كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان «فينيسيا الدولي} (4): «باتمان» الجديد في ورطة

ثلاثة أفلام تعرُج في منطقة الوسط

فينيسيا (إيطاليا): محمد رُضا

فينيسيا السينمائي الدولي السابع والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

أعلنت شركة «وورنر» إغلاق تصوير فيلمها الجديد «ذا باتمان» بعد أقل من أسبوعين اثنين على بدء التصوير في أحد استوديوهات بريطانيا. بالأحرى «على إعادة بدء التصوير»؛ إذ كان التصوير قد توقف قبل عدة أشهر بسبب وباء «كورونا»، قبل أن تُجهز العدة للعودة إلى العمل مع روبرت باتنسون في دور الرجل المقنع.

وبعد الإعلان، أصابت الممثل الأول حالة إعياء فُحص على أثره ليتبين أنه مصاب بالوباء، ولا بد من حجره لعشرة أيام على الأقل.

ليس هذا فقط، فكل من اقترب منه خلال الأسبوع الماضي على الأقل لمسافة تقل عن مترين، ولمدة تزيد عن 15 دقيقة، يتم فحصه حالياً. الخبر سبب ذعراً شديداً، ليس بين العاملين على الفيلم فقط؛ بل في أرجاء صناعة السينما الواسعة من هوليوود إلى بريطانيا. ذلك لأن الاستعدادات كانت قد بدأت لإعادة الحياة إلى طبيعتها السابقة، والعودة إلى تصوير الأفلام الجديدة، أو استكمال ما كان توقف منها. الإطار الأوسع هو أن شركات التأمين لم تعد في وارد تأمين الفيلم إذا ما توقف تصويره بسبب «كورونا». بالنسبة لفيلم «ذا باتمان» فإن «وورنر» كانت أمَّنت قبل تراجع الشركات العاملة في هذا المجال على التعاقد مع هوليوود في هذا الإطار.

بذلك، وعوض أن ينشغل المنتجون بأحد أضخم أفلام العام المقبل (250 مليون دولار كميزانية) ومتابعة التصوير عبر ما يُرسل إليهم من مشاهد منجزة، وجدوا أنفسهم يبحثون في احتمال أن يكون الوباء قد انتشر فعلاً بين كل من اقترب من الممثل خلال العمل، وهم كثيرون، ومن بينهم المخرج مات ريفز.

والمسألة لا تتعلق بفيلم «ذا باتمان» وحده؛ بل هناك أفلام أخرى بُوشر تصويرها، من بينها «جوراسيك وورلد: دومينيون» الذي تنتجه شركة «يونيفرسال» ويتم تصويره كذلك في بريطانيا.

كانت «يونيفرسال»، حسب معلومات وفرتها مجلة «فاراياتي» قد اشترت فندقاً كبيراً لفريق العمل على ذلك الإنتاج الذي يرأسه ستيفن سبيلبرغ. بدوره، هذا الجزء الثالث من السلسلة محط حذر شديد. ثلاث مرات كل أسبوع يتم فحص كل العاملين في الفيلم للتأكد من عدم إصابة أحدهم بالوباء. هذا يشمل المخرج كولين تريفوروف وكل ممثلي الفيلم الذي يقوده كريس برات وبرايس دالاس هوارد.

- مصير المهرجانات العربية

و«كورونا» معضلة تحاول المهرجانات العربية حلها ضمن الأزمة العالمية التي يعيشها العالم. انتشال التميمي، المدير الفني لـ«مهرجان الجونة» في البحر الأحمر، يؤكد أن كل شيء يسير على ما يرام وبشكل حثيث لإقامة الدورة الجديدة في موعدها، بعد نحو سبعة أسابيع: «لكننا في الوقت ذاته حذرون جداً، وسيكون لدينا معايير أمان أعلى مما هي هنا في فينيسيا».

من بين هذه المعايير أن الآتي للمهرجان من المدعوين والضيوف لن يستطيع مبارحته مغادراً ثم العودة إليه: «من يغادره لن يستطيع العودة؛ لأن عودته ستتضمن مزيداً من الفحوصات».

والأخبار الأخرى الواردة تشير إلى أن «مهرجان أيام قرطاج السينمائية» قد لا يعرض أي فيلم جديد؛ بل سيعتمد على إعادة عروض لأفلام سبق وقدمها في إطار السنوات السابقة. هذا إن حدث فسيكون على عكس من يرغب في استمرار اندفاع ذلك المهرجان الذي بدأ منذ تسلم مديره الراحل نجيب عياد مهام عمله قبل عامين. بعد رحيله انتخب المخرج التونسي رضا الباهي الذي يتكتم حول رأيه فيما يدور في هذا الشأن.

