كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (3):

ماريان خوري تعرض في مهرجان البحر الأحمر

كيلي ريتشارد ضد الرومانسية وآبل فيرارا بلا خريطة طريق

برلين: محمد رُضا

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة السبعون

   
 
 
 
 
 
 

«هو فيلم يبحث في هوية أمي التي اعتزلت والتي لم أكن أعرف عنها الكثير من قبل». تقول المنتجة والمخرجة المصرية ماريان خوري عن فيلمها الأخير «إحكليلي». فيلم تسجيلي طويل (نحو ساعتين) سبق تقديمه في مهرجان القاهرة في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي وسط استقبال جيد.

هي ليست في المهرجان الألماني الممتد حتى الأول من مارس (آذار) لعرض الفيلم بل لكونها عضوة لجنة تحكيم جائزة «بوش» الموازية. تضيف على فطور صباح يوم أول من أمس: «جدتي كانت على عكس والدتي. كانت منفتحة ومنطلقة ولديها آراء قوية في كل شيء. فيلمي هو محاولتي لجمع العائلة كلها في إطار صورة حقيقية واحدة تنطلق من رغبتي في فهم والدتي الراحلة، لكنّها تتضمن كذلك موقف ابنتي وعلاقتي بها».

هنا أشير لها أن تصوير المقابلة التي تجريها ابنتها معها والمصوّرة من فتحة باب نصف مغلق بدا تكراراً فتجيب:

«ربما معك حق، لكن المقابلة لم تكن مدرجة. لم أضعها في السكريبت. كنا في باريس واقترحت ابنتي أن تجري معي مقابلة. في الحقيقة ارتبكت ولم أدر كيف أبرر لها الفيلم الذي أريد تحقيقه».

في السينما منذ نحو ثلاثين سنة هي وشقيقها غبريال خوري الذي أدار شركة خالهما يوسف شاهين وهو يظهر في الفيلم مرات عدة دافعاً بمن عرفوه للشعور بفداحة غيابه. لكنها تضيف:

«الواقع اليوم مختلف عن الواقع أيام المرحوم. هناك عدد كبير من المخرجين الشبّان الذين ليست لديهم أي قدرة على مواصلة العمل. ينجز الواحد منهم فيلماً واحداً كل عدة سنوات». من ثمّ تنهي: «طيب واحد زي ده حيعيش منين؟».

- مهرجان البحر الأحمر

فيلم ماريان خوري مدعو، كما فهمت منها، للمشاركة في مهرجان البحر الأحمر الذي سينطلق في 12 من مارس إلى 21 منه. إدارة المهرجان نشرت إعلاناً على غلاف مجلة Variety اليومية هنا، والعديد من المشتركين في سوق المهرجان بات يطرح أسئلته الفضولية ومعظمها إيجابي النبرة.

ذلك لأنّ الجميع يعلم أنّ الانفتاح الحاصل يعكس تجاوباً كبيراً مع القرارات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تمر بها المملكة ويتابعها العالم باهتمام.

السؤال بالتالي، ليس عن إمكانية نجاح دورته الأولى فهذا أمر متوقع، بل كيف سيتجنب مصير مهرجاني أبوظبي ودبي اللذين توقفا وهما في أوج نجاحهما. طبعاً الظروف تختلف ولكل مهرجان أسبابه الخاصة، على الأرجح، لكنّ مهرجان البحر الأحمر يبلور كإضافة لامعة على المستويين المحلي والدولي وهناك جمع كبير من الإعلاميين والسينمائيين يرغب في التوجه إليه.

يصل «مهرجان البحر الأحمر» في موعد صحيح ودقيق من حيث إن السينما العربية عموماً ما زالت تحتاج إلى ذلك المهرجان الكبير الذي يحويها والذي شهدته سابقاً خلال السنوات 13 من حياة مهرجان دبي.

فهي ما زالت تعيش على هوامش المهرجانات الكبرى غالباً. فيلمان أو ثلاثة كل سنتين أو ثلاثة يعرضان داخل هذه المسابقة أو تلك هو حجم أصغر بكثير مما تفيض به السينما العربية من مواهب مستحقة. ومع أنّ السنوات العشر الأخيرة شهدت حركة دؤوبة لها في المهرجانات العالمية عبر مجموعة من المخرجين الساعين جدياً (هيفاء المنصور، ونادين لبكي، وهاني أبو أسعد، ومحمود الصباغ الذي آلت إليه إدارة مهرجان البحر الأحمر) إلّا أنّ التواصل متباعد والوتيرة متقطعة والخطة الشاملة لسينما عربية معززة برأسمال من القطاعين الخاص والعام مفقودة، مما يجعل وجود أفلام العربية مثل القفز عمودياً من قعر البحر لاستنشاق الهواء ثم الغوص من جديد.

