ملفات خاصة

 
 
 

مهرجان كان 2022:

أفلام عربية وأخرى تنظر إلى العالم العربي

محمد طارق

كان السينمائي الدولي

الخامس والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

في دورته هذا العام، اختار مهرجان كان في أقسامه المختلفة 6 أفلام عربية، ثلاثة منها في قسم (نظرة ما) هم (حرقة) للطفي ناثان و(حُمى البحر المتوسط) لمها الحاج وأزرق القفطان لمريم توزاني، بينما اختيرت ثلاثة أفلام أخرى في نصف شهر المخرجين، واحد من أقسام المهرجان الموازية، هم (السد) لعلي شري و(أشكال) ليوسف الشابي و(تحت الشجرة) لأريج سحيري.

إضافة إلى تلك الأفلام، هناك وجود لأفلام غير عربية تتخذ من العالم العربي مكانًا لها مثل (الحركيون) لفيليب فوكون و(إخوتنا) لرشيد بوشارب و(ولد من الجنة) لطارق صالح و(متمرد) لعادل العربي وبلال فلاح، إضافة إلى فيلم (نوستالجيا) للمخرج الإيطالي ماريو مارتوني الذي يمتلك بطلًا يتحدث العربية ويستمع إلى أغانٍ مصرية بعد معيشته في مصر لمدة طويلة.

ولد من الجنة: ضجة كبيرة وفيلم عادي

فلنبدأ بالحديث عن الأفلام غير العربية التي تتناول العالم العربي بشكل ما، بداية من المخرج السويدي مصري الأصل طارق صالح، الذي أثار الجدل بفيلمه السابق (حادثة النيل هيلتون)، وهذه المرة يثيره أيضًا بشكل فني عن علاقة مؤسسة الأزهر بالسلطة، وبشكل غير فني بحديثه الدائم عن تصويره للفيلم في تركيا وعدم قدرته على التصوير في مصر، وكلام متعلق بالسياسة يحاول منح الفيلم قيمة تأتي من خارج عالمه الفني المتواضع. فيلم صالح إنتاج ضخم، تصميم الأزياء والإنتاج مذهل، لكن المشكلة لا تكمن في مدى جودة الصورة، بل النظرة

للفيلم مستويان من السرد أحدهما يفسد الآخر، الأول متعلق بحكاية قديمة قدم الأزل عن صراع بين سلطات، والثاني متعلق بواقع متخيل لا يعرف عنه المخرج أي شيء. الإشكالية في الفيلم تتمثل في مدى دقة التفاصيل، التي يبدو معظمها غربيًا، عملية الاقتراع التي تحدث على الطريقة الكنسية على سبيل المثال، شخصيات الفيلم الشريرة تتحدث بشكل كاريكاتوري مبالغ به، وأحداث الفيلم لا تبدو مستندة إلى أي فهم للوضع المصري الحالي، مجرد خيالات يمتلكها المخرج، ربما لو ذهب الفيلم في اتجاه أكثر تجريدًا وترك الواقع وراءه لصنع حكاية أفضل بكل تأكيد، لكن بالطبع بالنسبة لمشاهد غير عربي يبدو هذا الفيلم ذكيًا للغاية، الأمر الذي يتأكد بحصول الفيلم على تقييمات نقدية ممتازة من العالم غير العربي، وأخرى سيئة من النقاد العرب

زيارة للتاريخ الفرنسي-العربي وبطل يقطن القاهرة

الفيلم الثاني الذي يتخذ من الجزائر موقعًا له، هو (الحركيون) لفيليب فوكون، وتدور أحداثه قبل تحرير الجزائر عن مجموعة الحركيين – وهم الجزائريون الذين انضموا إلى الجيش الفرنسي مقابل وعود بتجنيس وسفر إلى فرنسا – وعن علاقة ضابط فرنسي بمجموعته من الحركيين أو “الحركة”. يذكرنا الفيلم إلى حد ما بفيلم شاهين وداعًا بونابرت إذ يصور ضابطًا فرنسيًا يرفض التخلي عن مجموعته بعد تحرير الجزائر، ويصور مدى تساؤلاته المتعلقة بالآخر، وكيف أن كل طرف له منطقه، لكن تبقى النظرة مثالية أو خارجية بعض الشيء

في فيلم رشيد بوشارب (إخوتنا) الحكاية تبدو أكثر منطقية، إذ إن المخرج الفرنسي جزائري الأصل، يستند إلى حكاية مهاجرين عرب فرنسيين، مبنية على قصة حقيقية لاحتجاجات ضخمة حدثت في فرنسا إثر مقتل المهاجر الجزائري مالك أوسكين عام 1986 على يد عناصر من الشرطة. يستخدم بو شارب في الفيلم مزجًا بصريًا بين لقطات أرشيفية ولقطات روائية تمثيلية، وبرغم أن تلك الأحداث قد مر عليها أعوام، إلا أن تصاعد أصوات مؤيدي اليمين الفرنسي وماري لوبان، تقول إن تلك القصة القديمة لا تزال مناسبة تمامًا لوقتنا الحالي

أخيرًا يستخدم ماريو مارتوني في فيلمه (نوستالجيا) مصر كمكان عاش به البطل لمدة 40 عامًا قبل أن يعود مجددًا إلى  بلده نابولي، كما يستخدم أغنية لفرقة كايروكي في الفيلم، لكن تلك الاختيارات التي كان من الممكن أن تكون في أي مكان آخر، تبدو مكملة للحكاية وليست أساسها، الأمر الذي يجعلها غير مزعجة في إطار سرد الفيلم.  

