ملفات خاصة

 
 

فقدنا عظيما

كتب أعد الملف: شيماء سليم -هبة محمد على

عن رحيل كاتب السيناريو

وحيد حامد

   
 
 
 
 
 
 

كَمْ هو مؤلم أن تشهد نفس الصفحات التى كانت تمتلئ منذ أعداد قليلة سابقة، بأطول حوار مع أهم مبدعينا وأعظم كُتّابنا، «وحيد حامد»، بمقالات تودعه الآن بعد رحيله.. مقالات اخترنا أن تعيد قراءة بعض من إبداعاته السينمائية والتليفزيونية، مقالات كتبها من عمل معه من كبار المخرجين ومن تأثر به من شباب كُتّابنا الذين يحملون من الجدية والموهبة ما يجعلنا نشعر بقبس من التفاؤل فى أن الأجيال التى تربت على يديه وتعلمت من أعمال هذا الرائع، سوف تستمر على دربه وتسير على خطاه دون تقليد أو تقييد.. مقالات كتب فيها أيضًا بعض من أبناء «روزاليوسف» الذين عاصروا معارك هذا الكاتب الكبير وشهدوا على العروض الأولى لمعظم أعماله وكتبوا عنها وعنه وحاوروه على صفحات مجلتنا.

«روزاليوسف» لن تكتفى بملف واحد، فإبداعات «وحيد حامد» مستمرة باستمرار عرضها، والكتابة عنه لن تتوقف برحيله؛ بل ستبقى وسيظل بيننا هذا الحالم المشاكس، الطيب الشرس، الهادئ العنيد.. «وحيد حامد» إلى لقاء قريب على صفحات «روزا» نكتشف فيه المزيد عنك وعن كنوزك الباقية إلى الأبد

 

####

 

عصام زكريا يكتب:

ملف فى الآداب.. الواقعية فى أبهى صورها

(ملف فى الآداب) واحد من أفلام «وحيد حامد» المبكرة، عرض فى بداية 1986، من إنتاجه وتأليفه وإخراج «عاطف الطيب» فى ثانى تعاون بينهما بعد (التخشيبة) الذى عرض فى العام السابق، وقبل (البرىء) الذى عرض بعد (ملف فى الآداب) بأسابيع قليلة. والأفلام الثلاثة تتناول سلبيات القوانين والممارسات الأمنية ضد المواطنين الأبرياء، وهو ما يبين أن موضوع علاقة السلطة بالمواطن كان همًا قديمًا دائمًا يشغل بال «وحيد حامد»، ومن الطريف أن «وحيد حامد» اتهم، من بين الاتهامات العديدة التى تعرض لها، بأنه يصنع أعمالاً تجمل صورة الداخلية والأجهزة الأمنية، وهذه الاتهامات ترددت بأشكال مختلفة عقب عرض أفلام (اللعب مع الكبار، الإرهاب والكباب، وطيور الظلام).

ومع أننا نستطيع أن نقول إن «وحيد حامد» استطاع أن يراوغ الرقابة والسلطة بدهاء نادر، متجنبًا الصدام الذى يمكن أن يدمر المبدع، وقادرًا على تمرير رأيه ونقده بحيل درامية فنية، إلا أن هذا لا يعنى أنه كان يكتب لصالح السلطة أو لأى جهة أخرى.

على النقيض من فيلم (البرىء)، أو أفلامه اللاحقة التى تتناول قهر السلطة والفساد السياسى والفوارق الطبقية بشكل مباشر، فإن (ملف فى الآداب) فيلم هادئ النبرة، يهتم برصد الوقائع ورسم الشخصيات وتصوير عالم وسط البلد والطبقة الوسطى، وهو فيلم يحمل بعضًا من آثار الواقعية الجديدة فى إيطاليا الخمسينيات التى تعتمد على التصوير فى الشوارع والبيوت العادية والاهتمام بتفاصيل الحياة اليومية وقلة استخدام الموسيقى التصويرية والمواقف الدرامية الصاخبة، كذلك يحمل آثار الواقعية الأوروبية فى السبعينيات، التى تستخدم البناء البوليسى التشويقى، والتصعيد المتدرج وصولاً إلى المأساة، كما نرى فى الفيلم الألمانى الشهير (شرف كاترينا بلوم الضائع) للمخرج «فولكر شلوندورف»، 1975.

فقط فى بداية الفيلم نرى الضابط «سعيد، صلاح السعدنى» فى شبابه يقوم بالقبض على شبكة آداب تتزعمها سيدة «واصلة» تقوم بتهديده والحط من شأنه، ويقوم رئيسه بالدفاع عنها ويطلب من «سعيد» الاعتذار لها، ثم يقوم بحفظ القضية، وهو ما يترك فى نفس «سعيد» جرحًا لا يندمل، يفقد معه حس العدالة ويصبح متسلطًا قاسيًا لا يتورع عن تلفيق القضايا وظلم المواطنين الأبرياء، كما لو كان يقوم بإزاحة انتقامه من الذين ظلموه على هؤلاء الضعفاء.

فيما عدا هذا المشهد التمهيدى، الذى يمكن فهمه باعتباره إدانة لنظام يحمى كبار القوادين والعاهرات، أو باعتباره تبريرًا والتماس عذر لممارسات الضابط غير القانونية، يركز الفيلم على تفاصيل حياة شخصياته البسطاء، الموظفات الثلاثة فى المكاتب والشركات الخاصة وعيادات وسط البلد، «مديحة كامل وسلوى عثمان وألفت إمام»، والموظف كبير السن المتدين الطيب وأسرته، «فريد شوقى»، والموظف متوسط العمر الذى يبحث عن زوجة، «أحمد بدير»، وصديقه المرح «شوقى شامخ»، كذلك يرصد الفيلم طبيعة الحياة العامة فى وسط البلد، المحلات والمطاعم والعلاقات، والشخصيات الفاعلة مثل نادل المطعم «وحيد سيف»، القواد السابق الذى يواصل أعماله سرًا، بينما يعمل كمرشد للشرطة، يقوم بالإبلاغ عن بريئات للتمويه على العاهرات الحقيقيات.

