ملفات خاصة

 
 

وحيد حامد.. زرقاء اليمامة للسياسة والفن والمجتمع في مصر

هبة ياسين

عن رحيل كاتب السيناريو

وحيد حامد

   
 
 
 
 
 
 

أعمال الكاتب وحيد حامد باتت نوعا من التأريخ لحقب زمنية متعاقبة وتنبّؤا بالمستقبل وقد واجه من خلالها طيور الظلام وقدم توثيقا جديدا للمتطرفين والإرهاب.

ودعت مصر يوم السبت 2 يناير المؤلف والسيناريست وحيد حامد بعد مشوار امتد لأكثر من نصف قرن أثرى خلاله الدراما السينمائية والتلفزيونية والإذاعية بأعمال جسدت هموم وأحلام مجتمعه، ما جعله أبرز كتّاب السيناريو في مصر والعالم العربي لما لأعماله من تأثير كبير.

القاهرةلم أجد الكلمات الكافية لرثاء المؤلف والسيناريست المصري وحيد حامد الذي رحل عن دنيانا، صباح السبت، لكن المؤكد أن خسارة الفن برحيله فادحة، فقد قدم أعمالا مهمة في السينما والدراما، وسوف تظل علامات فارقة في طريق الفن، فكل عمل منها ترك بصمة معينة.

كم هي ثقيلة الكتابة عن الراحل، فقبل رحيله بيوم واحد كنت أتأمل صورا شخصية جمعتني به عبر لقاءات عدة، أو خلال حوارات صحافية أجريتها معه على مدار السنوات الماضية، كشف فيها الكثير من أسرار أعماله الفنية، منها حوار صريح ومطول نشرته “العرب” منذ حوالي عامين، حول الإرهاب والمتطرفين وجماعة الإخوان.

هاتفته أكثر من مرة لإجراء حوار جديد معه لـ”العرب”، للحديث عن مشروعه الخاص بالجزء الثالث لمسلسل “الجماعة”، فرد ببساطة “لا يمكن أن أرفض لك طلبا” وحددنا الموعد، لكن هاتفني قبل الموعد بيوم وطلب التأجيل بسبب ظروفه المرضية، وقد تكرر الأمر أكثر من مرة، ولم أتخيل لحظة أن القدر سبّاق ولن تتاح فرصة لإجراء الحوار معه.

كان يجلس على ضفاف النيل بأحد الفنادق الكبرى، وهو مكانه المعتاد لإجراء اللقاءات وكتابة أعماله، ولم يبرحه على مدار مسيرته الطويلة. وطالما راودني التفكير؛ هل النيل من مصادر إلهامه، ومنه استمد أفكاره؟

سؤال أجاب عنه بقوله “لا أحب الحواجز أو الأماكن المغلقة، حيث تربيت في القرية، ورأيت الكون أكثر اتساعاً، والخلاء بامتداد ناظري، لذلك اعتدت البراح، وأسافر دوما إلى الأماكن الفسيحة، وعندما يصيبني الملل ألجأ إلى أماكن مفتوحة تطل على البحر، فقد أذهب إلى الإسكندرية أو الغردقة بمصر أو مدينة نيس الفرنسية، وأجلس في مقهى يطل على البحر”.

استشعار بالاكتفاء

"الجماعة" من أشهر أعمال الكاتب حيث قدم من خلاله دراما تفضح رموز التطرف مثل سيد قطب

في إحدى المرات خلال شهر رمضان عام 2017 حين جمعني به حوار حول الجزء الثاني من مسلسل “الجماعة”، الذي ناقش فيه علاقة الإخوان بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وتطرق فيه إلى حياة منظر الجماعة سيد قطب، كنت شاهدة على مدى دقته وبراعته في تتبع كل الخيوط التاريخية، فأطلعني في حينها على أوراق تخص تفاصيل محاكمة وأوراق قضية سيد قطب وكواليس إعدامه، فقد كان يعكف على كتابة مشهد إعدام قطب، مستعينا بالوثائق ليخرج المشهد واقعيا ومحاكيا للحقيقة.

وقتها قال “جئت فجأة ودون إعداد أو تجهيز، وهذه الوثائق معي أستند إليها في الكتابة”، وأطلعني بالفعل عليها، وكانت تلك المستندات تعود إلى دار الوثائق المصرية، ودهاليز المحاكم، بشأن التحقيق في قضية 1965 أمام الدائرة 43 من قلب سجلات المحاكم ومكتوبة على الآلة الكاتبة.

آمن حامد بدنوّ الأجل منذ زمن، فإذا سألته عن مشروع مستقبلي يعكف عليه أو يشرع في العمل عليه يسبق كلامه بعبارة “إذا أمد الله في أجلي”، ومن بينها مشروع فيلم “قيس وليلى” الذي كان يعكف على كتابته، وقال وقتها “لو في العمر بقية، وتمكنت من الانتهاء من الفيلم، أفكر أن أرتاح قليلا، وأنتقل إلى جمهور المشاهدين.. خلاص”.

الكاتب كان يعايش المواقف الحياتية المختلفة لشخصياته وينسجها في شكل حكايات أبطالها شخوص من لحم ودم

أسرّ لي بهذه الرغبة منذ ثلاث سنوات، وسألته عن أسبابها، حيث كنت أعتقد أن شخصا مثله لا يمكن أن يعتزل، ولا خيار له في ذلك، فالعطاء ينبغي أن يظل متدفقا بلا انقطاع كي تتعلم منه الأجيال المتعاقبة.

