ملفات خاصة

 
 
 

أفلام قصيرة في "أسبوع النقّاد": جمال اشتغالات وحلاوة كتابة

قيس قاسم

كان السينمائي الدولي

الدورة الرابعة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

هل يتوافق فوز فيلمين قصيرين، يبحثان عن المرأة، ويعاينان أحوالها في بيئات اجتماعية مختلفة، بجائزتي النسخة الـ60 لـ"أسبوع النقّاد"، في الدورة الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) لمهرجان "كانّ" السينمائي، مع نزعة "أنثوية"، تتوسّع في المشهد السينمائي العالمي، وتتبنّاها اليوم مهرجانات عالمية؟

في مُشاهدة الأفلام القصيرة، أو بعض آخر معروض في الأسبوع نفسه، يكمن جوابٌ ليس بالضرورة شافياً أو حاسماً على ذاك السؤال، المعني في جوهره بتفاصيل المشهد السينمائي. مُنطلقه غير نابع من "انحياز ذكوري"، وفق الدعوة المُطالِبة بكسر هيمنة الرجل على المشهد السينمائي، وإتاحة فرص أكبر لـ"سينما المرأة".

هذا يحدث عملياً اليوم. مهرجانات سينمائية مهمّة تخصّص أقساماً جانبية للمخرجات، وتعطي مساحةً أكبر لأفلامٍ تعالج أحوال المرأة وترصدها، في جغرافيات وظروف تاريخية واجتماعية متباينة. حقل النقد يميل إلى الابتعاد قليلاً عن محيط تلك الأسئلة. يعاين المنجز السينمائي من داخله، والحاسم في تقييمه يركن إلى جمال الاشتغال السينمائي فيه، وإلى تفرّده. فيلم اليوناني مانوليس مافريس (1987)، "بروتاليا، أيام العمال" (2021، 26 د.) ـ الفائز بجائزة "كانال بلوس للفيلم القصير"، يكسر قاعدة "ثنائية الرجل والمرأة". فيه من الجمال ما يدعو إلى التأمّل في نوع الفيلم القصير، الكامن فيه من قدرات على معالجة أفكار وموضوعات تتجاوز مواصفات "الومضة الخاطفة" و"الميلودراميات المُكثَّفة". يأخذ من حياة النحل مثلاً، يقترح تطبيقه على نموذج بشري تسيطر فيه "الملكة" على "العاملات"، وتستغلّ قوة عملهنّ لتعزيز سيطرتها على مملكة يسودها قهر، يتساوى توزيعه بين الرجل والمرأة. كأنّه، في كتابته مشهد خلية النحل البشرية، يستعيد تاريخاً من مرحلة مرّت بها البشرية، وهيمنت فيها المرأة على السلطة، وترأّست مراكز قراره.

لا يقترح قراءة تاريخية وتحليلية لها، بل ينحو إلى معاينة وضع الكائن البشري فيها، والمقارِب لوضع الطبقة العاملة والمرأة في عصرنا. نساؤه العاملات يرتدن زيّاً موحداً، ويظهرن في حقول العمل كأنهنّ آلات (روبوتات)، يقمن بعملهنّ من دون توقّف. وعندما تموت الملكة، يختار ذكور السلطة واحدة منهنّ لتحمل في أحشائها الملكة البديلة. مشهد موت ملكة، واختيار نحلة لتُنجب بديلتها، مُرعبٌ في تصويره وتجسيده العنف الذكوري، المُمارَس لحظة تلقيحها. وبالقدر نفسه، تظهر قسوة العاملات لحظة ظهور علامات ضعف وهزال جسد واحدة من زميلاتهنّ، يقتضي منهنّ ـ وفق قانون "الحفاظ على النوع" ـ قتلها. لا مكان للضعيف في مجتمع قاسٍ لا يرحم. مشهد قتل النحلة المريضة لا يقلّ بشاعة عن اغتصاب النحلة "الحاملة للملكة". لن يدوم الحال، إذْ تنتفض عاملة شجاعة على واقعها، وتحرق المملكة بأسرها.