فى زمنه كان (ملف فى الآداب) غير مسبوق فى تناوله لهذه العلاقات الشائكة بين جهاز الشرطة والمواطنين.. قبله كانت أفلام «الكرنك» تنتقد ممارسات نظام «عبدالناصر» الأمنى لصالح نظام «السادات»، «الديموقراطى». 

(ملف فى الآداب) كان يدور عن شىء آخر تمامًا هو وضع المواطن العادى المعرض للبطش والظلم وتلفيق التهم فى أى لحظة، وبدون أى منطق، وهو شعور لم يسبق أن عرضته السينما قبل أو بعد ثورة يوليو، ربما لأنه لم يكن موجودًا بهذا الشكل المخيف الذى نراه فى الفيلم والواقع، أو ربما لأن السينما لم تكن تدرك بعد أن بإمكانها أن تتحدث عن ذلك.

يدرك «عاطف الطيب» هذا الوضع الكابوسى للمواطن الذى تتآمر الأقدار ضده، ربما أكثر من أى مخرج مصرى آخر، ولكن شخصيات (ملف فى الآداب) تكاد تنبض بالحياة من فرط مصداقيتها، بفضل الكتابة الدقيقة للقصة والأحداث وتفاصيل الحياة والحوار، وبفضل اختيار «عاطف الطيب» الموفق لكل الممثلين وإدارته لهم لكى يؤدوا بسلاسة وطبيعية، وعينه اليقظة للتفاصيل داخل كل مشهد.. شخصيات تصدقها وتحبها وتجزع من أجل مأساتها وتعيش معك بعد الفيلم لسنوات طويلة.

(ملف فى الآداب) واحد من أكمل وأبهى الأفلام «الواقعية» فى تاريخ السينما المصرية.  

 

####

 

محمد عبدالعزيز يكتب:

انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط حرفية الكتابة فى التصور الكامل والتفاصيل

فى أوائل السبعينيات كان مطعم «night and day» الموجود فى فندق «سميراميس» الشهير ملتقى لكل المبدعين، كان يسهر معنا الكاتب «على سالم»، والمنتج «ممدوح الليثي»، الذى كان لا يزال ضابط شرطة وقتها، وكان يأتى إلينا ببدلته الميري، كما كانت السهرة تضم الدكتور «لويس عوض»، والشاعر «أحمد عبد المعطى حجازي»، والناقد الكبير «محمد عودة».. وفى أحد الأيام وجدت شابًا، يجلس وحده على طاولة بعيدة، ويضع أمامه عددًا من الصحف والمجلات يقرأ فى إحداها، سألت «على سالم» عن هويته، فقال لى إنه شاب موهوب يكتب للإذاعة والمسرح، واسمه «وحيد حامد» فطلبت منه أن يدعوه ليجلس معنا، لكن خجل «وحيد» منعه يومها من أن ينضم إلينا، فاعتذر، كان هذا يحدث بينما كان «وحيد» قادمًا من الريف حديثًا، قبل أن يضع قدمه فى السينما، ويصبح على علاقة بكل مبدعى عصره.

بعد هذا المشهد بسنوات طويلة، وتحديدًا فى أوائل الثمانينيات، عرض «وحيد» علىّ سيناريو فيلم (انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط) فى ظل رغبة «عادل إمام» أن يبتعد قليلًا عن الكوميديا، حتى يثبت أنه ممثل إبداعاته ليست مقصورة على لون واحد، ولم يكن السيناريو يحمل هذا الاسم فى البداية، وكنت صاحب مقترح تسميته بـ(انتخبوا الدكتور سليمان..) ولم أواجه منه أى اعتراض، وكعادة «وحيد» فى كل أفلامه لا يبذل المخرج أو البطل مجهودًا كبيرًا فى السيناريو الموقع بقلمه بعكس سيناريوهات أخرى لكتاب آخرين قد تستهلك سنوات حتى تصبح بالجودة المطلوبة.

حدثت بيننا جلسات استمرت شهرًا كاملًا فى منزل «عادل إمام» نذهب إليه يوميًا، لنقرأ مشاهد الفيلم جميعها، وليس مشاهد «عادل» فقط، ونستمع إلى «وحيد» ليحكى لنا تفاصيل كل كلمة مكتوبة لأى شخصية من شخصيات الفيلم، فقد كان فى ذهنه تصور كامل لكل شىء، حتى اكتمل العمل بشكل ارتضيناه جميعًا، وقد كان من أنجح الأفلام التى قدمها «عادل إمام» فى تلك الفترة، وبعدها حدث بينى وبين «وحيد» لقاء آخر فى فيلم (الثعلب والعنب) من بطولة «فؤاد المهندس» و«يونس شلبي» لكنه لم يحقق النجاح الذى حققه (انتخبوا الدكتور سليمان..) وقد سبب له هذا الأمر ضيقًا شديدًا، وبعدها قررنا أن نلتقى مرة ثالثة، فقدم لى سيناريو لفيلم يحمل اسم (المتهمة) وكان من أجمل السيناريوهات التى قرأتها، لكن ظروفًا حالت دون استكمال المشروع، فقدمه بدلًا منى المخرج الراحل «عاطف الطيب» تحت اسم (التخشيبة)، وإذا كانت لقاءاتنا السينمائية نادرة، فإن علاقتنا الإنسانية كانت قوية جدًا، وعندما كان ابنه «مروان» طالبًا عندى فى معهد السينما كان دائمًا ما يتصل بى ليطمئن على مستواه الدراسي

وفى إحدى رحلات بيروت التى كنا لا نفترق فيها أبدًا فوجئت به يحدثنى عن ابن شقيقتى المخرج «محمد ياسين» الذى كان وقتها لا يزال مساعد مخرج، ويقول لى إنه متحمس له جدًا، وأنه يريد أن يقدمه كمخرج، وأن عمله الأول سيكون من كتابته، وإنتاجه، فذهلنى هذا الحماس، وكان فيلم (محامى خلع) جواز مرور «ياسين» إلى عام الإخراج السينمائي، وبعده تعاونّا سويًا فى (دم الغزال)، (الوعد) ومسلسل (الجماعة) الجزء الأول، ثم الجزء الثالث، والذى مع الأسف لم يكتمل برحيله.