والمصير ذاته يتراءى لـ«مهرجان مراكش السينمائي» الذي كان قد توقف سابقاً مع تغيير إدارته، ثم عاد في العام الماضي واعداً بنهضة جديدة (لم تتم). الأخبار الواردة تؤكد - إلى حد بعيد - أنه في سبيل إلغاء دورته المقبلة المقررة مع نهاية هذا العام.

هذا يدلف بنا إلى «مهرجان القاهرة» الذي عادة ما يقام في الشهر الحادي عشر من كل سنة. السلطات المصرية مصممة على مجابهة الوباء بالحد من بيئات محتملة لانتشاره. ومهرجان يقبل عليه الألوف خلال إقامته واحد من هذه البيئات. لا نعرف ما هي معايير السلامة التي سيتبعها المهرجان في دورته المقبلة؛ لكن المرء يستطيع أن يدرك أن المسألة لن تكون سهلة على الإطلاق، لا على القائمين بالمهرجان ولا على ضيوفه.

- مأساوي

حتى الآن زخم الأفلام متنوع، وعديد منها جيد؛ لكنها المنطقة الزمنية الوسطى من المهرجان، وبعض العرج بدأ يُصيب الأفلام المعروضة. خذ مثلاً «مس ماركس» لمخرجته الإيطالية سوزانا نكياريللي. العنوان لافت، وهو يكاد أن يسطو على نقطة الاهتمام الأول في الفيلم، فالمرأة المقصودة في الفيلم ليست سوى إليانور ماركس (1855 - 1898) أصغر بنات كارل ماركس. تقوم بها رومولا غاراي باندفاع يشبه اندفاع الفيلم كقطار فقد مكابحه. إذ كتبت المخرجة سيناريو الفيلم، فإن ما أرادت نكياريللي تضمينه هو كل شيء في وقت واحد. إنه سيرة حياة بطلتها، ومواقف شخصية وملامح سياسية من دون أن يستكمل الفيلم أياً من هذه المشاغل التي كانت ستصنع منه عملاً أفضل. في زحمة ما لديها من مشاهد وأبعاد تريد دفعها معاً، نجد المخرجة تعمد إلى حيوية وحركة دائمة، كما لو أن استعجال المشاهد هو فعل جيد بحد ذاته. نتيجة ما تقوم به أن الفيلم ينتمي – كأسلوب - إلى تلك الأعمال التي تشبه الغوريللات؛ حين تضرب على صدرها مدعية القوة أمام الغريم.

يبدأ الفيلم بمشهد لإليانور ماركس تحضر دفن والدها سنة 1883. هي من أكثر أفراد العائلة إيماناً به وبفلسفته الشيوعية. تدافع عنه بعد رحيله وتحاول التمثل به، هذا إلى أن تكتشف أنه أنجب خارج حياته الزوجية مع أمها التي ماتت قبل موت الأب بعامين.

علينا أن نصدق أن الخبر كان له هذا الوقع الصاعق الذي نشاهده في الفيلم، ذلك لأنه يناسب، لدى المخرجة، أسلوب فيلم الأزمات والرغبة في التصعيد. مشهد كهذا كان الأحرى به أن يمر من خلال عاطفة فعلية. ربما صامتة لأنها الأعلى أثراً من سواها. في كل الأحوال، وتبعاً لاكتشاف أن والدها لم يكن مثالياً، تُصاب بخيبة أمل، ولو أنها ستواصل حمل راية أبيها الاشتراكية. عندما تقع، لاحقاً، في حب الكاتب المسرحي إدوارد (باتريك كندي) تتكرر مأساتها، فهي لم تدرك أنه متزوج، وحين أدركت (بعد سنوات) أقدمت على الانتحار.

مشكلة نكياريللي في سردها هي رغبتها في توفير السيرة بمعالجة تضيف ترجمتها الخاصة لكيف وقعت الأحداث الفعلية. تأخذ من الحدث العام وتضيف إليه ما يخرج به من واقعه إلى شطط خيالي، بهدف تتويج الفيلم بذروات مفتعلة، حتى ولو أن بعضها وقع بالفعل. بهذا فإن الفيلم ينتمي إلى مقالات مجلة الشائعات الشخصية «إنكوايرر» أكثر من انتمائه إلى مستوى مجلة «فانيتي فير» مثلاً. الفيلم يحمل مشاهد نرى فيها إليانور ضحية بحثها عن الرجل المناسب في عالم غير مناسب، يحيط بها الموت من كل جانب (انتحرت عندما أدركت أن من تعيش معه ما زال متزوجاً).