وأوضح أن هناك أسبابا كثيرة تدفعه إلى القرار، فمن حق المرء أن يستريح، وفي قرارة نفسه شعر أنه لم يقصر في تقديم شيء طيب للناس، سواء كان مخطئا أو على صواب، فهو صادق في الحالتين، فليس شرطاً أن يكون على صواب، لكنه كان ملتزما الصدق دوما، فقد يحمل وجهة نظر ويظل مقتنعا بها فترة زمنية، وفي فترة لاحقة تتغير، وبالتالي يأتي الحكم مختلفا.

وحامد صاحب توقعات مستقبلية تحققت فعلاً عقب سنوات من صياغتها، ونال درجة كاتب برتبة خبير سياسي واجتماعي، حيث توقع عبر مؤلفاته، خاصة في السينما، الكثير من التحولات التي طرأت على المجتمع المصري، ورصد المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهبوط شرائح وصعود أخرى، وواجه التيارات المتطرفة وأباطرة الفساد بكتاباته.

باتت أعمال حامد نوعا من التأريخ لحقب زمنية متعاقبة، جاءت حصيلة فكره ورؤيته المستنيرة، حيث صاغ الواقع ببراعة، واجتذب النخبة والجماهير إليه، لم يكن راصداً فحسب، بل تمتع برؤية ثاقبة جعلته قادراً على التحليل واستشراف المستقبل.

ولد حامد في قرية “بني قريش” في محافظة الشرقية عام 1944، في كنف أسرة ريفية بسيطة، ثم انتقل إلى القاهرة لدراسة علم الاجتماع وتخرج في كلية الآداب سنة 1965.

تشكل وجدان الكاتب بداخله عبر قراءاته المتنوعة لكبار الأدباء والمثقفين في مصر والعالم، وبدأ ككاتب للقصص القصيرة التي لاقت رواجا، ولم تخف غزارة موهبته، وحين اتجه إلى الكتابة الدرامية لقي نجاحاً لافتاً.

حملت غالبية أفلامه من فرط واقعيتها عبارة “هذا الفيلم خيال سينمائي، وأي تشابه محض صدفة”، وجمعته شراكة سينمائية بنخبة من أهم مخرجي السينما وغيرهم، بينهم عاطف الطيب، أحد أفضل مخرجي الواقعية، عبر خمسة أفلام من إجمالي 21 عملاً للمخرج الراحل. يتصور البعض أن دراسته حامد لعلم الاجتماع ساعدته في فك شفرات المجتمع المصري كثيرا، لكن تضاف إليها الموهبة والذكاء والملاحظة الدقيقة والتحليل العميق والقدرة على الصياغة.

ترسخ في وجدانه أن الإبداع لا يحتاج إلى مؤهل دراسي معين، فهناك شاعر أو فنان مبدع ربما لا يحمل مؤهلا دراسيا، فالعلم مطلوب بالتأكيد، لكن لا بد من توافر الثقافة، والانخراط الكامل في المجتمع، ومن هنا يستطيع المبدع بموهبته ودراسته لأحوال الناس وقناعته، التعبير عنهم.

في مواجهة التطرف

واجه الراحل التطرف في أوج سطوة المتطرفين وتهديدهم لرموز المجتمع المصري خلال فترة التسعينات، وغاص في العوالم الداخلية لجماعات الإسلام السياسي، كما لو كان يعيش بينهم أو اعتنق فكرهم يوما.

قال في أحد لقاءاتنا التي تعددت “اعتدت عندما أقدم على كتابة عمل أو موضوع ما أن أستعد له جيدا، وحين تطرقت إلى قضية الإرهاب في بعض أعمالي، حرصت على دراستها، واعتمدت على الحقيقة عبر جمع المادة الخاصة بي، فهذا الشأن الخيال به قليل للغاية، وتحتل الوقائع التاريخية الأولوية، لذا كان لا بد من الاطلاع على دراسات من مصادر مختلفة للتوصل إلى الحقيقة، فهذا توثيق جديد لفكر الإرهاببين بدون كذب”.

لم يرصد حامد هذه الحقائق الخاصة بقضية التطرف والإرهاب الذي عايشه الجميع، لكنه تمكن من قراءة المستقبل من خلال أعمال عدة، أهمها فيلم “طيور الظلام” الذي توقع الصدام بين الحزب الوطني الحاكم في مصر، وجماعة الإخوان، وألمح إلى أن العلاقة إلى فراق.

وحيد حامد بدأ ككاتب للقصص القصيرة التي لاقت رواجا وحين اتجه إلى الكتابة الدرامية لقي نجاحا لافتا

رفض المزاعم التي قالت إنه يعلم الغيب، وأوضح “لا يعلم الغيب إلا الله، كنت مثل طلبة الكليات العلمية، ففي الكيمياء مركب مع مركب يقدم مركبا مختلفا، وكونت رؤية صادقة للمجتمع، ونظرة لما سوف يحدث، وإلى أين سوف يذهب بنا هذا الطريق، اعتدت أن أطرح السؤال والمعطيات وأصل من خلالهما إلى النتائج”. وأضاف “الأمر ليس به سحر أو شعوذة، المسألة هي القراءة الصحيحة للواقع، وهو ما استقرأته منذ سنوات، لأن الاحوال ثابتة، بينما يتغير الشكل والأشخاص فقط”.

