ملفات خاصة

 
 

"ريش".. فيلم يخرج عن النمطية السائدة في السينما المصرية

طاهر علوان

الجونة السينمائي

الدورة الخامسة

   
 
 
 
 
 

هو ليس معجزة سينمائية ولا عملا خارقا لكنه أجاد التقشف والتمرد.

تراكمت عبر التاريخ الطويل للسينما أساليب وتجارب بذلت فيها أجيال من السينمائيين جهودا ملحوظة لتأسيس مسار مختلف، مسار قادر على التأثير وعلى البقاء محافظا على ذلك التأثير بمرور الزمن. ولكن ليس من السهولة تقبل أي تمرد لتأسيس جماليات أو أفكار سينمائية جديدة، وما تعرض له أخيرا الفيلم المصري “ريش” خير دليل على ذلك.

صار اتخاذ مسار جديد ومختلف في مجال التجارب السينمائية من المهمات الصعبة والمعقدة التي تتطلب المزيد من الحفريات والجهود المضنية في ذلك التراكم الهائل للتجارب السينمائية، فضلا عن المزيد من التجريب والبحث عن أسلوب مختلف ذي بصمة مميزة.

وفي وسط هذا كله يحضر النقاش حول فيلم “ريش” للمخرج المصري الشاب عمر الزهيري، الذي صار حديث السينمائيين ووسائل الإعلام وسائر الجمهور العريض، وسط العديد من علامات الاستفهام بسبب وجود نقيضين واجههما تسويق الفيلم إلى الجمهور وهما حصوله على أرفع الجوائز وأهمها جائزة أسبوع النقاد، وهي جائزة رفيعة من مهرجان كان، وجائزة رابطة النقاد وجائزة أخرى من مجلة فيرايتي، أما المقابل لهذا النجاح والنقيض له فهو بخس قيمة هذا الفيلم وإلقاء أشكال شتى من الاتهامات من طرف ممثلين وسينمائيين بالدرجة الأولى.

الرفض أو القبول

هذا المشهد ترك وراءه بلبلة في قبول هذا الفيلم أو رفضه، لكن في المقابل، تبدو مسألة القبول أو الرفض وعدم وجود بديل عنهما بمثابة خيارين شديدي التطرف والمبالغة فمن حق أي عمل فني أن ينال نصيبه من التواجد في الميدان، ومن حق أي سينمائي أن يطرح تجربته بالشكل الذي يراه مناسبا ويعبر عن أفكاره ورؤيته.

ميزة الفيلم أنه خرج عن إطار المسطرة المعتادة لمتذوقي السينما المصرية ومتابعيها وجمهورها والعاملين المخضرمين فيها

أما في حالة فيلم “ريش” فإن هنالك العديد من السينمائيين والممثلين يريدون من الفيلم أن يلبي طلباتهم ويسقط أفكارهم ويستجيب إلى النمطية الفيلمية التي اعتادوا عليها، أما كسرها أو التمرد عليها فهو غير مقبول بالمرة في نظرهم، وذلك ما حصل بصدد مقاطعة هذا الفيلم من قبل عدد من السينمائيين والممثلين، الذين وصل بهم الأمر إلى مغادرة قاعة العرض والهجوم على الفيلم، وصولا إلى اتهامه بتشويه الواقع والإساءة لسمعة البلد.

في المقابل هنالك شبه تكتل مجتمع بعض الممثلات – النجمات (في السينما المصرية) اللائي لم يستطعن هضم فكرة أن تقوم بالدور الرئيسي في فيلم يعرض في كان، ويلاقي كل هذا الاهتمام، مجرد امرأة بسيطة لم يسبق لها قط الوقوف أمام الكاميرا.

واقعيا، ومن جهة أخرى لا يمكن أن يعد هذا الفيلم معجزة سينمائية ولا هو عمل خارق في حد ذاته، بل إن ميزته أنه خرج عن إطار المسطرة المعتادة لمتذوقي ومتابعي وجمهور وعاملين مخضرمين في السينما المصرية.

 إنه ببساطة خرج عن نمطية الفيلم المصري وذهب بعيدا باتجاه تجارب أخرى كنا قد شاهدناها خاصة في أفلام من أميركا اللاتينية وحتى من خلال الصور والبناء السردي في روايات غابريل غارسيا ماركيز وفي أفلام الواقعية الروسية، إنه نوع من السينما التي لا تريد ولا تهدف إلى تجميل الواقع بل عرضه كما هو بقبحه وهشاشته وفوضاه وتبعثره وكل ما فيه من علل وخبايا.

بيئة غريبة منسية

سوف نبدأ مع هذا الفيلم مع مشاهد تقدم يوميات عائلة ينهشها الفقر مكونة من الزوجين وثلاثة أولاد صغار، أصغرهم رضيع وأكبرهم في بدايات مدرسته الابتدائية، وهؤلاء يعيشون حياتهم المعتادة في فقر مدقع، هنا وعلى الرغم من كل مظاهر الفقر إلا أن المخرج كان يترك الكاميرا تعيش مع الشخصيات برتابة وتبقى ساكنة وهي ترصد سكونهم وحواراتهم المتقشفة وخاصة الزوجة (الممثلة دميانة نصار) التي كرست شخصية المرأة والأم الصامتة التي تتعامل مع الواقع بالمزيد من التسليم واللاجدوى.

ها هي الأسرة البسيطة والجيران والأصحاب يجتمعون لغرض الاحتفال بعيد ميلاد أحد الأطفال الثلاثة، ويحضر ذلك الحفل البسيط ساحر ومساعد له على سبيل الطرافة والاستمتاع ومن بين الألعاب المضحكة التي يقوم بها الساحر أنه يجرب أن يضع الأب (الممثل سامي بسيوني) في الصندوق على سبيل الدعابة والألعاب السحرية وبعد إغلاق الصندوق ثم إعادة فتحه يكون الرجل قد اختفى إلى الأبد، أو هو قد تم مسخه إلى دجاجة، ويختفي مع هذا التحول أثر الساحر هو الآخر.

