ملفات خاصة

 
 
 

يوميات الموسترا (2):

نهاية العالم ومصاص الدماء

أمير العمري- فينيسيا

مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الثمانون

   
 
 
 
 
 
 

في التسعين من عمرها عادت المخرجة الإيطالية المخضرمة ليليانا كافاني التي يكرمها المهرجان، بفيلم جديد، عرض خارج المسابقة، فهي أكبر من أن تتسابق مع غيرها من المخرجين الذين مازالوا يعملون وأمامهم مستقبل قد يطول أو يقصر، أما ليليانا فربما يكون هذا آخر أفلامها، وهو حال عدد آخر من كبار المبدعين موجودين في دورة مهرجان فينيسيا هذا العام مثل رومان بولانسكي (90 عاما) وودي آلن (87 عاما)، وكان من المفترض أن يحضر أيضا المخرج الأمريكي ولي فريدكن لولا أنه غادر عالمنا قبل أيام من بداية الدورة عن 88 عاما.  

 أعترف بداية أنني استمتعت بفيلم ليليانا كافاني “نظام الزمن” The Order of Time رغم أنني أعرف انه لن يكون ممتعا بالنسبة للجميع، والسبب أنه عمل مشبع بالحوارات الفلسفية والتفاصيل العلمية، فهو يفترض أن هناك مذنبا ضخما يقترب بسرعة من الأرض وسوف يصطدم بها في أي لحظة، وهي فكرة مماثلة لفكرة فيلم لارس فون ترايير “ميلانكوليا” (2010)، خصوصا وان هناك مجموعة من الأصدقاء القدامي من الطبقة الوسطى، يجتمعون في منزل على شاطئ البحر، يحتفلون بعيد الميلاد الخمسين لصاحبة المنزل وصاحبة الجمال الممتد، المحامية “كلاوديا جيريني” وزوجها الطبيب (اليساندرو جاسمان) وابنتهما الشابة المراهقة “أنا”. أما الصحبة فتشمل من ضمن ما تشمل، خبيرا اقتصاديا، ومعلمة تاريخ، ومحلل نفساني، ومعلمة علوم، وصحفية، وباحثة في الفيزياء، وبعد قليل يصل عالم الطبيعة النظرية “انريكو” الذي يخبرهم بالكارثة التي توشك أن تقضي على الكوكب الأرضي.

وسط أجواء القلق والتوتر، تدور مناقشات فلسفية وتساؤلات كثيرة وجودية، يعيد البعض اكتشاف ذواتهم، وما يريدونه من الحياة، ويواجه البعض الآخر منهم أخطاءهم، وتقع أيضا مواجهات بين الشركاء، وتنهار علاقات وتعود علاقات قديمة كانت قد ذبلت.  

الفيلم مقتبس من رواية لعالم الفيزياء الإيطالي كارلو روفيللي، صاحب النظرية الخاصة في الجاذبية الكمية، وهو من الأفلام التي تعتمد على الأداء التمثيلي بالدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه، القدرة على تقديم مفاجآت، وعرض لمفارقات تقع في سياق الحبكة التي قد يراها البعض ميلودرامية، لكنه فيلم قريب من القلب، يثبت أن ليلانا كافاني مازالت قادرة على التحكم بعبقرية في كل هذا العدد الضخم من الممثلين والممثلات، والانتقال السلس المغلف بالشعر، من الداخل إلى الخارج، ومن الخاص إلى العام، وتجسيد القلق الإنساني من النهاية، من الموت مع طرح تساؤلات حول مغزى الحياة، وعلاقتنا بأنفسنا وبالآخر. هذا فيلم إيطالي كلاسيكي، ممتع، مع صور خلابة للمناظر الخارجية، من خلال تصوير ومونتاج يرتفع بالفيلم إلى مصاف الشعر.

هذا فيلم لا يمكنك أن تغفل لحظة واحدة عما يدور فيه. كل شيء مضبوط بدقة الساعة السويسرية: حركة الممثلين داخل المكان، زوايا التصوير، الانتقال بين الشخصيات، الاهتمام بالتفاصيل، بالموسيقى، المساحة المتاحة للشخصيات للتنفس، للتعبير، التوافق والتنافر، المشاعر المكبوتة كيف تطفو على السطح. تحية مستحقة إلى السينمائية الكبيرة ليليانا كافاني.

الديكتاتور مصاص الدماء

شاهدت فيلم “الكوندي” اي “الكونت” El Conde وهي الكلمة المستخدمة في شيلي لوصف الدكتاتور أوجوستو بينوشيه الذي قاد الانقلاب العسكري الدموي ضد حكومة سلفادور ألليندي عام 1973، وظل يحكم البلاد لسنوات طويلة قبل أن يضطر إلى التخلي عن السلطة بوعي الجماهير والنخبة السياسية.

الفيلم للمخرج الكبير بابلو لارين صاحب الأفلام الرائعة مثل “النادي” The Club و”نيرودا”، ورغم اجتهاداته الكثيرة مع شريكه في كتابة السيناريو “جيليرمو كالديرون” في هذا العمل الطموح (يمكن مشاهدته على شبكة نتفليكس)، إلا أنه لم ينجح في تحقيق متعة المشاهدة وهي أهم عنصر من عناصر بقاء الفيلم في الذاكرة، فالفيلم يلعب على فكرة مصاص الدماء، أي يصور بينوشيه كنموذج للرأسمالي المستغل أو خادم الرأسمالية الانتهازي الذي يمص دماء الشعب في شيلي ويمتد به الزمن منذ أكثر من 250 سنة، بل ويجعله من أصل فرنسي، وأنه ظهر في زمن الثورة الفرنسية وانقلب عليها، وظل ينتقل من صورة إلى أخرى، واستقر في شيلي، ولكنه يريد الآن أن يموت، فيجتمع أبناؤه يريدون تقسيم ثروته الهائلة التي بناها بمعاونة خادمه الروسي. ولكنه سيتراجع عن فكرة الموت، ويستمر.