تتعلق الإشكالية بعرض الحقيقة، لذا حرص عندما كان يتطرق إلى قضية الإرهاب على تحري الحقائق وجمع المادة الخاصة بأدبيات المتطرفين، لأنه لا مجال للخيال في ذلك إلا قليلاً، حيث تحتل الوقائع التاريخية الأولوية.

كان حامد قادرا على معايشة المواقف الحياتية المختلفة، ونسجها في شكل حكايات وتحويل أبطالها إلى شخوص من لحم ودم، فلم تأت كتاباته من فراغ، بل عبر مواقف من حياته عايشها واختزنها في عقله، وحين يحتاجها يستدعيها تلقائيا بمفردها.

وهو ما حدث مع فيلمه “البريء”، بطولة الفنان الراحل أحمد زكي، فشخصية “سبع الليل” التي جسدها، تمثل نمطا عرفه وصادفه حامد في قريته، وكتب العمل مدفوعاً بمعايشته لموقف شخصي مماثل، وأخبرني بذلك قائلا “في أثناء مشاركتي في مظاهرات يناير 1977، تعرضت للضرب بضراوة من أحد جنود الأمن المركزي (قوات مكافحة الشغب)، توجعت والتفتّ إليه ففوجئت بأنه يناديني يا (بلدياتي)، أي من نفس القرية، ويعرف كلانا الآخر، وحينها بادرني بسؤال استنكاري؛ أستاذ وحيد هو أنت من أعداء الوطن؟ ومن هنا جاءت فكرة فيلم البريء”.

حمل الفيلم إسقاطات سياسية عميقة، من حيث استغلال جهل وأمية جنود الأمن المركزي، ورسخ قادتهم في أذهانهم أن من يشاركون في المظاهرات ويدعون إلى الديمقراطية والحرية هم أعداء الوطن. كان ابن القرية الشاب الجامعي “حسين وهدان” الذي جسده الفنان الراحل ممدوح عبدالعليم، وعلّم “سبع الليل” مبادئ الوطنية وشجعه على الالتحاق بالقوات المسلحة لم يكن سوى وحيد حامد نفسه في شبابه.

واجه الراحل خلال مسيرته محاولات المنع والتلاعب في أفلامه، فتم تغيير نهاية فيلم “البريء”، وأخبرني أنه جرى حذف دقيقتين كاملتين، وقرابة 15 جملة حوارية منه، لينتهي نهاية مصطنعة، حيث يصرخ أحمد زكي بينما هو يقبض على سلاحه، ولم يعلم حامد كيف تم ذلك.

وقال لي شخصيا “لم يجر حذفهما من قبل الرقابة، لكن عبر جهة لم أعلمها حتى الآن، ولم نتوصل إلى تلك الجهة التي أعتقد أنها أمنية، وأدى حذف المشهد إلى التأثير على المستوى الفني والرأي العام، مع ذلك لا يزال يلقى قبولاً جماهيريا غير عادي”.

وجرى الاعتراض على فيلمه “ملف في الآداب”، لاحتواء القصة على انتهاكات شرطية، فقال حامد “وقعت والمخرج عاطف الطيب تحت طائلة الضغوط الأمنية ولم نرضخ لها، وأمام إصررانا استنادا إلى القانون خرج هذا العمل وغيره إلى النور، فالكتابة سهلة لكن الدفاع عنها أمر صعب”.

مشروعات مؤجلة

الفكرة بالنسبة إلى حامد مثل “النطفة”، تحتاج فترة من الحمل كي ينمو الجنين ويخرج مولوداً، ويفكر الكاتب بها حتى يصيغها عبر كلمات متقنة.

تمكن من سبر أغوار المجتمع المصري وتحولاته، لاسيما الطبقات الدنيا والفقيرة بدقة، ويعود ذلك إلى انتمائه لعائلة ريفية فقيرة، لكنه ترعرع خلال فترة تمتع فيها الريف المصري بطابع مهم للغاية، أضحى مفقوداً حاليا، حيث كانت الغالبية تتشابه في الفقر والمستوى الاجتماعي والاقتصادي، ويعملون جميعاً في مهنة الزراعة. لم يكن الفقر عيباً، لكن انعدام الشرف والكرامة هما العيب الحقيقي، إذ كان الفلاح الفقير لا يملك من حطام الدنيا إلا قطعة صغيرة من الأرض، وتملأه الكبرياء والشموخ وعزة نفس.

من بين المشروعات المؤجلة، أو تلك التي لم تخرج إلى النور هناك فيلم “العبّارة”، ويتناول الحادث الشهير لغرق “عبارة السلام” في البحر الأحمر وعلى متنها أكثر من ألف شخص، خلال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، وكتبه الراحل منذ سنوات، لكنه ما زال في الأدراج.

توج عبر مسيرته الإبداعية بعدة جوائز، بينها جائزة الدولة التقديرية عام 2008، وحصل عام 2012 على أرفع جائزة تمنحها الدولة وهي جائزة النيل

فسر وحيد حامد أسباب ذلك بقوله “حقيقة الأمر أنه لا يوجد تمويل لصناعة الفيلم، فكلفة إنتاجه باهظة للغاية، وتبنّت المشروع شخصية سعودية بارزة، كانت متأثرة للغاية بالحادث وأمدني الرجل بمعلومات ووثائق كثيرة حول الحادث، وأعلن أنه سينتج الفيلم، لكنه تراجع أمام ارتفاع التكلفة، ربما تراجع عن الإنتاج، لكنه كان شريفاً للغاية، وبعد الانتهاء من السيناريو أعجب بالعمل وحصلت على حقوقي المادية كاملة”.