في الفيلم السويسري "على أرضية صلبة" (2021، 12 د.)، لم تمنح مخرجته وكاتبة نصّه جيلا هاسلر (1986) بطلتها أيلي (الممثلة البارعة صوفيا إلينا بورساني ـ 1991) شرف حرق مدينتها، وتخليصها من حصار يحيط بها ويُضيّق مساحات حريتها. تركتها مشحونة بغضبها، عاجزة عن إيجاد فكاك من كَرَبٍ يُلازم يومها، ويتصاعد مع كلّ خطوة تخطوها. حصارها مزدوج، اجتماعي وذكوري، والتفاصيل ـ الملتقطة ليومٍ واحد من حياتها ـ يتجسّد سينمائياً باشتغالٍ يرتقي إلى مستوى أفلام أوروبية مهمّة، تتمدّد معالجتها من الفرديّ البسيط إلى العام المُعقّد.

المشهد الأوروبي منقول بتفاصيل دقيقة، يُحيل اضطراب المرأة إلى محيط ضاغط عليها، وأكبر منها. يشكّك عنوان الفيلم (على أرضية صلبة) في قدرة بطلته على مواجهته بقوّة تماسكها الداخلي وشجاعتها. مواجهاتها اليومية تتلقّفها عدسات الكاميرا، ثم يعيد التوليف (فلوريان جيسلر) جمعها، ليوسّع بها المشهد اليومي الضاغط على امرأة "أوروبية"، التدخّل الفظّ في حياتها الخاصة يأتي من كل مكان: من رجل يطالبها بالخروج من النهر الذي تسبح فيه وسط المدينة، لأنّه "ليس حمّاماً خاصاً بها"؛ وفي الباص العمومي، يضغط مراهقون على زميلات لهم لفعل أشياء يرفضن القيام بها، فتتدخّل المرأة لوقفها بغضب؛ وفي الطريق، يسخر منها شبابٌ ويهاجمونها، لحملها على كتفها دراجة هوائية وهي تسير على حافة طريق سريعة؛ وفي البيت المشترك، تطلب منها شابّة مُقيمة معها أنْ تتوقّف عن سماع أغنيتها بصوت عالٍ.

بالصراخ المتفجّر، تُعبِّر عن غضبها ورغبتها في التخلّص من حصار خانق. زمن الحصار الأوروبي للمرأة مُكثّف، ومنقول بعدسات كاميرا محمولة (أندي فيدمر) أغلب الوقت، تقترب من امرأة سويسرية، تقف على أرضٍ أوروبية هشّة. لا مُقارنة بين أحوال الصينية والأوروبية. ذلك ما تكشفه قصّة "ليلي"، من منطقة "سيتشوان" البعيدة. شقاء عيشها متأتٍ من زواجها برجل مدمن على القمار، ومن عجزها عن مساعدة والدها المريض. قلّة الخيارات المتوفّرة لمساعدته لا تترك لها إلّا فرصة النزول إلى أقرب مدينة كبيرة لقريتها، تؤجّر رحمها لأثرياء جدد فيها، أفرزهم تطوّر الصين الرأسمالية.

"ليلي وحدها" (2021، 22 د.)، الفائز بـ"جائزة ليتز للاكتشاف السينمائي"، موجع في تجسيده الوحشة التي تعيش فيها قروية (أداء رائع للممثلة لينغ هو)، تضع جسدها مُضّطرة تحت تصرّف أطباء، يبدون لها كأنّهم أسياد عالم غامض، يُعاملون الصينيات بين جدرانه ناصعة البياض مُعاملة مكائن بشرية، لا روح فيها.

تعلن الصينية زو جينغ (1984)، في منجزها القصير الأول، عن حيف يطالهنّ، وقهر يلازم عيشهنّ في ظلّ ذكورية آسيوية شديدة القسوة. لا تُبطل معالجتها السينمائية في إطار ثنائية "المرأة والرجل" جدوى إعلان مقارعتها انتهاكاً اجتماعياً مُنظّماً، رؤيته على الشاشة يسرِّب وجعاً وقهراً، رغم كثرة ما فيه من جمال.

جمال الاشتغال السينمائي، الجامع بين الأفلام التي تناولت حال المرأة، وحلاوة كتابتها، ربما تكون أسباباً لطغيان حضورها، وفوزها بغالبية جوائز "أسبوع النقّاد 2021".

