ملفات خاصة

 
 
 

برلين 73 - "المرهقون":

الاجهاض استعارة لتصوير مأزق العيش في اليمن

هوفيك حبشيان

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة الثالثة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

"المرهقون" لعمرو جمال، المعروض داخل "بانوراما" في #مهرجان #برلين السينمائي (16 - 26 شباط) أعادني إلى فيلم يمني كنت شاهدته قبل سنوات عدة في مهرجان دبي وكان شديد السوء. السينما غير الموجودة في اليمن، خرجت منه في السنوات الفائتة أعمال معدودة. ان يشق هذا الفيلم طريقه إلى واحد من أهم المهرجانات في العالم ليصبح محل احتفاء عند البعض، أمر يمكن تفهّمه، نظراً للفرص القليلة التي يحظى بها اليمنيون للفرح. وهذا الأمر (تعاسة العيش) واضح أيضاً في الفيلم، مرسومٌ على وجوه الأشخاص الذين لا وقت لديهم ليظهروا شيئاً آخر غير مأزق العيش في بلد لا يمنح أبناءه سوى القلق والحزن. يروي الفيلم بلقطات باردة وبطيئة تنزلق تدريجاً إلى نوع من القدرية، الحالة المعيشية الصعبة التي يشكو منها اليمنيون، هؤلاء الذين هم على الأرجج الغالبية في بلد منكوب تغيب فيه كلّ مقومات العيش الكريم، يشهد انهيار الطبقة الوسطى جراء الوضع الاقتصادي. سنرى كيف ان اسرة تعيش في منزل سليم، ستضطر إلى البحث عن بيت غير صالح للعيش. الفيلم يأخذ من مدينة عدن مركزاً للأحداث. الأسرة المشار اليها مؤلفة من خمسة أفراد، الأب والأم (خالد حمدان وعبير محمد) والأولاد الثلاثة. ماذا سيحدث عندما تعلم الأم بأنها حامل بطفلها الرابع؟ أي حياة تنتظر طفلاً في مثل هذه الظروف؟ لا يُخفى على أحد بأنه سيكون عبئاً أضافياً على عاتق مَن يطلق الفيلم عليهم تسمية "المرهقون". الخيار الوحيد هو الاجهاض، لكن الإجهاض ليس حلاً سهلاً في بلد محافظ مثل اليمن يعتاش على تقاليد محافظة.

في هذه البيئة الضاغطة التي صنعتها الحروب والمآسي، حيث فقدان أساسيات الحياة اليومية من كهرباء وماء وأمن، بات شيئاً عادياً، نتعرف إلى الزوجين إسراء وأحمد، من دون ان نشهد على أي حميمية بينهما. إسراء وأحمد سيجدان نفسيهما في مشكلة أكبر منهما ويجب عليهما التعامل معها بحذر. فالمعضلة التي يواجهانها تغدو أصعب لأنها تتعلّق بحياة تنمو في أحشاء الأم كلّ يوم أكثر فأكثر، والتخلّص منها يحمل دلالات اجتماعية وسياسية واقتصادية. أضف إلى هذا، الصراع الداخلي الدائر بين شخصين عاديين، والنزاع بين الرغبة الشخصية من جانب والدين والمجتمع من جانب آخر. لكن يبدو ان هناك دائماً قراءات جديدة للدين وفتاوى تجيز وتمنع، ولا بد من الاستماع اليها.

عدد غير قليل من الأفلام نقل مسألة الاجهاض في ظروف صعبة، وكان الاجهاض في السينما أحياناً نوعاً من الاستعارة السياسية. يحبّ السينمائيون موضوع الاجهاض، لأنه حمّال أوجه ومعانٍ ويقول الكثير عن حال المجتمع والناس والقوانين والأخلاقيات والبيروقراطية دفعة واحدة، وذلك من خلال رفض المرأة ان تأتي إلى العالم بكائن سيعاني من كلّ ما عانته. لكنها نادرة أفلام الاجهاض والخطوات المتتالية للتخلّص من الجنين حيث هذا القدر من الانتهاك لحميمية المرأة.

"انه الاقتصاد أيها الغبي"، صاح ذات مرة مستشار بيل كلينتون، وهو كان يدري تماماً عمّا يتحدّث في جملته العبقرية هذه. نعم، انه الاقتصاد الذي يتفاعل مع كلّ شيء، خصوصاً في الأنظمة الهشّة حيث يأكل الأخضر واليابس بلا رحمة. والسينما العربية لطالما تجاهلت انعكاس الأوضاع المادية على حياة الناس، صارفةً النظر عن حقيقة انها تصنع المجتمعات الحديثة. بعض التجاهل قد يأتي من فكرة مغلوطة مفادها ان الحديث عن هذه الأحوال انتقاص من كرامتهم البشرية أو الدخول في منطقة محظورة. في أي حال، لا يتردد عمرو جمال من هدم بعض القيم الزائفة عند الحديث عن موضوع يلمس المرأة بشكل خاص، مع اللافت انها ستدفع الضريبة وهي التي ستضحّي.