من بين مشروعاته التي كان يعكف عليها لتحويلها إلى فيلم رواية “قيس ونيللي” للأديب الراحل محمد ناجي، وقد أخبرني أنه اشترى حقوقها من الورثة، وعكف على كتابة السيناريو لها.

اعتبر حامد أن الأديب المصري الراحل يوسف إدريس، صاحب فضل كبير عليه دون أن يعرفه، وتعلم منه الكثير من خلال قراءة أعماله الأدبية واتخذه قدوة يحتذيها، كذلك نجيب محفوظ، وتأثر بعدد من كتاب المسرح، بينهم ميخائيل رومان وألفريد فرج وعبدالرحمن الشرقاوي، الذين شكلوا وجدان الكاتب الفعلي.

أما بالنسبة إلى الأعمال الأجنبية، فكان يقول “جميعنا نهلنا من مؤلفات شكسبير وموليير وهنريك إيبسن، وغيرهم، فخلال فترة شبابنا قضينا أوقات الفراغ في القراءة والتثقيف، وكان تحصيل المعرفة متعتنا المحببة، ولم أتخيل أنني سأصير كاتباً يوما ما”.

وكشف لي ذات مرة، أن الأديب المصري الراحل يوسف إدريس له مكانة خاصة لديه، وكان عندما يقابله بعد أن أصبح حامد كاتبا مهما للسيناريو يقول له “يا ولد أنا اللي (الذي) دليتك (أرشدتك) على الطريق، خذ رواية من رواياتي وقم بتحويلها إلى فيلم”.

لم يفعل ذلك، وشاءت الظروف أن يسدد ابنه المخرج مروان وحيد حامد دين أبيه لإدريس بعد رحيله، فبدأ مشواره السينمائي بإخرج إحدى قصصه القصيرة التي كانت مشروع تخرجه في معهد السينما، وأخرج قصة “أكان لا بد يا ليلي أن تطفئي النور”، والتي تحولت إلى فيلم قصير بعنوان “لي لي”، بطولة الفنان عمرو واكد، والفنان سامي العدل.

تمكن من سبر أغوار المجتمع المصري وتحولاته، لاسيما الطبقات الدنيا والفقيرة بدقة، ويعود ذلك إلى انتمائه لعائلة ريفية فقيرة

أيقن أن استعادة المجتمع لوعيه المفقود لن يتأتى إلا من خلال المعرفة، ويتحتم عدم إهمالها، فهي التي تحمي المجتمع من الإرهاب والأفكار المتطرفة، فالبندقية ليست السبيل للحماية، قائلا “نحتاج إلى الاثنين معاً، وينبغي ألا نهمل أحدهما على حساب الآخر، وليتنا نمسك بالندقية في يد والكتاب في الأخرى”.

كان من مشجعي الفنانين الشباب، أتذكر أنه أثنى أمامي على أداء وموهبة الفنان محمد فهيم الذي قام بأداء دور سيد قطب ضمن أحداث مسلسل “الجماعة”، وأطلعني أنه يعد له دورا في أحد أعماله المقبلة، وطلب مني أن أخبر فهيم بذلك وهو ما حدث. ورشح وحيد حامد، الفنان الشباب لتجسيد دور سيد قطب، رغم أن فهيم كان وجها مغمورا، لكن اختيار حامد لا يخضع للمجاملة، واستند فقط إلى البحث عن الموهبة.

توج عبر مسيرته الإبداعية بعدة جوائز، بينها جائزة الدولة التقديرية عام 2008، وحصل عام 2012 على أرفع جائزة تمنحها الدولة وهي جائزة النيل، وكان تكريمه الأخير في بداية ديسمبر الماضي ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الثانية والأربعين، بجائزة الهرم الذهبي لإنجاز العمر، تقديرا لمشواره الثري في عالم الكتابة السينمائية والتلفزيونية على مدار خمسين عاما.

جاءت كلمة وحيد حامد مؤثرة للغاية توجه خلالها بالشكر للحضور الذين وصفهم بعشاق السينما التي أحبها للغاية بقدر من الإخلاص والتفاني، ووجه الشكر لكل الذين تعلم منهم ووقفوا بجانبه خلال مشواره الطويل ووصفهم بالفرسان.

كاتبة مصرية

 

العرب اللندنية في

04.01.2021

 
 
 
 
 

قلوب المصريين ستنير طريقه إلى الجنة

طارق الشناوي

هل فى الموت أو المرض شماتة؟ مع الأسف ما يطلقون على أنفسهم الإخوان ويربطون اسمهم عنوة بالإسلام يمارسون كل ذلك وأكثر، تجد عيونا تنطق بكل معانى الشر والتشفى، عندما يمرض أو يرحل إنسان، لمجرد أنه قرر أن ينطق بالحقيقة ويفضح سواد أفكارهم.

الكاتب الكبير وحيد حامد، ومبكرا جدا قبل ربع قرن قدم رائعته (العائلة)، التى كانت ناضجة جدا فى بصيرتها، اختار العائلة عنوانا ومساحة درامية لنرى المجتمع بكل طوائفه، لم يطلب منه أحد أن يبتعد أو يقترب من أى محاذير، وكان هذا هو شرطه الوحيد بعد الموافقة على إنتاج المسلسل، الذى أحدث نجاحا مدويا فى مصر والعالم العربى، نيران الإخوان كانت قد بدأت تعلن عن نفسها فى أكثر من بلد عربى.