 وعندما كبرنا، وتعاون ابنى «كريم عبد العزيز» مع ابنه «مروان حامد» محققين نجاحًا كبيرًا، زادت علاقتنا متانة، ورسوخًا. والآن رحل «وحيد حامد» تاركًا فى قلبى غصة شديدة، والمرارة التى أشعر بها ليست فقط لكونه صديقي، لكن لأننا فقدنا قيمة فى وقت صعب أن تتواجد فيه القيم، لكن عزائى الوحيد أن مهرجان القاهرة السينمائى لم يغفل تكريمه، وصنع له ندوة كانت أشبه بوداع لمبدع كبير.

 

####

 

محمد هشام عبية يكتب:

الغول.. تلك الصرخة المكتومة تحت أقدام الشر

فى الأغلب فإن كثيرين قد قرأوا عن قانون ساكسونيا، لكن وحده «وحيد حامد» الذى استطاع أن يحول نص قانون جرى تطبيقه فى العصور الوسطى ويتم فيه التمييز فى أحكام القانون وفقًا لثراء أو فقر المتهم، إلى واحد من أجرأ أفلام السينما المصرية وأكثرها إمتاعًا رغم مرور ما يقرب من ثلاثين عامًا على عرضه (بخناقة رقابية) لأول مرة.

اختيار فيلم واحد لـ«وحيد حامد» للكتابة عنه مسألة شديدة الصعوبة، مع بعض التفكير، اكتشفت أن جزءًا كبيرًا من تكوينى السينمائى، وذاكرتى الفنية مصنوعة بيد «وحيد». بشكل تلقائى تنساب جمله الحوارية على لسانى حينما أريد الاستشهاد بعبارة موحية قوية ذات دلالة، أتذكر أبطاله ومصائرهم العالقة فى بعض الأحيان، أو التى تعود إلى نقطة البدء كما كانت بعد محاولة للانعتاق، فأجد نفسى واحدًا بينهم، لكن تبقى شخصية الصحفى «عادل عيسى»، فى فيلم (الغول) 1983، واحدة من شخصيات عوالم «وحيد حامد» الأكثر أثرًا فى نفسى، حتى إنى لا أستبعد أن هذه الشخصية فى هذا الفيلم تحديدًا كانت- برفقة شخصية الصحفى الذى جسد دوره الفنان «عبدالعزيز مخيون» فى مسلسل (أنا وانت وبابا فى المشمش)- أحد أهم دوافعى لأن أصبح صحفيًا يومًا ما، كيف لا و«عادل عيسى» فى (tالغول) لا يقاوم الظلم والفساد والنفوذ ويسعى لإحضارهم جبريًا أمام سطوة القانون فحسب، وإنما حينما يجد يد العدالة مغلولة، يجد نفسه مضطرًا لأن يطبقها بيده، حتى وإن فتح ذلك الباب لألف سؤال ومخاوف لا تنغلق أبوابها.

يبدأ «عادل» أحداث الفيلم وينهيها، وهو مطلق اللحية، غير مهندم، يبتسم بشكل عصبى، لكنه يبدو واثقًا مما جرى، فيما قبل البداية، ولأنه صحفى مشاغب، جرى نقله من القسم السياسى للجريدة التى يعمل فيها إلى مجلة فنية، خسر زواجه، وظفر بابنته الوحيدة التى يراها بضع دقائق كل أسبوع. فى النهاية وقبيل ساعات من حسم «عادل» لأمر العدالة المنقوصة وفق ما يرى، عادت لحيته غير المهذبة للظهور، استحوذ عليه الاضطراب مجددًا، لكنه وبين هذا وذاك، عندما كان يسعى ويحقق ويقاتل من أجل إثبات أن ابن رجل الأعمال ذائع القوة والنفوذ «فهمى الكاشف» هو الذى يقف وراء مقتل متعهد حفلات، وحاول اغتصاب راقصة، تدفقت الحياة إلى عروقه، لقد استعاد شغفه وحماسه، بحث وخطط ونفذ عملية لتهريب الراقصة المحتجزة لتشهد على الجانى، وكأن رسالة ذلك الفيلم الشجاع لا تتعلق فقط بنقد العدالة مغلولة اليد أمام ذوى النفوذ فى كثير من الأحيان، وإنما فى أن الإنسان يستعيد ذاته حينما يجد نفسه على طريق الانتصار للمستضعفين فى الأرض، وحينما يواجه الغيلان بصدر مفتوح، وبيقين من أنه قادر على هزيمتهم، ولو بعد حين.

فى مشهد لافت فى الدقائق الأخيرة من الفيلم، يرسل رجل الأعمال مجموعة من البلطجية لتأديب الصحفى المشاكس، «يستفردون» به فى شارع مظلم وينهالون عليه ركلاً وضربًا حتى يكاد يموت بين أيديهم، المدهش أن عادل رغم كل هذا العنف الساحق الذى يتلقاه منفردًا، لم يصدر آه واحدة، سالت الدماء على وجهه واعوجت ملامحه، ولم يمنح أعداءه نشوة سماعهم لصوته متوجعًا، لعل الرسالة هنا كانت شديدة الوضوح، بينما اختار «وحيد حامد» أن ينهى فيلمه المدهش الآخر (النوم فى العسل) بـ(آه) جماعية أمام مقر البرلمان، وهكذا بين آه مكتومة تحت أقدام النفوذ والفساد والشر، وآه صارخة غاضبة أمام أصحاب القرار الذين تهاونوا فى واجباتهم وتخلوا عن المسئولية، يتجلى عالم «وحيد حامد»، ويتجلى السر وراء بقاء فنه طازجًا ملهمًا راسخًا مهمًا مر الزمن.