لكن أترك مسألة الاهتمام بالجانب الإعلامي لمركز السينما العربية الذي يديره علاء كركوتي والذي كان له أكثر من عشرين نشاطاً ملحوظاً في العام الماضي من بينها توزيع جوائز للأفلام العربية في «كان» وتوزيع جوائز للفيلم الأوروبي في القاهرة لجانب احتفالات ونشاطات وسلسلة من الجهود الإنتاجية وتوزيع الأفلام المنتمية إلى العالم العربي بأسره كل ذلك تحت مظلة هذه المؤسسة النشطة.

- الفيلم الذي ضاع

يوم أمس كان يوم الأفلام التي لا تعني شيئاً يذكر، رغم كل السعي لإحداث تغيير في مستوى عروض ما زال يفتقر إلى الدهشة والإجادة.

فيلم الأميركي آبل فيرارا «سايبيريا» المنتج بتمويل إيطالي غالباً عبارة عن تسعين دقيقة من الشطحات الخيالية التي لا تترك تأثيراً في بال معظم المشاهدين. في نهاية الفيلم لا تصفيق ولا كلمات استحسان مسموعة، بل خروج سريع لاستنشاق بعض هواء الليل البارد. إنه عن رجل يعيش باختياره، وحيداً في بعض براري الصقيع مع ستة كلاب لجر عربته عندما يقرر الرحيل للبحث في ماضيه. العنوان يقول «سايبيريا» لكن بعض المواطنين الذين يتحدث عنهم التعليق في مطلع الفيلم أو نراهم فيما بعد يبدو كما لو كانوا منغوليين.

حسناً، هذه نقطة يمكن إغفالها لكن بطلنا (ويلم دافو) يترك هذا المكان المحاط بجبال ووديان ثلجية والقائم في اللا - مكان ويرحل بحثاً والده وشقيقه وزوجته وابنه ووالدته… كل في ربوع بعيدة. فجأة نحن في صحراء ثم في أدغال وكل ذلك على مقربة جغرافية غير مفهومة.

إذا ما كانت الرحلة في البال، فإنّ ذلك كان يحتاج إلى حلول أخرى، لكن على ما يبدو مهماً لدى المخرج هو تجميع هذه التناقضات لسرد ماضي حياة رجل لم يجد مستقراً نفسياً بعد رغم السنوات العشرين التي قضاها لحين بداية الفيلم، في هذا المنعزل البعيد.

يعمد فيرارا إلى الهواجس هنا والمشاهد التي تبدو كما لو كانت تحدث طبيعياً هناك، لكن كل شيء يتلاطم كما لو أن بطلنا (أو المخرج أساساً) تحت تأثير مادة ممنوعة.

- حورية قاتلة

النقيض لهذا الفيلم لا يصنع فيلماً أفضل كما يبرهن «أوندين» (Undine أو «أوندينا» كما تُلفظ بالألمانية). هذه هي المرّة الخامسة التي يشترك فيها المخرج كريستيان بتزولد في مسابقة برلين. أوندين، في كل الأحوال، هو اسم حورية ماء حسب حكاية تنتمي إلى أنّ أوندين لا تقر بهزيمتها العاطفية إذا ما خانها من تحب بل ستسعى لقتله انتقاماً.

يجلب المخرج بتزولد الحكاية من أصولها الفانتازية ويضعها في إطار حكاية حاضرة لامرأة اسمها أوندين (بولا بير) التي نتعرف عليها في مطلع الفيلم مرتبكة وهي جالسة في مواجهة صديقها (جاكوب ماتشنز) بعدما علمت بأنّه يخونها ويريد الانفصال عنها. بعد أن تجف دموعها تخبره: «سأتوجه لعملي الآن ثم أعود إليك فلا تغادر المكان. إذا غادرته سأقتلك». في البداية يؤثر هذا الكلام بيوهانس فيبقى، لكن ما إن تنتهي من عملها (هي مرشدة لمشاريع عقارية تتحدث لمستمعيها عن تاريخ المنطقة المنوي استثمارها وحاضرها اليوم) حتى تكتشف أنّه غادر المكان.