الفيلم يمزج بين الكوميديا الرعب والنقد السياسي اللاذع، ويمتلئ بالكثير من المعلومات التاريخية في سياق قوطي، وصور بالأبيض الأسود، في محاكاة أحيانا لأفلام مصاصي الدماء القديمة، مع أداء تمثيلي بارع من جميع أفراد الطاقم، إلا أنه يعيبه تكرار الفكرة والدوران من حولها باستمرار، والخروج كثيرا من تحت عباءة الصور الرمزية والمجازية، إلى التعليق المباشر الفج الذي يرمي إلى هجاء الرأسمالية. وفي الثلث الأخير من الفيلم يترهل الإيقاع، ويفقد الفيلم البوصلة، ويصاب بالشيخوخة تماما كما أصيب “الكوندي” بشيخوخته التي تجعله يعاني مما يطارده في الحياة، ومن عدم القدرة على الموت.

 

موقع "عين على السينما" في

12.09.2023

 
 
 
 
 

"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" الـ80: دورة باهتة نسبيًا

فينيسيا ــ محمد هاشم عبد السلام

اختتمت مساء 9 سبتمبر/ أيلول فعاليات الدورة الـ80 في عمر "مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، والتي بدأت عروضها في 30 أغسطس/ آب الماضي. وذلك بتوزيع جوائز "المُسابقة الرئيسية"، التي أعلنها رئيس لجنة التحكيم المُخرج الأميركي الشاب داميان شازيل (39 عامًا). وعضوية كل من: الممثل الفلسطيني صالح بكري، والمخرجة النيوزيلاندية جين كامبيون، والمخرجة الفرنسية ميا هانسن لوف، والمخرج الإيطالي جابرييل مينيتي، وكاتب السيناريو والمخرج الأيرلندي مارتن ماكدوناه، والمخرجة الأميركية لاورا بويتراس، والمخرج الأرجنتيني سانتياجو ميتري، والممثلة الصينية شو كي. الجوائز الممنوحة يمكن القول إنها عادلة، وذهبت إجمالًا إلى مُستحقينها، في ضوء المستوى الفني والفكري والجمالي غير المُبهر للأفلام المعروضة، ربما باستثناء جائزتي التمثيل النسائي والسيناريو.

جوائز المُسابقة الرئيسية

بعد ثالث مُشاركة له في "المُسابقة الرئيسية" استطاع اليوناني يُورجوس لانتيموس (50 عامًا) اقتناص جائزة المهرجان الكبرى، "الأسد الذهبي"، عن فيلمه "أشياء فقيرة" Poor Things. وذلك بعد فوزه من قبل في فينيسيا عام 2018 بجائزة "لجنة التحكيم الخاصة" عن فيلم "المُفضلة"، وأفضل سيناريو عن فيلم "ألب" (2011). في القسم الأول من فيلم "أشياء فقيرة"، وهو باللونين الأبيض والأسود، نتعرف على شخصية الدكتور باكستر (وليام ديفو) غريب الأطوار، بوجهه البشع المُخيف من كثرة الجراحات التي خضع لها، وهو المُكافئ لفرانكشتاين. ومن خلاله نتبين أنه يجري تجارب خارقة على البشر والحيوانات والطيور. كان آخرها قيامه بإحياء امرأة شابة من الموت تُدعى بيلا (إيما ستون) وإعادة الحياة لها، وذلك عبر زراعته لمخ جنينها في مخها. ومن ثم، نتابع في هذا الجزء رحلة نضوج بيلا التدريجي. وفي الجزء الثاني، بالألوان، ويسبح أكثر في جو من الغرابة والفانتازيا والكوميديا والسوداوية، نُعاين بيلا وقد نضجت وتركت منزل دكتور باكستر في رحلة تطوف فيها العالم، خاصة أوروبا، وتتعرف فيها على العالم الخارجي المجهول كلية بالنسبة لها، وعلى البشر، وعلى ذاتها بالأساس.

الياباني الموهوب ريوسوكي هاماجتشي (44 عامًا) المُنطلق بسرعة الصاروخ خلال السنوات الثلاث الماضية، أضاف إلى جوائزه العديدة الحاصل عليها من "برلين" و"كان" و"أوسكار"، جائزة "الأسد الفضي" أو "جائزة لجنة التحكيم الكبرى" عن فيلمه "الشر غير موجود". تدور الأحداث عن الخطر البيئي الذي يُهدّد سكان قرية يابانية هادئة ونظيفة بعد قرار شركة عملاقة من طوكيو تنفيذ مشروع لها على حدود القرية. ما يُهدد سلامة المياه والغابة في المنطقة، ويدفع بطل الفيلم تاكومي للتصدي للأمر مع سكان القرية. يتميز الفيلم بتركيزه وإيجازه. وسينمائيته الشديدة. وانطلاقه المباشر صوب الموضوع، رغم هدوء أو حتى بطء الإيقاع، والخاتمة المُحيرة للغاية والمُلغزة بشدة.