 

####

 

محمد رجاء يكتب:

المنسى.. حدوتة قبل النوم

ربما يحتل هذا الفيلم مكانة خاصة خلال المسيرة الفنية لكل واحد من صُنّاعه الثلاثة «وحيد حامد شريف عرفة عادل إمام»، فرغم أنه شديد الإخلاص لمفردات العالم المألوف الذى اعتاد أن يقدِّمه كل واحد منهم على حدة فى أعماله؛ فإنه فى الوقت ذاته يتجاوز نفس هذه المفردات إلى منطقة جديدة ومميزة، ورغم أنه إلى حد ما يعد الخلاصة والمادة الخام وذروة تجربة الخمسة أفلام التى قدموها سويا (وهو الفيلم الثالث من الخمسة)؛ حيث نقد الواقع السياسى والاجتماعى بالاعتماد على فرضية خيالية أقرب للحلم أو لعبة «ماذا يحدث لو» إلا أنه الأكثر بساطة وتجريدًا وقربًا لحواديت الأطفال، تلك الرقيقة البسيطة الطيبة والتى بها النبل واضحًا، والشر صريحًا، والصراع بينهما يتصاعد بسلاسة.

«غادة» هاربة من الحفلة قادمة على شريط القطار حتى تصل لكشك تحويلة «المنسى» وكأنها شبح، كما جاءت الراقصة «دينا» على نفس شريط القطار وقد سقطت من إحدى المجلات الفنية التى يدمنها «المنسى». حدوتة حب مستحيلة وغير متوقعة تنشأ بينهما على نحو رقيق وهادئ كما جاءت الحدوتة المخيفة لـ «المحولجى» السابق والتى رواها لـ«المنسى» فى بداية ورديته تاركا إياه وحيدًا فى جوف الليل وسط أشباح الظنون والخيال. بواب الفيلا الذى يطرد «المنسى» المتطفل نهارًا لم يرد فى ذهنه أن يأتى نفس هذا الشخص ليلا متهجما على الفيلا وعلى من فى الحفلة كما لم يرد فى ذهن «المنسى» أنه سيتجاوز تلك الحدود وهو الذى يعرف حدوده جيدًا فى الواقع ويصر طوال الأحداث ألا يتخطاها أبدًا ليفرض فى النهاية سيطرته على هؤلاء، إنه ميكانيزم الاستدعاء، حيث تستدعى الأحلام والأمنيات والخيالات ما يحدث فى الواقع الفعلى للشخصيات خلال ليلة خاصة يرسمها القدر من خلال العديد من المصادفات ليؤكد لكل شخصية بعد هذه الليلة الفارقة شكل مكانتهم داخل هذه التركيبة الاجتماعية السياسية القاسية الخانقة والتى من الصعب أن تتبدل أو تتغير أو تتفاعل مع بعضها بعضًا، فقط هى متجاورة ومشحونة وتنتظر اللحظة للانفجار حال اصطدمت بعضها بعضًا مثل القطارات إذا غفل عنها المحولجى والتقت، ففى هذا الفيلم كل الأشياء تسلم بعضها بعضًا لدرجة يصبح فيها الشكل والمضمون شيئًا واحدًا.

فى تتابع رقيق من الغروب إلى الليل تأخذ كل شخصية فى الثلث الأول من الأحداث طريقها إلى مكانها خلال هذه الليلة، حيث «غادة» فى سيارتها إلى الفيلا و«المنسى» فى الميكروباص إلى كشك التحويلة، ويرسم التتابع «ميزانسين» دقيقًا لمسرح الأحداث حيث ذلك التجاور بين عالم طبقة الأغنياء المتمثلة فى الفيلا وعالم طبقة الفقراء المتمثلة فى كشك التحويلة وبينهما شريط القطار وذلك الطريق الوعر، يستغرق التتابع الكثير من الوقت لرسم هذه الحدود المسرحية لتأتى بعد ذلك كل كلمة أو حدث أو تطور درامى مترجمًا لهذه الأوضاع برقة بالغة دون مباشر

ولكن هل ما رأيناه من أحداث قد حدث بالفعل؟ أم إن هذا ما دار فى ذهن الأبطال بفعل حالة الاستدعاء واختلاط الحلم بالواقع وحالة التجاور هذه؟.. فبعد أن ضرب البلطجى المأجور وطرح «المنسى» أرضًا وهو جريح واقتنص منه «غادة» ليعيدها إلى الحفلة عنوة. هل نهض «المنسى» وذهب بالفعل ليستعيدها؟ هل كانت لديه القدرة بالفعل على ذلك؟ أم إن هذا كان مجرد حلم جاءه بعد سقوطه وقد انتهت الأحداث عند هذه اللحظة كما انتهت حدوتة زميله المحولجى المخيفة؟ ربما هذا وربما هذا، طالما المجتمع منقسمًا بهذا الشكل، وطالما التجاور على هذا النحو الهندسى القريب الغريب،وطالما اللحظة مشحونة القابلة للانفجار تلوح فى الأفق طوال الوقت، فربما يطغى الحلم والخيال على الواقع ويحدث ما رأيناه بالفعل وينهض «المنسى» لفرض هذه النهاية، وربما فى قراءة واقعية أخرى يطغى الواقع ونرى أن ما فعله عندما نهض وذهب لينقذ «غادة» كان مجرد حلم؛ حيث لم ينهض «المنسى» إلا صباح اليوم التالى لتكمل كل شخصية طريقها بعد أن عرف كل منهم بعد ما حدث حدوده ومدى حجمه بالمجتمع

ربما طغت جملة الحوار اللاذعة والشخصية المرسومة بذكاء لتعبر نظريًا عن فكرة سياسية على الحدوتة فى أغلب أعمال «وحيد حامد»، إلا أن الوضع يختلف كثيرًا فى (المنسى)، حيث يتراجع كل ذلك فى الخلفية رغم أنه حاضر لحساب طغيان الحدوتة، تلك الحدوتة السلسة البسيطة التى أتت على نحو رقيق وبليغ وساحر.

 

####

 

علا الشافعي تكتب:

البرىء.. وأنا.. واللقاء الأول

عندما هاتفتنى الزميلة والصديقة «شيماء سليم» لتخبرنى عن إعدادها ملف الأستاذ «وحيد حامد» وسألتنى أى فيلم تختارين للكتابة عنه، بدون تردُّد ولا تفكير أجبتها (البريء).