لا يهم، هي دقائق وجيزة وتتعرّف على سواه. في المقهى ذاته هناك شاب تجذبه أودين من المرّة الأولى. يرجع إلى الوراء فيكسر ألواحاً زجاجية وحوض أسماك. تقفز إليه لتبعده عن الخطر الماثل ومن هنا تبدأ علاقة عاطفية جديدة. لكن ماذا سيحدث لو أدرك يوهانس، في مطلع النصف الثاني من الفيلم، بأنّه كان على خطأ ويود العودة إلى أودين. الذي يحدث هو فيلم عاطفي فيه أفكار جيدة والكثير من تلك المشاهد التي تموّه الموضوع وتستطرد فيه من دون نتيجة مبهرة.

ينشد المخرج في عبارة عن تلك المحاضرات التي تلقيها أودين على آذان مستمعيها في ميدان العمل. مثلاً في حديثها عن دمار ومحاولة إحياء أحد القصور من القرن الثامن عشر، موازاة لحياتها الخاصة حول دمار وعودة حياة علاقة عاطفية. لاحقاً، يدفع المخرج فيلمه صوب حكاية شبحية الجوهر غارقة في القديم ضمن عصرنة الحدث ذاته.

جيد التنفيذ من لقطة لأخرى لكن طموحات فكرته وبطانة المضمون لا تترك سوى تأثير محدود.
كيلي ريتشارد لـ«الشرق الأوسط»: معظم أفلامنا عرضت الغرب الأميركي بطريقة رومانسية أو إثارية

ربما لم تصب المخرجة الأميركية كيلي ريتشارد غايتها كاملة في فيلمها الذي عرض قبل ثلاثة أيام «بقرة أولى»، اهتمامها برسم صورة مغايرة للغرب الأميركي يتطرّف صوب تشكيل مجرد من الأحاسيس وبارد الأوصال. لكنّ المخرجة لديها، في هذا اللقاء، ما توضحه بشأن قراراتها، خصوصاً أنّ الرواية التي استمدت منها الفيلم احتوت على أحداث معاصرة أكبر مما سمحت المخرجة لفيلمها به

الحكاية كما وردت في الرسالة الثانية من هذا المهرجان، تدور حول مهاجر من الشرق الأميركي اسمه كوكي يعمل طبّاخاً لحساب رحالة يتجهون صوب ولاية أوريغون، وحول مهاجر من الصين (اسمه كينغ) يحاول أن يبحث لنفسه عن موقع قدم في البلاد الجديدة.

·        «بقرة أولى» ثاني فيلم وسترن لك يتعامل مع التاريخ البكر للغرب الأميركي. ما الذي يدفعك بهذا الاتجاه؟

- يدفعني أنني أشعر بأنّ السينما الأميركية خصوصاً لم تسعَ كافياً لرسم صورة واقعية عن الغرب الأميركي والسنوات الأولى من الاستيطان. معظم أفلامنا عرضت الغرب بطريقة رومانسية أو بطريقة إثارية. قليل منها حاول وضع الكاميرا في الواقع الذي قامت عليه. فيلمي السابق «اختصار ميك» (Meek’s Cut Off) وفيلمي الجديد هذا يؤديان للغاية ذاتها التي في بالي.

·        لكن هل لديك حب لنوع «الوسترن» ولو كان ضمن نظرة مغايرة؟

- ليس حباً بقدر ما هو اهتمام وكما قلت اهتمام بالصورة الحقيقية التي تغاضت عنها معظم أفلام الغرب.

·        كذلك لم تتحدث بما فيه الكفاية عن مساهمة المرأة في إرساء الحياة في تلك البلاد ربما إلى أن قمت بذلك في «اختصارات ميك»…

- هذه ناحية أخرى مهمة وهي أنّ المرأة كان لها دور كبير في ذلك الحين. لم تكن للحياة ذاتها أن تستمر لولا وجودها. وهو أيضاً أمر غائب عن الذكر كما تقول.

