كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

أكثر من "حسن حسني"

بقلم: أسامة عبد الفتاح

عن رحيل القشاش

حسن حسني

   
 
 
 
 
 
 

** حالة مختلفة تماما وخاصة جدا ليس لها مثيل قوامها ستين عاما من التواجد والإبداع والتأثير.. وفنان عليه إجماع من مختلف الأجيال

كنت أنوي أن أركز – كعادتي – على الأدوار المهمة "القديمة" للممثل الكبير حسن حسني (1931 – 2020) لدى الشروع في مهمة الكتابة عنه، وما أصعب هذه المهمة، وما أكثر تلك الأدوار التي جعلتني أعتبره من أهم الممثلين العرب على الإطلاق، لكن جملة عابرة لابنتي (18 عاما) جعلتني أعيد التفكير بعض الشيء، وأدرك أن أدواره الخفيفة أو الكوميدية – خاصة في الألفية الجديدة – لها أهميتها هي الأخرى.
فقد أكدت لي أن جيلها تربى على الشخصيات التي أداها في أفلام مثل "أفريكانو" و"زكي شان" و"الناظر" و"جعلتني مجرما" وغيرها، وأحبها وارتبط بها، وأن هذا الجيل لا يعرف سوى "حسن حسني" الذي أدى تلك الشخصيات، مما أكد لي أنه، شأن جميع الفنانين العباقرة أصحاب المسيرات الضخمة، له أكثر من "نسخة" وأكثر من "طبعة"، وأن هناك أكثر من "حسن حسني" في حياتنا: التراجيديان والكوميديان، من يعرفه جيلي والجيل السابق عليه ومن تعرفه الأجيال التي تلتنا حتى أطفال اليوم، وفي كل الأحوال: الممثل الكبير القادر على أداء جميع الأدوار والألوان، والقادر كذلك على أن يجعلك تصدقه وتتفاعل معه أيا كانت الشخصية التي يجسدها.

من الصعب أن تجد فنانا عليه هذا الإجماع من مختلف الأجيال، فهناك من يعرفه الشباب وحدهم ولا يعرف له من يكبرونهم اسما ولا عملا واحدا، وهناك من لا يعرفه سوى "العواجيز" من أمثالنا وليس – بالنسبة للشباب – أكثر من وجه مألوف يرونه في الأفلام القديمة (والأفلام حتى التسعينات بالنسبة لهم قديمة)، ولا يعرفون له تاريخا يربطهم به أو بزمنه.. لكن حسن حسني حالة مختلفة تماما وخاصة جدا ليس لها تقريبا مثيل، قوامها قرابة ستين عاما من التواجد والإبداع والتأثير.

هناك، إن شئت وشاء الشباب، حسن حسني "تميمة الحظ" كما يقولون – وإن كنت لا أفضل هذا التعبير – لموجة الأفلام الكوميدية والخفيفة التي تلت انفجار قنبلة "إسماعيلية رايح جاي" في الوسط السينمائي عام 1997، والتي بدأ مشاركته الفاعلة جدا فيها اعتبارا من فيلم "عبود على الحدود" عام 1999، لكنني أفضل حسن حسني الآخر، الذي التقطه المخرج الكبير الراحل عاطف الطيب – بعد العديد من الأدوار السينمائية متفاوتة الحجم والتأثير في الستينات والسبعينات – ليقدم دور "عوني"، زوج الابنة الشرير، في فيلم "سواق الأتوبيس" عام 1982، والذي أداه باقتدار لم يجعله شريكا في نجاح واحد من أهم أفلام السينما المصرية فقط، بل أطلق أيضا مشاركته المثمرة في أفلام الواقعية المصرية الجديدة كلها.

يمكننا أن نسمي هذه المشاركة "مرحلة المخرجين الكبار"، حيث تكرر تعاونه مع الطيب في أفلام "البريء" (1986) و"البدرون" (1987) و"الهروب" (1991)، ووقف أمام كاميرا محمد خان في "زوجة رجل مهم" (1988) و"فارس المدينة" (1993)، واختاره الراحل الكبير صلاح أبو سيف لدور لا يُنسى في فيلم "المواطن مصري" عام 1991.

أميل إلى حسن حسني الذي جسد واحدا من أهم "الآباء" في تاريخ السينما المصرية في فيلم "دماء على الأسفلت" عام 1992، ذلك الأب المطحون المقهور الفقير الذي تقصم أعباء الحياة ظهره إلى درجة غض البصر عن انحراف واضح جدا لابنته لمجرد أنها تكسب المال وتساهم في مصاريف المنزل، الأب الذي يذكّرك – بذقنه غير المحلوقة وفانلته الحمالات وسجائره الكليوباترا – بملايين الآباء في البيوت المصرية، وإن كان معظم هؤلاء لا يسمحون بأي انحراف مهما كان فقرهم.