ثلاثة أفلام تونسية: حرائق وأشجار

فيلم يوسف الشابي (أشكال) يبقى اللغز الأكبر ضمن الاختيارات العربية. رغم أن فيلم يوسف السابق “تسمع ما كان الريح” كان تجربة ناجحة إلى حد معقول، إلا أن عمله الأحدث هنا ما هو إلا مجرد فيلم شكلاني بحت، يعتمد نفس أسلوب التصوير الخاص بفيلمه السابق، ونفس أجواء الفيلم الأسود “النوار”، يسرد سلسلة من حوادث حرق الذات ويربطها بجرائم غامضة ومحققين في منطقة مهجورة تدعى حدائق قرطاج، وهي تشبه لمدينة غير مكتملة البناء، دون التفات إلى رداءة السيناريو وتفككه للنهاية، فيلم ملفق في كل تفاصيله للوصول إلى نهاية شكلانية بحتة منفذة بشكل سيئ تقنيًا، الأمر الذي يثير التساؤلات حول اختياره للعرض في نصف شهر المخرجين، خاصة مع وجود فيلم تونسي آخر في ذات القسم

يستخدم (حرقة) للطفي ناثان –المشارك في قسم نظرة ما- أيضًا ذات الرمزية المتعلقة بحرق الذات، ليحمل عنوانه معنى مزدوجًا بين كلمة (حرقة) التي تعني بالعامية التونسية الهجرة غير الشرعية وبين المعنى المباشر. (حرقة) فيلم سياسي أيضًا، لكنه يتمسك بحكاية واضحة، عن بطل صعلوك يحاول بشتى الطرق التأقلم وكسب عيشه للخروج من وضعه المتأزم ومساعدة إخوته، لكنه لا يستطيع الهرب معظم الوقت من نظرة المجتمع أو السلطة إليه. الفيلم مصور بشكل جيد، وبه استخدام بصري جيد لعوالم الصحراء والمدينة، إضافة إلى أداء ممتاز لآدم بيسا بطل الفيلم

الفيلم التونسي الثالث هو (تحت الشجر) لأريج سحيري، المشارك في قسم نصف شهر المخرجين، وهو فيلم يبتعد عن السياسة ويقترب أكثر إلى تصويره لبورتريه لعاملات وعمال في بستان تين، حكايا وحبكات صغيرة تمتلكها شخصيات الفيلم، كأن الفيلم بمثابة قضاء يوم في ذلك البستان. مع اختلاف شخصيات الفيلم، بين التفتح والانغلاق وبين الخير والشر، يبدو البستان كميكروكوزم للمجتمع التونسي بشكل ما، واعتمادًا على الحوارات والأحداث الصغيرة التي تحدث لبطلة هنا أو بطل هناك، يتعرض الفيلم لقضايا معاصرة يعيشها المجتمع التونسي من الحرية الشخصية والتحرش في أماكن العمل والأوضاع الاقتصادية البائسة وغيرها، لكن دون إشارات صريحة إلا في بعض المشاهد التي تتحدث فيها البطلة وكأنها تتحدث على لسان المخرجة وليس الشخصية، لكن الفيلم إجمالًا هو الأفضل بين الثلاثة أفلام التونسية المشاركة

عن الصداقة والحب والمقاومة

من لبنان، يشارك علي شري، الفنان البصري الشهير، بفيلمه (السد) المعروض في قسم نصف شهر المخرجين، الذي يحكي حكاية ماهر، عامل صناعة الطوب والبناء في السودان. الفيلم لا يمتلك حكاية واضحة، رغم أننا قد نخمن ما يدور الفيلم حوله من خلال مواقع التصوير، الجمل المعارضة للنظام المكتوبة على الحوائط، صوت الفيديوهات التي يستمع إليها العمال، هي حكاية عن رجل يحاول بناء وطنه، لكن تلك الحكاية محكية بشكل بصري به الكثير من التجريب والمخلوقات الخيالية، هي حكاية عن المقاومة والتعلق بالأرض، لكن الفيلم الممتاز بصريًا، يمتلك في معظم الأحيان غموضًا فجًا، ما قد يخلق انطباعات متفاوتة عند مشاهدته!  

الفيلمان الأخيران في القائمة هما (حمى البحر المتوسط) للمخرجة الفلسطينية مها الحاج و(أزرق القفطان) للمخرجة المغربية مريم توزاني، وهما الفيلمان الأكثر اكتمالًا ضمن الأفلام العربية المعروضة. “حمى البحر المتوسط” يحكي قصة روائي مكتئب يتحدث دائمًا عن رغبته في الانتحار، تبدو حياته اعتيادية حتى وصول جاره المزعج إلى بيته الجديد، تبدأ علاقة صداقة ممتدة بينهما يطلب فيها الروائي من جاره –المرتبط بعالم الإجرام– أن يفرجه ذلك العالم لأن روايته مرتبطة به، لتبدأ علاقة صداقة يكتشف كلا منهما فيها الآخر وذاته أيضًا. الفيلم مدفوع بشخصياته أكثر من وجود قصة واضحة، لكن جودة كتابة شخصياته وصيرورة أحداثه كانت من الأسباب التي منحته جائزة أفضل سيناريو في قسم (نظرة ما) بلا شك

الفيلم الأخير هو أحدث أعمال المخرجة المغربية مريم توزاني، صاحبة فيلم (آدم)، ويدور حول خياط وزوجته يصران على استخدام الطريقة التقليدية في صناعة الملابس المغربية، ويخيطان أفضل الملابس مهما استغرفت صناعتها، يبدوان من زمن بعيد يحتفي بالجمال، ويقعان في مساحة خارج الزمن. ينضم إليهما متدرب جديد شاب في محل الخياطة، ورغم ترك معظم المتدربين العمل معهما بسرعة شديدة، فإن هذا الشاب يقلب الأمور رأسًا على عقب، فالزوج، المحب لزوجته على المستوى العاطفي، مثلي الهوية الجنسية لكنه يحاول قمع ذلك الأمر حتى وصول ذلك الشاب. تصور المخرجة علاقات الزوج، الجنسية فقط، بشكل متوارٍ وبه إحساس بالخزي نوعًا ما، لكن مع تقبله للأمر، يأخذ تصوير علاقة الحب اتجاهًا صوفيًا. الفيلم لا يصور العلاقات بشكل واضح، وأعتقد أن هذا نوع من قرارات المخرجة، التي تركز على علاقات الحب، والتي تسعى لعرض فيلمها في العالم العربي. حياكة القفطان هي كغزل نسيج متلاحم من عناصر كثيرة متفرقة، وهكذا هو الفيلم عن الحب والتقبل لأي شكل من أشكال هذا الحب. إضافة إلى ذلك، يحتفظ الفيلم بأجواء بصرية تركز على التفاصيل وتخلق عالمًا شديد الحسية، وهي ذات الأجواء البصرية لفيلمها السابق، لكن هذه المرة تجعل جودة السيناريو من “أزرق القفطان” فيلمًا متكاملًا للغاية يصعب نسيانه