ذهبت جائزة "لجنة التحكيم الخاصة" للبولندية المُخضرمة أجنيشكا هولاند (74 عامًا)، عن فيلم "حدود خضراء". الحدود التي تحكي عنها في فيلمها ليست خضراء بالمرة، بل حمراء قانية، نظرًا لما تشهده من عنف وتعسف وتنكيل وإهدار آدمية، وقتل. يتناول الفيلم أزمة فتح الحدود بين بولندا وبيلاروسيا، عام 2021، أمام الراغبين في العبور إلى الغرب، عبر بولندا. يرصد الفيلم، باللونين الأبيض والأسود، الأزمة الإنسانية على الحدود، عبر عائلة من اللاجئين السوريين، وأخرى أفريقية، ومغربي، وإيرانية، وشخصيات أخرى كثيرة. وكيف، بعد تعرضهم للخداع على أيدي المُهربين، يدفع بهم حرس حدود البلدين إلى الطرف الآخر ليتخلص منهم. كأنهم كرة يتقاذفونها أو لعبة يلهون بها. ما يُعرض حياة العديد منهم للخطر والهلاك.

بعد المُشاركة الخامسة له في مُسابقة فينيسيا، وعلى نحو غير مفهوم بعض الشيء، وغير مُستحق أيضًا، استطاع التشيلي بابلو لارين (47 عامًا) الحصول على جائزة "أفضل سيناريو" عن فيلمه "الكونت". ويتناول فيه شخصية الديكتاتور الفاشي أوغوستو بينوشيه الذي صوره كمصاص دماء. يطير ويُحلق ليلا فوق سماء البلاد ليختار ضحاياه ممن يقتلهم، ويمتص دماءهم، ويلتهم قلوبهم، ما جعله يعيش لأكثر من قرنين. إذ يبدأ الفيلم بالثورة الفرنسية، وينتهي في الوقت الراهن. برؤية جديدة إلى حد ما، وباللونين الأبيض والأسود، يُحاول مخرج الفيلم أن يجمع بين أسلوبية أفلام "الفامباير" والتاريخ والسياسة والاجتماع، إلا أن "الكونت" جاء دون المستوى، حتى مُقارنة بأفلام بابلو لارين السابقة.

من بين الجوائز المُستحقة، وإن كانت مُثيرة للجدال، جائزة "أفضل مُمثل أو كأس فولبي" والتي ذهبت إلى الأميركي بيتر سارسجارد (52 عامًا) عن شخصية "سول" في فيلم "ذاكرة" للمخرج المكسيكي ميشال فرانكو. إذ كان هناك أكثر من ممثل يستحق الجائزة، وعن جدارة فعلا. مثلا كايلب لاندري دونز في "رجل الكلاب" أو برادلي كوبر في "مايسترو" أو حتى آدم درايفر في "فيراري". ليس معنى هذا أن أداء سارسجارد لشخصية سول، الخمسيني الذي يُعاني من فقدان للذاكرة والوحدة وتسلط شقيقه عليه، لم يكن مُقعنًا أو يستحق الجائزة، العكس تمامًا. استطاع سارسجارد إقناعنا بالشخصية والتعاطف معها ومشاكلها، بمنتهى السهولة والصدق، ودون أي افتعال. من هنا، يمكن القول إن هذه الجائزة جاءت كتتويج للفيلم كله، المُكتمل الجوانب على نحو رائع ومؤثر فعلا.

جائزة أخرى غير مفهومة أو مُبررة بالمرة، وذهبت إلى من لا تستحقها، هي "أفضل مُمثلة" للأميركية كايلي سبايني، عن تجسيدها لشخصية "بريسيلا" في فيلم "بريسيلا" لصوفيا كوبولا. وفيها أدت شخصية بريسيلا المُراهقة، التي أوقعت في غرامها المُغني العالمي الشهير إلفيس بريسلي. ويسرد الفيلم قصة حبهما وزواجهما وإنجابهما، والمراحل المُتقلبة التي مرت بها حياتهما معًا. أداء كايلي لشخصية بريسيلا ليس استثنائيًا أبدًا، لكن ربما لأن فيلم "أشياء فقيرة" فاز بـ"الأسد الذهبي" فلم يكن مُمكنًا منح جائزة "أحسن مُمثلة" لإيما ستون عن شخصية "بيلا". ولكن الغريب جدًا عدم فوز البولندية جوانا كوليج بجائزة التمثيل في فيلم "امرأة من..." لموجوﭽاتا شموفسكا وميهاو إنجليرت. إذ كانت هي الوحيدة التي تستحقها عن جدارة فعلًا، نظرًا لأدائها اللافت جدًا، والبارع والمُقنع والصادق للغاية في تجسيدها لشخصية آدم. تلك الشخصية الصعبة والمُركبة للغاية، التي تتزوج وتُنجب وهي تدرك أنها امرأة مُكتملة الأنوثة، وليست ذكرًا.

أما جائزة "مارشيلو ماستروياني لأفضل مُمثل صاعد" فنالها السنغالي سيدو سار عن أدائه لشخصية "سيدو" في فيلم "أنا القبطان" للإيطالي ماتيو جاروني (54 عامًا). الجائزة مُستحقة فعلا نظرًا لأداء سيدو المُقنع لشخصية المُراهق الذي يتوق لمُغادرة بلده، والذهاب للعيش والعمل في أوروبا، مهما كانت الصعاب. ومن ناحية أخرى، لم يبرز ولم يتواجد أيضًا في أفلام المُسابقة من يستحق هذه الجائزة التي تُمنح للشباب والمُمثلين الصاعدين تحديدًا.