بالطبع هناك الكثير من الأفلام التى أعشقها وأرى فيها الكثير من الجماليات، والأفكار المثيرة للجدل والقادرة على صنع اشتباكات طوال الوقت للمبدع «وحيد حامد».

ولكن (البريء) يحمل لى ذكرى شديدة الخصوصية؛ حيث كان اللقاء الأول الذى جمعنى بأستاذى ومعلمى وأبى «وحيد حامد» فى عام 1992 عندما جاء لمبنى كلية الإعلام فى جامعة القاهرة هو والمخرج «عاطف الطيب» لعمل ندوة معنا بعد انتهاء عرض الفيلم الممنوع وقتها.

وأعتقد أننى وكل زملائى لم ولن ننسى هذا اليوم والذى كان مميزًا بحق؛ حيث شهد عرض الفيلم إقبالًا وحضورًا كبيرًا ليس فقط لطلبة كلية الإعلام ولكن لبعض الزملاء من الكليات المجاورة، والمهتمين بالسينما والثقافة.

وبعد انتهاء عرض الفيلم وقتها كنا فى المدرج الكبير بالدور الرابع لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية (لم يكن لكلية الإعلام مبنى مخصوص فى هذا الوقت)، ضج المدرج بالتصفيق لدقائق طويلة، وبعد انتهاء الندوة لا أعرف ما الذى دفعنى لأنتظر «الطيب» و«حامد» وأسير معهما أنا ونفر قليل من الزملاء حتى باب الخروج قد تكون الحماسة التى أشعلها الفيلم فى أنفسنا، قد تكون الرغبة من التحرُّر من الكثير من المفاهيم السلطوية، أو العلاقة الشائكة طوال الوقت بين المثقف والدولة أو كيف وضع «حامد» و«الطيب» يديهما فى وجه قتلة البراءة ومغتالى الأحلام.

لم أنس يومها تواضع الاثنين ووقوفهما مع شباب صغير يتفتح وعيه لوقت طويل يجيبان على التساؤلات، وأتذكر جيدًا نظرة الفرح والرضا التى ملأت أعينهما فالفيلم الممنوع لهما يحصد الإعجاب والحماسة والرضا فى كل مكان يقتنصون فيه فرصة للعرض، وبعد هذا اللقاء شاهدت (البريء) فى افتتاح المهرجان القومى للسينما عندما كان يرأسه الناقد ورئيس الرقابة الراحل «على أبو شادى»، يومها وقف الأستاذ على المسرح ليقول خطابه الشهير عن فكرة المنع والرقابات المتعددة مؤكدًا أن البقاء للفن وليس لأصحاب السلطة.

فيلم (البريء) والذى ظل ممنوعًا من العرض لأكثر من 20 عامًا، وشاهده لجنة مشكلة من وزراء الإعلام، والداخلية والدفاع، وتم تغيير نهايته حيث كان يعرض بنهايتين. هو واحد من أهم 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية والعربية، ورغم ميلودراميته والتى قد يأخذها عليه بعض النقاد؛ فإنه يظل فى نظرى واحدًا من أهم الأفلام وأكثرها جرأة فى تاريخنا السينمائى؛ بل إن المعالجة الدرامية التى تنحو نحو الميلودراما كانت واجبة لخلق تلك الحالة من التطهير مع كل مشاهدة للفيلم.. فهل يستطيع أحد منا أن ينسى شخصية «أحمد سبع الليل» التى جسدها بعبقرية «أحمد زكى»، الفلاح البسيط، وكيف رسم «حامد» أدق تفاصيل حياته اليومية فى الريف، وحوّلها «عاطف الطيب» و«سعيد شيمى» بكاميراه المحمولة على كتفه إلى لقطات لا تنسى؛  حيث يعيش هذا الفلاح مسالمًا فى قريته، ويرتبط بأرضه وهمومها إلى درجة الذوبان بالأرض وهمومها، والتفاصيل التى صاغها «حامد»  لجعلنا  ندرك مدى براءة وسذاجة «أحمد سبع الليل»، كل هذا قبل أن يطلب للخدمة العسكرية، ويعين حارسًا فى معتقل سياسى بالصحراء. ويرى أبناء الوطن يزجون فى السجون. وعندما يسأل «سبع الليل».. من هؤلاء المواطنون من مثقفين وأساتذة جامعة وطلبة، والذين يعاملون بهذه القسوة؟ يأتيه الجواب.. بأنهم أعداء الوطن، فيتعامل معهم بعنف شديد، إلى أن يلتقى «حسين، ممدوح عبدالعليم»  ابن قريته ورفيق الطفولة والطالب الجامعى فهل يعقل أن يكون «حسين» عدوا للوطن هنا تبدأ رحلة التحولات والتساؤلات والوعى عند «سبع الليل»، خصوصا بعد مقتل «حسين» أمام عينيه، رسم وحيد حامد فى (البريء) شخصيات لا تنسى «سبع الليل، وتوفيق شركس»، (الضابط السادي)، و«حسين» المثقف الواعى البشوش والمهموم بوطنه، وهى الدراما التى حولها «الطيب» إلى ملحمة لا تُنسى مع صوت «عمار التشريعى» وكاميرا «سعيد شيمى»، والأداء المميز لنجوم العمل كل فى دوره، يطغى عليه أداء «أحمد زكى» الملهم فى هذا العمل

(البريء) فيلم ينتقد ولكنه يحفل بالحلم، والرغبة فى التحرر، ليس ذلك فقط بل عن الحب سواء حب الوطن أو حب «أحمد سبع الليل» لـ«نوارة، إلهام شاهين».

 

####

 

عمرو محمود ياسين يكتب:

اضحك الصورة تطلع حلوة.. الشجن فى عبارة يملأها الأمل

(اضحك  الصورة  تطلع حلوة).. كم توقفت أمام  تلك الكلمات وكم دهشت من اختيار هذا العنوان اسما لفيلم  سينمائى،  وسبب الدهشة هو دقة الاختيار وتفرده وقوة الجذب بالكلمات المكونة له.