هذا التحوّل في حبكة الفيلم هو الذي بنيت عليه الأحداث التالية، فالمرأة الوحيدة التي تعيل الأطفال الثلاثة لا تقوى على تلبية تلك الاحتياجات اليومية، فضلا عن عجزها عن فهم ما جرى لزوجها، وها هي تقف أمام مسؤول الشرطة عاجزة عن إعطاء بيانات تتعلق بزوجها أو بالساحر، كما أنها عاجزة عن إثبات موت زوجها لغرض أن تنال عنه مبلغا من المال بمثابة راتب تقاعدي، كما أنها عاجزة عن إثبات أنه حي سوى تشبثها بتلك الدجاجة ورعايتها لها عسى أن يعود زوجها ويخرج من ذلك الانمساخ.

في تلك البيئة المتداعية يصبح وجود الزوجة عبثيا بالكامل، هنالك قتامة في ما حولها وثقل معنوي هائل يجعل متابعة تلك اليوميات الثقيلة عملا متعبا، ذلك أن الفيلم تم تحميله بتلك الطاقة التعبيرية الكبيرة التي تجثم على شخصيات هائمة في بيئة ترابية، فالشوارع ترابية يتطاير منها الغبار والبيوت بائسة وعتيقة والأثاث وكل شيء بالغ الرثاثة والتآكل وحتى الشخصيات بدا واضحا كيف ينهش بها الزمن ويلتهم سعادتها ويهمش وجودها تلك هي الحياة المغلقة القاتمة التي يعنى بتقديمها هذا الفيلم.

ما بين الغبار شبه الدائم وما يشبه الضباب تعيش تلك البيئة المنسية لتلك الشخصيات المحدودة التي تبدو وكأنها جغرافيا ومكانيا شبه مقطوعة عن العالم الخارجي، وتلك إشكالية إضافية تتعلق بالشكل والعناصر البنائية للمكان الذي تعيش الشخصيات في كنفه، إنها في كل الأحوال مجرد هياكل متداعية لا تعني شيئا ولا تعبر عن انتماء الشخصيات، بقدر ما هي قوقعة يتشبث بها الجميع ويمضون فيها أيامهم.

الفيلم تم تحميله بطاقة تعبيرية كبيرة تجثم على شخصيات مقهورة وسطحية هائمة في بيئة ترابية متداعية

هنالك مصنع لا نعلم ما الذي يصنعه بالضبط، وهنالك موظفون وإداريون تتناثر من حولهم أوراق متآكلة، وهنالك حوارات ثقيلة الوطء من قبيل أن ذلك المصنع لا يتيح توظيف دميانة أو غيرها، أي أنه مصنع ذكوري بالمطلق، ووسط هذا كله ليس هنالك سوى كتل حجرية ضخمة وما يشبه المدخنة تبدو في عمق المكان، وما عدى ذلك فسوف تظهر الشخصية الرئيسية (دميانة) متضائلة في كل مرة سواء عند ذهابها لمركز الشرطة أو خروجها منه أو عند هروبها من صديق زوجها المتحرش وغيرها من المشاهد.

يبدو المكان محيطا بالشخصيات وكأنه هو قدرها المطبق الذي لا خروج منه فلا حديث عن مدينة أو مدن مجاورة ولا عن حياة موازية فيها شيء من التطور والرفاهية وكأنه كوكب معزول أو جزيرة منسية مكتفية بذاتها، وكل هؤلاء الذين جلبهم المخرج غير آبه بوسامة أي أحد ولا بإظهار أي جمالية ترتبط بشخصياته، فهم كائنات أنتجتها بيئة الفقر وتركت بصماتها عليهم ليس أكثر، ولهذا حرص المخرج على تقديم شخصيات مطحونة ومتهالكة ومحدودة الاهتمامات، ولاحظ طبيعة شخصية صديق الزوج (الممثل محمد عبدالهادي) وهو يقود سيارته القديمة، ولكن المنطلقة دائما بسرعة كبيرة مخلفة وراءها دوما عاصفة من الغبار.

وهكذا يتوازى عالمان بالنسبة إلى دميانة وهما عالمها العائلي البسيط الذي صارت الدجاجة التي هي زوجها الممسوخ جزءا منه، وعلى الرغم من رثاثته وتهشمه إلا أنها ملاحقة من جهة دائرة الإسكان بالعقاب وربما بالإخلاء ما لم تسدد الأقساط الشهرية المتراكمة، فإلى أين المفر؟

إنها عاجزة عن التشبث بالشرطة لمساعدتها في إيجاد زوجها وعاجزة عن إقناع القائمين على المصنع بمساعدتها وعاجزة عن مجاراة صديق الزوج نزوته ثم ها هو العالم الذكوري الكامل والمطلق يتجسد أمامها في المقهى الذي لا تكترث فيه الشخصيات بما حولها ولا حتى بوجود دميانة وإنما هو هكذا وجود ذكوري مشغول بكل ما هو هامشي ومنسي.

في المقابل هنالك الهامش الأكثر ثراء، حيث تقرر دميانة أن تعمل في خدمة أحد المنازل، ثم ما تلبث أن تتعرض للطرد أو التسليم للشرطة لأنها أقدمت على سرقة بضعة قطع من اللحم النيء لتطهوه لأولادها وبضع حبات من الحلوى أيضا تختزنها لهم، ولكن ها هي دميانة مطرودة وبلا جدوى.

لقد كان ذلك الهامش المترف هو الهامش الوحيد في هذا الفيلم على وجود عالم مجاور يضم أولئك المتبطرين، ولهذا سوف تجد نفسها خاضعة لوطأة ذلك العالم وحتى وهي تؤدي عملها اليومي بتنظيف المنزل ها هي تمسح الأرض زاحفة على ركبتيها لكي تقوم بالعمل المطلوب على أكمل وجه.