فيلم الختام

عقب توزيع الجوائز عُرض فيلم الختام وهو بعنوان "مُجتمع الثلج" للإسباني خوان أنطونيو جارسيا بايونا (48 عامًا). الفيلم من إنتاج شبكة "نيتفليكس"، ومأخوذ عن واقعة حقيقية جرت أحداثها في سبعينيات القرن الماضي، تحديدًا 1972. حيث تحطمت طائرة مدنية فوق جبال الإنديز بشباب فريق الأوروغواي للرجبي، بينما كانوا في طريقهم إلى تشيلي. يرصد الفيلم مُعاناة أكثر من نصف الفريق ومُغالبتهم للظروف والصعاب والعواصف الثلجية والصقيع ونقص الطعام، وأيضًا توقف البحث عنهم، وغيرها الكثير، للتمسك بالحياة. وأخيرًا، نجاح بعضهم في العودة إلى بلده، بعد أكثر من شهرين وسط الجبال.

محطات لافتة

بانتهاء عرض "مُجتمع الثلج" أُسدل الستار على دورة كانت واعدة فعلا، نظرًا للأسماء الكبيرة واللامعة المشاركة فيها، ولكنها انتهت عكس المتوقع تمامًا. إذ غلب على الأفلام المُتنافسة تقلب المُستوى الفني، وتكرار الأفكار والموضوعات، وسطحية التناول والمُعالجة. بجانب هذا، يُمكن جدًا وصف هذه الدورة بالباهتة، نسبيًا. السبب، إضرابات هوليوود التي أثرت كثيرًا على البريق المُعتاد للمهرجان، وسجادته الحمراء التي عادة ما كانت تزخر يوميًا بالنجوم والنجمات، خاصة من هوليوود. إذ تسبب الإضراب هذا العام في عدم حضور الكثير من النجوم المُنتظرين للترويج لأفلامهم الجديدة، وحضور عروضها الأولى، والسجادة الحمراء، والمُؤتمرات الصحافية. مثلا، إيما ستون بطلة "أشياء فقيرة" لليوناني يورجوس لانتيموس. وتيلدا سوينتون المُشاركة في "قاتل" للأميركي ديفيد فينشر. وبينلوب كروز بطلة فيلم "فيراري" لمايكل مان. والأميركي برادلي كوبر بطل ومخرج فيلم "مايسترو"، وغيرهم. ناهيك بالاضطراب الحادث قبل انطلاق المهرجان وأدى إلى سحب فيلم الافتتاح الأميركي "المُتحدون" بطولة زندايا وإخراج لوكا جوادانينو.

على غير العادة، شاركت إيطاليا بـ6 أفلام في مُسابقة هذا العام. ورغم غزارة الإنتاج الإيطالي المُلحوظة هذا العام سواء في مهرجان "كان" أو في مهرجان "فينيسيا"، إلا أن العبرة ليست بغزارة الإنتاج ولا كثرة الأفلام المُشاركة، مع الأسف الشديد. إذ من بين الأفلام الإيطالية المُتنافسة في المسابقة هذا العام، جاء أكثر من نصفها دون المستوى تمامًا، برز فقط "أنا القبطان" لماتيو جاروني، و"لوبو" لجورجيو ديريتي.

بنفس عدد الأفلام أيضًا، كان التواجد الأميركي في مُسابقة هذا العام. نصفها من إنتاج شبكة "نيتفليكس"، التي تُشارك منذ سنوات في فعاليات المهرجان، داخل أو خارج المُسابقة. يُمكن القول إن الأفلام المُنتجة من جانب الشبكة كانت دون المُستوى هذا العام. على الأقل، مُقارنة بمشاركات السنوات الماضية. فهل مستوى إنتاج الشبكة آخذ في الانحدار أو أن المهرجان بات يقبل بأي إنتاجات تُقدمها الشبكة ما دامت تحمل أسماء مُخرجين كبار ومُكرسين؟ سؤال فرضته الأفلام المُشاركة في هذه الدورة وبقوة، سواء داخل أو خارج المسابقة. فهل سيُعيد المهرجان حساباته بخصوص مُشاركة أفلام الشبكة أو على الأقل حجم المُشاركات؟

أيضًا، كان من اللافت جدًا المُشاركة العربية الهزيلة للغاية في مُختلف أقسام المهرجان هذا العام، مُقارنة بالسنوات الماضية، من ناحية. من ناحية أخرى، ثمة الكثير من الأسئلة التي يتعين طرحها حول مستوى الفيلمين العربيين المُشاركين في فينيسيا هذا العام، سواء المُستوى الفني أو الجمالي أو الفكري أو حتى الأداء. وقد يؤديان إلى مشاكل في التواصل مع الجمهور عندما تنطلق عروضهما التجارية الجماهيرية. ليس معنى هذا أن "وراء الجبال" للتونسي محمد بن عطية، و"كواليس" للتونسية عفاف بن محمود والمغربي خليل بن كيران، دون المُستوى. بالعكس، ثمة على الأقل جدة بعض الشيء في الأفكار والطرح والمُعالجة والتصوير، ولكن ينقصهما الكثير على مُستوى السيناريو تحديدًا. وبالأخص الحبكة وتطور وتصاعد الأحداث. كذلك مدى عمق وتطور وإقناع الشخصيات في الفيلمين.

