشابة “لو دو لاج” في دور فاني، و”ميلفي بوبو” في دور جون، و”نيلز شنيدر” في دون آلان، وبالطبع “فاليري ليميرسييه” في دور الأم/ الحماة، المتشككة الدؤوبة التي تنقب وتبحث ولا تكف عن السير وراء شكوكها إلى أن يقع كان ما يقع طبقا لمنطق الصدفة أو الحظ!

 

موقع "عين على السينما" في

15.09.2023

 
 
 
 
 

يوميات الموسترا (5):

عن الفيلم التونسي “وراء الجبل” وشقيقه

أمير العمري- فينيسيا

القاعدة التي أعرفها وأؤمن بها، هي أنك يجب أن تكون مقنعا حتى عندما تجنح في اتجاه أقصى درجات الخيال، بمعنى أنك يجب أن تجعل من يشاهدون فيلمك يتفاعلون مع الحالة التي تصورها لهم مهما كانت غريبة ومنافية للواقع، أي بكل بساطة، أن تقنعهم بأن ما يشاهدونه أمر ممكن، حتى لو كان منافيا للواقع والأهم من ذلك، أن يكون وراء هذا الجموح والجنوح، شيء ما تريد التعبير عنه، حتى لو كان مجرد تحقيق المتعة والتسلية.

كان هذا الجموح مقبولا والاستمتاع موجودا مثلا، في الفيلم التونسي البديع “دشرة” (2018) الذي يندرج ضمن أفلام “الرعب” الخيالية. فقد كان هناك موضوع متماسك مثير للاهتمام، وشخصيات واضحة، وحبكة متماسكة، وأجواء بديعة في الصورة، وتقنية ممتازة، تضارع أرقى المستويات في إطار هذا النوع السينمائي الذي لا تعرفه تقريبا السينما التي تنتج في العالم العربي.

وكان الفيلم الأول لمحمد بن عطية “نحبك هادي” الذي عرض في مسابقة مهرجان برلين السينمائي قبل سبع سنوات، عملا جيدا، رغم بعض المبالغات التي لا تخلو منها أفلام المنطقة العربية باعتبار أن المبالغة جزء من الثقافة العربية. أما الفيلم الجديد لبن عطية، “وراء الجبل” الذي عرض في مسابقة “أوريزونتي” (آفاق) بدورة مهرجان فينيسيا السينمائي التي اختتمت في التاسع من سبتمبر، فهو أقل كثيرا مما كان متوقعا، فالفيلم يعاني أولا من عدم الإقناع بفكرته الرئيسية مع هشاشة حبكته، وسطحية تكوين شخصياته، وخصوصا الشخصية الأساسية التي هي محور الحدث في الفيلم، ولا  هو أيضا مقنع على مستوى التمثيل الذي جاء مرتبكا، خشبيا، متجمدا لا حرارة فيه بل تشنج وافتعال ولهاث مسموع ومصطنع. وهو أمر يؤسف له كثيرا.

لا أعرف أصلا كيف يمكن أن يتحمس أي منتج لإنتاج فكرة ساذجة كهذه، لا ينتج عنها شيء، أي لا نفهم المقصود منها أو المغزى الذي ترمز إليه، فالفيلم يبدأ بحدث ما، ولكنه يفشل في إشباعه أو الوصول بنا إلى الكشف عن شيء ما يكمن وراء الفكرة أو وراء الشخصية الغائمة الملامح، ويعجز الحدث الطفولي الأولى عن مغادرة الواقع، والدخول إلى منطقة الخيال، فلا الخيال مقنع إن كان خيالا، ولا الواقع يمكن أن ينتج مثل هذا العبث الطفولي، فالفيلم يحلق، لكنه لا يمتلك قوة الدفع التي تجعله قادرا على الطيران، فيهوي مثلما يحدث لبطله!