إجمالاً، تعد المشاركة العربية هذا العام في مهرجان كان ناجحة ومؤثرة، إذ حصلت تلك الأفلام على تقييمات نقدية عديدة، وحققت نجاحات كبيرة على مستوى الجوائز، إذ فاز فيلم (ولد من الجنة) بجائزتي أفضل سيناريو وفرانسو شاليه في المسابقة الرسمية للمهرجان، وفي قسم (نظرة ما) فاز فيلم حمى البحر المتوسط بجائزة أفضل سيناريو وحصل (أزرق القفطان) على جائزة الفيبريسي –الاتحاد الدولي لجمعيات نقاد السينما– ونال آدم بيسا بطل فيلم (حرقة) جائزة أفضل ممثل. إضافة إلى ذلك، فاز فيلم (تحت الشجرة) بجائزة إيكو برود المتوجهة للإنتاج الأخضر، وتُمنح من أحد شركاء قسم نصف شهر المخرجين غير التنافسي بالأساس

 

موقع "إضاءات" في

03.06.2022

 
 
 
 
 

بفيلم عن واقعنا.. أوسلُند يصدم "كان" ويقطف سعفته الثانية

جورج كعدي

صادم، لاذعٌ المخرج السويديّ روبين أوسلُند (Ruben Ostlund)، هجّاءٌ مرٌّ أيضًا، متشائمٌ ضاحكٌ، هاذٍ، فوضويٌ "أنارشيٌّ" ويطيب للبعض نعته بـ"كاره البشر"، وهذا ما ينفيه بنفسه نفيًا قاطعًا. يجمع على نحو فذّ الجدّية إلى السخرية، على خطى كثر، من الضاحك والمصحّح الأخلاقيّ، موليير، إلى مواطنه السينمائيّ، روي أندرسون، مرورًا بلويس بونويل، وماركو فيرّيري، وجاك تاتي، وبيتر غرينواي، وفريق "مونتي بايتون"، وآخرين. تأثّراته ومنابعه وفيرة، بيد أنّه أثبت أنّه يستطيع أن يكون نسيجَ وَحْدِهِ، فريدًا حديثًا مجددًا.

عام 2017، فاز أوسلنْد بالسعفة الذهبية في مهرجان "كان" (المهرجان السينمائيّ الأهمّ والأبرز عالميًا) عن فيلمه "المربّع/ The Square"، واليوم بعد خمسة أعوام يقطف ثانيةً سعفته الذهبية الثانية في الدورة الخامسة والسبعين من المهرجان العالميّ (اختتم فعالياته الغنيّة في الثامن والعشرين من مايو/ أيار الفائت) عن فيلمه "مثلّث الحزن/ Triangle of Sadness"، محدثًا الصدمة بفيلمه الجريء والطويل (في ساعتين ونصف ساعة)، ومثيرًا جدالًا بين الجمهور والنقّاد، ومنضمًّا بالتالي إلى نادي المخرجين حائزي السعفة لأكثر من مرّة أمثال فرانسِسْ فورد كوبولا، شوهاي إيمامورا، كِنْ لوتش، أمير كوستوريتسا، الأخوين داردينّ، بيل أوغست، ومايكل هانيكه.

"مثلث الحزن" هو الفيلم الروائيّ الطويل الثامن لأوسلند، وثالث جزء في ثلاثيّة متقاربة الثيمات بدأت مع فيلم "علاج الثلج/ Snow therapy" عام 2014، تلاه "المربّع" عام 2017 كجزء ثانٍ، أمّا "مثلث حزنه" هذا فيشكّل الجزء الثالث والأخير من الثلاثيّة التي تعالج عالم الذكور، على أنْ ينصرفْ بعد اليوم، وبحسب إعلانه، إلى معالجة عالم المرأة.

"بفوزه، انضم أوسلند إلى نادي المخرجين حائزي السعفة لأكثر من مرّة أمثال فرانسِسْ فورد كوبولا، شوهاي إيمامورا، كِنْ لوتش، أمير كوستوريتسا، الأخوين داردينّ، بيل أوغست، ومايكل هانيكه"

في الجزء الأوّل من ثلاثيته هذه، أي "علاج الثلج"، يتطرّق أوسلند إلى إشكاليّات العلاقات الزوجيّة وأزماتها وانعدام التواصل فيها، دافعًا زوجَي فيلمه، اللذين يعيشان تأزمًا عنيفًا في علاقتهما الزوجيّة، إلى القيام برحلة إلى مركز تزلّج، علّ وعسى... لكنّ محاولة تلافي الانهيار التام والانفصال تنتهي بانهيار ثلجيّ (avalanche) كاستعارةٍ لانهيار الطبيعة، وبالتالي انهيار العالم الذي نحيا فيه، فانهيار العلاقات البشريّة... النظرة المتشائمة تطبع سينما أوسلند، ما سهّل على متابعي أفلامه إطلاق صفة "التشاؤم" عليه... ولم يرعوِ. فقد أردف نظرته الثابتة هذه إلى الوجود بثاني أجزاء الثلاثية "المربّع" عام 2017، متجاوزًا حميميّة العلاقات إلى الإطار الأوسع، أي مجتمعه السويديّ، كاشفًا عوراته وآفاته وعنصريّته وخبثه وخداعه ومشقّة العيش الهانئ فيه كمجتمع يخاله كثر، من بعيد، مجتمعًا مثاليًا، سعيدًا، خاليًا من التعاسة والبؤس. كما يعرّج في فيلمه هذا على هجاء ساخر شديد الإضحاك لأحد الفنون المعاصرة المعروف بفن "التركيب/ Installation". أوسلند لاذع السخرية على الدوام، يغلّف خطابه السينمائيّ الجديّ بالضحكة المرّة، متمتّعًا بموهبة فريدة في ما يُعرف بـ"الدعابة السوداء"، أو black humour. كما لا يُنسى في فيلم "المربّع" المشهد الأنطولوجيّ، الذي يخلّده سينمائيًا، للإنسان الشامبنزي (شبيه "هالك" في الشخوص المرسومة) الذي يقتحم حفلًا كبيرًا، فاخرًا فاجرًا أنيقًا، لجمهور من الأثرياء البورجوازيين، ممارسًا ضدّهم أعمالًا وحشيّة، قاسية وصادمة، مفسدًا حفلهم لدقائق طويلة (أي أنّ مدّة المشهد طويلة في إحدى عشرة دقيقة...).

هنا تبرز ثيمة إضافيّة بين ثيمات السينمائيّ السويديّ المتعدّدة، هي ثيمة هجاء البورجوازية وتهشيم أخلاقيّاتها وأنماط عيشها الأنانيّة والفاحشة تحت مظاهر الفخامة والأناقة الاجتماعية، أي أنّ الوحش كامن داخل المظهر المدنيّ والعصريّ (ألا يرمز هؤلاء إلى طبقة المستغلين والمحتكرين والمتاجرين بكل شيء وخاصة بالبشر...). ويردّنا أوسلند هنا إلى أحد ملهميه الكبار لويس بونويل، سيّد هَجَّائي البورجوازية، تحديدًا في تحفته "سحر البورجوازية الخفيّ".