أُفضّل أيضا حسن حسني الذي قدم دور "ركبة" الساحر والآسر في فيلم "سارق الفرح" للمخرج داود عبد السيد عام 1995، حيث استطاع بقدرة غير عادية أن يعطي الإيحاء بالوصول إلى ذروة النشوة الجنسية دون أن يلمس حبيبته ودون حتى أن يقترب منها في مشهد فارق لا يُنسى، وحسن حسني الذي جسّد شخصية الحلاق الحكاء كاتم الأسرار في فيلم "عفاريت الأسفلت"، للمخرج أسامة فوزي، عام 1996.

كما أظن أن جيلي يحب أكثر حسن حسني الذي تألق في مسلسلات التليفزيون على مدى أكثر من أربعين عاما، من "أبنائي الأعزاء شكرا" عام 1979 - علما بأنه قدم مسلسلات قبله - حتى قبيل وفاته، مرورا بعلامات محفورة في ذاكرة المشاهدين من الصعب حصرها، لكن يمكن التوقف عند علاماتها الرئيسية مثل "البشاير" عام 1987، وشخصية "يوسف الأزرع" الإسرائيلي الداهية في "رأفت الهجان، الجزء الثاني" عام 1990، و"الخال مغني" الرائع في "النوة" 1991، و"شريف الكاشف" في "بوابة الحلواني" 1992، ووالد "أم كلثوم" بكل صعوبته في العمل الذي يحمل اسمها عام 1999.

وإذا كانت شخصية المثقف المأزوم قد قُدمت كثيرا في الدراما المصرية، فلا شك أن أشهر مثقف والأقرب إلى القلب أيضا هو "وفائي" الذي جسده حسني باقتدار شديد في مسلسل "أرابيسك" عام 1994، وأدان به زحف السوقية وانقلاب الهرم القيمي وتبدل أحوال الشخصية المصرية من الإنتاج إلى الاستهلاك، ومن الإبداع الفني والمهني إلى الاستسلام للقبح.. وأبسط دليل على قدرة حسن حسني الهائلة على التنوع، أن من قدم "وفائي" بكل مثاليته هو من جسّد – بنفس الاقتدار – شخصية الشرير الشهواني السوقي، والظريف أيضا، في مسلسلي "أين قلبي" و"ملك روحي" عامي 2002 و2003 على التوالي.

وفي كل "النسخ" و"الطبعات"، لا يهتم حسن حسني بمساحة الدور، ويمكنه – بمشهد واحد – أن يحقق التأثير المطلوب، ليس فقط في حدود شخصيته، ولكن في العمل كله، وسأكتفي هنا بمثال واحد من فيلم "ناصر 56" للمخرج محمد فاضل، والذي يكمن سر نجاحه - إلى جانب جودته الفنية وجماهيرية وأداء أحمد زكي - في ربط دوافع ومنطلقات وقناعات الزعيم الراحل بأحلام وطموحات المواطنين البسطاء الذين كان منهم، وقام مشروعه كله على الالتحام بهم والدفاع عنهم والعمل من أجلهم.

وللتعبير عن هذا الربط، وضع الكاتب الكبير محفوظ عبد الرحمن، مؤلف العمل، إطارا دراميا قويا لفيلمه يتشكل - بالأساس - من مشهدين محوريين يكشفان دور وأهمية المواطن البسيط عند ناصر، أحدهما في بدايات الفيلم، والآخر قرب نهايته. ونظرا لأهميتهما، أسندهما المخرج إلى ممثلين كبيرين: حسن حسني للأول، وأمينة رزق للثاني.

في الأول، أدى حسني دور المواطن حامد عدلي الجميل، الذي يقتحم، عند الدقيقة الثامنة من بداية الفيلم، احتفالية رفع علم مصر - في 18 يونيو 1956 - على قاعدة بورسعيد البحرية، آخر موقع خرجت منه قوات الاحتلال البريطاني.. وبعد أن يسمح له الزعيم بالاقتراب، يحكي له كيف تم تعيينه عام 1937 في شركة القناة بنصف راتب زميله البلجيكي، رغم أنهما يتمتعان بنفس الكفاءة ويحملان نفس الشهادات، ويشكو له رفته من الشركة لاعتراضه على التفرقة بين الأجانب والمصريين في بلدهم، وتعجبه من عدم السماح للمصريين - بمن فيهم المحافظ - بدخول نادي الشركة المقام على أراضيهم.

ويدور الحوار البليغ - والمؤثر - التالي بين المواطن والزعيم:

= تقدر ترجعني يا ريّس؟

= طيب إيه رأيك تيجي تشتغل معانا في مصر؟

= أُمال احنا هنا فين؟

هذه الجملة البسيطة، يحولها حسن حسني بعبقريته إلى اللحظة الكاشفة التي يدرك فيها ناصر، ليس فقط أن شركة القناة أصبحت دولة داخل الدولة المصرية، ولكن أيضا أنه عاجز عن مجرد إعادة مواطن تم رفته ظلما في بلده إلى عمله.. وربما هنا أيضا تُولد فكرة تأميم القناة، إلى جانب لحظات أخرى تشارك في دفعه لاتخاذ القرار.

 

جريدة القاهرة في

09.06.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004