ألفاظ  كلها طاقة إيجابية اختارها الكاتب الكبير «وحيد حامد» عنوانًا لفيلم يحمل الكثير من لحظات الشجن والألم عبارة كلها أمل  تُجبرك على البسمة والتفاؤل

مصور بسيط  يحمل على عاتقه رعاية أمه وابنته الوحيدة، بافتتاحية الفيلم استعرض لنا «وحيد حامد» نماذج مختلفة من الشخوص وكيف كان هذا المصور البسيط يتعامل مع  كل   منهم  بمبدأ  أساسى لا يتغير هو مبدأ الإنسانية. دروس سريعة عن  كيفية أن تكون إنسانًا،  وقدَّم لنا  ذلك  فى إطار مجموعة  لقطات خفيفة الظل بحوارعفوى صادق.  

شعرت وأنا أشاهد تلك اللقطات، كيف أن «وحيد حامد» بدا لى وكأنه جراح وليس كاتبًا، لديه دقه متناهية وحنكة كبيرة فى تشريح النفس البشرية وفهم لحظات معقدة قد يشعر بها الإنسان ولكن لا يستطيع وصفها، ولكن كاتبنا الكبير كان أستاذًا فى تلك المسألة، هو أستاذ التفاصيل وخصوصا المعقدة منها، فقط راجعوا افتتاحية هذا الفيلم وكيف كان يوجه كل زبون لإظهار  صورته بأفضل شكل.   

فى لحظات كثيرة من الفيلم، لا بُد وأن تسرح  وتقول كيف فكر «وحيد حامد» فى تلك اللقطة؟  مثلا، عندما عاد «سيد» يحمل بشرى نجاح ابنته «تهانى» فى الثانوية العامة، نراه  قادما  يحمل عصا  أكياس غزل البنات بألوانها المفرحة ويهلل سعيدًا فخورًا بنجاح ابنته، اللقطة غاية فى الروعة والإيجابية، والأم تنتظره بلهفة وحفيدتها «تهانى» فى شرفة البيت لسماع الأخبار وبينما يستعد هو لإخبارهما، يمر قطار يفصل بينه وبين بيته ويغطى صوت القطار على صوت «سيد» وهو يعلمهم بالخبر السعيد. شعرت وقتها أن كاتبنا يرصد معاناة تلك الطبقة التى اختار الحديث عنها بالفيلم.. كل شيء حولهم يفسد لحظاتهم الحلوة القليلة بالأصل

لا أنسى أيضا المشهد الذى يصل فيه «سيد» وأسرته إلى القاهرة وقد استأجر شقة بسيطة  قريبة  من المدافن ويرصد بهذا المشهد  تفاوت المشاعر بين الشخصيات الثلاثة «سيد والأم روحية والابنة تهانى». فالأخيرة، تشعر أن الشقة دون المستوى ومن منطلق صغر سنها فهى طموحة تسعى للأفضل وتحلم به لكن من منطلق تربيتها الطيبة تحسب كل كلمة حتى لا تجرح الأب وتشعره بأنها غير سعيدة بهذا المكان. أما هو فيريد اختطاف بعض لحظات السعادة لهما ويعدهما بـ«أكلة» حلوة فى مطعم ثلاث نجوم، بينما الأم  التى لم يعد لها طموح بالحياة سوى الاطمئنان على مستقبل الابن والحفيدة تطالبه بالحرص وتقول له (مستعجل قوى على فرتكة القرشين اللى حيلتك)

وأخيرًا، أذكر هذا المشهد الذى يذهب فيه «سيد» إلى فرح ابن الأكابر «طارق»، لينتقم منه، بعد أن ترك ابنته وعلقها بحبه وطلب يدها منه، لكن بالنهاية ذهب ليتزوج من فتاة أخرى بنفس  مستواه الاجتماعى

فى هذا المشهد  يعطى «وحيد حامد» درسا فى الأخلاق لكل من يشاهد ويتابع أحداث الفيلم ومفاد هذا الدرس هو الصدق.. كيف يجب أن يكون الإنسان صادقًا مخلصًا، أمينًا، كيف أن الكلمة عقد، الاتفاق الشفوى عقد، وقد قالها «سيد» جملة فى منتهى الروعة والتفرد «كلمة بحبك  عقد». أراد «وحيد حامد» هنا أن يذكر الناس بقيمة تلك الكلمة التى تستخدم فى هذا الزمان مثل صباح الخير.. 

«وحيد حامد»، وفى آخر لقاء له مع جمهوره بمهرجان القاهرة، قال «لقد أحببت أيامى».. ونحن نقول لك «ونحن أحببنا أيامك وسنفتقدها كثيرا ولكن سنعيش مع أيامك تلك دائما من خلال شخوصك وأحاسيسك ومشاعرك وسنضحك دائما عند كل انكسار ربما الصورة تطلع حلوة». وداعا «وحيد حامد».  

 

####

 

تامر حبيب يكتب:

أنا وأنت وساعات السفر الموت لن يقتل الروح

الحب كائن حى، بيمرض، ويصاب بالشيخوخة، ويمكن يتجنن كمان.

تلك هى واحدة من جمل حوار راقية وبسيطة وناعمة وعميقة تميز بها الفيلم التليفزيونى «أنا وأنت وساعات السفر»، والذى عرض سنة 1988 وقام بكتابته أستاذى العظيم وحيد حامد وأخرجه المخرج محمد نبيه وقام ببطولته النجوم نيللى ويحيى الفخرانى، فى لقائه الوحيد مع نص للأستاذ وحيد.

وقبل كتابته كسيناريو سينمائى، كان أستاذى قد صاغه فى نص إذاعى قام ببطولته العملاقان محمود مرسى وسهير البابلى.