تضيف المخرجة إلى الفترة التاريخية أغاني الـPunk الأميركية الحديثة، ما يؤكد عزمها على منح فيلمها ما تعتقد أنه ضروري لتسويقه. وبينما التصوير والتصاميم الفنية جيدة على النحو المتوقع إنتاجياً، فإن كل ذلك وسواه ينضم إلى حفلة صاخبة من الصور والأصوات. تضيف المخرجة فوق ذلك أغاني «روك» حديثة لا تدري ما دورها سوى إثارة ما تعتبره حماساً. بذلك هي مثل من يقف على خشبة المسرح وترفع يديها طالبة من جمهور كسول أن يصفق معها.

- فرصة مزدوجة

على عكس هذه المعالجة المفتعلة، يأتي فيلم الأميركية مونا فاستفولد «العالم المُقبل» (The World to Come). يدور في القرن التاسع عشر أيضاً؛ لكنه بعيد عن حياة المدينة، وليس من النوع البيوغرافي كذلك. يعمد إلى سرد هادئ آتياً على ذكر علاقة أنثوية - مثلية بين امرأتين تعيشان في بقعة نائية من النرويج (الفيلم ناطق بالإنجليزية). هما جارتان في تلك الأراضي القاصية، متزوجتان. أبيغيل (كاثرين ووترستون) فقدت ابنتها وتعاني الآن (وزوجها) من برودها الجنسي، وخشيتها من الإنجاب مجدداً. الأخرى اسمها تالي (فانيسا كيربي) التي لم تنجب بعد. منذ زيارة تالي الأولى لأبيغيل (بعد نحو سبع دقائق من الفيلم) ستدرك ما سيقع بينهما.

تستعجل المخرجة العلاقة ولا تستعجل الزمن داخل الفيلم ولا أسلوب عرضه. هذا ما يمنح الفيلم جديته. مصور في الطبيعة بإيقاعها الهادئ، ويمر فوق المشاهد تعليق أبيغيل الصوتي. وإذا كانت العلاقة موحى بها باكراً، فإن المخرجة لا تنطلق لتوظيفها على نحو شاع؛ بل تحاول (وبنجاح معتدل) سبر غور العاطفة الداخلية لكل من بطلتيها وأسبابها.

في المسابقة كذلك فيلم آخر من بطولة فانيسا كيربي، عنوانه «أجزاء امرأة» (Pieces of a Woman) ما يمنحها فرصة مزدوجة للفوز بجائزة أفضل ممثلة. وهي بالفعل ممثلة جيدة يُمكن تصديق عواطفها في «العالم المُقبل» وانفعالاتها في «أجزاء امرأة».

المخرج هو مَجَري سبق أن قدم قبل ست سنوات فيلماً سياسياً لاذعاً بعنوان «كلب أبيض». كورنل مندروشو بعد ذلك لم ينجز ما يُحتفى به إلى أن وجد طريقه (مع شريكته في الكتابة والإخراج كاتا وبر) إلى صياغة هذا السيناريو الذي حوَّله إلى أول عمل له ناطق بالإنجليزية.

هذا طبيعي بما أن الأحداث تدور في مدينة بوسطن بين زوجين (كيربي وشيا لابوف) جاءا من مستويين اجتماعيين مختلفين. هو مهندس بناء بسيط وهي أكثر ثقافة. المشكلة في هذا الشأن تتبلور وراء الستارة؛ لكن أمامها هناك المأساة التي عاشاها عندما أنجبت زوجته مولوداً ميتاً.

لمن يهوى مشاهدة لحظات الولادة الصعبة، هناك 25 دقيقة تقريباً من تفاصيل الوضع والإنجاب بكل ما فيه من صراخ وألم وتوتر، إلى قفز الكاميرا المحمولة كما لو أنها ستضيف شيئاً ذا قيمة. هدر الوقت في تصوير مشهد كهذا، عند هذا الناقد، لا يختلف في نتيجته عن مشهد مختصر شوهد في عدد لا يمكن إحصاؤه من الأفلام. التركيز على حدث واحد لأقل من نصف ساعة بقليل، من ثم سرد ما قبل وما بعد المشهد بإيقاع عادي (ولو كان بطيئاً بدوره) ليس مبرَّراً، ولا ينتمي إلى الدراما المنشودة بالضرورة. بكلمات أخرى، الوقع المأساوي على بطلي الفيلم نتيجة موت الجنين كان يمكن أن يحدث بعد خمس دقائق من ذلك المشهد أو بعد ساعة.