 

العربي الجديد اللندنية في

20.08.2021

 
 
 
 
 

سعفة "كانّ" لـ"تيتان" دوكورنو: غموضٌ في الكتابة لكنّ الأداء رائعٌ

باريس/ ندى الأزهري

اقتحمت الوحوش، وأيّ وحوش، مهرجان "كانّ". من دون مهادنة، وبعيداً عن أنصاف المواقف والمعايير، وعن العادي والمألوف، قدّمت الفرنسية جوليا دوكورنو "تيتان" فيلمها الطويل الثاني، بعد "خَطِر (Grave)، المُنجز عام 2016. هذا كابوس بالأحرى، لاحقها بإصرار وعناد، وفيه تلدُ قطعاً معدنية، وأجزاءً من سيارة. من هنا، كانت البداية. الكابوس تطوّر، فأصبح بكتابتها قصّةَ شابّةٍ، يُميّزها أثرٌ لا يُمحى فوق أذنها اليمنى. قضبان معدن صلب ذي قوّة خارقة، مُقاوم للصدأ والتآكل: الـ"تيتانيوم". شابّة ذات ميول إجرامية، وأفعال جهنميّة، لا رادع يوقفها، ولا ندم يساورها.

"تيتان" ـ الفائز بـ"السعفة الذهبية" لمهرجان "كانّ" السينمائي، في دورته الـ74 (6 ـ 17 يوليو/ تموز 2021) ـ ممنوعٌ حضوره لمن هم دون 16 عاماً. هكذا كان حال الفيلم الأول لدوكورنو، الذي تنازعته في ما يبدو أقسام مهرجان "كانّ" حينها، ثمّ قرّرت المخرجة عرضه في "أسبوع النقّاد"، إخلاصاً منها لقسمٍ عرض فيلماً قصيراً لها بعنوان "جونيور (الصغير)" عام 2011.

جوليا دوكورنو مخلصةٌ أيضاً لمواضيعها الأثيرة. في أفلامها الثلاثة (القصير والطويلين)، تقترح عالماً مُتفرّداً، تطرأ فيه على أجساد شخصياتها الرئيسية (تكون دائماً نساء في مراحل عمرية مختلفة) تحوّلات غريبة، يتبعها ظهور ميول وحشية. في "جونيور"، يصبح جسد المُراهقة جوستين، الملقّبة بجونيور (13 عاماً) مسرحاً لتحوّلٍ غريبٍ، بعد تشخيص إصابتها بالتهاب المعدة والأمعاء. جوستين أيضاً، لكنّها هذه المرة شابّة في "خَطِر"، تكتشف في سنتها الجامعية الأولى طبيعتها الحقيقية كـ"إنسانة" نهمة لأكل لحوم البشر، هي التي كانت نباتية. ويسبر "تيتان" تحوّلات (أيضاً) شيطانية لامرأة غامضة، أشبه بكائن هجين، بين ذكر وأنثى شكلاً، وإنسان وحيوان سلوكاً.

مواضيع دوكورنو تُقسِم الجمهور بين مُعجب كبير وكاره شديد، وبين مُتقزّز يغادر الصالة قبل نهاية الفيلم، أو متابع له وهو يغضّ النظر عن مَشاهد عدّة فيه، أو مُتحمّس يُطالب بالمزيد من مخرجة ترفد السينما الفرنسية بشيءٍ جديد، لا يمكن بالتأكيد نعته بالطزاجة، لأنّه أبعد ما يكون عنها، بل بانحراف جريء عن مسارات مألوفة لهذه السينما.

من لقطته الأولى، يتجلّى ابتكار "تيتان" فرنسياً. يقترب أكثر من سينما أميركية؛ كوانتين تارانتينو مثلاً، أو الكندي ديفيد كروننبرغ، أفضل من صَوّر الجوانب التحليلية النفسية للتحوّل، كما تقول دوكورنو نفسها. لا تخفي إعجابها الكبير بهذا المخرج، الذي تمتلئ أفلامه بأجسادٍ كثيرة مُشوّهة ومجروحة. هناك مراجع سينمائية عالمية عدّة لها، كما رصدها النقد الفرنسي. لكنّ هذا كلّه لا يعني تقليداً. ربما يكون مستوحى، لكنّه لا ينزع عن المُستوحى شخصيته، بل على العكس، فهي تمكّنت ـ في كلّ مشهد ولقطة ـ من إثبات حضورها وأسلوبها الخاصّين، في فيلمٍ لا يُروى. المخرجة نفسها قالت إنّه يصعب التحدّث عنه.