"أوسلند لاذع السخرية على الدوام، يغلّف خطابه السينمائيّ الجديّ بالضحكة المرّة، متمتّعًا بموهبة فريدة في ما يُعرف بـ"الدعابة السوداء""

"مثلّث الحزن".. خاتمة الثلاثيّة وثاني الانتصارات

بالانتقال إلى الفيلم الأحدث لأوسلند، الفائز بالجائزة الكبرى في مهرجان "كان"، والذي يختتم الثلاثية التي تحدّثنا عنها تحت عنوان "مثلث الحزن" (معنى مجازيّ لخطوط التجاعيد بين الحاجبين)، فإن أوسلند يستمرّ في هذا الفيلم في نهجه ساخرًا، أسود الدعابة، مرّ الهجاء، جديّ النظرة والخطاب، متشائمًا ضاحكًا، مُهشِّمًا صادمًا مستفزًّا... وأجد نفسي مضطرًا إلى سرد هذه السمات كلّها لأنّها سمات أسلوبه البارع، المدهش والمجدِّد. يحمل أوسلند صفات الخلاّق المبدع، الكاتب الهجّاء ببراعة لا توصف، وبخاصة لناحية ابتكار الشخوص وتعدّدها، وما ترمز إليه، فضلًا عن الحوارات البديعة. هذا كلّه مجتمعًا أنتج فيلمًا محطّة في تاريخ السينما، تجاوزت حتى سائر أفلامه السابقة المميّزة.

الشخوص الأساسيّة في هذا الفيلم "الكَوْرسيّ" (يسمّونه بالفرنسيّة Film Coral) هي: قبطان أميركي ثريّ وماركسيّ في الوقت عينه، ويا للمفارقة، يدعى توماس سميث، ويؤدّيه الممثل الأميركيّ القدير، وودي هارلسون، الذي يقول: "لستُ ماركسيًّا بالتمام والكمال. أنا أنارشيّ (فوضويّ)، لكنّني أحبّ كثيرًا من الأفكار الماركسية. أغراني أداء شخصيّة ماركسيّ يملك ثروة تقدّر بمئتين وخمسين مليون دولار". وإزاء توماس سميث، لدينا شخصية الأوليغارشيّ الروسيّ تاجر الأسمدة، ديمتري (يؤديه الممثل الليتوانيّ زلاتكو بوريك)، إلى شخصيتيّ العارضين (models) الزوجين كارل، ويايا (البريطاني هاريس ديكنسون، والأفريقية الجنوبية شارلبي دين)، فضلًا عن الخادمة التي تتولى تنظيف الحمامات، أربيغيل (الممثلة الفيليبينية دوللي دوليون)، ورفيقات لها وشخوص أخرى متفرّقة لتجار سلاح ورجال أعمال من فاحشي الثراء.

الفيلم في فصول ثلاثة، الأوّل بين الزوجين العارضين كارل، ويايا، ينقضّ فيه كاتب الفيلم ومخرجه على عالم الموضة من خلال هذين الزوجين المأزومي العلاقة، يقومان برحلة إلى الشاطىء للتخفيف من عبوس حياتهما وفراغها، رغم أنّهما يتمتعان بالشباب والثروة، بيد أنّهما غير سعيدين كالعديد من الأزواج. لكنّ العلاقة الزوجيّة ليست هدف أوسلند، بل كما أسلفنا عالم الموضة الزائف والقاسي الذي يعيشان فيه، مبرزًا قسوته ولفْظَه لمن تمرّ عليه بضع سنين في المهنة، أو تغزو وجهه "تجعيدة" واحدة (هنا نفقه معنى العنوان واختياره). وثمّة مشهد "أنطولوجيّ" ومعبّر يتجادل فيه الزوجان لدقائق طويلة داخل مطعم حول مَنْ يتوجّب عليه دفع الحساب... مشهد يتأرجح بين الجدّية والقهقهة التي تتصاعد من الحوار ـ المشادّة بينهما.

"أوسلند ذو النشأة العائلية الاشتراكية لا يكفّ عن فضح خبث المجتمع ونفاقه، حتى وهو يعتمد الإضحاك غير المتوقِّف"

الفصل الثاني يدور على متن يخت فخم (استعاره المنتج من ورثة أوناسيس للمشهد الطويل المصوّر في المياه اليونانيّة) بين الأميركي "الماركسي" توماس سميث (هارلسون)، والأوليغارشي الروسيّ ديمتري (بوريك) اللذين يتباريان فكريًّا، إن صحّ التعبير، حول الرأسمالية والاشتراكية، حول واقع عالمنا الراهن الذي يزداد فيه الأثرياء ثراءً والفقراء فقرًا. وإحدى المفارقات الضاحكة أن الأميركيّ مناهض للرأسمالية، ويستشهد طيلة الوقت بأقوال لينين وماركس وهو يتجرّع كؤوس الخمرة حتى الثمالة، فيما يسخر الروسيّ من الأثرياء الجدد وهو ينتقد التجربة الاشتراكية... عُصاب معاصر، جدّي المضمون، ساخر الغلاف، إلى حين يدعو الأميركيّ مجموعة من الأثرياء الجدد، وبينهم الزوجان العارضان، إلى مأدبة عامرة على متن يخته الفخم، حيث يتصرّف الجميع بأكثر أشكال الترف والفحش والتفاهة تطرّفًا، ويأكلون ويشربون بنهم يذكّرنا بفيلم ماركو فيرّيري "الوجبة الكبرى/ La grande bouffe"، الذي يعود إنتاجه إلى عام 1973)، حيث لا تكفّ مجموعة بورجوازية فاحشة عن التهام الطعام حتى الموت! وهنا ليس الموت هو نهاية النهم، بل القيء الذي صدم المشاهدين، إذ تمادى فيه أوسلند على نحو تصاعدي (كريشيندو) بلا توقف. علمًا أنّ عاصفةً بحريّة هبّت في الأثناء، وأغرقت المركب، فلم ينجُ من الغرق سوى عشرة أشخاص من ثلاثين.