·        لجانب أنّها كانت أفلام إثارة تنظر إلى الغرب الأميركي نظرة رومانسية، ما هو المأخذ الأساسي عليها؟

- ما ذكرته لك أساسي أيضاً. الفكرة التي أتحدث عنها هي حقيقة أنّ أفلام الغرب عموماً قامت على أساس عرض تلك الفترة من خلال وجهة نظر الرجل. هو الذي افتتح الغرب وهو الذي قاد وهو الذي ركّز دعائم الحياة في تلك المجاهل. أفلامي تتعاطى الصورة المفقودة لدور المرأة في فيلمي السابق ودور مهاجرين غير مسلحين بدوافع عدائية كما في فيلمي الحالي.

·        هنا أجد نفسي أتساءل عن كيفية معالجتك لشخصيتين مسالمتين، ولو في المبدأ، يحاولان تحقيق ما بات معروفاً لاحقاً باسم «الحلم الأميركي».

- هذا تساؤل طبيعي لكن لفهم كل منهما عليك أن تفصل بينهما لأنّهما شخصيتان مختلفتان. كوكي، المهاجر الصيني، هو المحرّك الذي يعرف ما يريد من الحياة مادياً. يعرف أكثر من كوكي الطبّاخ. هذا سقف طموحاته ليست عالية، لكنّه يكتسب من الصيني المعرفة بأنّ هناك وسيلة لصنع ما وصفته بالحلم الأميركي.

·        لم أقرأ الكتاب الذي اقتبست عنه، لكنّي قرأت عنه وبالمقارنة هناك من كتب أن الرواية الأصلية تدور في الوقت الحاضر لفترة أطول كثيراً مما يتبدّى على الشاشة. هل هذا صحيح؟

- نعم صحيح. لكنّي نظرت إلى ما أريده من هذا الفيلم. هل أريد الحديث عن الماضي في الحاضر أو عن الماضي في الماضي نفسه؟. لذلك اختصرت المسافة وانتقلت إلى الزمن الذي أرغب البحث فيه.

·        هل تعانين من حقيقة أن الميزانيات التي تحققين بها أفلامك، وهناك أفلام عدة لك غير الفيلمين اللذين تحدثنا عنهما، محدودة؟ ماذا يفرض عليك ذلك من اختيارات؟

- نعم هي محدودة جداً. إلى الآن لم أجد التمويل الذي يجعلني أتقدم أكثر في تحقيق فيلم يتمتع بعناصر أفضل على صعيد الإنتاج ذاته. الصورة السلبية لذلك واضحة من حيث الحاجة لتحديد الحكاية في أطر مختلفة وعدم الاسترسال في سرد مشاهد مهمة، لكن لا تمويلاً كافياً للإحاطة بها كاملاً. الخيار يبدأ من كتابة السيناريو. تنتبه إلى ما يمكن لك أن تتوقع تنفيذه وما تتوقع حذفه حتى من قبل كتابته.

·        بدأت مصوّرة فوتوغرافية، ما هو تأثير ذلك على حرفتك كمخرجة؟

- أحببت التصوير منذ صغري وأعتقد أن إسهام التصوير في تكويني الفني مهم إذ جعلني أعتاد النظر من الكاميرا لما أرغب في تصويره. بالنسبة لي الجماليات ليس ما يشدني إلى ما أصوّره أو إلى ما يصوره فيلمي، بل الواقع الذي ينبض فيه. حين أقول إنّ أفلام الوسترن صوّرت الغرب بطريقة رومانسية لا أقصد التصوير الفوتوغرافي بل التصوير الانطباعي وهذا ما أحاول تجنبه قدر استطاعتي.

 

الشرق الأوسط في

25.02.2020

 
 
 
 
 

حب ثلاثي مع فيليب غاريل و «الحلم الأميركي» مع كيلي ريتشارد

شفيق طبارة - رسالة برلين

ضمن الدورة السبعين من «مهرجان برلين السينمائي» المقامة حالياً، عُرض فيلمان ضمن المسابقة هما «ملح الدموع» للفرنسي فيليب غاريل و«البقرة الأولى» للأميركية كيلي ريتشارد