 

صفة ثالثة اللندنية في

12.09.2023

 
 
 
 
 

"عندما تسقط القصائد" يفوز بجائزة الجونة فى فاينل كت فينيسيا

محمد زكريا

أعلن مهرجان الجونة السينمائي عن الفيلم الفائز بجائزة الجونة في ورشة فاينل كت ضمن مهرجان فينيسيا 2023. المبادرة التي تهدف لدعم الأفلام في مراحل ما بعد الإنتاج من أفريقيا ودول الشرق الأوسط.

جائزة مهرجان الجونة هذا العام تذهب للمشروع الاستثنائي "السودان: عندما تسقط القصائد"، من إنتاج تونسي فرنسي مشترك، للمخرجة هند المدب، وإنتاج إيكو فيلمز.

يقدم الفيلم قيد الإنجاز صورة عميقة للسودان، ناسجًا بسلاسة حكايات شجن ومزّمل ومها ورفيدة، أربعة شباب شاركوا في الصورة السودانية. يقدم هذا الفيلم الوثائقي إهداءً وقصيدة حب صادقة للبلاد، بينما تتشابك حكايات الشخصيات، ليعيد الفيلم من خلالها بناء صورة ثورة مستمرة وأصوات شباب يقاتل ضد قوى القمع.

تقديرًا للمشروع يقدم مهرجان الجونة جائزة مالية قدرها 5000 دولار أمريكي لدعم مراحل ما بعد الإنتاج، بالإضافة إلى دعوة حصرية لحضور منصة الجونة 2023 كمشروع ضيف.

تلعب ورشة فاينل كت في مهرجان فينيسيا دورا حيويًا لصناع الأفلام في مرحلة الإنتاج، وتُسهل عمليات ما بعد الإنتاج وتعزيز الشراكات القيّمة مع المنتجين والموزعين وشركات ما بعد الإنتاج ومبرمجي المهرجانات.

وبينما يواصل مهرجان الجونة السينمائي دعم المواهب العربية والمساهمة في نمو ونجاح السينما العربية، فإن رعاية هذه الجائزة تظل متجذرة بعمق في فلسفة مهرجان الجونة، الذي يلتزم بتعزيز بيئة تُمكن صانعي الأفلام من العالم العربي أن يزدهروا ويشاركوا رواياتهم القوية مع جمهور عالمي.

بالإضافة إلى الاحتفاء بالمشروع الفائز بجائزة مهرجان الجونة، يتقدم المهرجان بتهنئة حارة للفريق الرائع الذي يقف وراء "لم تكن وحدها"، وهو مشروع قادم من العراق والمملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، من إخراج حسين الأسدي وإنتاج عشتار العراق للإنتاج السينمائي.

"لم تكن وحدها" هو تأمل شعري في حياة فاطمة، امرأة بدوية تعيش بمفردها في الأراضي الرطبة في العراق مع حيواناتها المحبوبة. يستكشف الفيلم بشكل مقنع الانهيار البيئي والخيارات الصعبة التي تواجهها شخصياته. تم بالفعل اختيار الفيلم في مراحل ما بعد الإنتاج للمشاركة في منطلق الجونة السينمائي 2023، حيث ستتاح له الفرصة للتنافس على الجوائز والمنح المقدمة من مهرجان الجونة وعدد من الشركاء المؤثرين في صناعة السينما.

عن أهمية الجائزة وارتباطها باللحظة الراهنة، قال انتشال التميمي، مدير مهرجان الجونة السينمائي: "يسعدنا أن نبرز وندعم المشروع الاستثنائي السودان: عندما تسقط القصائد كجزء من فاينل كت فينيسيا 2023. هذه الجائزة تؤكد التزامنا تجاه رعاية الأصوات المبدعة في المشهد السينمائي العربي، وإقامة علاقات مستدامة داخل صناعة السينما العربية. نهنئ ايضًا الفرق الموهوبة التي تقف وراء مشروع لم تكن وحدها الذي ننتظر مشاركته في الجونة الشهر المقبل، ونرسل التهاني إلى المشروع الجنوب أفريقي كاريسا الفائز بجائزة فاينل كت عن استحقاق، ونترقب بفارغ الصبر إسهام جميع الفنانين المستقبلي في عالم السينما". 

 

####

 

بعد فينيسيا.. الفيلم التونسى "وراء الجبال"

يشارك فى مهرجان بوسان السينمائى الدولى بكوريا

لميس محمد

يشارك الفيلم الروائي التونسي وراء الجبال للمخرج محمد بن عطية ضمن فعاليات النسخة 28 من مهرجان بوسان السينمائي الدولي الذي يقام في الفترة من 4 إلى 13 أكتوبر المقبل، على أن يعرض الفيلم الروائي التونسي وراء الجبال في قسم السينما العالمية، وتعد تلك محطته الدولية بعد ما حصل على عرضه العالمي الأول في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي حيث شارك في قسم آفاق.

نال الفيلم الروائي التونسي وراء الجبال، استقبالًا جماهيريًا حافلًا عند عرضه في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، بحضور أفراد من طاقم العمل، إذ ضجت القاعة بالتصفيق وتفاعل الجمهور بطرح الأسئلة بعد عرض العمل.