يمهد المخرج لتأكيد المأساة بتقديم متعدد الأوجه: فخر الزوج أمام معارفه بأنه سيصبح أباً. علاقة الزوجة بأمها (البديعة إيلين بيرستين) التي لم تكن ترغب لابنتها في الزواج بمن اختارته شريكاً لحياتها، ووضع الزوجة ذاتها وشعورها المفعم بالبهجة والتوقعات، كأي أم تخطط لاستمرار حياة سعيدة. كل ذلك ليساعد الفيلم في إيجاد ذرائع للأحداث التالية.

وما يلي هو رفع قضية ضد الممرضة التي أشرفت على الحمل. القضية تأخذ وقتاً، والعلاقة بين الزوجين تهترئ. وفي حين تعمد فانيسا كيربي لحشد كل طاقتها العاطفية الداخلية لإتقان دورها، يمنح شيا لابوف حضوره الجسدي الداهم بحركاته المتوترة أكثر مما يستطيع توفيره من عمق. في فحواه، الفيلم تقليدي لا يشكل أي فارقة ذات أهمية، رغم الجهد المبذول فيه لهذه الغاية.

 

الشرق الأوسط في

08.09.2020

 
 
 
 
 

يوميات مهرجان فينيسيا (7) زمن “الرفاق الأعزاء

أمير العمري

يدور فيلم “الرفاق الأعزاء” Dear Comrades للمخرج الروسي المرموق أندريه كونتشالوفسكي، في الماضي، لكنه يقبض على العقل وسيطر على الحواس كما لو كان يدور في الزمن الحاضر. إنه الفيلم الأفضل بين أفلام مسابقة الدورة الـ 77 من مهرجان فينيسيا السينمائي، رغم أنه لا يتمتع بسحر الحداثة بل يبدو مخلصا لتقاليد سينما الماضي: فصوره بالأبيض والأسود، مع بعض الحبيبات المقصود ظهورها على سطح الصورة، ومصور بالمقاييس الأكاديمية أو المنسوب القديم 1.33 إلى 1، لكي يوحي بأجواء وطبيعة وروح الفترة التي يتوقف عندها، وهي تحديدا اليومين الأول والثاني من شهر يونيو 1962.

ما الذي حدث في هذين اليومين، وما مغزى ما حدث، ولماذا اختار كونتشالوفسكي وهو في الثالثة والثمانين من عمره اليوم العودة إلى تلك الفترة، عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره، وكان في تلك السنة تحديدا، شريكا في كتابة سيناريو أفضل أفلام تاركوفسكي، “أندريه روبليف”؟

كونتشالوفسكي يهدي فيلمه إلى والديه، اللذين ينتميان قلبا وقالبا إلى تلك الفترة الملتبسة في تاريخ الاتحاد السوفيتي. لقد كانا شديدي الإخلاص للنظام، وضعا ثقتهما فيه، ولكنه خيب آمالهما. في ذلك الوقت، كانت قد انقضت عدة سنوات على المؤتمر العشرين الشهير للحزب الشيوعي الذي كشف خلاله خروتشوف تفاصيل مرعبة عن الانتهاكات والمجازر التي وقعت في عهد ستالين. لكن المفارقة أن خروتشوف الذي كان على قمة السلطة في 1962، سيواجه وضعا يجعله يتخذ أيضا قرارا يؤدي الى وقوع مذبحة من نوع آخر جرت فصولها في مدينة نفوشيركاسك Novocherkassk  في اقليم القوزاق ضمن حوض نهر الدونوما وقع هناك تم التغطية عليه طويلا، وربما يكون أكثر خطورة من الناحية الرمزية مما جرى في عهد ستالين، لأنه وضع للمرة الأولى الطبقة العاملة التي يحكم الحزب الشيوعي باسمها، في مواجهة مباشرة مع بيروقراطية الحزب.

في 1 يونيو أعلنت وسائل الإعلام عن رفع أسعار المواد الغذائية والوقود والخبز والطعام، واختفت السلع الرئيسية من الأسواق. وأصبح “الرفاق” فقط القريبون من مقاعد السلطة، هم الذين يمكنهم الحصول على ما يريدون من “الباب الخلفي”.