أتذكر عند عرض الفيلم لأول مرة بالتليفزيون، وأظن أنه كان فى شهر رمضان فى فترة كان فيها التليفزيون المصرى ينتج أفلامًا تليفزيونية خرجت من بينها أفلام مهمة ومتميزة على رأسها هذا الفيلم الرقيق، ومن فرط عشقى لهذا الفيلم ظللت أتابعه مرات ومرات دون ملل بعد أن سجلته فيديو على شريط VHS، وأنا وأنت وساعات السفر هو واحد من تلك النوعية التى يطلق عليها «Road Movies» أو أفلام الطريق، أى الأفلام التى تدور أحداثها فى رحلة على طريق غالبًا ما يكون طريق سفر من مدينة إلى أخرى داخل سيارة أو طيارة أو قطار، كما هو الحال مع فيلمنا المعنى.. فالفيلم يحكى لنا عن لقاء الصدفة بين عزت وسلوى فى القطار المتجه من القاهرة إلى الإسكندرية، هو اللقاء بين الحبيبين القديمين اللذين انفصلا وتفرقا بسبب الظروف، والمادية منها بالأخَصّ حيث تزوجت سلوى من ثرى لينقذ أسرتها من الفقر، وضحت بحبها لعزت الذى لم يحب أو يتزوج بعد فراقها، ربما لأنه لم يعرف أن يحب غيرها، أو ربما لأن صدمة تركها له قد أصابت الحب داخله بالمرض أو الشيخوخة وربما الجنون، واستعرض الفيلم حالات أخرى من العلاقات على هامش الأحداث كالزوجين؟؟ مات الحب بينهما ومات الحوار، والخطيبَين المقبلين على الحياة واللذين يعيش الحب بداخلهما فى تمام عافيته وصحته.. وخلال الرحلة ومن خلال هذا الحوار الخلاب بين عزت وسلوى حول معانٍ كثيرة فى الحياة تدور فى خلدنا وتفكيرنا جميعًا حوارات عميقة وبسيطة عن الحب والذات والحياة والظروف الاجتماعية، نشاركهم كمشاهدين هذه الرحلة التى تمنيت أن أخوضها فى يوم ما، وإطار المناقشة وعندما تحدث عزت المؤلف القصصى عن الموت وقال إنه ربما يستطيع أن يتغلب على الحب ولكنه أبدًا لن يقتل الروح.

 

####

 

محمد فاضل يكتب:

أحلام الفتى الطائر.. قلم وحيد ليس كأى قلم

عرفت «وحيد» فى أوائل السبعينيات، كان قادمًا لتوه إلى القاهرة، ولم يكتب سوى بعض المسلسلات الإذاعية، والمسرحيات، انضم بعدها إلى شلة الراحل العظيم «سمير خفاجة» أحد الذين أسسوا المسرح المصري، وكانت هذه الشلة تضم «عادل إمام، وسعيد صالح» وعددًا من الفنانين الآخرين، وكنت أنا أحد أعضاء تلك الشلة بحكم أننى كنت أعرف «سمير خفاجة» منذ أيام مسرح التليفزيون.

لم يكن «وحيد» قد اتجه إلى الدراما التليفزيونية آنذاك، وعندما عرض مسلسله الإذاعى (بلد المحبوب) محققًا نجاحًا كبيرًا، اقترح علينا «سمير» أن نحوله إلى مسلسل تليفزيونى يلعب بطولته «عادل إمام» وقد كان المسلسل الذى عرض عام 1978 (أحلام الفتى الطائر) وهو عمل له رسالة مهمة جدًا، حيث ناقش انفتاح السبعينيات بشكل جرىء، وركز على الطموح غير المشروع الناتج عن الروح المادية التى بدأت تسرى فى النفوس فى ذلك الوقت، مما أدى إلى انقلاب الهرم الاجتماعي، فوصل البعض إلى القمة لمجرد أنهم أغنياء، وقد عقد ثلاثتنا «وحيد وعادل وأنا» جلسات عمل طويلة جدًا، تم بعدها اختيار فريق العمل، وكعادتى أحب أن أمنح فرصة للوجوه الشابة، وهو لم يعترض على ذلك، فقد كانت الكلمة الأولى فى هذا الزمن للمخرج - وهو ما لم يعد موجودًا الآن مع الأسف - وبالتالى منح المسلسل فرصة لـ «سوسن بدر، وماجدة زكي» وقد كانتا طالبتين فى معهد فنون مسرحية آنذاك، كما كان «جميل راتب» أحد الأبطال رغم أنه كان قادمًا من الخارج، ولم تكن لهجته المصرية متقنة بشكل جيد، والمفارقة أن شخصية «نعمة» التى قدمتها الفنانة «رجاء حسين» كانت لـ«فردوس عبد الحميد» لكن مشاركتها فى أحد عروض المسرح القومى فى تونس منع ذلك، فقد كانت ترى أن المسرح لا يقبل له شريكًا.

ورغم أن المسلسل تم تقديمه فى 14 حلقة فقط، إلا أننا أجرينا له (بروفات) لمدة شهر، كان «وحيد» يحضرها جميعًا، الأمر الذى أصبح نادر الحدوث أيضًا هذه الأيام، فتواجد المؤلف مع أبطال العمل، ليشرح لهم ما يعجزون عن فهمه فى السيناريو، ويعرفهم أكثر على طبيعة الشخصيات أمر ضرورى جدًا، كان «وحيد» يعى أهميته جيدًا، وبالرغم من أن الحلقات قد بدأ عرضها مع بداية شهر رمضان المبارك دون أن ينتهى «وحيد» من كتابة الحلقتين الأخيرتين، إلا أن العمل كان مكتملًا فى ذهنه لآخر مشهد.

أعجبتنى جدًا طريقة كتابته للمسلسل بأن يجعل لكل حلقتين فكرة يتم تصويرها فى موقع مختلف، ولفت نظرى حواره الذى يأتى على لسان الأبطال، ذلك الحوار الذى يبعث على الكوميديا، وليس مجرد الإضحاك، وهناك فارق كبير، كما أحببت قيم الوفاء، والإخلاص التى أرساها فى العلاقة بين الصديقين «إبراهيم الطاير» الذى لعب دوره «عادل إمام» والروائى «حسين رأفت» الذى قدمه «عمر الحريري» والأخير كان يكتب ضمن أحداث المسلسل الإذاعى رواية بعنوان (بلد المحبوب) والتى اشتق منها اسم المسلسل، وبالطبع لم يكن هذا الاسم مناسبًا للتليفزيون، لذلك تحول إلى (أحلام الفتى الطائر)

الجميل أن الحلقات التى استضافت العديد من النجوم أمثال «محمود المليجي، وصلاح منصور» وآخرين، استضافت أيضًا «توفيق الدقن» الذى كان بطلًا للمسلسل الإذاعي، وكان يلعب فيه نفس الدور الذى لعبه «عادل إمام» لكن فكرة ظهوره كضيف شرف فى المسلسل التليفزيونى لم تضايقه أبدًا، فقد كان يعلم أنه يصلح إذاعيًا لأداء الدور، لكن شكله، وتكوينه الجسمانى لا يسمحان له بأن يكون (الفتى الطائر).  