ما منح وحيد كل هذا الحضور عند رجل الشارع أنه يكتب الحقيقة مدعمة بالوثيقة، عندما علم الإخوان فى 2009 أنه بصدد الجزء الأول من (الجماعة) تواصلوا معه، وقالوا له لدينا المراجع، أجاب ولدى أنا أيضا تلك المراجع، وعندما تواصلت معه الدولة قال لهم إنه لديه كل الأوراق وسيكتب فقط الحقائق.

وهكذا كان البعض يسأل لماذا لم يقدم حسن البنا شخصية كريهة منذ اللحظة الأولى؟ بينما وحيد كان يعلم أنه يرسم ملامح إنسان بكل الظلال والألوان، مرجعيته الأولى هى ضميره، ووصل المسلسل فى جزئه الأول للناس، وقبل عامين قدم الجزء الثانى الذى أثار كالعادة فى البداية الغضب ومن أكثر من اتجاه، خاصة من أرادوا رؤية جمال عبدالناصر ومصطفى النحاس باشا فى صورة نمطية، بينما وحيد كعادته كان يرسم ملامح الإنسان.

ومع استمرار عرض الحلقات أدركوا أن ناصر والنحاس بشر، وتعاطف ناصر فى البداية مع الإخوان له ما يبرره، بحكم الزمن وقلة الخبرة، بينما قُبلة النحاس على يد الملك فاروق التى أغضبت الوفديين، كانت توثق (البروتوكول)، ولم تتجاوز أبدا فى حق وطنية النحاس باشا.

وحيد يتوخى الدقة فى كل شىء حتى نوع سجائر عبدالناصر أشار إليها، تحمل بشجاعة طلقات النيران التى وجهتها إليه العديد من المنصات مهما تباينت الدوافع.

قلت له يوما هل كل ما يُعرف يقال؟ أجابنى عندما نتحدث عن تاريخ وطن يجب أن نقول كل الحقيقة، وهكذا مثلا عندما قرر أن يكتب الجزء الثالث من (الجماعة) وافقت (الشركة المتحدة) المنوط بها الإنتاج التى يديرها تامر مرسى، على كل ما أراده، لم يطلب وحيد سوى أولا أن يحصل على ضوء أخضر بأن يكتب بحرية من خلال الوثائق، وجاءت الموافقة غير مشروطة بأى تحفظات أو ممنوعات، قال له تامر مرسى نثق فى وطنية ومهنية وحيد وكل التفاصيل من حقك أن تكتبها، أيضا طلب وحيد ثانيا (بحبوحة) من الوقت للتنفيذ، وألا يرتبط بالضرورة بالعرض الرمضانى، ووافقوا أيضا على هذا الشرط.

كتب وحيد حلقات لا أدرى كم عددها بالضبط وما هو مصيرها الآن، ولكن ما أنا أوقن منه أن هذا المبدع الكبير لم يكتب سوى قناعاته، ولم يكن أبدا لسان حال سلطة، فقط كان لسان حال الوطن، معبرا عن أحلام المواطن البسيط، وهكذا أحاطته قلوب المصريين يوم وداعه، القلوب المؤمنة التى لا تعرف أبدا الشماتة، ستنير طريقه إلى الجنة.

tarekelshinnawi@yahoo.com

 

المصري اليوم في

04.01.2021

 
 
 
 
 

وحيد حامد... ابن الشارع ومؤرخ المجتمع المصري

هدى عمران

انخرط وحيد حامد في المشهد السياسي المصري، خصوصاً عقب «ثورة يناير» وشعوره بخطر كبير على الهُوية المصرية

حين كرّمه «مهرجان القاهرة السينمائي» قبل حوالى شهر، لم يكن أحد يعرف أنّه سيكون وداعه الأخير لعالم عشق العيش فيه. قبل أيام، انطفأ الكاتب المصري عن 77 عاماً، مخلّفاً وراءه إرثاً طبع الذاكرة الجمعية المصرية وأسهم في تكوين وعي الأجيال الفني والاجتماعي والسياسي. هو ابن جيل الستينيات، شغل الهمّ الاجتماعي صلب رؤيته الفنية انطلاقاً من بحثه الدائم عن العدالة والدفاع عن الفئات المهمّشة، وإيمانه بدور المثقف في نشر الوعي والتنوير

القاهرةرحل الكاتب المصري وحيد حامد (1944 ـــ 2021) قبل أيام، مخلّفاً وراءه تراثاً فنياً هو جزء أساسي في الذاكرة الجمعية المصرية وفي تكوين الوعي الفني والاجتماعي لأجيال. رحل تاركاً أكثر من ثمانين عملاً فنياً تنوّعت بين الأفلام السينمائية والمسلسلات الدرامية ومسلسلات الإذاعة، وبعض الكتب التي جمع فيها مقالاته للصحف، إلى جانب مجموعة قصصية وحيدة وأولى هي «القمر يقتل عاشقه». وحيد حامد ـــ الذي نصحه الكاتب يوسف إدريس بالاتجاه من الأدب إلى السينما وفق الحكاية المتداولة ـــ برز كأحد الكتّاب النادرين الذين استطاعوا تكوين شعبية عريضة في الشارع المصري، إلى جانب عمق فني كبير في أعماله. فهو كما «لم يتعال مطلقاً على الجمهور» كما قال مرةً، بل استمدّ كل أعماله من الناس وأعاد صياغتها في شكل ممتع ومحبوب للجماهير وبلغتها الخاصة والبسيطة.