أمّا الفصل الثالث والأخير في الفيلم فيدور على الشاطىء، حيث أضحى الناجون الأثرياء، أو مَنْ بقي منهم، خاضعين هذه المرّة للخادمات اللاتي كنّ مأمورات ومقموعات ومهانات، على نحو يرمز إلى إطاحة البروليتاريا بقياصرة المال وتسلّمهم السلطة. فالفيلم ينطوي على طرح طبقيّ، والمركب ليس سوى "ميتافوريّة" العالم الأكبر، وهنا يتجلّى ذكاء السينمائيّ الحادّ الذي يجمع الرمز والهجاء والجدّية والعمق والسخرية في وعاء واحد.

أوسلند ذو النشأة العائلية الاشتراكية لا يكفّ عن فضح خبث المجتمع ونفاقه، حتى وهو يعتمد الإضحاك غير المتوقِّف. وخيرُ معبِّر عن نوايا الفيلم ما يقوله منتِجُهُ إريك هيمندورف، الذي أنتج معظم أفلام صديقه أوسلند: "مهّدت الماركسية لولادة السوسيولوجيا، أي للنظر إلى العالم من دون أحكام مسبقة. إنّها طريقة لنزع القناع عن الحقيقة والواقع. إنّه منظور يضيف شيئًا إلى حياتنا. أردنا أن نُنْجز فيلمًا معروضًا للمناقشة بعد الخروج من الصالة. فيلم روبن (أوسلند) هو نقيض سينما الـ"بوب كورن". إنّه عن العالم الذي نحيا فيه. عن واقعنا. إنّما لعلّه مصنوع في أسلوب مستفزّ وترفيهيّ في الوقت عينه".

أنهى أوسلند المدهش ما أراد قوله عن عالم الرجال. فلننتظر ما سيأتينا به مستقبلًا عن عالم النساء. ربّما ينتظرنا ما هو أكثر إدهاشًا... وإمتاعًا.

*ناقد وأستاذ جامعيّ.

 

ضفة ثالثة اللندنية في

04.06.2022

 
 
 
 
 

يسرى نصر الله بعد رئاسة «تحكيم الأفلام القصيرة» فى مهرجان كان: التجربة جيدة.. واختيار الفيلم الفائز صعب

حاورته فى كان إنجى سمير

·        مشكلة الأفلام العربية.. عدم القدرة على فتح أسواق جديدة بالسينما العالمية

·        أستعد لتصوير «أسطورة زينب ونوح».. وأنتظر جزءًا ثانيًا من «منورة بأهلها»

تجربة جديدة خاضها المخرج المصرى يسرى نصرالله من خلال مشاركته كرئيس للجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة بالدورة ٧٥ لمهرجان «كان» السينمائى الدولى الذى انتهت فعالياته فى 28 مايو الماضى، إذ تُعتبر خطوة مهمة بعد مشوار فنى كبير قدّم فيه أعمالا سينمائية حققت نجاحا على المستويين النقدى والجماهيرى، ولم يتوقف نجاحه عند حد السينما بل وصل إلى الدراما التى قدم فيها أول أعماله «منورة بأهلها»، هذا العام، على منصة «شاهد».

فى حواره التالى مع «الأهرام» يتحدث «نصر الله» من «كان» عن التجربة، والمعايير التى يتم على أساسها اختيار الأفلام الفائزة، معتبرا أن صعوبتها تكمن فى عدم اختياره الفيلم الفائز بمفرده، بل يشاركه آخرون فيه، لذا يرى أن الوصول لهذا الاتفاق هو الصعوبة الأساسية.

ويتطرق إلى أهمية الفيلم القصير بقوله إن القصة هى التى تفرض أن يكون قصيرا أو طويلا، مشيرا إلى أن السينما العربية أصبحت موجودة، وجزءا مهما من السينما والمهرجانات العالمية، لكن آن الأوان أن يتجاوز صانعوها مشكلة عدم القدرة على فتح أسواق جديدة أمامها، كاشفا عن أحدث أعماله الفنية التى يستعد لها، ويعمل عليها.

·        تخوض تجربة جديدة فى مشوارك السينمائى من خلال رئاسة لجنة تحكيم الأفلام القصيرة فى مهرجان «كان».. فما تقييمك لها؟

أراها تجربة جديدة وجيدة فى الوقت نفسه، خاصة أن المختلف فى هذه التجربة هو أنها ليست مسابقة للأفلام القصيرة فحسب، ولكن هناك أيضا مسابقة لأفلام التخرج فى معاهد السينما، لنشاهد من خلال هذه التجربة سينما المستقبل التى أتشوق لها للغاية، لأنها تحمل قدرا كبيرا من الإبداع لمخرجين حققوا نجاحات، وحازت أفلامهم الجوائز.

·        ما المعايير التى يتم على أساسها اختيار الأفلام القصيرة؟

أسوأ شيء هو مشاهدة فيلم قصير كان من المفترض أن يكون طويلا، أو آخر طويل كان المفترض أن يكون قصيرا؛ لأن الأحداث هى التى تفرض ذلك، وهنا يكون السؤال: هل يستطيع صانع الفيلم تكثيف فكرته كاملة فى المدة التى يستحقها أم لا؟.. هذا هو المعيار الأساسى الذى اهتم به: فكرة الفيلم واستحقاقها للمدة، بغض النظر عن موضوعه، فما يفرق هو مدى قدرة الصُناع على رواية القصة فى زمن قصير أم لا، وأى فيلم جيد سيجبرك على أن تدخل عالمه ومشاهدته جيدا.

·        هل يجعل ذلك تجربة التحكيم بالنسبة لك أمرا صعبا؟

هى بالفعل مسألة صعبة.. وصعوبتها تكمن فى أننى لا أختار الفيلم الفائز بمفردى، لأن معى أشخاصا آخرين، وكل منا يعجب بفيلم ما ويتحمس له، وفى النهاية تذهب الجائزة للفيلم الذى اتفقنا عليه، وليس بالضرورة أن يكون الأفضل، لذا أرى أن الوصول لهذا الاتفاق هو الصعوبة الأساسية.

·        وما رأيك فى تقديم البعض لفيلم قصير نظرا لقلة تكاليفه فقط؟

هذا أمر خاطئ تماما، ويجب ألا نغفل أن هناك العديد من الأفلام القصيرة المهمة ذات تكلفة مرتفعة، لذا من الخطأ أن يفكر البعض بهذا المنطق، وأتذكر أننى فى إحدى المرات شاهدت فيلما من المجر مدته عشر دقائق، ومشاهده بسيطة، لكن تكلفته كانت كبيرة، كما أن الفكرة ليست تكلفة فقط، وبالتالى لا يجوز الاستهتار بالأفلام القصيرة فهى مهمة لأن صانعها مطالب بتقديم فكرة كاملة الأطراف ذات هدف فى خلال مدة قصيرة، لهذا لا يجوز تقليل التكلفة.