هذا على مستوى المضمون، أما شكلاً، فالفيلم يصرف مجهوداً لإيجاد هوية خاصة به. هل يجد في النهاية؟ لا أعتقد ذلك. فلغته وجمالياته وتقنيات السرد التي يلجأ اليها ليست أصيلة مئة في المئة، بل رأينا مثلها في العديد من الأفلام، أكانت من شرق أوروبا أو تركيا أو إيران أو حتى الهند، البلد الذي جاء الفيلم منه بمدير التصوير مرينال ديساي. في النهاية، وعلى سبيل الانصاف، يمكن الاشادة بجرأة هذا العمل في تناول موضوع حسّاس ضمن البيئة العربية الإسلامية، لكن على المستوى السينمائي، هناك بعض العمل على الطاولة. طفل إسراء لن يولد، لكن وُلِد بدلاً منه سينمائي يجيد نقل مأساة مرهقي بلاده من خلال الحياة اليومية.

 

النهار اللبنانية في

25.02.2023

 
 
 
 
 

حرب سينمائية شرسة بين القسوة والرقة في مهرجان برلين

عنف في نيجيريا وعنصرية أوسترالية وسفينة مرضى نفسانيين على نهر السين وفيلم يمني عن الإجهاض

هوفيك حبشيان

التنوع من سمات هذه الدورة من مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 فيراير- شباط) الذي حرص على تقديم بانوراما شاملة للإانتاج السينمائي في العالم. إلا أن ثمة مسألة بات الحديث عنها ضرورياً: السينمائيون أصبحوا إما أن يختاروا القسوة أو الرقة في التعاطي مع الموضوع الذي يعالجونه. والخيار الذي يقومون به تفرضه عناصر عدة، أبرزها الخلفية الثقافية لكل مخرج، بالاضافة إلى تجربته والمدرسة السينمائية التي يأتي منها وذوقه الفني ونزعاته الجمالية، وأحياناً الحكاية نفسها، اذ لا يمكن مثلاً أن تروي الحرب كما تروي الحب، إلا إذا كنت هيتشكوك الذي كان يقول إنه يصور مشاهد الحب كمشاهد جريمة، ومشاهد الجريمة كمشاهد حب.  

في فيلمه الروائي الطويل الأول، "فتى الديسكو"، المعروض داخل المسابقة، إختار المخرج الإيطالي جياكومو ابروتسيزي القسوة الشديدة. منذ أول اطلالة لبطل الفيلم الشاب البيلاروسي آلكسي (فرانز روغوفسكي) على الشاشة، تسود لدينا حالة من عدم الإرتياح. المظهر الخارجي للشاب الشبيه بالسايكو يولّد هذا الاحساس، لكن الجو العام هو الذي يعززه. يجب القول إن العالم الذي نجد أنفسنا فيه، قاس ولا يرحم. هو عالم الحروب والهجرة ومحاولة الإنسان إيجاد مكان له، مهما كلف الثمن. يغادر ألكسي بلاده متوجهاً إلى باريس، فيلتحق بالفيلق الأجنبي (فرع من فروع الخدمة العسكرية التابعة للجيش الفرنسي)، الذي يقبل جميع المجندين الأجانب الراغبين في الخدمة ضمن القوات المسلحة الفرنسية. مقابل هذه الخدمة، ينال الجنسية الفرنسية. يصبح ألكسي مرتزقاً يحارب في النيجر، حيث نزاع مسلح، ويتصدى لنيجيريين يدافعون عن أرضهم. وفي لحظة، يجد نفسه في مواجهة مع شاب نيجيري يحاول مثله الصمود. 

من خلال هذه الحكاية "الفاوستية"، على حد تعبير المخرج، حاول الفيلم أن يضع الأضداد وجهاً لوجه، بهدف الإطلاع على وجهتي نظر مختلفتين، على عكس الكثير من أفلام الحروب التي ترينا الصراع من جانب واحد. يقول الفيلم ان الذين يحكمون هذا العالم يضعون الفقراء والمقهورين في مواجهة ليقاتلوا بعضهم بعضاً. الشاعر الفرنسي بول فاليري كتب: "الحرب هي تقاتل بين ناس لا يعرفون بعضهم بعضاً لمصلحة ناس يعرفون بعضهم بعضاً ولكن لا يتقاتلون". الفيلم ترجمة حرفية لهذه الفكرة التي ينقلها المخرج بقوة بصرية مميزة إلى الشاشة. الخيارات الجمالية غير الإعتيادية التي قام بها، تساهم في إشاعة هذا الجو الكابوسي الذي يسقط فيه ألكسي، هذا بالاضافة إلى الوهم الذي يسقط فيه أيضاً. لا جنة خلف الحدود، بل قتل وتشرد.

فيلم آخر على قدر كبير من القسوة، رغم عنوانه، "بقاء اللطف" للمخرج الأوسترالي من أصل هولندي رولف دو هر المتخصص بسينما ردت الإعتبار إلى السكان الأصليين لأوستراليا. هذا الفيلم رغم أنه أحد أسوأ الأعمال المعروضة داخل المسابقة، هو خير نموذج للسينما التي تعتمد القسوة والعنف في سرد حكاية العنصرية والظلم. هناك مَن يؤمن أن الاسلوب هذا يؤثر في المشاهد ويجعله متعاطفاً مع القضية النبيلة المطروحة. غير ان ما يحدث مع المشاهد هو العكس: نسيان كامل للفيلم فور خروجه من الصالة. ولو أن الواحد منا لم يدون بعض الملاحظات على ورقة أثناء المشاهدة، لما استطاع الكتابة عنه. 

