ملفات خاصة

 
 

فريد رمضان وأغنية الموت الأخيرة

فضيلة الموسوي

عن رحيل عراب الهوية

فريد رمضان

   
 
 
 
 
 
 

"أنا شخصيا تعبت، وأعتقد أن عمري مناسب للمغادرة. أريد أن أقول للسكلر كفى نهشا .. كفى!!"

فريد رمضان

(رسالة واتس أب) 1/2/2013

هل رأيتم جنازة فريد رمضان؟

كانت قليلة العدد، سريعة جدا لا تليق بقلوبنا المتلهفة لرؤيتها في الوداع الأخير. كانت بسيطة جدا تليق بتعففه عن التباهي حتى في الموت. لعنة جائحة الكورونا، وتوقيت الدفن في الساعة السادسة، ساهم في تقليص "أصدقاء العنب" الذين حملوا النعش العاري إلا من جسد نحيل تحت لفافات الكفن الأبيض، لا يسمع منهم فريد إلا خطوات تركض به في ليل المقبرة الموحش، لا يسمع إلا همهمات وأنفاس حرى. مشت الجنازة حوالى نصف كيلومتر بسرعة. إكرام الميت سرعة دفنه، وهو في الأساس أحد وصايا الفقيد لأهله. كل الطقوس جرت بشكل سريع، وانتهى فريد إلى ضيافة التراب في غمضة عين.

ودعته النساء بالعويل ولا سيما زوجته المكسورة، المفجوعة، ثم عدن قافلات إلى بيت أكثر وحشة. عند باب المقبرة كانت هناك بعض النسوة وسيدة على كرسٍ متحرك، تبكي: "أقولج ادفنوه.. ما لحقنا عليه".. وأنا أيضا تضاعف كسري وحسرتي للمشهد الذي فاتني، لكن ولدي نقل لي وجهه على المغتسل: "ماما.. كان عمي فريد "يجنن" حالما كالطير، وسيما، وهادئا وطبيعيا جدا، كان لا يزال طريا لم تبدله برودة المشرحة بعد، ولم تغير ملامحه الطفولية، الوادعة، كان عمي فريد نائما فقط.

كنت أعرف أن رحيله قريب جدا، كلما تردى وضعه الصحي أفصحت لنفسي أن النهاية عاجلة، فارتعب.. ارتعب جدا وأطرد الحقيقة المرة، حتى صفعنا بها في السادس من نوفمبر.. كان يمر بنوبات حادة ترقده المستشفى، وكان آخرها عملية قسطرة القلب في 14 أكتوبر 2020، للتحقق من ألم في الصدر لم يتبين مصدره، أهي الرئة؟ أم القلب؟. والنتيجة لا حاجة إلى تدخل جراحي، فقط أدوية علاج ومتابعة مع القلب، وأخصائي أمراض صدرية. لكنه دخل المستشفى يوم الخميس بسبب ضيق التنفس، وبات ليلة الجمعة هناك، وفي يوم الجمعة 6 نوفمبر، في الساعة الواحدة وعشر دقائق أسلم الروح العزيزة بكل هدوء. كانت سكتة قلبية.

****

تعرفت إلى فريد رمضان في العمل في العام 1993 .. عاصرتُ مسيرته الإبداعية منذ "نوران" 1997 وحتى "المحيط الانجليزي" 2018 وقرأت تقريبا كل مسوداتها. وثيمة الموت أغنيته الأثيرة التي تعزفها كل حروفه.

عاصرتُ سيرة الموت في حياته التي لا تتوقف في فقد أهله، تحصدهم واحدا، واحدا، وأولهم أخيه محمد "الثاني" في 1999. ثم والده، وأخته، وآخرين من عائلته، لكن جلّ ما كان يخشاه أن تُفجع به والدته، وكأنها استجابت لرجائه، رحلت في 2016. رأيت كيف يتناوب عليه الفقد من جهة، ونوبات السكلر من جهة أخرى، لكنه مع ذلك لا يفوّت زيارة قبور أهله في كل خميس، ولا سيما مع أخيه محمد "الثاني". كما أذكر أنه كان يزور والده أسبوعيا في دار العجزة حتى توفى، رغم أن الذاكرة الهاربة منعت الوالد من معرفة ذلك الزائر المتكرر.

عاصرتُ مسيرة نوبات السكلر التي أرقدته المستشفى مرارا، من فرط ما أهلكه المرض كان فريد في كل مرة يتنبأ بأنه سوف يغادر الحياة عن قريب. " سوف أغادر بعد عشر سنوات"، قال لي ذلك في العام 2003 .. ويعود في بداية العام 2019 ليقول: "أعتقد أنني لن أعيش أكثر من خمس سنوات، غير صالح للحياة بأكثر من ذلك". وفي المرتين يخطيء التنبوء. لكن قبيل رحيله شعر بدنو الأجل بدليل أنه ردّ على جميع تهنئات عيد ميلاده في 4 نوفمبر ..وما أكثرها.

بعد الجلطة العابرة في الرأس عام 2014 دخل فريد في إجراءات احترازية أخرى، تقتضي تبديل الدم كل شهر تفاديا من جلطة أخرى غادرة... حكى لي كيف داهمته الجلطة حيث شعر بدغدغات في ذراعه الأيمن وعجز في الساق اليمنى، كان حينها يجدف بهمّة في المحيط الانجليزي ولما استشعر الخطر نقر على زر save. في ديسمبر 2014 سافر إلى دبي لمهرجان دبي السينمائي، للعرض الأول لفيلم الشجرة النائمة الذي تشرفتُ بالعمل فيه. ثم سافر إلى تايلند للعلاج وعاد بأمنية صغيرة وهي أن يمد الله في عمره قليلا فقط ليكمل مشروع المحيط الانجليزي وسيناريو فيلم ما لا أذكره.