«ملح الدموع»: قصة باريسية بامتياز

برلين | بالكاد نصدّق أن المخضرم الفرنسي فيليب غاريل لا يزال يقدم أفلاماً، ليس لأن المخرج السبعيني لم يعد يصنعها، بل إنّه يقدم فيلماً كل سنتين تقريباً. لكن عندما تبدأ بمشاهدة فيلم جديد له، تشعر كأنك تشاهد واحداً قديماً، عُثر عليه في مستودع بعيد أو كان ضائعاً في مكان ما. في كل مزاياها وعيوبها، تحبسك أفلامه في الماضي، تبدو كأنها رثّة رغم حداثتها. غاريل لم ينته بعد من السينما، الدراما الذي يقدمها تبدو كأنه يواجه فيها شيخوخته، ينظر من خلالها إلى المستقبل والماضي بحاضر يلبّيه وذاكرة عميقة. فيلمه «ملح الدموع» الذي يشارك في المسابقة الرسمية لـ«مهرجان برلين»، يبدو كأنه عبارة عن مجموعة من المشاهد والحلقات المرتبطة. لوحة كبيرة من القماش مليئة بالرسومات الصغيرة. هناك نصّ مكتوب، لكن يبدو كأن العديد من المشاهد مرتجلة. «ملح الدموع» فيلم حرّ وخشن وغير مكتمل بعض الشيء، تبدو مشاهده خارج المكان والزمان، كما لو كانت مأخوذة من سيناريو آخر أو فيلم آخر.

القصة فرنسية بامتياز (نعم، هناك قصة حب ثلاثية). لوك (لوجان انتوفيرمو)، شاب يعيش خارج باريس مع والده النجار (اندري ويلمز في أداء رائع). هو بدوره يريد أن يكون نجاراً ولديه امتحان قبول في مدرسة نجارة مرموقة في باريس. في طريقه إلى الامتحان، يلتقي بجميلة (عليّة عمامرة) ويقضي معها بضع ساعات ثم يعود إلى مسقط رأسه. وهناك الحب القديم يصبح جديداً، حيث صديقة الطفولة جونوفييف (لويز شوفيّوت) في انتظاره. لوك يعامل النساء بشكل مقنّن، يطلب الكثير ويعطي القليل. عند قبوله وعودته إلى باريس، يبدأ علاقة مع بيتيس (سهيلة يعقوب) التي تجرّه ضد إرادته إلى مثلث حب معقّد مع زميلها الذي تحبه. وبينما يتعثر من علاقة إلى أخرى، يتعين عليه أيضاً أن يتصالح مع حقيقة مرض والده الأشدّ خطورة مما كان يعتقد في البداية.

يتابع فيليب غاريل تحقيقاته في شؤون الحب مع مفاجأة المشاهد في كل تسلسل لقطات. يؤكد «ملح الدموع» على هذه المرحلة الحميمية من سينما غاريل، التي تركز على التدفّق الطبيعي لمصائر شخصياته. وحقيقة أن غاريل يسمح للحاضر والماضي بالوجود بالتوازي في فيلمه، ما يعطي جودة حالمة غريبة. يريدنا أن ننظر إلى الوراء بحزن، ولكن أيضاً أن نشعر بحنين الحاضر والذات. ماضٍ لا يخترعه غاريل من جديد في فيلمه الـ 27، فالفيلم فرنسي باريسي بامتياز، و«الأسود والأبيض» الذي يستعمله عفا عليه الزمن، ولكنه في أفلام غاريل يأتي معاصراً، حتى إن شخصياته تبدو من الماضي. عندما يتنقل لوك في وسائل النقل في باريس مثلاً، يبدو عاجزاً عن استخدام التطبيقات على هاتفه، حين يريد أن يتذكر مكان لقاء امرأة يخرج من جيب معطفه قلماً ويكتب على يده بدلاً من إخراج هاتفه الذكي.