"بقاء اللطف" فيه الكثير من التصنّع وهو يأتي برؤية تبسيطية للإستعمار والعنصرية. يبدأ الفيلم بسيدة سوداء (مواجيمي حسين) تُزج في قفص داخل الصحراء. نراها تعاني من أجل الخروج منه والهروب. في النهاية تنجح، وفور خروجها من القفص تجد نفسها تواجه الجحيم، فالجميع يتقاتل مع الجميع. هناك أشخاص يرتدون أقنعة غاز يتعقبونها ويريدون لها الشر، واللافت ان الجميع يتحدث لغة غير مفهومة أشبه بأصوات لا كلام. فعلى ما يبدو هناك وباء تفشّى في أنحاء البلاد محدثاً دماراً وخراباً، أما الناس فباتوا يبصقون الدم. الأجواء أبوكاليبتية توحي بأن كارثة ما مرت من هنا. الأحداث كلها عبارة عن مطاردات ومحاولات هرب لا تنتهي إلا مع قرار السيدة السوداء بالعودة إلى القفص، في اشارة من المخرج بأن القفص أكثر أماناً لها. في هذا الخطاب شيء من السذاجة. والمستغرب أن الفيلم نال جائزة النقاد (“فيبريسي”) أمس في المهرجان. 

مقابل قسوة هذين الفيلمين، جاء "على قارب الأدامان" للمخرج الفرنسي نيكولا فيليبير ليؤكد أن العالم بألف خير وأن الرقة هي الحل في وجود أمثاله. مع هذا الوثائقي المشارك في المسابقة، يصور المخرج الكبير المعروف بأساليبه الخاصة لالتقاط الواقع، أشخاصاً يشكون من أمراض نفسية وعقلية، ويزورون بانتظام مركزاً للعلاج يقع على قارب، على نهر السين الباريسي. يوثق الفيلم يوميات المرضى والأنشطة الثقافية والترفيهية التي ينظمونها في إطار البرنامج الصحي الذي ينالونه. هناك أيضاً لقاءات متواصلة مع المعالجين، وهذا كله في اطار غير تقليدي، الأمر الذي لفت انتباه فيليبير. مجموعة شخصيات بعضها سينمائي بامتياز، كالمثقف المطلع على الأفلام والفن التشكيلي،  وهم يقفون أمام كاميرا فيليبير الذي يعرف كيف يستخرج منها جوانب لا يراها آخرون.

يتأخر على الوجوه فيخلق حناناً وعطفاً من دون أن يحولهم مادة وموضوعاً للإبتزاز العاطفي، فهذا كله بعيد عن آليات اشتغاله. لا يقترب فيليبير منهم كمرضى ولا يصنفهم، بل يقدمهم كأشخاص مختلفين، يبحثون عن بعض الدفء والطمأنينة على هذا القارب، بعيداً من المستشفيات الكبيرة. تكفي بضعة مشاهد باريسية للمنطقة التي يرسو فيها قارب الأدامان، كي يؤكد فيليبير أي معسكر اختار: الإنسان وعمق تجربته. الحياة تمشي دربها المعتاد وبسرعتها المعتادة التي توحي بأنها لا تكترث لشيء، وفيليبير ينتظر شروق الشمس ليصور يوماً آخر في حياة بشر لا يصنعون بالضروة عالمنا الحالي، لكنهم جزء أساسي من جماله. 

على هذا النهج الهادئ يمشي أيضاً الفيلم اليمني، "المرهقون" لعمرو جمال، المعروض داخل "بانوراما". فيلم عن تعاسة العيش في بلد مثل اليمن لا تتوفر فيه مقومات العيش السليم. داخل هذا المناخ، يموضع المخرج قصة عائلة من الطبقة الوسطى، تتدهور حالتها المعيشية فتجبر على الإنتقال إلى بيت أصغر أقل كلفةً. لكنّ إسراء (عبير محمد)، ربة العائلة، تكتشف أنها حامل وتنتظر طفلها الرابع. ولأن الحالة المادية لا تسمح بطفل جديد، فتقرر بالتنسيق مع زوجها (خالد حمدان) الإجهاض، وهذا ما يدخل الفيلم في مجموعة خطوات نفسية وبيروقراطية للقيام بالإجهاض، علماً أننا في بلد محافظ حيث الكلمة الفصل، للدين والمجتمع والزوج، حتى وإن تكن المسألة متعلقه بشيء يخص المرأة في الدرجة الأولى. يتعامل عمرو جمال مع الموضوع بمسؤولية وهدوء، من دون أي انزلاق إلى الإثارة، مما يجعلنا نتجاوز بعض الهفوات في الفيلم، والضعف على مستوى الأداء والإخراج. في مجمل الأحوال، نحن أمام فيلم جريء بالمعايير اليمنية، يتناول مسألة الإجهاض كاستعارة سياسية، مصوراً حال المجتمع في ظل الإنهيار الإقتصادي الذي يعصف بحياة الناس. 