لا تنتظر من هذا الفيلم مثلا أن يحرص على تقديم كادر – إطار صورة متوازن ومثالي فهو لا يكترث كثيرا لذلك، ولهذا يتم اقتطاع ما تصوره الكاميرا اقتطاعا حادا، فقد يتوازن الكادراج أو ينحرف أو يتم التصوير من زاوية غير ثابتة، كما في لقطات المركز البيطري أو في منزل الأثرياء أو عند الدخول إلى إدارة المصنع أو غيرها من المشاهد، ولم الحرص على الكادر المتوازن بصريا وقد تشوه كل شيء من حول الشخصيات وهي تعيش منسية في هامش منسي، ولربما هو في بعض الأحيان منظور جمعي عن ذلك الواقع الخرب الذي سوف ينعكس على كل ما حول الشخصية من جغرافيا مكانية.

السينما الفقيرة

ومن جهة أخرى إذا مضينا مع إشكالية حركة الكاميرا والصورة فهنالك كادراج متكرر أن تسمع حوار الشخصيات فيما الصورة تشمل جزئية صغيرة ومحدودة من المشهد، فالحوار في مركز الشرطة مثلا تقابله صورة ورقة البلاغ الفارغة والقلم، والحوار مع المرأة الثرية صاحبة المكان لا يظهر سوى كعبها العالي، والحوار حول شروط العمل في المنازل يقابله ظهور عمليات فحص المرأة وإخراج لسانها وفحص عينيها، والحوار عند البحث عن الساحر تقابله صورة عبر الزجاجة الأمامية للسيارة وقرد يزحف عليها فيما الشخصيات في عمق الصورة يتحدثون عن غياب الساحر.

هذه أمثلة من الكثير من تلك الاستخدامات التي تبدو للوهلة الأولى معوجة وغير فنية ومنفرة لما اعتادت العين مشاهدته، ذلك أن المخرج في واحدة من مشكلات هذا الفيلم ونواقصه أنه أغلق تماما الطريق على إظهار أي بعد جمالي تنتظم فيه الأشياء أو عنصر المكان ولو كان فقيرا جدا، كما أن مصادرة دميانة بشكل شبه كامل وعدم وجود هاجس ذاتي وتسطيحها هي علامة أخرى على الإسراف في تقديم شخصية مقهورة في عالم سوداوي.

ومن جهة أخرى ظهرت مشاهد في الفيلم بدا فيها أن الموسيقى لا علاقة لها بأجواء المشهد والعلاقة بين الشخصيات، ومن ذلك التصعيد بصوت الغيتار في عدة مشاهد بشكل مبالغ فيه ولا مبرر له، وفي المقابل بدت المشاهد الصامتة مع تلك الصور القاتمة والسوداوية أكثر تعبيرا عن موضوع الفيلم.

يحاكي هذا الفيلم في مجمله تجارب السينما المستقلة والسينما الفقيرة والمتقشفة، لكنه لا ينتمي إليها وواحدة من ميزاته أنه لفت الأنظار وذكّر بوجود تلك التجارب السينمائية الخاصة، بينما هو فيلم سهرت على توفير متطلباته الإنتاجية شركات عدة أجنبية ومصرية، فهو يوحي بأنه خارج ومتمرد على نظام الاستديو، لكنه في الوقت ذاته منخرط في دوامة الاستثمار في الفيلم والتمويل والريع للمنتجين وما إلى ذلك، بينما يمكن إنجاز الفيلم بإمكانات ومتطلبات إنتاجية أقل خاصة أن أغلب مشاهد الفيلم قد تم تصويرها في أماكن حقيقية.

كاتب عراقي مقيم في لندن

 

العرب اللندنية في

31.10.2021

 
 
 
 
 

درسان في الفن من «مهرجان الجونة»: الأعمى الذي أعاد تعريف السينما!

عصام زكريا

تيموثي شالاميت في لقطة من فيلم (فرنش ديسباتش) 2021 الذي عرض في مهرجان الجونة السينمائي

في فيلم «فرنش ديسباتش» (The French Dispatch) آخر أعمال المخرج الأمريكي ويز أندرسون (عرض في مهرجان “الجونة” الأخير)، يردد رئيس تحرير المجلة التي تحمل اسم الفيلم نصيحة واحدة دائما ما يوجهها لمحرريه: إذا كنت ترتكب أي خطأ حاول أن تجعله مقصودا!

في الفيلم أيضا يظهر خبير تحف فنية اكتشف وجود فنان في سجن المرضى العقليين يقوم برسم لوحات تجريدية مشوهة تشبه شخبطة الأطفال. وعندما يسأله البعض عما وجده في هذه اللوحات الغريبة، وكيف يعرف أن صاحبها فنان وليس مجنون يشخبط، يقول لهم ما معناه: إننا عادة نختبر هؤلاء المجربين باعطائهم اختبار تقليدي صغير لنرى هل يقدرون على الرسم وفقا للقواعد والمنطق أم لا. الخبير طلب من الرسام المجنون رسم طائر صغير بشكل كلاسيكي فرسمه بسرعة ومهارة شديدة.

الخطأ المقصود

يكثر الحديث هذه الأيام، مع فوضى ثورة المعلومات ووجود ملايين الأعمال الفنية والتي تدعي أنها فنية، حول صعوبة التمييز بين الفن الحقيقي والتقليد الممسوخ، وبين التجديد و”التطجين”. وأعتقد أن الدرسين المذكورين أعلاه يمكن أن يشكلا بذرة إجابة على هذه الأسئلة.

أي فنان يجب أن يمتلك المهارات الحرفية اللازمة، ويعرف كيف يصنع أعمالا تقليدية شعبية بسهولة، ولكن البعض لا يكتفي بذلك. الفنان الحقيقي يتساءل ويبحث دائما عن امكانيات الوسيط الذي يستخدمه، سواء كان لغة أو ألوانا أو موسيقى أو سينما..يحاول أن يستكشف المدى الأقصى للجماليات، وأن يصل إلى منتهى الاستخدام الأمثل لعناصر الوسيط. يوسف شاهين، مثلا، أثبت مكانته كمخرج متمكن في إطار السينما المصرية وحدودها قبل أن يتمرد ويقرر أن يجرب في أنواع وأساليب وموضوعات أخرى، وتحمل كل ما لاقاه من انتقادات واتهامات لإنه كان يثق فيما يفعله، ويعرف أن هذا قدر الفنان الحقيقي ودوره: أن يطور الفن نفسه.