قام عمال أكبر المصانع بإعلان الاضراب. أغلقوا المصنع على أنفسهم وتوقفوا عن العمل. وسرعان ما انضم إليهم العمال في مصانع أخرى. وقرر الجميع الزحف عل المدينة، وحاصروا مقر الحزب أثناء اجتماع القيادات الكبرى لمناقشة الوضع، وأخذوا يقذفون المقر بالأحجار، يحطمون زجاج النوافذ، ونجح بعضهم في اقتحام المبنى مما أرغم كبار القادة ومنهم موفد على اعلى مستوى من القادة في موسكو، على الفرار بطريقة مهينة.

ويجسد كونتشالوفسكي التناقض بين رجال النخبة الذين يتناولون الكونياك الأوكراني ويلتهمون الكافيار، وبين العمال الفقراء الذين أصبحوا لا يجدون ما يأكلونه. كما يجسد التناقض العقائدي بين الطرفين، فالعمال الثائرون يحملون الأعلام الحمراء وصور لينين وستالين، أي أنهم أكثر ولاء للنظام الشيوعي من المسؤولين الحاليين، أتباع سياسة الانفتاح التي يقودها خروتشوف. وهذه هي المفارقة.

ماذا ستفعل السلطات؟ اجتماع تلو اجتماع، وخطابات والجميع يرتعدون خوفا، لا أحد يريد أن يتحمل المسؤولية، لا أحد يريد أن يواجه القيادات بالحقيقة، أن العمال لا يستطيعون تحمل هذا العسف خاصة وأن أجورهم تم خفضها مؤخرا، والأحوال تنذر بمزيد من التدهور. لكن التعليمات ستصدر للجيش بالتدخل وقمع الانتفاضة العمالية بالقوة. أما القائد المحلي للجيش فسيرفض. الجيش السوفيتي ليس من مهامه التدخل وقمع الشعب السوفيتي، بل مهمته هي حمايته، والدفاع عن حدود الدولة السوفيتية. هذا ما يقوله. لكن الوزير الحزبي يقول له أليس هؤلاء أعداء للدولة السوفيتية؟ ألم تر ما جرى في المجر عام 1956؟ ألم يكن هناك أيضا “جماهير” قامت بالتخريب بتحريض من المخابرات الأمريكية وأعداء الاتحاد السوفيتي؟

مع الشد والجذب، ومع رغبة خروتشوف الذي جن جنونه في موسكو، ومع فشل القيادات المحلية في مواجهة الجماهير الغاضبة- كما نرى- حيث تم قذفهم بالحجارة، صدرت تعليمات سرية لرجال الكي جي بي بإرسال فريق من القناصة، اتخذوا أماكن سرية لهم وأطلقوا النار فوقعت المذبحة.

هذا ما نشاهده في تصاعد سلس للأحداث، يبدأ في هدوء، ويصل إلى ذروة الصخب والعنف من دون أن تغيب روح السخرية والمرح من عبثية المشهد بأسره.. ففي المشاهد الأولى نرى خلالها المسؤولين وهم يهرولون ويتسللون كالفئران من أقبية وأنفاق تحت الأرض، يتعثرون ويصطدمون ببعضهم البعض، ويرتعدون من مواجهة الجماهير التي يزعمون أنهم يمثلونها.

 ولكن براعة كونتشالوفسكي ورفيقته في كتابة السيناريو “إيلينا كيسليفا”، تجعل الفيلم ينتقل من العام إلى الخاص من خلال شخصية “ليودا” التي تقوم بدورها ببراعة كبيرة، الممثلة جوليا فستوسكايا زوجة كونتشالوفسكي. إننا نراها من البداية كشخصية حزبية في القيادة الحزبية المحلية، شديدة التزمت والولاء للحزب وللدولة. هي فقط تبدي لوالدها العجوز الذي ينتمي لجيل الحرب العالمية الأولى والحرب الأهلية، امتعاضها الشديد من سياسة خروتشوف، فهي تحن الى عصر ستالين (لو كان بيننا لكنا فعلا قد حافظنا على الشيوعية.. ستالين كان الوحيد القادر على جمع الصفوف.. بعد ستالين لم نعد كما كنا. لقد كانت الأسعار تنخفض كل سنة في عصر ستالين، وتم خفضها بعد الحرب العالمية الثانية، فكيف ترتفع الآن). إلا أن هذا الكلام يدور فقط بين الجدران، فهي لا تجرؤ ولا يجرؤ أحد على التصريح بمثل هذه الآراء. إنها نموذج للإيمان الكامل المطلق بالنظام. بل هي أكثر تشددا وراديكالية.