 

الـ The Independent  في

25.02.2023

 
 
 
 
 

مفاجأة برلين: فوز فيلم وثائقي عن مرضى نفسانيين بالجائزة الكبرى

فتاة في التاسعة أفضل ممثلة وفرنسي أفضل مخرج وأفلام إنسانية في الواجهة

هوفيك حبشيان

بعد عشرة أيام من الإطلاع على أحدث الإنتاجات السينمائية، وزع مهرجان برلين السينمائي (16 - 26 فبراير - شباط) أمس جوائز دورته الثالثة والسبعين، لكنّ العروض مستمرة يوماً إضافياً جرياً للعادة، لإرضاء حاجة الجمهور المحلي إلى المشاهدة، هو الذي ملأ الصالات طوال أسبوعين. لجنة التحكيم برئاسة الممثلة الأميركية كريستن ستيورات، أسندت جائزة "الدب الذهبي" إلى المخرج الفرنسي نيكولا فيليبير (72 عاماً) عن فيلمه “على قارب الأدامان” (إنتاج فرنسي ياباني)، في خطوة مفاجئة. هذا أول عمل وثائقي ينال الجائزة الأرفع في المهرجان منذ أن ظفر بها الايطالي جيانفرنكو روزي عن رائعته “نار في بحر” قبل سبع سنوات، من دون أن ننسى أن وثائقياً نال أيضاً "الأسد الذهبي" في الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية. كما أن فيليبير هو أول مخرج فرنسي ينالها منذ فوز باتريس شيرو بها عن فيلمه "حميمية" في العام 2001. يجب القول إن لا أحد من رواد المهرجان كان يتوقع فوز فيليبير بـ"الدب"، حتى المخرج نفسه لم يتوقعها، فصرخ لستيورات وهو على المسرح: "هل انت مجنونة؟". فالعديد من النقاد والصحافيين لم يشاهدوا حتى الفيلم لكونه وثائقياً، معتبرين إياه مجرد عمل على الهامش، يتحدث عن أمور غير مهمة ولا يمكن تحويلها إلى مادة للإثارة الإعلامية. لكن، كريستن ستويرات، إبنة الثانية والثلاثين، التي واجهت انتقادات بسبب صغر سنها وقلة خبرتها في مجال التحكيم، ردت الإعتبار على واحد من أهم المنابر السينمائية، إلى عمل واحد من أسياد التقاط الواقع في السينما المعاصرة.

في "على قارب الأدامان"، يصور فيليبير بإمكاناته المحدودة، وعينه التي تلتقط التفاصيل، وأخلاقيته في التعامل مع الآخر، مجموعة أشخاص يرتادون قارباً على نهر السين تحول منذ العام 2010 مركزاً لعلاج الأمراض النفسية. يأتي هؤلاء إلى هذا المكان بحثاً عن دفء وتواصل، في بيئة مغايرة غير تقليدية، على نقيض المستشفيات. يوثق الفيلم يومياتهم التي فيها لحظات مرح وتسلية وأمل، من دون أن ينظر إليهم كمرضى أو كموضوع أو كضحايا، ومركّزاً على النشاطات الثقافية في المركز. الفيلم بسيط جداً يرتكز على سلسلة من اللقاءات مع أشخاص يتحولون أمام كاميرا فيليبير إلى شخصيات سينمائية. لا يسعى إلى تحويلهم مجرد عناصر لاستدرار العواطف ولا يشفق على حالاتهم، بل يحرص على فهمهم، وفي محاولاته هذه الكثير من الإنسانية.

في المؤتمر الصحافي الذي عُقد بعد توزيع الجوائز، سُئل فيليبير عن دهشته من فوزه بالجائزة، فكان رده: "علمت أن الفيلم سيفوز بجائزة ما، ولهذا أجلت سفري من برلين. أنا فخور وسعيد لنفسي وللسينما الوثائقية. أن يحصل فيلم وثائقي على "الدب الذهبي"، فهذا سيعطي دفعة للفيلم الوثائقي. توجد سوابق قليلة بالفوز بجوائز لأفلام وثائقية، وأرجو أن يكون فيلمي خطوة على الطريق".

أما إذا كان الفيلم يخفف الوصمة عن المرض العقلي والنفسي، فقال فيليبير: "أرجو ذلك. فيلمي ليس عملاً متمرداً أو مقاتلاً، لكن أرجو أنه يصور هؤلاء الأشخاص بشراً وليس مرضى أو موصومين بوجودهم في هذا المكان". 