ورغم أن النهاية كانت مفتوحة، وقد طُلب منا كثيرًا أن نقدم جزءًا ثانيًا من المسلسل، إلا أن كلانا أعلن رفضه للفكرة، وبعدها شغلتنا الحياة، واستغرقته السينما، فأبعدته عن التليفزيون طويلًا حتى عاد إليه بعد غياب، فلم يتسن لنا أن نلتقى مجددًا، ومع ذلك فقد أتاح لى تعاوننا الوحيد فرصة كبيرة لأعرف أن قلم «وحيد حامد» ليس كأى قلم، وأنه قادر على تطبيق كل قواعد الدراما الصحيحة التى تصر على تقديم قيمة، ولديه قدرة على رسم الشخصيات، وتحويلها بسلاسة إلى شخصيات حقيقية من لحم ودم.

 

####

 

خيري بشارة يكتب:

رغبة متوحشة.. تجربة خبيثة عن حب السينما كما أحبها جيلى

كانت علاقات جيلنا تخلو تقريبًا من المصالح، كنا نتلاقى لأن كل واحد منا قد انجذب لأسباب ما إلى الآخر، ولم نعن كثيرًا بتقييم بعضنا البعض، ولم نهتم كثيرًا بمن هو الأفضل أو الأحسن، كنا نكمل بعضنا البعض ونستمتع فى لهونا وسمرنا ونقاشاتنا بخصوصية وتفرد كل منا، ومن ثم كانت جلسة «وحيد حامد» اليومية الاعتيادية سواء للكتابة أو لقاء من شاء من المنتجين والمخرجين والنجوم والنجمات، ومن الأصدقاء الخاصين تميز مائدته وتجعلها متفردة بين موائد المطعم المطل على النيل بفندق «جراند حياة – ماريديان سابقًا» المواجه لحى جاردن سيتى وعلى مقربة من قصر العيني

كان «وحيد حامد» الذى رغم ثقافته ووضعه الاجتماعى لم يفقد فطرته وبساطته وملاحته  الريفية، كان حكاءً يجذب آذان مستمعيه بذلك الفيض الزاخر لقصص لا تنتهى من تجاربه الثرية وملاحظاته الأريبة فى حياته سواء فى الريف أو المدينة، كنت أنجذب كثيرًا للذهاب إلى مائدته لأحتسى قهوة جيدة، وأنا أستمتع بقصص وحكايات تذهب بخيالى بعيدًا، وتزيد من عشقى للأرض التى أعيش فوق ترابها، والغريب أن الكثير مما حكاه «وحيد حامد» رغم غناه وجاذبيته لم يجد طريقه إلى الشاشة

ولأن علاقتنا فى ذاك الزمان كما قلت لم تنبنى على المصالح الضيقة، وإنما على متعة الصداقة الحقيقية، فلم أصنع مع «وحيد حامد» سوى فيلم واحد هو فيلم (رغبة متوحشة) عام 1991، وكانت تجربة تحدىٍ لي، فقد جاء بعد تمردى فى فيلم (كابوريا). ومن حسن حظى أن الفيلم لا ينتمى بطبيعته إلى الواقعية التى كنت قد بدأت أبتعد عنها فى ذاك الوقت، وكانت أحداثه تدور فى فضاء من الخيال الذى لا علاقة له بالواقع المصري، ويسبح عبر حبكة محكمة وهندسة درامية فى اختبارات للغرائز والعواطف والجشع والحب والحقد، كنت أشعر أننى أدخل إلى عالم غريب غير متجذر فى الواقع، ذلك الواقع الذى خبرته وعرفته على الأقل، فجأة ولدت الرؤية ووجدت نفسى أقع فى غرام هذا العالم الغريب العجيب وقلت لنفسى سوف أصنع فيلمًا من روح السينما، كل علاقتى البريئة ورغباتى الطفولية وأحلام يقظتى التى ترتع فى أعماقى عبر سنوات عشق الأفلام جاءتها الفرصة حتى تنتظم فى تجربة ناضجة

فيلم (رغبة متوحشة) هو فى جوهره ليس فى المقام الأول دراما رجل وثلاث نساء، ولكنه تجربة خبيثة عن حب السينما كما أحبها جيلي، وهكذا أتاح لى البناء الصارم الذكى لسيناريو «وحيد حامد» أن أمارس بحماس مجدداً متعة اللعب، وهو نوع من اللعب لم أجربه من قبل.

فى زياراتى المتكررة إلى مائدة «وحيد حامد» فى النصف الأول من تسعينيات القرن الماضى كنت أرى ابنه الوحيد «مروان» وهو يقفز إلى حمام السباحة، ويشاء القدر أن أكون أحد أساتذته فى المعهد العالى للسينما منذ منتصف التسعينيات حتى تخرج عام 1999، وها هو «مروان حامد» صار فارسًا مرموقًا فى عالم الإخراج السينمائي، مما يدعو لفخرى به، فليحفظه الله ويمنحه سعادة الحياة وبهجتها وكل الصحة والعافية.

«وحيد حامد»... فلترقد فى سلام أيها الموهوب العنيد الذى حفر روح مصر وهمومها على السيلولويد والديجيتال، كنت صديقًا جميلًا وكريمًا، كم من مرات فى شبابى أنقذتنى من ضائقتى المالية وأقنعتنى أنك بنكى المفتوح دومًا لأننى أوفى وعودى بالسداد عكس ابنك «مروان»، صنعت معك فيلم (رغبة متوحشة) الذى أحبه كثيرًا، كما أحببت أن أرى أفلامك التى كتبتها للآخرين.

 

مجلة روز اليوسف المصرية في

10.01.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004