كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

رجاء الجداوي.. تحطيم الدمية

بقلم: أسامة عبد الفتاح

عن رحيل نجمة الأناقة

رجاء الجداوي

   
 
 
 
 
 
 

** رمز مصري خالص وأصيل وممثلة قديرة أجادت التشخيص والتنوع ورفضت أن يحبسها أحد في أدوار الفتاة التافهة

قبل السيدة "الشيك"، التي لا يختلف اثنان على أناقتها خارجيا وداخليا أيضا، فقدنا نموذجا فريدا لإحدى بنات الطبقة المصرية المتوسطة، نموذجا عصاميا ناجحا استمر كفاحه ونجاحه أكثر من ستين عاما متصلة، حيث بدأت من "صفر" تحدثت عنه كثيرا ووصلت إلى قمة يشهد لها الجميع بها.. تحدثت عن طقم ملابس واحد كانت تغسله وتنتظر جفافه لتلبسه مجددا لأنها لم تكن تمتلك غيره، وعن "حذاء باليرينا" مقطوع اضطرت لربطه إلى قدمها سنة كاملة، حتى تبدو مصابة، لأنها لم تكن تملك 99 قرشا تشتري بها حذاء جديدا من شارع فؤاد، وكيف كانت تضحك كثيرا وتتذكر هذا الحذاء عندما كان الكثيرون يمتدحون أناقتها ومظهرها الخارجي المتناسق.

وقبل سيدة المجتمع الراقية، التي تجيد عدة لغات وتتمتع باللباقة والكياسة وتلجأ لها زميلاتها في شئون الأزياء و"الإتيكيت"، فقدنا ممثلة قديرة، تجيد التشخيص والتنوع، ولم ترض ولم تقنع أبدا أن يحبسها أحد في أدوار الفتاة اللطيفة / التافهة / العاشقة، أو – بشكل عام – الشخصيات التي تصلح لمن كان البعض يظنها دمية متناسقة الشكل دورها أن تمشي جيئة وذهابا على المسرح بـ"خطوة القطة" لتعرض فستانا، ليس فقط لأنها تمتلك موهبة حقيقية وواضحة منذ أعمالها الأولى كممثلة، ولكن لأنها كانت قد خرجت بالفعل بعرض الأزياء نفسه من هذا الإطار وأضفت عليه روحا مصرية خاصة ومفعمة بالحيوية.

برحيل رجاء الجداوي في 5 يوليو الجاري، تنطوي واحدة من الصفحات الأخيرة في كتاب الرقي والتحضر والتفتح المصري، وبغيابها نخسر صانعة أخرى من صناع وجداننا ومن رموز مصريتنا.. نعم، فلا شك أنها رمز مصري خالص وأصيل – أو قل "صنع في مصر" – ظهر في سنوات "فوران الحلم الوطني" التي تلت نجاح واستقرار نظام ثورة يوليو 1952 وسبقت نكسة 1967، والتي صاحبتها نهضة فنية وثقافية في السينما والمسرح والتليفزيون والفنون الشعبية ومسرح العرائس وغيرها من المجالات، بما فيه عرض الأزياء، والذي "تمصر" وصارت له وجوه سمراء خلعت البرقع وانطلقت تعبر عن امرأة مصرية جديدة متحررة.

لا شك أنها كانت ابنة شرعية لهذه النهضة، وجزءا لا يتجزأ منها، وساهمت فيها بقوة، والأهم أنها كانت من صاحبات الفضل في إصباغ الهوية المصرية البحتة عليها، سواء في عرض الأزياء أو في الإطلالة على شاشة السينما بهذا الوجه الأسمر المصري الصميم خفيف الظل.

من ظهور لطيف لا يُنسى في فيلم "دعاء الكروان" عام 1959 إلى المشاركة في ما يقرب من 400 عمل سينمائي وتليفزيوني ومسرحي وإذاعي في مسيرة ضخمة ومحترمة شهدت الكثير من حالات الصعود والهبوط، والنجاح والفشل، لكنها لم تعرف يوما الابتذال، والأهم: أنها تدل – كما ذكرت – على قدرة كبيرة على التنوع، والتمرد على أي تنميط أو قولبة.

وأرى أنك يمكن أن تجد أول إشارة واضحة على هذا التمرد في دورها الصعب في مسلسل "أحلام الفتى الطائر" عام 1978، شخصية قد ترفض كثير من الممثلات الراسخات تجسيدها خشية كراهية الجمهور لهن، زوجة لا تتآمر فقط على زوجها المظلوم، و"العاقل جدا"، لإدخاله مستشفى الأمراض العقلية، بل تترك طفلتها الصغيرة في بيت خادمتها لتسافر هي مع من أحبته مما يؤدي لوفاة الابنة.. لم تخش كراهية المشاهدين، وراهنت على أن أداءها الجيد الشخصية سوف يشفع لها عندهم، وقد كان.

اللافت أنها قدمت بعد ذلك العديد من نماذج المرأة السلبية / النكدية / المتسلطة، وفي كل مرة كانت مختلفة، وواعية جدا للفروق والاختلافات بين الشخصيات، مما جنبها الوقوع في فخ التكرار، من الزوجة التي تحاول الحفاظ على بيتها لكنك لا تستطيع أن تتعاطف معها لأنها نكدية ومتسلطة في فيلم "بريق عينيك" عام 1982، إلى "الشر الكوميدي" – إذا جاز التعبير – بعد ذلك بثلاثين عاما في مسلسل "شربات لوز" عام 2012، من خلال "محدثة نعمة" تقاتل للحفاظ على ميراثها من أخيها، وعلى أسرتها أيضا، لكنك لا تتعاطف معها هي الأخرى لطمعها وعدوانيتها، مرورا بنموذجين مختلفين لسيدة الأعمال / المسئولة الفاسدة في مسلسليْ "أنا وانت وبابا في المشمش" عام 1989 و"الرجل الآخر" عام 1999.

وإذا كانت قادرة على أن تقنعك بهذه الشخصيات، فإن لديها قدرة مشابهة على إقناعك بأدوار الأم الحنون أو المرأة المغلوبة على أمرها، وعلى المشاركة في الأعمال الكوميدية البحتة.. خلطة مدهشة من النشأة المصرية الصميمة والتربية على يدي أسطورة مثل خالتها تحية كاريوكا مع التعلم في مدرسة لغات فرنسية والإلمام بأسرار الأزياء والموضة والإتيكيت.. تركيبة فريدة يصعب أن تتكرر.

 

جريدة القاهرة في

21.07.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004