·        يتنافس فى مهرجان «كان» هذا العام عدد من الأفلام العربية.. فكيف ترى تلك المشاركة؟

السينما العربية موجودة، وجزء مهم من السينما العالمية، وعدد أفلامنا التى تعرض فى الخارج من خلال المهرجانات كبير، وأرى أنه آن الأوان أن نتعامل مع أنفسنا على أننا موجودون بقوة فى المهرجانات والسينما العالمية، لكن مشكلتنا هى أننا لا نعرف كيفية توزيع أفلامنا، والاستفادة من وجودنا فى هذه المهرجانات لفتح أسواق جديدة، وهذا ما نحتاج للعمل عليه، والنظر فيه، حيث قدمنا العديد من الأفلام المهمة فى مهرجان «كان»، وحازت جوائز، مثل أفلام محمد دياب ونادين لبكى.

·        المشاركة العربية أيضا لم تتوقف هذا العام على الأفلام فقط، ولكن كانت فى لجان التحكيم مثلك، وكدليل: الناقد أحمد شوقى، والمخرجة كوثر بن هنية؟

هى فرصة مختلفة للوجود فى المهرجانات العالمية والتأكيد على أننا كعرب قادرون على المشاركة سواء فى لجان التحكيم أو فى صناعة السينما، وهذا ليس اعترافا بى ولكنه اعتراف بأننا موجودون على خريطة سينما العالم، وهذا أمر مهم.

·        ما الذى ينقص السينما المصرية أو العربية للوصول للعالمية؟

الحقيقة أن صناع الأفلام يواجهون العديد من المصاعب والتحديات لتقديم عمل بسبب المحظورات الاجتماعية والرقابة وقلة الموارد، وبالتالى فإن تقديم أفلام أو مسلسلات يكاد يكون معجزة، لأن هناك مقاومة حقيقية بالفعل فى كل شيء، وصعوبات فى استخراج التصاريح التى أصبحت باهظة الثمن، وهناك تضييق فى كثير من هذه الأمور تجعلنا لا نخرج كل ما لدينا من مواهب.

·        هل ستخوض تجربة التليفزيون مرة أخرى بعد نجاح تجربتك الدرامية الأخيرة «منورة بأهلها» ؟

بالطبع سأكررها، لأننا سنقدم الجزء الثانى من العمل، الذى يحمل اسم «استوديو مصر»، فهو ما زال فى مرحلة الكتابة، والحقيقة أن أصعب شىء فى الدراما السينمائية أو التليفزيونية هو مرحلة الكتابة والتحضير الجيد، ولن أدخل أى مشروع إلا إذا كان مكتوبا كاملا، وبالتالى أنتظر انتهاء سيناريو المؤلف محمد أمين راضى ثم نبدأ مرحلة التصوير. وسيكون الجزء الجديد بنفس أبطال الجزء الأول، وسيتواجد فنانون جدد فى أدوار جديدة، حيث ستكون القصة منفصلة عن الأولى، وستدور أحداثها فى إطار تشويقى، من خلال قضية قتل أخرى، وبالفعل أحببت التجربة.. وذلك على الرغم من أننى كنت أشعر بالخوف فى بداية الأمر، وهى تشبه المرة الأولى التى شاهدت فيها فيلمى الأول «سرقات صيفية» التى تعلمت كثيرا بعدها، كما أن سيناريو المسلسل كان مكتوبا بحرفية شديدة، وحلقاته بعيدة عن الملل، وهو عمل مبهج بالفعل.

·        أخيرا: ما مشاريعك السينمائية الجديدة؟

أستعد لتصوير فيلم «أسطورة زينب ونوح» الذى كان من المفترض بدء تصويره منذ فترة، لكننى انهمكت فى تصوير مسلسل «منورة بأهلها» مما اضطرنى لتأجيله، وهو سيناريو أحمد الزغبى، ويروى قصة ولد وبنت يعيشان فى الصعيد، وفى إحدى الليالى المليئة بالأمطار يهربان بنعش أم الفتاة، لأنهما لا يريدان دفنها يوم الأربعاء، ويريدان الانتظار ليوم «الجمعة»، حتى لا تتعرض لعذاب القبر كما يعتقدان.

ومن هنا تتوالى الأحداث، وسأبدأ التصوير فى شهر ديسمبر المقبل، لأن الأحداث تتطلب موسم الشتاء، وما زلنا فى مرحلة اختيار الأبطال.

 

الأهرام اليومي في

05.06.2022

 
 
 
 
 

ملامح المهرجان أم أنها ملامحنا؟

طارق الشناوي

مهرجان (كان) الذي عادت إليه مجدداً الحياة بعد عامين من الجمود؛ دورة أُلغيت وأخرى عُقدت وفقاً لشروط احترازية صارمة كأنها لم تُعقد أساساً، المهرجان في تلك الدورة (الماسية) التي أُسدلت ستائرها قبل نحو أسبوع، عاد إلى كامل طبيعته ولياقته.

مع مرور سنوات تصل إلى ثلاثين، تتجدد رحلتي إلى (كان)، أعايش نفس الأماكن، تصبح كل تفصيلة قد تبدو عند البعض عابرة، إلا أنها بالنسبة لي ليست أبداً كذلك؛ هناك وجوه من الصحافيين من مختلف دول العالم، ربما لم أتبادل الحوار معهم جميعاً، ولكن هم الذين يمنحون المهرجان هذا المذاق، ملامحهم صارت بالنسبة لي تساوي ملامح المهرجان.

تعوّد عدد كبير من النقاد العرب على الوجود في صف واحد، وعلى مدى عقود من الزمان يحرصون على نفس هذا الصف، في القاعتين الرئيسيتين (لوميير) و(دي بي سي)، بالطبع هناك أيضاً نقاد عرب لا يفضلون هذا النوع من التوحد العربي - العربي، ويتناثرون في مقاعدهم هنا وهناك، بالقطع غادرتنا وجوه لنقاد كبار، رحلوا عن عالمنا، لا يزال (كان) يذكّرنا بحضورهم، وهناك أيضاً من لم يعد لسبب أو لآخر يحرص على المجيء، إلا أنني في كل عام ألاحظ زيادة في عدد النقاد العرب.