هناك شخصية رئيسية لرجل هو “رفيق” (مجد مستورة)، نراه في البداية غاضبا يحطم المكتب في المكان الذي يعمل فيه (لا نعرف سبب غضبه وثورته وهياجه) لينتهي به الأمر إلى السجن لمدة أربع سنوات، ولكنه يحاول الفرار من السجن أثناء تناول الطعام مع السجناء بالقفز من النافذة ليسقط على الأرض، لكن نفس هذا الشخص الذي من الواضح تماما أنه شخصية مضطربة، لا يصلح أن يكون أبا لطفل، سيذهب إلى بيت زوجته السابقة التي قامت بتربية ابنه الطفل “ياسين” لكي يخطف ابنه الذي لا يمكنه أن يتعرف عليه، ليقول له إنه أبوه، وإنه يريد أن يطلعه على شيء، ويأخذه في سيارته ويخرج به خارج المدينة إلى منطقة جبلية، وكلما تساءل الطفل: أين نذهب؟ يطالبه والده بالانتظار وسوف يرى.

وأخيرا تتبدى الرؤية عندما يصعد رفيق إلى قمة الجبل ثم يطير في السماء لكي يهبط هبوطا حادا على الأرض، وغالبا يصاب أيضا ببعض الكسور. والفيلم يشرح الأمر لنا، بالقول أن الإنسان لم يكن يسير على قدمين بل تعلم أن ينهض من الاتكاء على الأطراف الأربعة لكي يقف على قدمين فقط، وأنه ربما يستطيع أيضا الطيران، وأن عليه المحاولة. ولكن ما الرمز الكبير الذي يكمن وراء هذه الرغبة في الطيران في المجهول؟ لا نعرف ولا يفسر لنا الفيلم هذه الرغبة الطفولية التي تؤدي بصاحبها كلما فعل، إلى السقوط!

يقوم راعي الغنم بإنقاذ رفيق ومعالجته ثم يقتنع في الأغلب بنبوته (!) فيتبعه صامتا لا ينبس ببنت شفة معظم الوقت، بعد أن يتخلى عن أغنامه ويتركها في رعاية الكلب- كما يقول. ويركب الثلاثة السيارة ويسيرون في الجبال، ولكن الشرطة تطارد رفيق، بغرض استعادة الطفل، ولكن عندما تتعطل سيارته، يقرر رفيق اقتحام منزل لعائلة تقطن في هذا المنزل المعزول تماما عن المدينة وسط الطبيعة الجبلية الخضراء (لا نعرف ماذا يفعلون هناك.. لكن هذا ليس مهما).

من هنا يتحول الفيلم ليتخذ أسلوب أفلام الثريللر، ولكن من دون أي إثارة أو أي درجة من درجات النجاح، فبدلا من رفع السكين (مثلا) ومطالبة الأسرة بمفتاح سيارتها لاستخدامها والفرار بها (دون ان تكون خطته واضحة بالضبط)، فكل ما يهددهم به سلاح لا وجود له يزعم أنه موجود في الحقيبة التي يحملها. وهو زعم يمكن لأي طفل أن يتحداه، لكن الأسرة المكونة من رجل يدعى “وجدي” وزوجته “نجوى”، وابنه “أسامة” وهو في عمر ياسين، تستجيب وتنكمش، وبعد قليل تكتشف الزوجة هزال الزعم بوجود السلاح، فينقلب الأمر، تسيطر الأسرة على الموقف. ولكن سيعود رفيق للسيطرة على الأسرة بطريقة هزيلة تماما.. وليس مهما بعد ذلك ما يحدث، لأن لا شيء يحدث!

وتظل هناك تساؤلات مستحيلة: لماذا قام رفيق بهذه المغامرة الحمقاء التي يردد خلالها أنه يستطيع الطيران، وابنه يؤكد أنه شاهده يطير، والمرة الوحيدة التي ينطق فيها راعي الأغنام يقول إنه شاهد على ذلك أيضا، ولكن لماذا تبعه هذا الرجل، وإلى أين كان رفيق سيذهب بابنه الذي ظل يطالبه بإعادته إلى أمه؟