إذا كنت تنوي أن ترتكب أي خطأ، فلتجعله يبدو مقصودا!

هذه النصيحة التي يرددها رئيس التحرير للمحررين هي حيلة ماكرة، وبعض الفنانين متوسطي الموهبة يستخدمونها بالفعل لخداع الجمهور والنقاد بمحاولة اظهار عيوب أعمالهم وكأنها مقصودة لأسباب أعمق. وعلى الناقد أن يستخدم الحيلة الثانية ليكتشف مدى صدق موهبة هؤلاء: أن يخضعهم لاختبار الفن التقليدي ويرى ما إذا كانوا بالفعل متمكنين من حرفتهم أم مجرد مخادعين.

لكن ما يكشف بالفعل عما إذا كان الاستخدام غير التقليدي للتقنيات الفنية عيب أم تجديد وابتكار هو اختبار علاقة الشكل بمضمون العمل والعلاقة العضوية بين العناصر الفنية المختلفة.

الأعمى الذي رفض أن يشاهد تايتانك

مثال حديث ونموذجي لهذا هو الفيلم الفنلندي “الأعمى الذي رفض أن يشاهد تايتانك”، إخراج وتأليف تيمو نيكي، الذي فاز بجائزتي أفضل فيلم وممثل في مهرجان “الجونة”.

ينطلق مخرج ومؤلف العمل من سؤال جوهري: ما هي السينما؟ أليست هي اظهار ما لا نستطيع أن نراه بعيوننا المجردة ونحتاج إلى الفن لكي نراه؟ طيب لنفترض أننا نريد أن يرى المشاهد ما يراه شخص أعمى مقعد. ليس فقط أن يرى الرجل الأعمى، ولكن يرى من خلال عينيه، أن يشعر بما يشعر به، وأن يعايش ما يعايشه.

من هذه الفكرة ولد شكل واسلوب الفيلم الذي لا يكاد يشبه أي شئ آخر في تاريخ السينما. ليس هناك “كادر” واحد سليم، الكاميرا لا تصور تقريبا سوى وجه وقفا البطل، لا تفارقه أبدا حتى وهو يسقط من كرسيه المتحرك  والعالم من حوله مشوش لا تظهر فيه وجوه أو معالم واضحة. انس ما تعلمته عن قواعد التصوير في معهد السينما أو الكتب. ليس هناك إطار محدد أو تكوين أو بعد بؤري أو ألوان أو تنوير درامي أو موضوع واضح تصوره الكاميرا. أو بمعنى أصح هناك كل هذا ولكن بشكل يعبر عن مضمون العمل، وهو أن نشعر طوال الوقت بأننا لا نرى ما يكفي.

وعوضا عن الصورة يلعب الصوت دورا أساسيا في الفيلم، فهو الحاسة الوحيدة التي يعتمد عليها البطل. أذناه هما مدخله إلى العالم ولسانه هو كل ما بقى له كأداة للتعبير عن نفسه، وحين يسقط وينتابه الدوار أكثر من مرة، يعبر شريط الصوت عما يشعر به بنفس الطريقة، إذ نصبح وكأننا داخل رأسه نسمع ما يسمعه. إذا كنت تنوي أن ترتكب بعض الأخطاء احرص على أن تبدو مقصودة. أو بمعنى آخر تحطيم القواعد ممكن، وضروري أحيانا، في الفن، ولكن بشرط أن يكون لديك سبب مقنع لذلك!

 

موقع "باب مصر" في

31.10.2021

 
 
 
 
 

فيلم كوستا برافا... مرثية لبيروت التي خانت ثوارها

علياء طلعت

هل المدن تخون؟ هل يمكن أن تترك جرحاً لا يندمل مثلما يفعل الإنسان بأخيه الإنسان؟  الحب هو الحب، والجرح الذي ينتج عن حب لشخص خائن يشبه ذلك الذي تتسبب فيه مدينة كسرت قلب محبيها.

وعلى الرغم من أن بيروت لا تظهر في أحداث فيلم "كوستا برافا" بشكل حقيقي، وأغلب مشاهده مصوره خارجها، إلا إنها بطلة الفيلم الحقيقية. حبها والجرح جراء هذا الحب، والرغبة في العودة إليها والهرب منها، هم الأزمة الحقيقية التي يعاني منها أبطال العمل.

لا حاجة للزمن... الكابوس يحدث الآن

قبل بدء عرض فيلم "كوستا برافا" في مهرجان الجونة السينمائي - والذي حصل فيه على جائزتي النجمة الخضراء والفيبرسي- أعلنت مخرجته مونيا عقل أن في بداية عملها على سيناريو الفيلم كانت أحداثه ستقع في مستقبل قريب، ربما 2030 أو نحو ذلك، لكن ما حدث مؤخراً في لبنان جعلها تحذف تحديد الزمن، ربما لأن الديستوبيا التي تخيّلتها على الورق وجدتها تتحقق أمامها في بلادها قبل الأوان.

هل المدن تخون؟ هل يمكن أن تترك جرحاً لا يندمل مثلما يفعل الإنسان بأخيه الإنسان؟  الحب هو الحب، والجرح الذي ينتج عن حب لشخص خائن يشبه ذلك الذي تتسبب فيه بيروت...المدينة التي تجيد كسر قلب محبيها

تدور أحداث "كوستا برافا" على حافة بيروت، حيث تعيش عائلة صغيرة من أب وأم وابنتين وجدة، في منزل بنوه بأنفسهم منعزلين عن العالم، جنة صغيرة أوجدوها، يتطلعون من خلالها إلى المدينة التي خانت الأب والأم، الثوار السابقين، مراراً وتكراراً.