كتب حامد أهم علامات السينما المصرية في الثمانينيات مثل «البريء»، و«ملف في الآداب»، و«كشف المستور» وغيرها، لكنّ اسمه لمع جماهيرياً في التسعينيات عندما قدم مع المخرج شريف عرفة ستة أفلام، من بينها خمسة من بطولة الممثل عادل إمام، وهي: «اللعب مع الكبار»، و«الإرهاب والكباب»، و«المنسي»، و«طيور الظلام»، و«النوم في العسل». أما الفيلم السادس، فكان «اضحك الصورة تطلع حلوة» من بطولة الراحل أحمد زكي.

في مطلع الألفية الثالثة، تعاون مع مخرجين آخرين، فكتب: «محامي خلع»، و«دم الغزال»، و«الوعد»، و«عمارة يعقوبيان» عن قصة تحمل الاسم نفسه للكاتب علاء الأسواني وإخراج نجله مروان حامد. كما كتب «الأولى في الغرام» للمخرج محمد علي، و«قط وفار» للمخرج تامر محسن. تعاون أيضاً مع المخرج يسري نصرالله، في فيلم «احكي يا شهرزاد» عام 2009.

حاز حامد جوائز عديدة ومهمة من مهرجانات «القاهرة» و«مالمو» و«فالينسيا»، ومن «جمعية النقاد السينمائيين»، كما حصل على جائزة الدولة التشجيعية، وعلى جائزة النيل أرفع جائزة مصرية تقدم للمؤثرين من الفنانين والعلماء والمفكرين.

قبل هذه النقطة، كان وحيد حامد صعلوكاً أصيلاً في مقاهي القاهرة، باحثاً عن الشغف والمغامرة. في «مقهى الفيشاوي»، رأى للمرة الأولى نجيب محفوظ، وتردّد في تقديم نفسه لأديب نوبل، لكن عندما واتته الشجاعة، ذهب إلى ندوة محفوظ التي كانت تقام في «كازينو صفية حلمي».

في فيلم «طيور الظلام» جسّد عادل إمام تيار الدولة القديمة ورياض الخولي جماعة الإخوان المسلمين

كان حامد يصف نفسه بأنه ابن الشارع، لم ينسلخ للحظة واحدة عنه. فهو أولاً ابن القرية مهاجراً منها في عمر الستة عشر عاماً. فهم جيداً ما يعنيه «الفلاح المصري» ومجتمعه ومشاكله، ثم هو ابن للقاهرة بكل تركيباتها المعقّدة، ما أحدث طفرةً في تفكيره، حين كانت قاهرة الستينيات مدينة للفن والثقافة بامتياز.

دائماً ما اعتُبر حامد مؤرخاً اجتماعياً لتاريخ مصر، وأبرز محطاتها السياسية من خلال السينما. لا أحد ينسى مشهد الختام في فيلمه «طيور الظلام» (1995) وانتهاء اللعبة بين عادل إمام ممثلاً تيار الدولة القديمة ورياض الخولي ممثلاً لجماعة الإخوان المسلمين، وانسحاب التيار الثوري متوارياً خلف خطابه الرومانسي. أعيد تأويل هذا المشهد بقوة عقب ثورة 25 يناير، وتساءل الجميع: كيف تنبّأ وحيد حامد بهذه النهاية؟. لم تكن هذه هي الحادثة الوحيدة التي تتحقق فيها نبؤات حامد: عقب فيلمه «البريء» (1986 ــــ إخراج عاطف الطيب) الذي يجسّد قصة عسكري أمن مركزي يكشف خدعة السلطة له ودفعه للإيمان بتخوين معارضيها، اندلعت ما أطلق عليه «انتفاضة الأمن المركزي» التي وقعت في 25 فبراير 1986، وتظاهر فيها عشرات الآلاف من مجنّدي الأمن المركزي احتجاجاً على سوء أوضاعهم وتسرّب شائعات عن وجود قرار سري بتمديد سنوات الخدمة من ثلاث إلى خمس سنوات. على إثرها، استمرت حالة الانفلات الأمني لمدة أسبوع أُعلن فيها حظر التجول وانتشرت قوات الجيش في شوارع القاهرة واعتُقل العديد من جنود قوات الأمن المركزي.

يرجع وحيد حامد هذه البصيرة لإيمانه بأن الفنان لا بد من أن يرى ويعي ويرصد مجتمعه جيداً، فهو ابن جيل الستينيات، لم ينحِ الهمّ الاجتماعي عن فنه، وكانت رؤيته الفنية تنبع من عنصرين أساسيين: بحثه الدائم عن العدالة الاجتماعية، لشعوره بالظلم الواقع على الفئات المهمّشة أو التي لا تمتلك السلطة، والشيء الثاني إيمانه بدور المثقف في نشر الوعي والتنوير، وهو ما أدخله في مشكلات كثيرة مع السلطة من جهة بسبب هجومه الدائم على المؤسسة الأمنية والفساد المؤسسي، ومواجهة أخرى مع التيار الديني الذي كان يكشف حيله في كل أعماله. وتبلور هذا الكشف في مسلسله «الجماعة» الذي أرّخ فيه لبداية ومنهج جماعة الإخوان المسلمين.