يتتبع الفيلم رحلة رفيق الذي خرج للتو من السجن بعدما قضى أربع سنوات، ولا يوجد أمامه سوى خطة واحدة، وهي أن يصطحب ابنه في رحلة إلى ما وراء الجبال حتى يريه اكتشافه المذهل.

وراء الجبال من تأليف وإخراج محمد بن عطية الحائز على جائزة أفضل عمل أول في مهرجان برلين عام 2016 عن فيلمه نحبك هادي، ويشكل وراء الجبال عودة لمثلث برلين الذهبي إذ يتعاون بن عطية مجددًا مع المنتجة لينا بوشوشة والممثل مجد مستورة الحائز على جائزة الدب الفضي لأفضل ممثل عن دوره في نحبك هادي.

ويشارك أيضًا في بطولة الفيلم سامر بشارات ووليد بوشيوة، وسلمى الزغيدي وحلمي الدريدي.

ونقديًا قوبل باحتفاء، إذ كتب لي مارشال في سكرين دايلي: "التجربة الثالثة لـ محمد بن عطية تمثل دليلا إضافيا على الحيوية التي تعيشها السينما في شمال إفريقيا حاليًا".

في حين كتب ديفيد كاتز في سينيوربا: "العمل الأكثر ابتكارًا في ثلاثية بن عطية، بل وربما يكون صاحب القيمة الأكبر من بينهم".

محمد بن عطية مخرج ومؤلف تونسي تخرج في المعهد العالي للدراسات التجارية عام 1998، ثم درس الاتصال السمعي والبصري في جامعة فالنسيان بفرنسا، وفي مسيرته أخرج 5 أفلام قصيرة كان أولها فيلم Romantisme, deux comprimés matin et soir عام 2004، ثم فيلم كيف الآخرين الحاصل على جائزة الحصان الفضي في مهرجان FESPACO عام 2006، ثم فيلم موجة عام 2008، فيلم قانون 76 عام 2011 وآخرها فيلم سلمى عام 2014 الحاصل على عدة جوائز في مهرجانات سينمائية مختلفة، وكان أول أفلام الروائية الطويلة نحبك هادي هو أول فيلم روائي طويل له الذي شارك وفاز بالجوائز من عشرات المهرجانات الدولية أهمها جائزة أفضل أول فيلم طويل بمهرجان برلين السينمائي والدب الفضي للممثل مجد مستورة.

 

اليوم السابع المصرية في

12.09.2023

 
 
 
 
 

يوميات الموسترا (3):

جنون السينما في فيلم يوغوس لانتثموس

أمير العمري فينيسيا

اليوم الثالث في المهرجان هو بلا شك، يوم جنون السينما، ويكفي أننا شاهدنا فيه فيلم “أشياء بائسة”Poor Things الذي لا أرى أن هذا هو أفضل تسمية له، وأفضل شخصيا الإسم الفرنسي، أي “كائنات بائسة”Pauvres Créatures. رغم أنه بعيد أيضا عن البؤس، فهو أولا عن أشخاص، وليس عن أشياء. وثانيا، عن التمرد وليس البؤس. ولاشك أنه يمثل عودة شديدة القوة والجموح الفني من جانب المخرج اليوناني المرموق “يورغوس لانثيموس” صاحب الأفلام الممتعة مثل سن الكلب”، “سرطان البحر”، “مقتل غزال مقدس”، و”المفضلة”، بعد غياب خمس سنوات.

هذا هو الفيلم الذي يشبه عصا موسى، أي الذي ظهر لكي يبتلع جميع الأفلام، تلك التي سبقته، وتلك التي ستلحقه، فهو لا يشبه أيا منها، بل ولا يشبه أيا من الأفلام التي ظهرت في السينما من قبل، فهو عمل متفرد، لا يشبه غيره، ورغم أنه مقتبس من رواية الكاتب الاسكتلندي “ألسدير جراي” Alasdair Gray التي  صدرت عام 1992، إلا أنه فيلم شديد الجمال سينمائيا، أي أنه رغم أصله الأدبي، يصل كثيرا في مشاهد عديدة، إلى مستوى السينما الخالصة، التي تعتمد على مكونات الصورة، والمونتاج، وحركة الكاميرا، واللقطات القريبة والبعيدة، والتناغم بين الصورة والموسيقى، وكلها عناصر رئيسية في خلق السينما التي لا تشبه أيا من الفنون الأخرى.

يروي الفيلم قصة تبدو كما لو كانت محاكاة على مستوى مختلف، لقصة فرانكنشتاين، أي قصة تنتمي إلى عالم ما يسمى بـ”الخيال العلمي” لكنها لا تدور في المستقبل، بل في الماضي، في العصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر، حينما كانت القيم الفيكتورية تفرض على المرأة الكثير من القيود، وتحد من حريتها، وخصوصا الحرية الجنسية التي لم يتم تحقيقها سوى في ستينيات القرن العشرين، مع اندلاع ثورة الشباب في العالم، وتمرد المرأة، وظهور الملابس القصيرة، وحبوب منع الحمل!

أهم ملمح من ملامح الفيلم، وهو ما يزيد من غرائبيته، هو التصوير الذي يجعلنا نشاهد العالم من خلال عدسة عين السمكة، التي تجعل المنظور خصوصا في الثلث الأول، مقعرا، والصورة مشوهة ولكن من دون أن تسبب أدنى إزعاج للمشاهد، بل تعمق من شعورنا بالاغتراب عنها، فنحن نشاهد صورا من العالم يمكن أن تكون مستقبلية لكنها في الوقت نفسه، ماضوية أيضا، وفي جميع الأحوال، لا صلة للفيلم بالواقعية، أو بالعالم الواقعي، قد تكون أفكاره قريبة منا ومن الفكر الواقعي، لكن صوره وطريقة تجسيدها تخلق منها “حالة” سيريالية، بعيدة كل البعد عن الواقعية.