هل هذا سيناريو فيلم ينتمي للقرن الحادي والعشرين، يمكن أن يصلح أساسا لمناقشة جادة، عن طبيعة الفيلم” وفن الفيلم؟ فإن كان الغرض هو عمل فيلم “ثريللر” فهذا أبعد ما يكون عن تحقيق هذا الهدف، وإن كان المقصود استخدام رمز سياسي لمرحلة ما بعد فشل ثورة الياسمين في تونس والتعبير عن حالة التيه والضياع التي سيطرت على البعض، فالفيلم لم ينجح في تصوير أي علاقة له بحقائق الوضع في تونس، بل بدا منفصلا تماما عن الواقع. وإن كان مغامرة خيالية، فهو لم ينجح في صنع الإنسان الطائر، فهو يهوي على الأرض ويتكسر باستمرار، أي لا يمكنه مواصلة الطيران، ولكن لماذا يريد أن يطير أصلا.. هل هو نبي جديد صاحب معجزة لا تكتمل مثلا؟ لا نعرف ولا أحد يعرف ولا أظن أن محمود بن عطية يعرف!

الأسلوب في الحقيقة تقليدي جاف، يبدو واقعيا من الخارج، كما يتبدى من تفاصيل الصورة، دون أي محاولة لتجاوز الصورة الواقعية، أو التحليق في الخيال. ومع كل هذه السطحية والاضطراب، كان من الطبيعي أن يأتي أداء الممثلين جميعا، ضعيفا، مثيرا للشفقة، فهم يجاهدون من أجل دفع الحياة في شخصيات ولدت ميتة أصلا!

أنا لا يهمني تصفيق الجمهور ولا أي جمهور في أي مهرجان سينمائي لأي فيلم، فكل الأفلام الرديئة تحظى بالتصفيق المجامل، فنحن في جو احتفالي: مهرجان، مولد، وفرحة يبديها القادمون للاحتفال، بأي فيلم وكل فيلم، والمجاملة هي الطبع السائد خصوصا في وجود صناع الأفلام. وكل الأفلام تجد من يشجعها مهما تضاءلت قيمتها الفنية. ولكن الجمهور نفسه، سرعان ما ينسى ويستعد للتصفيق للفيلم التالي الذي ربما يكون أكثر رداءة. فهذا هو ما أراه في هذه المهرجانات منذ أن بدأت التردد عليها قبل 37 سنة!

شاهدت الفيلم التونسي الثاني المعروض في تظاهرة “أيام فينيسيا” وهو فيلم “الكواليس” الذي اشترك فيه اثنان هما المخرجة التونسية عفاف بن محمود، والمغربي خليل بن كيران، وهو عمل أول يعاني من كل أمراض العمل الأول: الثرثرة والسطحية والتسرع، والتكرار، وغياب الفكرة.

مجموعة من الراقصين الاستعراضيين، يهيمون على وجوههم في غابة بعد إصابة إحدى راقصات الفرقة بكسر في قدمها، وهي إصابة متعمدة من جانب زميلها في الفرقة، لكن الفرقة يجب أن تقدم عرضا في اللية نفسها في مكان آخر، ولكن سيارة الفرقة تتعطل فيقطع الجميع الطريق متحاملين على أنفسهم، ويذهب أحدهم لكي يأتي بطبيب يعالج الراقصة المصابة التي لا تستطيع أن تفهم سبب اعتداء زميلها عليها، ولا نحن أيضا نفهم، ومع عدم تطور الحدث في أي اتجاه، وكثرة المشاجرات والثرثرة والمونولوجات الكلامية الفارغة التي تقتبس من لغة الشعر دون أن  يكون هناك أي شعر، كل هذا يجعل المرء يفقد اهتمامه ورغبته في المتابعة، فكما بدأ الفيلم، ينتهي.

من يشاهد مثل هذه الأفلام لابد أن يترحم على أفلام القصة التقليدية الواضحة، فهي تحقق متعة المشاهدة على الأقل، فإن لم تقدر على التفلسف، عليك أن تكتفي برواية قصة محكمة.. فربما تستطيع أن تصنع لنا شيئا. وإن كنت من الذين يؤمنون بأن “فاقد الشئ لا يعطيه” ولا يستطيع أن يعطيه!

 

موقع "عين على السينما" في

16.09.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004