في أحد حواراته الأخيرة، صرّح حامد أن أغلب المثقفين لديهم طموح قوي للانضمام إلى السلطة أو الانتفاع منها. وأكد أنّ دور المثقف هو أن يكون مع مصلحة البلد، ويعبّر عن رأيه من دون خوف ولا فزع، ولا ينتظر مكافأة، فـ «المثقفون صنّاع الوعي، لديهم رسالة وربنا منحهم نعمة وهي المعرفة وهي غير متاحة لكل الناس، يجب استخدامها في خدمة الناس، لا لتحقيق مكاسب شخصية أو السعي وراء مناصب».
لعلّه بسبب هذه الفلسفة، انخرط حامد في المشهد السياسي المصري، خصوصاً عقب «ثورة يناير» وإبان حكم الإخوان المسلمين وشعوره بخطر كبير على الهُوية المصرية والحرية، وشعوره بأنه ينبغي له كمثقف مقاومة هذه السلطة الجديدة. مع ذلك، لم ينجر مثل كثيرين من أبناء جيله إلى شيطنة «ثورة يناير»، بل رأى أنّ ما حدث هو حق طبيعي لفئات تبحث عن العدل الاجتماعي كما شخصيات أفلامه
.

لمع جماهيرياً في التسعينيات عندما قدّم ستة أفلام مع المخرج شريف عرفة

هذا العطل الذي حدث في مسيرة حامد بسبب انشغاله بالهم السياسي الذي كان ساخناً، اكتمل مع وجود رقابة حالية خانقة على الفن. إذ صرّح مرةً بأنه كتب فيلمين للسينما ذهبا إلى الرقابة ولم يخرجا منها كأنهما دخلا في نفق مظلم. إذ لطالما نظرت السلطة بتوجّس إلى حامد بسبب عدم انتمائه إليها وشعبيته الكبيرة وذكائه في تمرير النقد الاجتماعي من دون صدام حادّ. ومن الطريف ما قاله في ندوته الأخيرة عن الرقابة في «مهرجان القاهرة السينمائي» الأخير، إذ نصح الكتّاب الشباب بأن يستعملوا حيلاً لتمرير أفكارهم، كاستخدام مشاهد ساخنة أو قبلات لإلهاء الرقابة عن أفكار نقد السلطة أو نقد أفكار مجتمعية رجعية. ورغم قسوة النظام قبل «25 يناير» وهجوم حامد الصريح ضده، إلا أنه كان يؤكد أن الوضع الحالي أصعب وأكثر تعتيماً. رغم قسوة نظام ما قبل «25 يناير»، إلا أنّ حامد لم يصطدم بالرقابة حينها، والمشكلة الوحيدة التي تعرّض لها في فيلم «البريء» لم تكن بسبب الرقابة، بل بسبب بلاغ قُدم ضد الفيلم.

اختتم حامد حياته ومشواره الطويل بمشهد تكريمه في «مهرجان القاهرة» في دورته الـ 42، وتقديم شريك مسيرته شريف عرفة له. يومها، وقف على المسرح ليتسلّم «جائزة فاتن حمامة». وقف له الحضور باكياً ومتأثراً بكلمته التي ستبقى في ذاكرتنا جميعاً «أنا بحب زمني، أنا بحب الفن».

 

الأخبار اللبنانية في

04.01.2021

 
 
 
 
 

وحيد حامد.. آخر الرجال المحترمين؟

محمد صبحي

لم تكن لوحيد حامد، الذي رحل قبل أيام عن 76 عاماً، علاقة بالسينما، ولم يخطط ليصير كاتباً يوضع اسمه على أفيشات الأفلام، ولم يكن حتى يعرف كيف يُكتب السيناريو، فقد كانت حياته وعالمه كله بين كتابة المسلسلات الإذاعية والمسرحيات. في العام 1975 كتب للإذاعة مسلسل "طائر الليل الحزين" وحقق به نجاحاً كبيراً عند عرضه. بعدها فوجئ بالمنتج السينمائي مخلص شافعي يطلبه ويخبره برغبته في شراء قصة المسلسل لتحويلها إلى فيلم، بعد الإستعانة بسيناريست محترف لتكييفها للسينما.

في لحظة مغامرة، اندفع وحيد حامد بالقول إنه على استعداد لكتابة السيناريو، فسأله الرجل بلا مواربة: "هو أنت تعرف تكتب سيناريو؟"، وردّ عليه حامد "خليني أكتب السيناريو، إذا أعجبكم كان بها، وإذا لم يعجبكم فهاتوا كاتب سيناريو آخر". وبعد لحظات من التردد والتحجج بأنه سيكون سبباً في تأخير المشروع، قال المنتج وكأنه يعجّز الكاتب الذي لم ينجز سيناريو واحد قط: "أمامك شهر واحد تسلّمني فيه السيناريو".

مرّ 29 يوماً ولم ينجز حامد شيئاً بعد إصابته بنزلة برد شديدة، وفي اليوم الثلاثين حمل حلقات المسلسل ونزل ليجلس في مقهى هادئ بحيّ مصر الجديدة، وبدأ في كتابة سيناريو الفيلم من العاشرة صباحاً حتى السادسة مساء، حتى أنجز جزءاً كبيراً منه، فأخذ الأوراق وذهب بها للمنتج الذي سأله "أين الباقي؟"، فأجابه بارتباك "غداً". في اليوم التالي سلّمه السيناريو. نجح الفيلم، الذي أخرجه يحيى العلمي وأدّى بطولته محمود مرسي وعادل أدهم، وتغيّرت تماماً حياة الشاب الريفي الذي زحف للقاهرة مطارداً حلمه بالكتابة المسرحية ثم الإذاعية. ما حدث بعد ذلك صار تاريخاً. وككل تاريخ، تتنازعه الآراء ويختلف فيه الناس.