الحركة موجودة في الفيلم باستمرار، داخل المشهد وخارجه، وبين اللقطات والمشاهد من خلال تدفق المونتاج. وتصميم المناظر يزيد من الشعور بالاغتراب والعبث، والأداء التمثيلي الذي يتصف بقدر من المبالغة المقصودة والاستعراض، يجعلنا نشعر في كثير من الأحيان، أننا نشاهد عملا فنيا شديد الجاذبية، يشيع فيه الرعب ويمتزج بالكوميديا والسحر والجنون. إنه على نحو ما قريب من فرانكشتاين، لكنه قريب أيضا من أسطورة “الجميلة والوحش”، ومن جموح وتطرف “حسناء النهار” لبونويل، كما يذكرنا بعالم غيليام، وسينما خودوروفسكي.

 

إن بديل الدكتور فرانكنشتاين هنا هو الجراح العبقري المتطرف “جودوين باكستر” (وليم دافو)، صاحب الوجه المشوه من آثار ما أجراه عليه والده (الذي كان جراحاً أيضا ورث هو عنه عيادته الغريبة الملتصقة بمنزله الشاسع الغريب الطراز). وهو سيخبرنا في البداية أنه أجرى عملية نقل مخ قرد إلى هذه الفتاة التي يحتجزها في منزله لا يسمح لها قط بالخروج، وقد سماها “بيلا” (أي الجميلة)- إيما ستون- بينما تطلق هي عليه “God” أي “الإله”. فهي تعتبره كائنا خارق القوة والقدرات، لكنها لا تخضع له تماما، فهي تتصرف تصرفات طفولية نزقة، تكسر الأطباق، وتحطم الزجاج وتخرق عيني جثة ترقد داخل عيادته من تلك التي يجري عليها تجاربه المجنونة وهي تصرخ في غضب واحتجاج شبيه بغضب الأطفال.

لكنه سيخبرنا فيما بعد، أو بالأحرى، سيخبر الطبيب الشاب “ماكس” (رامي يوسف) الذي أتى به ليقيم معه في المنزل لكي يدرس ويسجل سلوكيات ذلك الكائن الذي هو أبعد ما يكون عن البؤس في واقع الأمر، سيخبره بأنه عثر عليها ملقاة أسفل جسر بعد أن حاولت الانتحار، وكانت حاملا (وهي ستستدعي تلك اللحظة فيما بعد أيضا)، وأنقذها من الموت وأجرى لها عملية نقل مخ لجنين صغير لها بدلا من مخها الذي دُمر.

هذا المخ الذي لم يقطع بعد مرحلة النمو، هو المسؤول عن تصرفاتها الطفولية التي تخالف كل الأعراف (هي مثلا تريد أن تذهب في المطعم لكي تصفع طفلا تسمعه يبكي، أو تستخدم اللغة الخشنة الفظة التي تتناقض مع الأدب). لكن هذا الكائن سيخوض رحلة هائلة مع رجل يدعى “دونكان ويدربرن” (مارك روفالو)، وهو محام يأتي لتزويجها من “ماكس”، لكنه يقع في غرامها ويغويها فتهرب معه في نفس الليلة لاكتشاف العالم، ويذهب الاثنان أولا إلى برشلونة ومنها إلى باريس قبل العودة إلى لندن.

هذه الرحلة نرى فيها المدن الأوروبية كما لم نرها من قبل، بل تبدو كما لو كانت تنتمي لعالم خرافي، بفضل الديكورات البديعة التي صممها جيمس برايس وشونا هيث، وهي عنصر أساسي في هذا الفيلم ومن دونها لا يصبح له نفس القيمة، ولا يحقق نفس المتعة. والرحلة بل والفيلم كله منذ لحظة خروج بيلا إلى العالم، هي رحلة رصد “تطور” عقل بيلا وجسدها ومشاعرها.. رحلة تطور بالمعنى الدراويني.

يظل محور اهتمامنا هو شخصية “بيلا باكستر” التي تتوق كأي طفلة حرمت من الخروج إلى العالم لتذوق طعم كل الأشياء، لمعرفة معنى الأشياء، ولتجربة الكثير من أجل أن تعثر على نفسها، على هويتها كامرأة، وخصوصا التجربة الجنسية، ليس من أجل المتعة غالبا، بل حينا من أجل تجربة الشعور بالمتعة، وحينا آخر من أجل الاستقلال، أو عندما تستقل عن رفيقها في باريس وترفض الانصياع له والخضوع لقوالبه، وتلتحق بالعمل في بيت للدعارة، من أجل المال، وفي جميع الأحوال، كأساس للتحرر من قيود المجتمع المفروضة على المرأة. وشخصية “مدام بيرين” تؤديها الممثلة البريطانية فيكي ببيردين بأسلوب شديد الجاذبية. ناعمة ورقيقة ومتعاطفة سواء مع الزبائن أو مع الفتيات عاملات الجنس!