لأول مرة هذه المرة يتم إلغاء مكان الصناديق الصحافية في الطابق الثاني من قصر المهرجان، والتي تشهد عادةً زحام الصحافيين والإعلاميين بين عروض الأفلام، طوال العقود السابقة كان لديَّ رقم مطبوع على (الكارنيه)، هو الذي أتمكن عن طريقه من فتح الصندوق إلكترونياً لأتعرف على كل التفاصيل: جدول العروض، وبعض المطبوعات الصغيرة التي تواكب الأفلام، ومادة صحافية إعلامية تغنيك عن البحث في (النت)... ومع تقليص استخدام كل ما هو ورقي، حفاظاً على نظافة البيئة، بدأت المادة المكتوبة تتناقص، لم تعد هناك صناديق، ورقم الصندوق تغيّر إلى (باسوورد) لدخول (النت) تستخدمه على الكومبيوتر والمحمول. المكان صار أكثر اتساعاً، وأصبح متاحاً لنا أن نتبادل الحوار خلال جلسات تُعقد في دوائر متعددة. في المساحة المزدحمة بالصحافيين وجوه أشاهدها سنوياً، ليس بيني وبينها بالضرورة حوار، ولكنهم بالنسبة لي هم الذين يمنحون المهرجان تلك الخصوصية. المهرجانات ليست بالضبط هي فقط الأفلام. مع كثرة التردد عليها تكتشف أن هناك تفاصيل أخرى تمنح المهرجان مذاقه، مثلاً لا يمكن أن تجد شحاذاً في بلادنا يصطحب معه كلباً لإثارة الشفقة. وجود الكلب في نفس (الكادر) يَحول دون إحداث التعاطف المطلوب، بينما في أوروبا تعد وسيلة مضمونة أكثر للحصول على حسنات قليلة من تلك التي نقول عنها في بلادنا (تمنع بلاوي كثيرة).

ولا يتوقف الأمر فقط عند هذا الحد، هناك من يعد المهرجان والزحام فرصة لا تعوَّض لكي يكسب رزقه بالحيلة، الغريب في الأمر أنني في كل مرة أذهب إلى (كان) يتكرر معي نفس السيناريو، يُلقي أمامي أحدهم خاتماً يبدو ظاهرياً من الذهب، ارتطامه بالأرض يدفعني لاشعورياً للانتباه، على الفور أجد من يقول لي بإنجليزية ركيكة (هذا خاتمك تستطيع الحصول عليه)، وعندما أنفّذ المطلوب، يطلب منى بنفس الإنجليزية، أن أمنحه شيئاً مقابل أن يترك لي الخاتم، الذي يتجاوز ثمنه بضعة الآلاف من (اليورو)، ويبدأ بأن يطلب فقط ورقة فئة (500) ثم يهبط بها إلى (100)، وهذا وحده قطعاً كفيل بأن أردّ له الخاتم. إنها حيلة كما ترى مكشوفة تماماً ولكنها تتكرر معي سنوياً، وأصبحت أشعر بعدها بالتفاؤل، بعد أن صارت هي أيضاً أحد أهم ملامح المهرجان!

ناقد سينمائي مصري

 

الشرق الأوسط في

06.06.2022

 
 
 
 
 

كلمة و 1 / 2..

الجناح المصرى فى (كان) هدف استراتيجى

كتب طارق الشناوي

لماذا لا نبدأ من الآن فى توحيد كل الجهود من أجل عودة العلم المصرى مرفرفًا من جديد على شاطئ الريفييرا، فى دورة مهرجان (كان) القادمة، مصر كانت سباقة فى كل شىء تواجدنا بالمهرجان منذ انطلاقه عام 1946، وكان لنا أيضًا جناح فى السوق منذ منتصف الثمانينيات مع تولى سعد الدين وهبة رئاسة المهرجان، واستمر الأمر قائمًا فى زمن حسين فهمى، وحتى 2010، وبعدها كنا أحيانًا نتواجد وأخرى يمر التوقيت الملائم لحجز الجناح، ونكتشف بعدها أنه قد داهمنا الوقت، لأنه لم يشرع أحد فى مخاطبة إدارة المهرجان فى التوقيت المناسب.

العديد من دول العالم وبينها قطعًا الدول العربية تعتبر أن الجناح ضرورة لأنه يمنح الدولة حضورًا وتواصلاً مع العالم، أعلم أن هناك توجهًا عامًا رسميًا بالتقشف، وضرورة خفض المصروفات، خاصة فيما يتعلق بالإنفاق الحكومى، ولكنى لا أجد سببًا واحدًا يحول دون إقامة هذا الجناح، وهو بالمناسبة لا يعنى مهرجان القاهرة السينمائى فقط، ولكن كل المهرجانات المصرية، وكل الأنشطة السياحية أيضًا، تواجده يلعب دورًا محوريًا فى وصول الرسالة للعالم بأن مصر بلد الأمان، ولهذا من الممكن أن تساهم فى إقامته أكثر من جهة مثل وزارت الثقافة والسياحة والطيران، وأيضًا غرفة صناعة السينما وغرفة السياحة ومهرجان القاهرة وغيرها، أتذكر قبل بضع سنوات أننا فى الجناح المصرى عقدنا ثلاثة مؤتمرات أعلنا فيها تباعًا عن مهرجانات القاهرة والإسكندرية والأقصر، ومن خلال الجناح كانت تصل للجميع الرسالة المطلوبة وبقوة وهى أن مصر تفتح قلبها للجميع، من البديهى أن نبدأ من الآن فى وضع الخطة الكل عليه أن يلعب دوره، ولكن السؤال هل نشعر حقيقة بأهمية تواجد جناح ثابت للمهرجان، إسرائيل على الأقل قبل أكثر من 30 عامًا تحتل مساحة فى سوق المهرجان فى موقع استراتيجى، أمام السلم الكهربائى الذى يصعد إليه كل من يريد التواجد فى السوق، علينا كدولة إدراك أهمية كل تلك التفاصيل لمصر.

إنه بالتأكيد قرار سياسى، حتى ولو كنا نتحدث عن تظاهرة ثقافية، وهو ما تنبهت إليه فلسطين وحرصت فى السنوات الأخيرة على إقامة جناح لها، فهم يعلمون أن النضال بالفن والثقافة هو أمضى الأسلحة لأنهم يخاطبون الوجدان، صحيح غابت فلسطين عامين ولكن هناك إرادة قوية للعودة خاصة أن فلسطين كثيرًا ما تتواجد بالأفلام وآخرها (حمى البحر المتوسط)، الذى حصل أيضًا هذا العام، على جائزة أفضل سيناريو فى قسم (نظرة ما) واستحقت بالفعل المخرجة مها الحاج الجائزة.