ونال المخرج الألماني كريستيان بتزولد جائزة "الدب الفضي" (لجنة التحكيم الكبرى) عن فيلمه "سماء حمراء" وهو الجزء الثاني من ثلاثيته "عن الحب والابداع" بدأها المخرج مع عمله السابق. يتمحور الفيلم على شاب إسمه ليون (توماس شوبرت) ينعزل في بيت ريفي ليجمع أفكاره وينهي روايته الثانية، لكن وقوعه في غرام إحدى الفتيات، ونشوب الحرائق في الريف الذي يقيم فيه، سيقلبان الأشياء رأساً على عقب، ولكن في النهاية سيفتحان له آفاق التأليف. الفيلم عن الالهام بشكل خاص، ولكن قام بتزولد بتأليف قصص من حوله من نسج خياله. بعد تسلمه الجائزة، شرح قائلاً: "قبل ثلاث سنوات فازت باولا بير بجائزة أفضل ممثلة عن فيلمي السابق "أوندين"، وبعدها سافرنا هي وأنا إلى فرنسا وأصبنا بالكوفيد. ثم خلال الجائحة، توقفت حياتي عدة أعوام، ثم قرأت قصة لتشيكوف، وهي التي ألهمتني بهذا الفيلم". 

ونال المخرج البرتغالي جو أون كانيخو جائزة لجنة التحكيم عن فيلمه "سوء العيش" الذي يحكي عن خمس نساء وعلاقتهن بأولادهن والروابط المعقدة، على طريقة أفلام جاك ريفيت أو مسرحيات ستريندبرغ. يطرح الفيلم السؤال الآتي: ماذ يحل بالإنسان عندما يعود الماضي الأليم إلى الضوء، فيما الحاضر لا يوفر أي مَخرج؟ يذكر أن كانيخو سبق أن عمل مساعد مخرج للعديد من السينمائيين الكبار، مثل مانويل دو أوليفيرا وفيم فندرز. خلال المؤتمر الصحافي، سُئل عن الوحشة والوحدة في الفيلم، فالنساء يعشن معاً مكانياً لكنهن وحيدات تماماً. رد قائلاً: "الفيلم عن القلق والوحشة وعن النساء غير الراضيات، ولهذا يملأ الشعور بالوحشة الفيلم. أنا سعيد بالجائزة لفيلمي البسيط لأنها ستساعدني على العيش بأمل". 

فرنسي آخر من المخضرمين حاز جائزة كبيرة، هي جائزة الإخراج (دب فضي)، وهو فيليب غاريل الذي كان جاء إلى برلين بـ"لو غران شاريو"، فيلم عن عائلة من محركي الدمى، يواجه أفرادها مصاعب من كل الأنواع بعد الرحيل المفاجئ للأب خلال تقديمه مسرحية للأطفال. الفيلم تأملات في موضوع التوريث والفن والالهام وموت مسرح الدمى، من مخرج في الرابعة والسبعين ارتبط إسمه بـ"الموجة الفرنسية الجديدة"، وهو أحد الذين يصنعون سينما حميمية، خارج التيارات السائدة واهتمامات السوق. أما عن سبب اختياره أولاده الثلاثة وجمعهم في فيلم، فقال: "قررت ذلك عندما غادروا جميعاً المنزل، وأصبح لهم حياتهم. لم يعد أمامي سوى فيلم أو فيلمين، فأردت أن يكون أولادي معي في فيلم". 

جائزة التمثيل ذهبت إلى صوفيا أوتيرو، ابنة الثمانية أعوام التي أبدعت في "20 ألف نوع نحل" للمخرجة الاسبانية استيباليز أوريسولا سولاغورين، والفيلم عن طفل في التاسعة وُلد صبياً ولكن يعتبر نفسه فتاة. دمعت عينا أوتيرو وهي تتسلم الجائزة، ولاحقاً في المؤتمر الصحافي أعلنت أنها ستخصص حياتها للتمثيل. أما الممثلة الألمانية المتحولة ثيا إير، فنالت جائزة أفضل دور مساعد عن أدائها في "حتى آخر الليل" للمخرج الألماني كريستوف هوشهاوزلر. 

ونالت المخرجة الألمانية أنغيلا شالينيك جائزة أفضل سيناريو عن فيلمها "موسيقى". تبدأ القصة في الثمانينيات وتمتد إلى يومنا هذا، فتنتقل بنا من جبال اليونان وشواطئها إلى بحيرات برلين. أما الحبكة فهي عن رضيع يتم إنقاذه من عاصفة على يد إلياس وزوجته. يطلقون عليه اسم جون ويربونه. لكنه، عندما يصبح شاباً، يتعرض لهجوم ينتهي بجريمة. بسبب تعرضها لوعكة صحية، لم تحضر شالينيك الحفلة لاستلام جائزتها.

أفضل مساهمة فنية فازت بها المصورة هيلين لوفار عن عملها المثير على فيلم "فتى الديسكو" للمخرج الإيطالي جياكومو أبروتسيزي، وهو عن مهاجر بيلاروسي ينخرط في الفيلق الفرنسي الأجنبي، ليجد نفسه في النيجر يحارب ناساً لا يعرفهم. 

أخيراً، الشقيقتان اللبنانيتان ميشيل ونويل كسرواني فازتا بجائزة "الدبّ الذهبي" عن فيلمهما القصير "يرقة" (29 دقيقة) عن مهاجرتين تعملان في احد مقاهي ليون.

 

####

 

"المرهقون" ومضة يمنية في نفق الحرب

حصد جائزتين في النسخة 73 من مهرجان برلين السينمائي الدولي

توفيق الشنواح وهشام الشبيلي 

على رغم عتمة الحرب إلا أن ومضات تأتي من #اليمن لا علاقة لها بلهب آلة القتال ولكنها مقبلة من ضوء عدسة السينما إذ إن الظروف لا تمنع فرص #الفن_السابع من إحداث نتاجات إبداعية مع الظروف القاسية في البلد الغارق بالصراع.