ومن خلال شخصية بيلا باكستر، تُطرح في الفيلم تساؤلات فلسفية حول مغزى الحياة ومعنى الخلق، ولماذا نحيا ثم لماذا يأتينا الموت، وكيف يعمل الجسم البشري، وكيف ينمو المخ والعقل والفكر، وما معنى الجنس ولماذا هو ضروري. وفي الفيلم مشاهد كثيرة صريحة وشديدة الجرأة تجعل من المستحيل أن يعرض سوى للكبار فقط، أما في بلدان أخرى، فيستحيل عرضه من دون استبعاد مشاهد كاملة منه. ورغم ذلك فالمشاهد الجنسية لا إثارة فيها، فهدفها هو رصد واكتشاف الغريزة والتوقف أمام رد فعل بيلا، وفيها من الدهشة بقدر ما فيها من النفور خصوصا في مشاهد “البورديل” (بيت الدعارة الباريسي الباروكي الغريب الذي تديره امرأة تدرك تماما فكرة الاستغلال الرأسمالي للمرأة، لكنها لا تجد وسيلة أخرى لمساعدة الفتيات. إنها أم بديلة رحيمة متعاطفة تمنح الحرية ليبلا في أن تترك العمل عندما تشاء.

تدريجيا لن تعود بيلا باكستر طفلة في جسد امرأة، بل سينضج وعيها بنفسها وبالعالم من حولها، وتصبح تعبيرا عن رفض القيم الاجتماعية العتيقة، كما ستصبح وعاء لاستقبال أفكار القرن التاسع عشر التقدمية (الفكر الماركسي مثلا)، متبنية فكرة امتلاك أدوات الإنتاج، دون أن تتناقض هذه النظرة التحررية مع امتهان الدعارة لبعض الوقت، لكنها ستهجرها وتعود إلى الدكتور باكستر الذي سيجدها مختلفة تماما عما كانت. لقد تمردت الجميلة على الوحش، وتمرد كائن فرانكنشتاين على خالقه، بل وتفوق عليه، في الفكر وفي فهم العالم.

إيما ستون هي الفيلم والفيلم هو إيما ستون، فهي تتحرك وتعبر بثقة هائلة، وتنوع في الأداء، وتبدو كما لو كانت قد أدت الدور في سياق متصل، في يوم واحد من دون أي توقف أو قطع، فهي تحافظ على إيقاع حركتها بشكل مدهش. هي حينا طفلة مشاكسة عنيدة، وحينا آخر امرأة تعرف كيف تغوي وتتدلل، ثم تحصل على ما تريد، كما أنها تصبح أيضا امرأة مفكرة لا تكتفي بسطحية الأشياء بل تريد النفاذ إلى العمق.

أدى جميع الممثلين أدوارهم كأنهم يشتركون في سيمفونية بديعة، يتبادلون العزف، كل يعرف مكانه ودوره جيدا وسط الأوركسترا، ولاشك أن الفضل يعود أساسا إلى وضوح الشخصيات في السيناريو العبقري الذي كتبه الاسترالي “توني مكنمارا” (كاتب سيناريو فيلم المفضلة The Favourite)، مقتبسا روح واجواء عالم الرواية، ومنح الشخصيات ملامح إضافية مستقلة تجعل لكل منها حضورها في الحبكة من دون زيادة أو نقصان. وقد صاغ الفيلم في سياق سردي غير تقليدي، بل في سياق ملتو، غير خطي، يعود ويرتد في الزمن، كما يحفل أيضا بالتداعيات البصرية، والهواجس الصوتية والتعليق الصوتي من خارج الصورة، مع سيطرة مدهشة على الإيقاع ومن دون أي إرباك أو غموض.

وطبيعي أن الفضل في تناغم تلك الحبكة بتفاصيلها المدهشة، وأجوائها المذهلة، يعود إلى المخرج يورجوس لانثموس، صاحب الفكر السينمائي المتحرر كثيرا من قوالب الصنعة التقليدية، وهو ما يجعل أفلامه لا تشبه غيرها حتى لو كانت قادمة من عالم الأدب (مثلما كان “المفضلة” مثلا).. إنه يصنع رؤية بصرية من زوايا غريبة، وكادرات تجعلنا كما لو كنا نتلصص على ما يجري من ثقب الباب، خصوصا في الجزء الأول من الفيلم المصور بالأبيض والأسود، أي في “طفولة” بيلا باكستر- إن جاز التعبير، أي مرحلة الطفولة والاستهتار والعبث، إلى الألوان في مرحلة الاكتشاف والنضج مع مجموعة من الألوان الشبيهة بألوان الباستيل.

كائنات بائسة” لا يقدم كائنات تتصف بالبؤس أبدا، بل على العكس، هي كائنات شديدة الجموح، بما فيها ذلك المحامي العابث المستهتر الذي يقوم بدوره مارك روفالو في واحد من أفضل أدواره، يساير ويوافق لكنه يغضب ويحتج ويريد أن يعيد “بيلا” إلى القالب الذي يريده، فهو يحررها فقط بشروطه، وفي نطاق محدد، لكنه لا يقدر عليها، فقد انطلق العفريت من القمقم.

هذا هو “فيلم العام” جنبا إلى جنب مع فيلم سكورسيزي الكبير “قتلة قمر الزهور” (الذي سيعرض في أكتوبر)، وسوف يكون له شأن كبير في ترشيحات الأوسكار القادمة التي جرى العرف قبل سنوات، على أن يأتي الفيلم الأكثر حظا في نيل جوائزها، من مهرجان فينيسيا الكبير.

 

موقع "عين على السينما" في

13.09.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004