ليودا” تتشدد في تعاملها مع ابنتها المراهقة (في السابعة عشرة من عمرها)، لكنها في الوقت نفسه، تقيم علاقة جنسية مع رئيسها في الحزب (الذي يصفها أكثر من مرة بالمرأة المجنونة). تتحمل جنون والدها المسن الذي يبدو أكثر قدرة على انتقاد النظام منها. فعندما يسمع أنباء الاحتجاجات يكون تعليقه (لتحترق المدينة كلها). فهو قد عاش زمن الحرب الأهلية بين الحمر والبيض، الموالين للنظام السوفيتي والمعادين له. وهو يذكر ابنته بالتجاوزات البشعة التي ارتكبها الجيش الأحمر. لكنها تقول إن ما حدث كان ردا على ما ارتكبه القوزاق وقوات الثورة المضادة. وعندما تذكر والدها العجوز بأن تشوخراي وصف في روايته (تقصد رواية الدون الهاديء) الأحداث بدقة، يشكك هو في رواية تشوخراي ويسخر منها.

يخرج الرجل العجوز ملابسه العسكرية من زمن القيصر، من زمن الحرب الأولى التي شارك فيها، ويرتديها ويضع الشارات على كتفه. وهو ما يخيف ابنته فتحذره من أن سلوكه هذا قد يجلب لهم المتاعب، “فلا أحد يريد أن يتذكر تلك الأيام”!

ليودا تطالب المسؤولين في الاجتماع الذي يعقدونه لمناقشة الأزمة بقمع الانتفاضة بكل قوة، وتلقي خطبة حماسية تلفت إليها أنظار كبار المسؤولين، الذين يبدون إعجابهم بولائها وحكمتها وبعد أن كانوا يميلون إلى مخاطبة العمال الثائرين ومحاولة اقناعهم بشكل ودي، قرروا الآن أن أفضل السبل هو استخدام القوة خاصة وأن خروتشوف يطالب بعمل سريع.

ترسل قوات الجيش والدبابات وتغلق الطرق تحاصر المدينة ويتم اعلان حظر التجوال.. ولكن مشكلة ليودا أن ابنتها “سفيتكا” تقف مع الجانب الآخر، مع الثوار، فهي إحدى العاملات في المصنع الذي أعلن الاضراب.. وفي خضم أعمال العنف والقتل، تختفي “سفيتكا”. برود ليودا يتحول الى قلق ثم اضطراب شديد وهي تشهد بعينها كيف يجري التعامل بشراسة مع العمال، بل وتكتشف أيضا تسلل قناصة الكي جي بي KGB الى الأسطح لقنص المتظاهرين. تتحصن ليدا داخل صالون للتجميل.. من خلال الزجاج نرى الجثث تتراكم في الخارج. تحاول مساعدة امرأة جرحت، وبينما تمد يدها بالمساعدة تسقط المرأة بعيار ناري مباشر.

ينقلون الجثث ويقومون بدفنها خارج المدينة في مقابر الأهالي. تصبح مهمة ليودا الآن العثور على “سفيتكا”. هنا تتحول من مسؤولة حزبية متعصبة، إلى أم ملتاعة مرتعدة اهتزت ثقتها في النظام الذي حاربت من أجله تحت اسم الزعيم ستالين. وبعد أن كانت قد وعدت ضابط الكي جي بي الذي ذهب لتفتيش حجرة ابنتها، بأن تقوم بتسليمها بنفسها الى السلطات (وغالبا كانت ستفعل) أصبحت تشعر بالفزع الشديد الآن من أن تكون ابنتها قد قتلت مع من قتلوا. إنها تطرق الأبواب، تسأل أصدقاءها، ولكن لا أحد يريد أن يتحدث فقد أرغم الجميع على توقيع تعهد بعدم الافشاء بأي معلومات عما حدث. فالسلطة تريد محو هذه المجرزة من التاريخ فكيف يمكنها أن تبرر خاصة، امام العالم الخارجي، الصدام بين حزب الطبقة العاملة والطبقة العاملة نفسها؟

يصور الفيلم نمو العلاقة الإنسانية بين الضابط وليودا. فهناك معرفة قديمة فيما بينهما. يصحبها الضابط الذي يواجه هو نفسه مشكلة مع قوات الجيش التي تفرض سيطرتها على المنطقة. لكنه يتحايل ليخترق الحصار مع ليودا، يوقظان جنديا كان مسؤولا عن دفن جثث الضحايا ويأخذانه الى المقابر، ويهدده الضابط بالسلاح حتى يعترف بمكان الدفن.. نعم كانت هناك فتاة تنطبق عليها أوصاف سفيتكا.. تنهار ليوديا وتنهار كل قناعاتها في لحظات الرعب الرهيبة، بالنظام وكل ما يمثله وتكفر بكل الأكاذيب التي لقنت إياها منذ الصغر هي التي قامت بدور بارز في الحرب العالمية الثانية، ووقتها قابلت الرجل الذي ستنجب منه ابنتها وسيلقى هو مصيره في القتال وينال لقب بطل الاتحاد السوفيتي.