وإن كان ثمة وجه مضيء للحرب، فهو فوز الفيلم الروائي "المرهقون" للمخرج عمرو جمال بجائزتين من منظمة العفو الدولية ضمن فعاليات النسخة 73 من مهرجان برلين السينمائي الدولي حيث شهد عرضه العالمي الأول ضمن قسم البانوراما.

روائي والأكثر تأثيراً

وفاز "المرهقون" الذي يعد أول فيلم يمني يشارك في المهرجان منذ تدشينه بالجائزة (تقدر قيمتها بـ 5 آلاف يورو)، خلال حفل توزيع جوائز لجان التحكيم المستقلة في المهرجان بجائزة الفيلم الأكثر تأثيراً. كما حصل أيضاً على المركز الثاني كأفضل فيلم روائي في قسم البانوراما بتصويت الجمهور الذي يشارك فيه أكثر من 20 ألف زائر من زوار المهرجان.

وحضر مراسم تسليم الجوائز فريق عمل الفيلم والمنتج محسن الخليفي والمخرج عمرو جمال، ابن مدينة عدن الساحلية الذي عقب على الفوز "يغمرني شعور بالامتنان نتيجة الاستقبال الإيجابي من الجماهير للفيلم. خرج المرهقون إلى النور بدافع الحب والتفاني والإصرار حتى يسلط الضوء على قصة واحدة ضمن قصص عدة في بلد يعاني تحت نيران الحرب. يسعدني أن الجمهور في مهرجان برلين شعروا بأننا قدمنا الفيلم على النحو الصائب، لقد بذلنا حقاً ما في وسعنا".

والفيلم إنتاج مشترك بين اليمن المنتج الرئيس وشركة صندوق البحر الأحمر لدعم الأفلام من السعودية وشركة "ستيشن فيلمز" من السودان، ومن إخراج عمرو جمال الذي شارك في كتابة السيناريو مع مازن رفعت وإنتاج محسن الخليفي ومحمد العمدة إضافة إلى أمجد أبو العلا.

من واقع البلد الجريح

وأُخذت قصة الفيلم من الواقع الصعب المعاش الذي يرزح تحت نيره ملايين اليمنيين جراء الحرب التي أشعلها الانقلاب الحوثي عام 2014 ويجسد قصة حقيقية لزوجين هما أحمد وإسراء وأولادهم الثلاثة الذين يعيشون في مدينة عدن، حيث تعاني الأسرة الأوضاع الاقتصادية الصعبة للبلاد، وبعد اكتشاف الأم حملها بالطفل الرابع، يحاول الأبوان إيجاد طريقة للإجهاض على رغم موقف مجتمعهما المحافظ تجاه هذا الأمر، مما يجبر العائلة على اتخاذ قرارات صعبة للنجاة من هذا المأزق. 

والفيلم مدته ساعة ونصف ومن بطولة خالد حمدان وعبير محمد وسماح العمراني وإسلام سليم ورؤى الهمشري وعمر إلياس.

عامان و70 يوماً

ويعد الفيلم ثاني فيلم روائي طويل للمخرج ذاته بعد "عشرة أيام قبل الزفة" (2018)، إذ كان أول فيلم روائي طويل يعرض جماهيرياً في اليمن بعد ثلاثة عقود من اختفاء السينما في البلد الغارق بالصراع، وفاز بعدد من الجوائز المهمة منها جائزة الجمهور في مهرجان سان دييغو السينمائي الدولي بأميركا وجائزة لجنة التحكيم في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة وغيرهما.

وعبر جمال عن سعادته بالحصول على الجائزتين للفيلم الأكثر تأثيراً بالتأكيد فإن الجائزة الأهم هي اختيار الجمهور وحللنا في المرتبة الثانية بفارق بسيط عن فيلم آخر من ضمن 22 ألف مصوت حصلنا على ثقتهم.

يتطرق جمال خلال حديثه إلى "اندبندنت عربية" إلى مراحل العمل التي جرت في ظل ظروف صعبة تعيشها بلاده إذ "أخذ منا التصوير 70 يوماً بعد عامين كاملين من الإعداد والتجهيزات وصعوبات كثيرة واجهتنا نتيجة للوضع الأمني غير المستقر وسوء الخدمات في عدن ومنها انقطاع كهرباء وغياب المشتقات النفطية الأمر الذي صعب مهمات التنقل وانطفاء المولدات الكهربائية وغيرها"، إضافة إلى ما صادف فترة التصوير من "انهيار كبير للعملة المحلية مقابل الدولار ولهذا كانت موازنة العمل تتغير يومياً وهو ما أربكنا وسبب لنا مآزق كثيرة وغيرها من المصاعب الجمة التي يعانيها المواطن اليمني جراء الظروف الصعبة بفعل الحرب ولكننا تحدينا كل هذه الصعاب واستطعنا إنجاز الفيلم".