كان فريد رمضان كلما انتدب الموت عصاه، مجبولٌ بضيف ثقيل يرفس الباب ويشهر نصله مهددا بالهلاك، لكنه في كل مرة يؤخر النهاية. يؤجلها ربما كي يمن الله عليه بالعطاء الإبداعي أكثر له وللطاقات الشبابية الذين يطلبون دعمه، ولاسيما المخرجين، وكتاب سيناريو الأفلام القصيرة، ومخرجي المسرح، وأيضا الروائيين، الشعراء وغيرهم، ولأن فريد في العطاء يخالف طبيعة المبدع الأناني في اقتناص الوقت كله لنفسه فقط، فقد جُبل هذا الرجل على اقتسام الحب مع كل من حوله، وأقدس الحب المقتسم بالنسبة لمبدع كفريد هو "الوقت الثمين" الذي يتناقص تدريجيا من أنفاسه، لكنه مع ذلك ما فتيء يتقاسم ما يملكه من وقت مع أحبته مثلما يُقتسم الرغيف بين الجوعى. آخر مهلة وُهبت إليه كانت لإضافة اللمسات الأخيرة لمشروع كاتب واعد، حيث أعجب فريد بذلك العمل. "يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، يحترق من الداخل ولا يسمح لك أن ترى غير النور الذي يشع إليك، يكابر المرض ويناكفه كي يعطي ما استطاع إليه سبيلا. هكذا يترجم ولائه للإبداع، ولاء يزداد بازدياد شراسة الألم.

****

هل راوغه الموت كل هذا الوقت حتى يصل إلى هذا الامتنان؟

في كل مرة يحكي عن نوبة سكلر يقول: "أنا ما عندي مشكلة مع الموت"، هذي الجملة سمعتها كثيرا، لذلك وهو يسرد الحدث كأنه يتكلم عن شخص آخر، فلا يغالب دمعا، ولا يتحشرج صوته، ولا يحزن وجهه. متصالح مع نفسه، ومع الموت لأبعد الحدود، كل الشواهد معه تقول ذلك.

عالم البرزخ الذي ما فتيء يشغله منذ أن طلب منه والده وهو بعمر الثانية عشر أن يكتب أسم أخيه محمد "الأول" على شاهد القبر. أعتقد أن تعايشه الطويل الطويل مع المرض، والفقد، إلى جانب وعيه الناضج بتجارب الحياة، وأفقه الواسع، وحكمته وعقلانيته مع فلسفة الموت وهذا الرضا الهائل الذي نستشعره فيه سهّل عليه مواجهة الموت المحتوم بكل هدوء.

في 25 أكتوبر جاءتني رسالته بالوتسأب: "هل يناسبك أمرك اليوم في السادسة مساء؟" قلت له: "أكيد، حياك الله، لكن هل تستطيع السياقة؟" قال: "نعم ستكون أول طلعة لي أسوق السيارة (وآخر طلعة)، وأبّي أطلع أمرّك". في ذلك اليوم لاحظنا أن كلامه أقل من المعتاد، وأكله كذلك، لكن ملامحه مرتاحة جدا، تشي بالاطمئنان العميق.. نعم لا أبالغ في ذلك.. يا له من وداع.

إن ما يعزي النفس هو ذلك الحب الذي انهمر من الناس، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالبكاء، والرثاء، ومديح لم يتوقف، لا استبعد أنه تصدر الترند، في وداع رجل اتفقت كل البحرين على حبه. كلنا يعرف أن فريد رمضان الحميمي، الحنون، الحكيم، المحب للآخرين، الكثير إبداعيا وإنسانيا، في مساعدته الحثيثة للشباب الواعدين وغيرهم في مشاريعهم الفنية. هذا غير تفانيه في رعاية أهله. أما في العمل بالوزارة فهناك محبة خاصة من زملائه، وتعلّق لافت من رؤسائه له – شهدت ذلك بنفسي -، كان يُنتدب لحل مشاكل مستعصية لموظفين صعبي المراس، وهي ليست من اختصاصه، ولا تتعلق بوظيفته، ذات جانب اجتماعي أكثر من إداري، فقط تحتاج إلى كياسة وفن في التعامل. وهو ما يمتاز به فريد.

هناك حكايات أثيرة مع كل إنسان التقاه ونهل من عطائه، وكل من سمع باسمه شهق إعجابا وامتنانا.. قلت له ذات مرة: "لو لم أتعثر بك في الحياة لما كتبت شعرا" قال: "ربما نلتقي في الحياة لنمنحها أثرا ما، ربما شعرا، ربما قصيدة حب، ربما وردة".

هذا الفريد كشخصية مبدعة، كإنسان دافيء وصادق، إنسان بأخلاق نبي.. شخصية تستحق الدراسة فعلا.

هذا الفريد، عرفناه كيف يُبلسم القلوب الخائفة، وينثر العطر أينما حل.. فريد إذا زارني في البيت يتحلّق أولادي حول عيونه، مشدوهين لكل حرف سوف يتفوه به، وهو ما فتيء يلبي أسألتهم المتعطشة، يعطي بحب جرعات إبداع لهذا وذاك .. يشغلهم بالأفكار، ويشعلهم بالنشوة. موسوعة فنية في كل شيء، يرشدنا إلى أجمل فيلم، وأفضل كتاب، أحلى أغنية، يدلق أفكاره ويزلزلنا بالحماس ثم يمضي، تاركا فينا غبطة وثقة، وكأن هذا الإنسان خلق فقط ليضيء الناس.

لقد كسرتنا يا فريد ولا يجبر كسورنا غيرك.

 

موقع "أوان" في

15.11.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004