اللقطة الأولى: طفلة في مقعد خلفي في سيارة، ترفس مقعد والدها السائق بعناد وعدوانية مدهشة، يظهران في فعلتها ونظرتها الشرسة، كأنّ شيطاناً ركبها. بسببها، يرتكب الأب حادثاً، لا تخرج منه سليمة، جسدياً وعقلياً. استُخدمت زرعات من الـ"تيتانيوم" لتعويض عظامها المكسورة وتثبيتها، ولإعادتها إلى طبيعتها. غُرست براغٍ في جمجمتها وخلف أذنها، لتحسين الصمم الذي أصيبت به. هذا كلّه موضّحٌ بفجاجة في مشاهد عنيفة للغاية، تُنتج رأساً صغيرة، سجينة قضبان المعدن.

منذ ذلك الحين، تحمل ألكسيا هذا الجرح، ومعه تقرّر طرقها الخاصة في التعبير عن مكنوناتها العدوانية والإجرامية، في صمتٍ شبه دائم. عندما أصبحت شابّة (أغات روسِّل)، عملت في مهنةٍ تعتمد الجسد ودلالاته: راقصة تعرٍّ صامتة وغامضة، ذات مظهر وحشي، ومحميّة بهذا المعدن الصلب المغروز فيها. لا تبريرات لدوافعها وأفعالها. مُغرمة، لأسباب مبهمة، بالقتل المتسلسل، وبالدم. الجنس وسيلتها لتحقيق شهواتها الإجرامية، إلى أنْ تضعها الظروف في طريق فنسان (فنسان ليندون)، رجل إطفاء بائس ويائس، يجسّد فيها ابنه المفقود، وتتعرّف عبره على شيءٍ اسمه العاطفة.

هناك نقاطٌ عدّة غامضة وواهنة في الكتابة السينمائية (سيناريو دوكورونو): تَحوّل الفتاة، وهذا العنف كلّه الذي تحتويه؛ غموض شخصيتها منذ الصغر، كما يظهر من المشهد الأول؛ العلاقة الملتبسة مع الأب. هذا كلّه لا يُقدّم له السيناريو تفسيراً واضحاً. في مشاهد تالية، هناك أشياء أخرى أكثر غرابة، لكنّها تُقْبَل في نوعٍ سينمائي كهذا: حَمْلُ أليكسيا (من سيارة؟) مثلاً، أو نزيفها شحوماً معدنية. يصعب التكهّن، وربما لا يلزم ذلك في هذا النوع، الذي يُنسي أحيانا "منطقية" المحتوى. مكمن قوته في التنفيذ، وفي الأسلوب الإخراجي، وفي هذا الاهتمام المُركّز على الجسد، ليس باقتصاره على المعنى الجنسي من شهوة وملذات، بل حركته وردود أفعاله، من تجاوب ونفور، وجماله وقوّته وضعفه.

الجسد كتجسيدٍ لمشاعر، عدوانية وعنيفة وهازئة، أو مُحبّة. هناك أيضاً هذا الأسلوب في التعامل مع الآلة ككائن، وتجسيد هذه الرؤية العنيفة للعالم في نظرة سوداوية، لا تخلو من دعابة أحياناً، وتترك مساحة ضئيلة للحبّ.

اعتمد الإخراج كثيراً على الموسيقى والإضاءة والتصوير، وعلى أداء الشخصيات. فانسان ليندون في أحد أفضل أدواره وأكثرها غرابة، وآغات روسِّل مُدهشة في شخصية ألِكسيا، ولها فضل كبير في جذب الانتباه. اختارتها المخرجة كوجه جديد، لتكون كاملة الإقناع بسلوكها، فيرى المُشاهد فيها شخصية ألكسيا، لا أحد آخر رآه سابقاً في شخصية أخرى. ألكسيا المسكونة بشياطينها، قبل أن تبدأ تحوّلاً جديداً أبدياً مع تقرّبها من فانسان.

ربما لا نكون من هواة النوع. لكنْ، لا بُدّ من أنْ نؤخذ بـ"تيتان"، الذي يستحقّ جائزة ما، ربما لا تكون الأولى.

 

العربي الجديد اللندنية في

23.08.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004