وحصلت MAD Solutions على حقوق توزيع "المرهقون" في العالم العربي، فيما تتولى شركة Films Boutique المبيعات الدولية.

هدية لعدن والوطن

وعلى نطاق واسع تداولت مواقع التواصل الاجتماعي في اليمن خبر التكريم، إذ اعتبر نجاح الفيلم نقطة مضيئة واعدة في نفق الحرب الطويل.

وتقول بطلة الفيلم عبير محمد، "نشعر بفرحة واعتزاز لحصدنا جائزتين دوليتين في يوم واحد كثمرة جنيناها بعد الجهد الذي بذلناه مع الطاقم كافة وهو هدية بسيطة لبلدنا عموماً وعدن على وجه الخصوص".

وعلى ما في النجاح من تجربة ملهمة منحت اليمن جائزتين بدلاً من أنباء القتل والدمار، إلا أن عبير التي جسدت دور "إسراء" تطرقت إلى جملة من الصعوبات التي واجهوها خلال عملية التجهيز ومراحل تصوير المشاهد منها صعوبة الطقس جراء ارتفاع درجة الحرارة والرطوبة العالية في عدن إذ جرى التصوير خلال الصيف الماضي، وتحمل الفريق المصاعب كافة لتوفير سبل الراحة للممثلين قبل أن تستدرك للإشادة بما وصفته "جمال مشاعر الناس وترحيبهم وتعاونهم مع طاقم الفيلم، الأمر الذي هيأ الجو العام لإكمال مراحل التصوير في أحياء عدن وشوارعها وبرز تعاونهم الذي تعززه محبتهم للسينما وأعمال المخرج عمرو جمال فهم يقدرونه كثيراً ويتلهفون لمتابعة أعماله".

لها ما بعدها

وعن تجربتها السينمائية الأولى، ترى أنها فرصة "مفيدة ومميزة ولها ما بعدها كونها أول تجربة سينمائية بطولة مطلقة مع خالد حمدان وفخورة بأني كنت على قدر المسؤولية لأن الفيلم كان تجسيداً موضوعياً لكثير من اليمنيين في ظل الحرب وما سببته من أزمات متلاحقة ووضع اقتصادي خانق وانهيار الخدمات وانقطاع الكهرباء والرواتب". ولهذا ارتبط نجاح العمل "بأن كل يمني سيجد نفسه في إحدى شخصيات الفيلم".

ندرة شركات الإنتاج

وبنظرة مستقبلية تشير عبير محمد إلى جملة من العقبات التي تحول دون مزيد من الأعمال السينمائية في اليمن التي منها "انعدام الشركات المنتجة بالمواصفات المواكبة من حيث العدة والعتاد بإمكانها تحمل إنتاج أعمال سينمائية تنافس عالمياً وتملك معايير الجودة في اختيار الكتاب والشخصيات ولهذا نشكر عمرو جمال والمنتج محسن الخليفي على إنجاز أعمال كهذه في ظل ظروف معقدة".

ولم تنس عبير أن تبارك لليمن وعدن التي قالت أخيراً إنها ستفرح ويعود اسمها للذكر في مهرجانات عالمية كبرى.

 

الـ The Independent  في

26.02.2023

 
 
 
 
 

«على سفينة الأدامان» لنيكولا فيليبر:

فيلم إنساني عن أشخاص نتماهى معهم

نسرين سيد أحمد

برلين ـ «القدس العربي»: عندما أعلنت رئيسة لجنة التحكيم أمس فوز فيلمه «على سفينة الأدامان» بالدب الذهبي، أرفع جوائز مهرجان برلين السينمائي، دُهش المخرج الوثائقي الفرنسي نيكولا فليبير، وقال في تواضع تام «أأنتم متأكدون من هذا القرار. هل جننتم!»

ويمكننا القول إن ردة فعل فليبير المندهشة تلك هي خير مدخل لعالمه، فعلى تميزه الكبير كمخرج للفيلم الوثائقي، إلا أنه لا يثير الجلبة أو الضجيج، ولا يتمحور حول ذاته، وينجز أفلاما إنسانية مرهفة، قد يتجاوزها الكثير من رواد المهرجانات، والصحافيين والنقاد، وسط جدول المهرجانات المزدحم، ظنا منهم أنها أفلام على هامش المسابقة، أو قد لا تحظى بجوائز. لا يحتاج الدخول إلى عالم فليبير إلا التمتع بإنسانية كبيرة وبقلب كبير كقلب أفلامه.

في فيلمه «على سفينة الأدامان» يشرع فليبير أمامنا أبواب تلك السفينة، التي ترسو على ضفاف نهر السين في باريس، وهي ليست بالسفينة العادية، بل هي مصحة نفسية عائمة، يرتادها من هم في حاجة لعلاج نفسي أو عقلي، يخرجون منها ويأتون إليها طواعية، كما لو كانت ملاذا لهم من العالم، أو مكانا يجدون فيه الكثير من الدعم والتفهم. ينفذ فليبير إلى عالم تلك السفينة وعالم روادها، دون تطفل أو إصدار أحكام، وبإنسانية كبيرة وتفهم وتعاطف كبيرين. يحتفظ بمسافة تمنح الثقة لأهل السفينة، فيشركونه بود في حياتهم. لا نسمع تعقيبا أو تعليقا من المخرج، بل نجد الفيلم والأحاديث والقصص تنساب، كما تنساب المياه في ذلك النهر الذي ترسو عليه السفينة.