تعتبر الأسرة نفسها من النسّاك الذين أداروا ظهرهم إلى المدنية، يعيشون على ثمار الأرض التي يزرعونها بأنفسهم، يرفضون استخدام الإنترنت للتواصل مع العالم، وخلال الأحداث، نعرف أن الأب ثوري قديم عانى من الإحباطات السياسية المستمرّة، والأم كذلك كانت صوت الثورة الأشهر، كُسر قلبهما حزناً على المدينة التي أصبحت لا يمكن إنقاذها بسبب ساستها والخائنين، فحملوا بناتهم، آملين في حياة جديدة بلا هدف، سوى جني محصول جيد والاستمتاع بأيامهم البسيطة.

لكن حتى هذا الملاذ الآمن يتعكّر صفوه عندما تقرر الحكومة إنشاء مكب نفايات على بعد أمتار من جنتهم التي امتلكوها لمدة ثماني سنوات، وتبدأ المناوشات بين العائلة والمسؤولين عن بناء المكب.

أزمة النفايات التي كانت مولدة الدراما في الفيلم ليست حدثاً خيالياً افترضته الكاتبة والمخرجة مونيا عقل في الفيلم ليفجّر الأحداث، بل هي إحدى الأزمات المتكررة التي يعانيها لبنان وتجد أخباراً متكررة عنها بالبحث قليلاً على شبكة الإنترنت، ومعاناة السكان مع المكبات غير الصحية ومحاولات التخلص منها.

وخلال الأحداث نشاهد أحداثاً أخرى يعيشها لبنان في الوقت الحالي نتيجة تداعيات ما بعد جائحة كورونا، والتقلبات السياسية والاقتصادية، مثل غياب الوقود وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة.

لم تكن مونيا عقل بحاجة لتخيل مستقبل كابوسي لمدينتها، فالكوابيس أصبحت تتحقق كل يوم بالنسبة لسكانها، وتحول نوع الفيلم، من ديستوبيا مستقبلية بائسة إلى عمل واقعي.

تعتمد مونيا عقل في فيلمها "كوستا برافا" على قصة بسيطة للغاية، عائلة توضع أمام اختيارين أحلاهما مرّ، وشخصيات درامية تمتلك تاريخاً معقداً نتعرف عليه ضمنياً خلال الأحداث، والأهم، أداء تمثيلي ممتاز من ممثلين استطاعوا إضفاء أبعاد أخرى على شخصيتهم، خاصة صالح بكري ونادين لبكي في دوري البطولة

بيروت حب لا ينتهي وجرح لا يندمل

بدء التحضير وبناء مكب النفايات في الفيلم كان النقطة التي بدأت عندها أحداث فيلم "كوستا برافا" الحقيقية، وقد وضع الأسرة تحت ضغط فبدأت بالانقسام، بين الأب الذي لازال يعاني من كرب ما بعد صدمة قلبه المكسور بسبب خيانة الأصدقاء وبلاده، ولا يستطيع العودة مرة أخرى للمدينة، ومعه ابنته الصغرى التي تشربت أفكاره ولم تر نسخة أخرى من العالم خارج منزلهم الصغير فوق الربوة.

أما الأم فلا تزال تحن للغناء، الثورة، صحبة الأصدقاء المتجمعين على هدف واحد حتى لو لم يتحقق، يتنازعها كل من حب زوجها وإخلاصها لملاذه الآمن، وحنينها لبيروت، ومعها الابنة الكبرى التي تعيش مراهقة صعبة بعيداً عن أشخاص مقاربين لها في العمر، وتتفتح مشاعرها الجنسية فلا تجد لها متنفساً.

يأخذنا فيلم "كوستا برافا" إلى داخل أبطاله خلال رحلتهم الذهنية لاتخاذ هذا القرار إزاء غربتهم الاختيارية، فنرى الأحداث تارة من وجهة نظر الأب وقام بدوره صالح بكري، الذي لا يستطيع حتى الذهاب إلى بيروت لرفع قضية على الحكومة، بل يضطر إلى مقابلة صديقة على حافة المدينة.

يشعر بالقلق طوال الوقت من أن تنتزع بيروت الجزء الوحيد الجيد في حياته وهو عائلته، وتجذبه بعيداً عن منزل الأحلام الذي بناه بنفسه، لا يستطيع الانغماس في اللحظة والاستمتاع بالحياة طالما يطارده هذا الهاجس، يفقد الرغبة في كل شيء، حتى العلاقة الجنسية مع زوجته.

على الجانب الآخر الزوجة "ثريا" (التي تقوم بدورها المخرجة والممثلة نادين لبكي) متعلقة بهذه الحياة لأنها تجمعها بزوجها فقط. تركت الغناء والأمل لتصبح رفيقته في رحلة شفائه من حب بيروت.

تشتاق للعودة ولو في زيارة سريعة للقيام بالأوراق الحكومية لرفع القضية، وعندما يرفض الزوج، تحاول تذكير نفسها بكل مكتسباتها بإلقاء نفسها في حوض السباحة الذي بنياه معاً، لكن لا حب بناتها ولا منزلها يعوضانها عن فقدانها لشخصيتها السابقة، ويختلط داخلها مزيج من الغضب والإشفاق على زوجها.

الابنة الصغرى لا تعرف من العالم سوى هذا المنزل وهذه الحياة، انتقل إليها الخوف عن طريق الأب، مصابة بالوسواس القهري، تحاول حماية عائلتها عبر تعاويذ سرية وأرقام تعدها حتى حد معين فتطمئن عليهم، وتزلزل عالمها بالصراع الضمني بين مفهومي كل من الأب والأم عن الحياة، فتختار البقاء في عالمها الآمن عن مغامرة العودة.

أما الكبرى، فهي جربت العالمين، المدينة الصاخبة بما يأتي معها من أزمات ومشاكل، والمنزل الآمن، لكنها جائعة إلى الحياة والجنس والحب. تحاول بدء علاقة مع المشرف على بناء المكب، مرتدية فستاناً لامرأة ناضجة، يبدو واسعاً عليها، فيظهرها أصغر وأكثر شباباً ويفضح خبرتها الضئيلة في الحياة، فيرفضها الشاب ويكسر قلبها، ويزداد غضبها تجاه الحياة التي اختارها لها الأب.