***

لم يكن وحيد حامد مناضلاً، ولا مثقفاً مدجّناً كذلك، بل صاحب رأي وضمير يحدث أن تتلاقى رؤيته، في مرحلة انتقالية ما، مع رؤية السلطة الحاكمة. بهذا المعنى، يُفهم الاحتفاء به من طرف الإعلاميين "المخبرين" (أو "الوطنيين الشرفاء" في الرواية الرسمية)، فوصفته القناة الأولى الحكومية بـ"فارس القوة الناعمة وجندي التنوير السينمائي" حين استضافته في مقابلة طويلة قبل خمسة أشهر. وفي لقاء آخر قبل ست سنوات، احتفت إسعاد يونس "بنبوءته الفنية" بعد إطاحة حُكم الإخوان المسلمين. تلقفته الإذاعات والقنوات والمطبوعات الرسمية والموالية، ليحكي عن "أسلمة مصر" بالأموال الخليجية وجناية السادات بحق "التنوير المصري" وأهمية الحفاظ على "الوطن"، بل وحتى أهمية الرقابة في منع الانحطاط السينمائي في بلد كمصر.

لكن يبقى غير مفهوم، تناسي هؤلاء، قبل أي شيء، أن كل احتفاء بمنجز حامد ينبغي أن يصبح احتفاءً بما صار ذكرى بعيدة في الراهن المصري البائس، فلا هوامش للحرية ولا مكان للتفكير خارج السرب ولا سبيل أمام السخرية السياسية ولا المشاغبات المتمرّدة. نظرة سريعة على الحالة المصرية، وفي القلب منها السينما المصرية، كافية لإدراك الحقيقة المفزعة المتمثلة في استحالة إنجاز أفلام وحيد حامد حالياً، الأفلام نفسها التي هي إرثه الباقي وجوهر تأثيره وعلّة تكريمه في مهرجان الدولة السينمائي في دورته الأخيرة قبل شهر. أحوال مضحكة ومبكية، فسقف الحريات الذي ظننّاه منخفضاً في عهدي السادات ومبارك (حينما صنع وحيد حامد أمجاده)، يتراءى لنا الآن سماء سابعة بعدما كاد سقف حريات اليوم يسحق الرؤوس.

في مقلب آخر، التعمية المتواطئة والتجهيل المجرم لقيمة أفلام وحيد حامد، بما فيها من كشفٍ لفساد السلطة وظلم لأحلام البسطاء، واقتصار الحديث عن منجز الرجل في أفلامٍ ومسلسلات بعينها، يراها فصيل سياسي معادية له أو غير أمينة في رسم صورته، ليس سوى دفن للرؤوس وتغابٍ تام من خصمٍ حبيس استيهاماته الذاتية في خضم صراعه مع توأمه المضاد على سلطةٍ لطالما وقف الرجل منها موقفاً معارضاً. لم يبع الرجل نفسه لأحد، ولم يتبنّ في أعماله السينمائية والدرامية ما لا يؤمن به، حتى في مرحلته المتأخرة التي شهدت تقاربه مع النظام الحالي تزامناً مع نشاطه الكتابي في توثيق رؤيته الخاصة لجماعة الإخوان المسلمين وتاريخ مؤسسها حسن البنّا وتأثير الحركة في مصر، لم يحظَ سيناريو الفيلم الذي كتبه عن حياة عبد الفتاح السيسي وصعوده لحكم مصر بإعجاب الأخير. لماذا؟ لأن فيلسوف الرؤساء وحكيم القادة لا يرضى إلا بالانحطاط التام وإفناء الكاتب لذاته وفكره ورأيه فداءً لروح القائد المخلّص مبعوث العناية الإلهية.

***

النقاش حول إرث وحيد حامد دخل للأسف في الدوامة المفرغة المسيطرة على المشهد المصري منذ العام 2014، فاستحال مناوشات استقطابية حول موقفه من الإسلام السياسي وتبنّيه اتجاهات يمينية سلطوية في سنواته الأخيرة. بالطبع ثمة تناقض واضح بين رؤية الرجل أثناء عصر مبارك وأفلامه التي هي بمثابة صرخة تنادي بضرورة التغيير، وبين إيمانه المتأخر بالمستبد المستنير وأهمية استقرار الدولة. لكن البشر ليسوا شخصيات بالأسود والأبيض. كان وحيد حامد "صنايعياً" في مهنته، حرفياً لغوياً، برع في تطوير شخصياته درامياً ورفد أعماله بصياغات شعبية توسّع دائرة الجمهور، وكان قارئاً نبيهاً لتفاصيل المجتمع المصري في سنوات ما بعد الانفتاح الساداتي وتوحُّش السلطة. لكنه أيضاً إنسان محكوم بتجارب وخبرات شخصية وانحيازات خاصة قد لا تتماشى تماماً مع مبادئ حقوق الإنسان وحرياته في عالم جديد ومتغيّر. هذا لا ينفي كامل عمله ولا يلغي تأثيره المهم و"الإيجابي"، إن جاز التعبير، غير أن موقفه من نظام السيسي (وكذلك موقف السيسي منه) تذكير إضافي بالآثار الجانبية لأزمنة رديئة مطبوعة بالتسلّط وغياب العدالة وإجهاض الحرية.

 

المدن الإلكترونية في

04.01.2021

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004