سفينة الأدامان تمنح الرعاية والدعم النفسي والطبي، لأشخاص أثقلهم الألم النفسي أو العقلي، تخفف عنهم آلامهم عن طريق جلسات المعالجة بالحديث أو الرسم، أو التعبير عن الذات بالموسيقى والغناء، وفيها ناد للأفلام لمشاهدة نفائس السينما والنقاش حولها. يمنح الوجود الهادئ غير المتطفل لفليبير رواد سفينة الأدامان الأمان للحديث إليه، والبوح ومشاركته أنشطتهم اليومية.

تتعدد اللقطات التي تصور سفينة الأدامان في الصباح الباكر، حين تبدأ في فتح نوافذها الخشبية المميزة، لينفذ الضوء إلى داخلها. بالقرب منها يمكننا أن نسمع ضجيج المدنية وحركتها الدائمة، بينما ترسو هي في موقعها، كما لو كانت واحة أو ملاذا، وهي بالفعل ملاذ لهؤلاء الأشخاص الذين يرتادونها للتخفيف عن آلامهم النفسية. لا نرى الأطباء النفسيين في صورتهم المتخيلة المعتادة، ولا نرى المرضى النفسيين كما تصورهم أفلام أخرى. نرى أمامنا أشخاصا يتوقون للحديث، يودون التعبير عن ذواتهم، التي تحمل الكثير من الموهبة والفن والفكر. نراهم يتحدثون أو يحتسون القهوة أو يقرأون أو يعزفون الموسيقى. الفن والعلاج بالإبداع جزء لا يتجزأ من عالم سفينة الأدامان، ويحظى العديد من روادها بالكثير من الموهبة في الرسم والموسيقى والغناء، بل إن الفيلم يبدأ، بأربعيني من رواد السفينة يغني بصوت قوي جميل أغنية تحمل كلماتها الكثير من التفاؤل والدعم النفسي. نسمعه يتحدث عن مكنونات ذاته لاحقا، وما يمنحه هذه القوة والقدرة على الغناء والتوازن هو حضوره إلى المشفى وحفاظه على الدواء.

لا يتعامل فليبير قط مع رواد السفينة على أنهم مرضى، أو حالات غرائبية يعرضها على مشاهدي الفيلم. نراهم بشرا مثلنا، تثقلهم الهموم أو المرض فيحتاجون إلى العون والدعم. يصحبنا الفيلم إلى عالم فريدريك، أحد رواد السفينة، الذي يجيد الرسم ويقول إنه يشبه في شكله وفي موضوع أعماله الفنية فان غوخ، ويجد علاقة وطيدة بين ذاته وحياته، وفان غوخ. يتحدث فريدريك بمرح وحماس عن السينما والموسيقى. نلتقي امرأة أخرى تتحدث عن ابنها الذي أبعدته الرعاية الاجتماعية عنها وهو في طفولته، ولكنها تتحدث في هدوء ويقين إن هذا كان القرار الصائب لصالح الصبي. رغم آلامها ورغم آلام فريدريك، نراهما يتمتعان ببعض السكينة والهدوء النفسي اللذين ما كانا ليحصلا عليهما دون القدوم إلى متن الآدامان.

في هدوء ودون جلبة أو صخب، يقدم لنا فليبير أهل سفينة الأدامان فنصبح أصدقاء لهم عن بعد. لا يتطفل فليبير على رواد السفينة ولا يحاصرهم بالأسئلة أو الرغبة في معرفة أسرارهم. نجده يفسح لهم المجال للبوح والحديث عما يشغلهم. يتحدثون دون توجيه منه، ويقولون ما يودون قوله، أو يشاركونه أعمالهم الفنية ويتحدثون عن كيف تعبر هذه الأعمال عن ذواتهم. الإنسان وما يعتمل في داخله هو الشغل الشاغل لفليبير في «على سفينة الأدامان». يبتعد الفيلم تماما عن تصوير رواد السفينة كمرضى أو الحكم عليهم أو تقييمهم بأي صورة من الصور. نتماهى معهم ونتفهمهم ونفهمهم، ومع انتهاء الفيلم نشعر بأننا أصبحنا أصدقاء لهم.

يتجلى إبداع فليبير في صمته وبعده، وفي عدم فرض رؤيته أو سطوته على الشخصيات. يتوارى إلى الخلف ويترك العنان لشخصياته للحديث. يقول فريديريك، أحد رواد المشفى، في وجه هادئ وملامح مبتسمة «أود أن أعرف لماذا تحدث لنا أمور مأساوية». وهذا السؤال نجد أنفسنا نسأله أيضا: لم تحدث أمور مأساوية لهؤلاء الأشخاص الذين نرى الكثير من أنفسنا فيهم. لا يسعى فليبير لتقديم إجابات أو إدانات، بل يقدم لنا طرحا إنسانيا في المقام الأول.

 

القدس العربي اللندنية في

26.02.2023

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004