أما الجدة فهي لم تفقد الأمل فقط في بيروت، بل ترغب في مغادرة لبنان بالكامل. تحيا على حلم بأن تسافر إلى ابنتها، وتحاول مساعدة الابنة الكبرى، تتمرد على الحياة الصحية التي اختارها لها ابنها، وعندما تفقد القدرة على التغيير تعلن رفضها للعالم، وتقرر الموت.

تعتمد مونيا عقل في فيلمها "كوستا برافا" على قصة بسيطة للغاية، عائلة توضع أمام اختيارين أحلاهما مرّ، وشخصيات درامية تمتلك تاريخاً معقداً نتعرف عليه ضمنياً خلال الأحداث، والأهم، أداء تمثيلي ممتاز من ممثلين استطاعوا إضفاء أبعاد أخرى على شخصيتهم، خاصة صالح بكري ونادين لبكي في دوري البطولة، والأهم تصوير بيروت القريبة والبعيدة المنال في آن واحد، وقدمت عقل لنا من هذا الخليط قصيدة حب حزينة في حب المدينة.

 

####

 

أحلام لاعبي كرة قدم في مخيم اللجوء... "كباتن الزعتري"

آية ياسر

حين تندلع الحروب وتُدمّر الأوطان، ويضطر الإنسان للهرب من الموت والبطش والتنكيل، مودعاً بيته وأصحابه، حاملاً معه ذكرياته وأحلامه المؤجلة ومن تبقى من ذويه إلى مصير مجهول؛ غالباً ما ينتهي به الأمر سجين أسوار وأسلاك شائكة داخل مخيمات اللاجئين، وسط ظروف إنسانية متردية وبائسة، وتمر الشهور والسنوات بطيئة رتيبة لا يجد فيها سلوى سوى الأحلام التي ما تلبث أن تخفت وتبتعد شيئاً فشيئاً، كلما مرّ الوقت وازدادت العقبات صعوبة وتعقيداً.

وفقاً لتقرير للأمم المتحدة فإن أكثر من 5.6 مليون شخص فرّوا من سوريا منذ عام 2011، منهم ما يزيد من 5.5 مليون لاجئ مسجل في الدول المجاورة لسوريا أو بلدان أخرى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حتى 10 فبراير/ شباط الماضي، ويعيش 1.8 مليون شخص في المخيمات والمستوطنات العشوائية، أغلبهم من النساء والأطفال بنسبة تقدّر بـ 66%.

يغوص الفيلم الوثائقي الطويل "كباتن الزعتري" للمخرج المصري علي العربي، في عمق مأساة اللاجئين السوريين ويبحر في أحلامهم وآمالهم، منطلقاً من زاوية جديدة لم تتطرق إليها السينما العربية من قبل؛ حيث يأخذ المُشاهد في رحلة رياضية تروي لنا قصة إنسانية عن لاجئين سوريين كانا يحلمان باحتراف كرة القدم والانضمام إلى منتخب سوريا للناشئين، وهما يعيشان الآن في مخيم الزعتري بالأردن، فتكاد الظروف غير الإنسانية أن تحول بينهما وبين شغفهما، غير أن حلمهما يصبح قريباً جداً عندما تقوم أكاديمية رياضية مشهورة عالمياً بزيارة المخيم.

يحكي "كباتن الزعتري"، الذي عُرض في مهرجان الجونة السينمائي بمصر، ضمن فئة المسابقة الوثائقية الخاصة بالميزات، بدعم من مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، قصة حقيقية عن شابين سوريين هما محمود داغر وفوزي رضوان قطليش، لاعبا كرة القدم، اللذان نزحا مع عائلتيهما هرباً من قصف طائرات النظام السوري، فارّين إلى مخيم الزعتري في المملكة الأردنية.

وعلى مدار ساعة وعشرين دقيقة، يأخذنا الفيلم التسجيلي الذي اختار مخرجه، أن يصبغه بالطابع الروائي عبر كثرة المشاهد والجمل والحوارات، إلى المخيم لينقل لنا حياة بطليه على مدار سبع سنوات، في ظل معاناة إنسانية مع غيرهما من اللاجئين، كاشفاً النقاب عن الكثير من التحديات التي يواجهها البطلان، لكن نوراً ينبعث من قلب الظلمة، حين تصل إلى المخيم زيارة لوفد من أكاديمية التفوق الرياضي "أسباير"، ثم تكتشف مهاراتهما؛ فتنقلهما من حياة المخيمات إلى دولة قطر لتحقيق أحلامهما في احتراف كرة القدم، وحتى تجاوزهما لسن المراهقة ووصولهما إلى عمر الشباب، ويسدل الستار على أحداث الفيلم في نهاية تعكس انتصار الأمل.

ماذا للعالم كلّه أن يتعلّم من محمود وفوزي، الشابين السوريين، لاعبي كرة القدم اللذين نزحا من سوريا إلى مخيم الزعتري في الأردن؟ فيلم "كباتن الزعتري" سيزعزع كل ما نعرفه عن قصص اللجوء 

يحكي "كباتن الزعتري"، الذي عُرض في مهرجان الجونة السينمائي بمصر، قصة حقيقية عن شابين سوريين هما محمود داغر وفوزي رضوان قطليش، لاعبا كرة القدم، اللذان نزحا مع عائلتيهما هرباً من الحرب، فارّين إلى مخيم الزعتري في المملكة الأردنية

استطاع الفيلم التسجيلي الذي تم عرضه في أكثر من 82 مهرجان دولي، أن يحظى بإشادات واسعة من نقاد الفن، كما فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل فيلم عالمي وثائقي طويل في مهرجان "هوت سبرينجز"، المؤهل لترشيحات جائزة الأوسكار، وذلك قبيل عرضه في دور السينما بمدينتي لوس أنجلوس ونيويورك الأمريكيتين، وسيكون متاحاً للجمهور الأميركي بدءاً من 19 نوفمبر الجاري، ليكون الفيلم العربي الأول الذي يحقق ذلك، وفقاً لمجلة "فرايتي" العالمية المختصة بشؤون السينما العالمية.