البناء السينمائي يسير في سلاسة من بداية الأحداث، ينتقل بنعومة ودقة شديدة محسوبة تماما، بين العام والخاص، بين المأساة العامة والمأساة الخاصة للسيدة ليوديا، مشاهد الجموع الثائرة واقتحام مقر الحزب، ثم تدخل القوات وإطلاق الرصاص، وشحن الجثث في شاحنات صغيرة في الظلام، وكيف تصطبغ الأرض بالدماء ويفشلون في إزالتها بالماء، فيأمر قائد المنطقة بإعادة رصفها بالأسفلت، كلها مناظر شديدة الصدق والقوة والتأثير.

دراما الغضب والعنف تتبدى في أسلوب شبه تسجيلي، لكن دون أن يبتعد كونتشالوفسكي لحظة واحدة، عن بطلته التي تظهر تقريبا في جميع لقطات الفيلم، يركز على وجهها، انفعالاتها، شعورها المتزايد بالوحدة، كيف تختفي فجأة من اجتماع رسمي كان يفترض أن تلقي كلمة فيه، لتنعزل في الحمام، تغلق بابه عليها وتنهار وهي ترتعد وتجد نفسها وهي الشيوعية المخلصة، ترسم علامة الصليب وتتضرع الى الله أن تكون ابنتها على قيد الحياة.

الصورة الصادمة، والتحول الدرامي التدرجي في شخصية ليوديا، يجعلها تصل إلى ذلك السؤال الوجودي: بم يمكن أن أؤمن إن لم أعد أؤمن بالشيوعية؟ إنها لحظة الضياع الكبرى في الوجود. فقد أصبحت العقيدة السياسية ديانة، يفقد المرء نفسه لو كفر بها ويجد نفسه وحيدا في العالم.

يستخدم مدير التصوير الأبيض والأسود ويصور بكاميرا السينما مقاس 35 مم، ويحرص على توفير النغمة الضوئية لأفلام الفترة والعصر، ويركز على اللقطات القريبة- كلوز أب، ويقطع المونتاج الدقيق بينها الى اللقطات العامة من بعيد، ويستخدم عمق المجال في الصورة، والتكوينات التي تجسد قسوة اللحظات، ويستند الفيلم من ناحية الأداء إلى أرقى مستويات التمثيل في العالم.. هذا الأداء الذي يشترك فيه جميع أفراد الطاقم، يرتفع بالفيلم الى مصاف التحف الفنية. وبطبيعة الحال يلعب أداء جوليا فيسوتسكايا دورا رئيسيا في توصيل تلك الشحنة العالية من المشاعر الى المتفرجين، من دون أن ينحرف الفيلم في اتجاه الميلودراما. فالمخرج الكبير يعرف متى ينتقل من مشهد إلى آخر، وبالتالي كيف يسيطر على أداء ممثليه.

الرفاق الأعزاء” أحد الأفلام القليلة التي ستبقى في الذاكرة من دورة مهرجان فينيسيا 2020.

 

موقع "عين على السينما" في

08.09.2020

 
 
 
 
 

أمين نايفة ينقل أوجاع الفلسطينيين خلال أعماله السينمائية

كتب: ضحى محمد

مهما مرت الأعوام، ستظل القضية الفلسطسنية عالقة بداخل صناع الفن الفلسطينيين، فإنهم مازالوا قادرين على إخراج أعمال تلمس الواقع، وتشير إلي أوجاعهم، وهو مايظهر في فيلم "200 متر"، للمخرج أمين نايفة، الذي عرض ضمن مسابقة برنامج "أيام المخرجين في فينيسيا"، في الدورة الـ77 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، بينما سيُعرض الفيلم لأول مرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في الدورة الرابعة لمهرجان الجونة السينمائي.

حاول مخرج العمل أمين نايفة، أن يصل معاناة الفلسطينين من خلال عمل سينمائي تدور أحداثه حول شخصية "مصطفى" وزوجته، القادمين من قريتين فلسطينتين، يفصل بينهما جدار عازل، رغم أن المسافة بين القريتين لا تزيد عن 200 متر، ويفرض وجود الحاجز تحديًا على الزوجين حين يدخل ابنهما إلى المستشفى ويُمنع مصطفى من الوصول إليه، لحظتها تتحول رحلة الـ200 متر إلى أوديسا مُرعبة.