لا ألوم حسين فهمى رئيس مهرجان القاهرة، لأنه هذا العام لم يستطع تحمل نفقات جناح وقبله أيضًا محمد حفظى على مدى أربع سنوات لم يفعلها، الميزانية لا تسمح وهناك قطعًا أولويات، ولكن يبقى أن علينا من الآن وضع الخطة لكى نرى العلم المصرى مرفرفًا على شاطئ (الريفييرا) فى كان 2022!.>

 

مجلة روز اليوسف في

05.06.2022

 
 
 
 
 

الأخوان داردين مخرجا تورى ولوكيتا الفائز بسعفة كان:

الفيلم إدانة للوضع الذى يعيشه شباب المهاجرين فى أوروبا ومصيرهم الغامض

خالد محمود

العمل يطرح القضية عبر قصة صداقة حقيقية فى رحلة المنفى بلحظاتها السعيدة وحزنها العميق

يبقى الأخوان البلجيكيان جان ولوك بيير داردين من الملهمين فى عالم الإخراج، استطاعا أن يصنعا تاريخا سينمائيا كبيرا مرصعا بالجوائز وكان آخرها السعفة الذهبية للذكرى السنوية الـ 75 لمهرجان كان عن فيلمهما الجديد «تورى ولوكيتا» الذى يظهر قسوة آليات الهيمنة التى تحكم العلاقات الإنسانية وخاصة لشباب المهاجرين والمنفيين عن أوطانهم فى أوروبا.

مع «تورى ولوكيتا»، جان بييرولوك داردين يسردان بجرأة قصة بسيطة ومؤثرة، قصة صداقة بين شابين قاصرين فى المنفى تُظهر عنف علاقتنا بقضية الهجرة وتدين الأضعف بدلا من الحماية وقد تحدثا إلى موقع «Cineuropa» حول العمل اللذين اعتبراه مثل صرخة للمساعدة، وما هى نقطة الشرارة التى انطلق من خلالها مشروع هذا الفيلم.

وقال جان بيير داردين: ذهبنا إلى مراكز استقبال اللاجئين قبل بضع سنوات. منذ بعض الوقت، كنا نعيد صياغة موضوع وضع هؤلاء القُصَر المعزولين فى المنفى، وتساءلنا عن كيفية صنع فيلم مع هؤلاء الأطفال. فكرنا أن نحكى قصة صداقة من خلال الأطفال فى المنفى، وما مصير المهاجرين، وهو فى الحقيقة السؤال الكبير الذى يواجه مجتمعنا.

وقال لوك داردين: حتى أننى سأقول المنفيين أكثر من المهاجرين. ليس من العدل أن ينتقلوا من مكان إلى آخر. لقد تركوا قريتهم وعائلاتهم وكل ما يعرفونه. القطيعة هائلة، وهم ضائعون ووحيدون. تمكنا أيضا من رؤيتهم، لقد قرأنا الكثير من الشهادات والتقارير الطبية، اكتشفنا الجحيم الذى يمر به هؤلاء الأطفال فى رحلتهم والشعور الرهيب بالوحدة الذى يبقى معهم حتى عندما وصلوا».

وبسؤاله عن كيف فكر فى جوهر هذه القصة، بخلاف تسليط الضوء على وضع هؤلاء القاصرين الصغار؟

أجاب جان: أردنا أن نصنع قصة صداقة حقيقية بكل جمالها.

وأردنا تجنب الطرح الكلاسيكى إلى حد ما من الكتابة فى هذا النوع من القصص، والذى يتضمن طرح الخيانة. فالابطال تتجسد صداقتهم من خلال موضوع موسيقى يرافقهم طوال رحلتهم ويوحدهم. إنه يعكس كلا من فرحتهم بالتواجد معا وحزنهم العميق.

فى الفيلم تورى يذهب فى كل مكان، لديه مفاتيح، يتحرك باستمرار، يحاول العثور على لوكيتا التى لا تتحرك وتبدو كسجينة. وهى أيضا ضحية الاتجار بالجنس، وهو القيد النهائى، جسدها فى قبضة الكبار فى هذا الصدد.

إنه فيلم تحذير، إدانة للوضع الذى يزداد سوءا منذ سنوات، والذى كنا بالفعل قادرين على تخيله مع المؤلفة روزيتا وتساءلنا هل هناك مسئولية كصناع أفلام أن نولى هذا الموضوع اهتماما؟

وأضاف جان بيير: إنه موضوع ظل يطاردنا لفترة طويلة، لكننا لم نجد من أى زاوية نتعامل معه. إن «نسخ» الواقع ليس من شأننا، وليس ما نقوم به. علينا أن نذهب من خلال الخيال. لكن ما أعادنا إلى هذا الموضوع هو عندما علمنا، عدد القاصرين الذين يختفون كل عام فى بلجيكا. كما قرأنا مقالات عن التعذيب وحتى الاغتيالات التى يتعرض لها المراهقون الصغار فى إطار تهريب المخدرات.

كان السؤال الذى طرح على المهرجان هل لديكم رغبة قوية فى إثارة رد فعل سياسى؟

وأجاب جان داردين: لسنا سياسيين، لكن من الواضح أننا نأمل أن الفيلم سيجعل الناس يتفاعلون. إنه فيلم عن الصداقة، لكنه أيضا فيلم يستنكر شكلا من أشكال العبودية الحديثة. حتما، الأشخاص الذين يعانون هم الأكثر ضعفا، بدون أوراق، بدون عائلة.. وصحيح أنه إذا كان فيلمنا، من خلال هذا العرض الدولى الذى تقدمه مدينة كان، إذا كانت شخصيتنا الصغيرتان، هشة ومهمشة للغاية... إذا كان ذلك يمكن أن يجعل صناع القرار، يتعاملون بشكل مختلف ويزيلون سيف الضغوط من على رءوس هؤلاء الشباب عندما يكبرون... يتعلمون لغة البلد عند وصولهم، ينبغى منحهم فرصا مدرسية، أعتقد أنه على المستوى الأوروبى، يمكننا إيجاد حلول لعدم إعادة القاصرين إلى النقطة صفر.

فيلمنا إدانة من الوضع العنيف والظالم الذى يعيشه هؤلاء الشباب، أعز أمنياتنا هى أن يكون الجمهور فى نهاية الفيلم، قد شعر بتعاطف عميق مع هذين المنفيين الصغار وصداقتهم التى لا تفنى، ستشعر أيضا بإحساس بالتمرد ضده.. وهو الظلم الذى يسود مجتمعاتنا.

 

الشروق المصرية في

08.06.2022

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004