وسبق لفيلم "كباتن الزعتري" أن ترشح لأكثر من 15 جائزة دولية، كما حصل على المركز الثاني ضمن قائمة أفضل أفلام في مهرجان "صاندانس" السينمائي الدولي، وعرض العمل سابقاً في مهرجان سياتل السينمائي الدولي في دورته الـ47، وشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان سان فرانسيسكو بأميركا، ومهرجان موسكو ومهرجان بكوبنهاغن، كما حصد الفيلم عدة جوائز عند مشاركته في الدورة الثالثة ضمن القائمة القصيرة للأفلام في مرحلة ما بعد الإنتاج.

ما يحتاجه اللاجئ الفرصة وليس الشفقة

"السادة الحاضرون، اخلقوا الفرص لجميع اللاجئين حول العالم، كل ما يحتاجه اللاجئ هي الفرصة وليست الشفقة"، هكذا يقول محمود داغر، أحد أبطال فيلم "كباتن الزعتري"، بعبارات مختصرة تعبّر عن لسان حال كل لاجئ.

ويحكي محمود كيف نزح مع أسرته من مدينة درعا السورية، قبل نحو عشر سنوات، هرباً من قصف طائرات النظام، بينما كان لايزال ابن 13 ربيعاً، ولجأ مع عائلته إلى الحدود الأردنية لينتهي بهم الأمر بالمكوث في مخيم الزعتري.

وحول ملابسات تصوير الفيلم يقول لرصيف22: "بينما كنا نمارس حياتنا اليومية في المخيم أنا وصديقي فوزي ونلعب الكرة ونتحدى بعضنا البعض، رأينا وفداً يزور المخيم ومعهم كاميرات ومعدات تصوير، ثم بدأوا بطرح الأسئلة علينا حول حياتنا وأهدافنا وأحلامنا، فأجبنا أنا وفوزي بأننا نحلم بأن نصبح جزءاً من العالم ونخرج من المخيم، ما أثار شغف المخرج علي العربي، ودفعه للتصوير معنا على مدار سبع سنوات".

ويكشف بطل الفيلم ولاعب كرة القدم السوري عن أن كثير من لقطات "كباتن الزعتري"، جرى تصويرها بشكل عفوي دون أن يعلم أبطاله بوجود الكاميرات من حولهم، ولا سيما أثناء المباريات والتدريبات.

استطاع الفيلم "كباتن الزعتري" الذي تم عرضه في أكثر من 82 مهرجان دولي، أن يحظى بإشادات واسعة من نقاد الفن، كما فاز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل فيلم عالمي وثائقي طويل في مهرجان "هوت سبرينجز"، المؤهل لترشيحات جائزة الأوسكار

ويؤكد داغر فرحة أهالي المخيم الكبيرة بالفيلم والنجاح الذي حققه، مشيراً إلى أنه بعث بالأمل في نفوس اللاجئين، ولاسيما لاعبي كرة القدم الشباب والأطفال، رغبة منهم في الحصول على فرصة مشابهة لما جرى مع بطلي الفيلم، حين اكتشفتهما أكاديمية "أسباير" وجعلتهما يشاركان في دوري لكرة القدم داخل المخيم، قبل أن يلعبا في قطر ضمن فريق لها في مباريات رسمية مذاعة على التليفزيون.

يحلم بطل الفيلم بالحصول على منحة دراسية في أي دولة، ليتمكن من استكمال تعليمه، ويتمنى احتراف كرة القدم بأحد الأندية العربية أو الأوروبية، ويدعو كل لاجئ لأن يتشبث بالحلم ولا يتخلى عنه.

فيما تتشابه قصة لجوء البطل الآخر للفيلم، فوزي رضوان قطليش، إلى مخيم الزعتري مع قصة صديقه محمود؛ حيث يحكي لـرصيف 22 كيف خرج مع عائلته من سوريا في سابع أيام شهر رمضان عام 2012، وهو ابن 14 عاماً، هرباً من القصف اليومي للمدنيين قبيل موعد الإفطار، متوجهين إلى الشريط الحدودي مع الأردن دون تخطيط مسبق، ليجدوا أنفسهم داخل خيمة ضخمة مع عائلات سورية أخرى بمخيم الزعتري، لافتاً لمعاناة الأهالي هناك من الانقطاع المتكرر للماء والتيار الكهربائي.

ويشير قطليش إلى أن تصوير الفيلم لم يكن مخططاً له في البداية، وأنه استغرق سبع سنوات، وسط انقطاعات وزيارات متكررة من مخرجه للمخيم، لافتاً لكون أبطاله لم يتوقعوا النجاح الكبير الذي حققه، لكنهم كانوا بحاجة للأمل وتشبثوا به.

سور المُخيم يحول بينهم وبين أحلامهم

وفي حديثها لنا، تؤكد آية دوارة، واحدة من منتجي فيلم "كباتن الزعتري"، أن العقبة الرئيسية التي واجهت صُناع الفيلم هي ضخامة الميزانية التي يحتاجها لإنتاجه وطول مدة التصوير، بجانب صعوبات الطريق من مصر إلى المخيم، ورغبة مخرجه ومنتجيه بالابتعاد عن الشق السياسي لقضية اللاجئين والأزمة السورية، لصالح التركيز على الجانب الإنساني وفكرة الحلم والأمل، عبر قصة صديقين يعيشان بمخيم الزعتري ويمتلكان أحلاماً، لكن فرصهم شحيحة جداً بالمقارنة مع غيرهم من خارج المخيم.

وهناك سور يحول بينهم وبين أحلامهم، وهناك الكثير من اللاجئين حول العالم تتشابه قصصهم مع بطلينا ويحتاجون للفرصة، مشيرة إلى أن المخرج كان معنياً بالقضية أكثر من كونه كان معنياً بصناعة الفيلم، وهو ما دفع فريق العمل للتكاتف معه لتحقيق حلمه لإنتاج العمل على مدار سبع سنوات وإخراجه للنور، دون أن يتملك منهم اليأس أو يفقدوا شغفهم.