لم تكن تلك التجربة الأولي لـ"نايفة" التي لمس بها أوجاع الشعب الفلسطيني، إلا أنه قدم فيلم"العبور"، الذي شارك فى الدورة الثانية من أيام القاهرة السينمائية، وقدم من خلاله تجربته الشخصية مع الجدار العازل، وتدور أحداث الفيلم حول شادي ومريام اللذان يستعدان لزيارة جدتهم المريض على الجانب الآخر من الجدار العازل، ويصل أخوهما الأكبر ليقدم أوراق السماح بعبور الجدار، ومع تعنت الضباط الإسرائيليين ضدهم، يقول شقيقهم الأكبر للضابط إن جدهم توفى وهم في حاجة إلى حضور العزاء وبالفعل يسمح لهم بالدخول، وهو ما يظنه شادى حيلة من شقيقه ليتمكنوا من العبور، قبل أن يدرك أن جده توفى بالفعل.

وقد قال المخرج في تصريحات صحفية سابقة لـ"الوطن"، "أن فيلم "العبور" هو بمثابة توضيح لفكرة الفيلم الروائي الطويل "200 متر".

ومن جانبه قال انتشال التميمي مدير مهرجان الجونة، "دون تناول مباشر للقضية الفلسطينية، ومن خلال أسلوب نايفة التلميحي المتمثل في المقاطع المذهلة التي تحكي جانبًا من مأساة الفلسطيني على أرضه، يقدم الفيلم صورة قوية مؤثرة تمس قلب المُشاهد إنسانيًا، بغض النظر عن جنسيته أو وطنه".

 

الوطن المصرية في

09.09.2020

 
 
 
 
 

اتهامات بالعنصرية لمهرجان فينيسيا لغياب ذوى البشرة السمراء عن لجنة التحكيم

على الكشوطى

وجهت الناقدة صوفى مونكس كوفمان بموقع فارايتى اتهاما بالعنصرية لإدارة مهرجان فينسيا المقام حاليا فى إيطاليا ضد أصحاب البشرة السمراء، وذلك بعد اختيار المهرجان لجنة تحكيم المسابقة الرسمية من أصحاب البشرة البيضاء فقط، وهى اللجنة التى تترأسها النجمة كيت بلانشيت، وتضم كاتبة السيناريو النمساوية فيرونيكا فرانز، والمخرجة البريطانية جوانا هوغ، والكاتب الإيطالى نيكولا لاجيويا، والمخرج الألمانى كريستيان بيتزولد، والممثلة الفرنسية لوديفين ساجنييه، والممثل الأمريكى مات ديلون بديلا لكريستى بويو.

وقالت صوفى إن آخر عضو لجنة تحكيم فى المسابقة الرسمية من أصحاب البشرة السمراء كان المخرج سبايك لى قبل 16 عاما، موضحة أن بمقارنة تكوين لجنة تحكيم مسابقة فينسيا مع المهرجانات الكبرى الأخرى فى عدد السنوات الخمس الماضية لمهرجان كان وبرلين والبندقية، سجل فينسيا أسوأ تمثيل للأشخاص الملونين.

وتسألت صوفى لماذا؟ مؤكدة أن تلك المسألة ترسل رسالة إلى المبدعين من أصحاب البشرة السمراء، مفادها أنه بغض النظر عن إنجازاتهم، فهم غير مرحب بهم فى لجان التحكيم، موضحة أن أعضاء لجان التحكيم بالمهرجانات أصبحوا شبكة وتؤهلهم مناصبهم فى لجان التحكيم إلى تولى مناصب أخرى فى لجان تحكيم مهرجانات كبرى، مثل كيت بلانشيت، التى عملت كرئيسة لجنة التحكيم فى فينسيا، بعد عامين من حصولها على نفس المنصب فى مهرجان كان.

ومن الأمثلة الأخرى غييرمو ديل تورو عضو لجنة التحكيم فى مهرجان كان 2015، رئيس لجنة التحكيم فى فينسيا 2018، وباوى باولكوفسكى (عضو لجنة التحكيم فى فينسيا 2015، تولى عضوية لجنة كان 2019، ومايجورزاتا زوموفسكا (عضو لجنة التحكيم فى برلين 2016، اصبحت عضو لجنة التحكيم فى فينسيا 2018، وأشارت صوفى فى نهاية مقالها الذى نشر بموقع فارايتى إلى أن إدارة مهرجان فينسيا رفضت التعليق على ما تضمنه مقالها.

 

عين المشاهير المصرية في

09.09.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004