"السادة الحاضرون، اخلقوا الفرص لجميع اللاجئين حول العالم، كل ما يحتاجه اللاجئ هي الفرصة وليست الشفقة"، هكذا يقول محمود داغر، أحد أبطال فيلم "كباتن الزعتري"، بعبارات مختصرة تعبّر عن لسان حال كل لاجئ

وتبدي دوارة سعادتها بإشادة لجنة التحكيم الخاصة لأفضل فيلم عالمي وثائقي طويل في مهرجان "هوت سبرينجز" المؤهل لترشيحات الأوسكار بفيلم "كباتن الزعتري"، لافتة إلى أن مجرد مشاركته في مهرجان "صاندانس" السينمائي الدولي كان حلماً لها، لكونه من أكبر مهرجانات السينما المستقلة والأفلام الوثائقية، وندرة المشاركات العربية به، مؤكدة على أن الفيلم جاب العديد من المهرجانات حول العالم، عن بعد عبر الإنترنت، غير أن مشاركته في مهرجان الجونة السينمائي كانت الأولى جماهيرياً، وقد حظي بقبول واحتفاء كبير.

اللاجئ إنسان من حقه أن تكون له أحلام

وحول فيلم "كباتن الزعتري" تؤكد الناقدة الفنية فايزة هنداو" لرصيف22 أن تسليط السينما للضوء على اللاجئين هي فكرة بالغة الأهمية، ومن الرائع أن يهتم مخرج بذلك، لأن قضيتهم مأساة متحركة على مستوى العالم كله تقريباً، ولا سيما حين يتعلق الأمر بسوريا ومأساتها المستمرة منذ سنوات طويلة، والتي دفعت بجزء كبير من شعبها ليكونوا لاجئين في بعض الدول العربية أو في المخيمات ومنها مخيم الزعتري.

وتشيد الناقدة بالفكرة التي قدمها الفيلم، وهي أن اللاجئ إنسان من حقه أن تكون له أحلام يحققها، ما دام يسعى ويجتهد، وليس فقط أن يأكل ويشرب، وهذا ما حدث مع بطلي "كباتن الزعتري"، لكنها تنتقد كثرة مشاهد مباريات وتدريبات كرة القدم، التي ربما لن يحبها الجمهور الذي يفتقر للشغف بالكرة، معتبرة أن الأفضل أن يحل الجانب الإنساني والاجتماعي محلها لتحقيق التعاطف، لافتة إلى أن الأمر في النهاية يعتمد على وجهة نظر مخرج الفيلم.

وتوضح هنداوي أنه رغم عدم وجود أفلام من إنتاج سوريا في مهرجان الجونة السينمائي، إلا أن الأزمة السورية حاضرة بقوة في الدورة الخامسة من المهرجان، من خلال ثلاثة أفلام هي: "ماما أنا هنا في المنزل"، وهو فيلم روائي روسي طويل، مشارك في قسم "الاختيار الرسمي خارج المسابقة".

الفيلم يدور حول تونيا التي تعمل سائقة حافلة وتعيش في بلدة صغيرة في روسيا مع ابنتها الكبيرة وحفيدها الصغير، وبينما تنتظر تونيا عودة ابنها الأصغر البالغ من العمر 18 عاماً، بعدما سافر إلى سوريا منضماً لشركة خاصة من شركات الحرب التي تستخدم المرتزقة، يأتيها خبر مقتله في هجوم مسلح، مع عدم التمكن من استعادة جثمانه الذي تحول إلى أشلاء. والفيلم بطولة وإخراج فلاديمير بيتوكوف في ثاني أفلامه الروائية الطويلة.

أما الفيلم الثاني فهو "كباتن الزعتري" للمخرج المصري، علي العربي، أما الفيلم الثالث والموجع هو "سبايا"، للمخرج الكردي هوجير هيروري.

الفيلم مشارك في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة وهو يستعرض عملية إنقاذ الفتيات اليزيديات، التي تم أسرهن من قبل القوات الداعشية، في مخيم الهول شمال سوريا ، وما زال هناك 2000 يزيدية مفقودة.

وتحكي الفتيات اليزيديات في الفيلم، عن ما تعرضن له من استعباد واغتصاب جنسي، وضرب وإهانة، وحرمان من أطفالهن الذين ولدوا لآباء من قوات داعش، والفيلم حصل على جائزة أفضل مخرج لفيلم وثائقي في مهرجان صاندانس السينمائي.

بينما ترى الناقدة الفنية والكاتبة صفاء الليثي أن مادة فيلم "كباتن الزعتري"، باستثناء مباراة كرة القدم ومتابعتها من أهل بطلي الفيلم في مخيم الزعتري، هي مادة غير غنية وأن مشاهد الفيلم تبدو وكأنها مُعدّة سلفاً، مشيرة إلى وجود مشكلة تقنية بالصوت في بعض الأجزاء منه، ما جعل الحوار غير واضح، كما أن هناك تطويل مُبالغ به في مشاهد تدريبات كرة القدم.

ورغم توجيهها لانتقادات لمخرج الفيلم إلاّ أن الليثي تشيد بقيامه بالتركيز على حياة الشابين وتتبع مسيرتهما على مدار سنوات، لكنها تتساءل لماذا انقطع خط الصبية الذي بدأ بأول مشهد في الفيلم؟

وتوضح الناقدة أنه في نهاية عرض فيلم " كباتن الزعتري " بمهرجان الجونة السينمائي، تحدث المخرج علي العربي عن تحديات كثيرة واجهت فريق الفيلم لتصوير الشباب السوري في المخيم، وتدريجياً تمكنوا من الحديث بتلقائية للكاميرا، وأنه تم التصوير بأكبر عدد من الكاميرات، وتم تصوير 700 ساعة اختاروا منها في المونتاج، وهي المشاهد التي شاهدها الجمهور بالفيلم.

 

موقع "رصيف 22" في

01.11.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004