تعمل الأصوات (فويس أوفر) والكتابات على ترتيب المشاهد وإلقاء نظرة ثاقبة على عالم لوك العاطفي، فهو نادراً ما يرينا ما يشعر به على الشاشة، يبدو كأن حياته الداخلية لا علاقة لها بما يحصل. هو دائماً خارج المكان وفي الوقت نفسه هو شاهد سلبي. وقبل أي شيء، الجنس يزيح الملل المنتشر والتعب من حياته وأيضاً الخوف من الموت، سواء موته أم موت والده. نعم، يلعب غاريل في السينما التي باتت نادرة اليوم، ولكن بمهارته يستمر في بعثها إلى الحياة. السينما الخاصة به تدور بين كتابات فلوبير وأفكار فرويد، بين علامات الترقيم وموسيقى البيانو، وأيضاً لا يزال يدرك كيف يوصل الإثارة والهيجان اللذين لا يمكن كبتهما في مشهد رقص في ديسكو. إنها سينما غاريل التي تسير مع الحنان اللانهائي المتلاشي بين الشباب والنساء والدراسة والعمل والرغبات والأسف. باختصار، الحياة. غاريل يعبّر في أفلامه بالصور وبالكتابة وبحساسية النظرات وآلام الخلاص. ولأنّ كل شيء بسيط فيها، تبدو معقّدة بشكل سخيف. مع غاريل، الأحاسيس هي أكثر الأشياء طبيعية في العالم. لكن هذه الطبيعة والبساطة تشبهان إلى حد كبير استخراج كنز من قبر عميق. لأنّه عندما يضطر لوك لأن يتذوق ملح الدموع، تسقط دموعه لأسباب مختلفة تماماً، فهو يلقي بها فقط على نفسه.

«البقرة الأولى»: ويسترن خالٍ من السلاح

مستلقيان أحدهما قرب الآخر، رأساهما مرفوعان قليلاً صوب السماء، لم يفرقهما الموت ولا تزال أيديهما تتعانق... من هما؟ يبدأ فيلم «البقرة الأولى» في الوقت الحاضر، حيث يكتشف كلب هيكلين عظميين في الغابة، فهل هما بقايا زوجين ماتا معاً؟ بعد ذلك مباشرة، تقودنا جملة للشاعر الإنكليزي ويليم بليك إلى الاتجاه الصحيح: «للطائر عشّ، للعنكبوت نسيج، وللإنسان الصداقة». من خلال هذه المقدمة، يتضح فوراً أنّها قصة عنف بين الرجال، تركز على صداقة غير عادية بين رجلين، تميل تدريجاً نحو الكوميديا. داخل شاشتها الصغيرة (4:3) التي يسطع منها الفيلم، تحمل لنا المخرجة الأميركية كيلي ريتشارد قصة جذّابة ومريحة، لكن أيضاً قادرة على بث التوتر. الشخصيات الصامتة ذات العمق السردي الكبير تنغمس في طبيعة بدائية فاخرة وغامضة. تتحرك الكاميرا ببطء لكن بأناقة، تجذب المشاهد وتشاركه بعاطفة لا هوادة فيها، بفضل قدرة المخرجة على التقاط التفاصيل الصغيرة لشخصياتها وابتسامتها وتحركاتها في المحيط مع تعبيرات جسدية أكثر من الكلمات التي لا نسمعها كثيراً في الفيلم لحسن الحظ.

تدور قصة هذه الصداقة في عشرينيات القرن التاسع عشر، «كوكي» فيغووتز (جون ماغارو) أثبت نفسه كطبّاخ (لذلك يقلب بكوكي) للصيادين في ولاية أوريغون، رغم أن الرجال القساة لا يأخذونه على محمل الجد. ذات ليلة، يصادف في الغابة صينياً عارياً يدعى كينغ لو (أوريون لي)، فيساعده. في وقت لاحق، نرى الرجلين في بار يجلسان معاً بصمت تقريباً. الصديقان يحلمان بأن يصبحا ثريين. هما ليسا غبيين أو كسولين، لكن أي عمل يحتاج إلى رأس المال. عندما يجلب رجل إنكليزي وهو وكيل تجاري (طوبي جونز) أول بقرة إلى المنطقة، بدأ كوكي بالحلم في ما يمكن أن يخبزه بهذا الحليب، لكن البقرة ليست لهما. يقنعه كينغ بحلب البقرة سراً في الليل. سريعاً يبدآن ببيع كعك يصبح مطلوباً جداً في السوق، حتى الرجل الإنكليزي أصبح من المدمنين عليه. ولكن هذه التجارة القائمة على رأس مال مسروق لا يمكن أن تتطور كثيراً.

في «البقرة الأولى»، قدمت لنا الأميركية كيلي ريتشارد فيلم (المسابقة الرسمية لمهرجان برلين) «ويسترن» فيه مخبوزات أكثر من الأسلحة، يجعلنا نفكر بأميركا وجذورها. فيلمها يشبه أعمالها السابقة بجماليتها التصويرية ومواضيعها التي تتركز حول شيء واحد: أميركا. ومن الواضح في فيلمها الجديد أنّها، إلى جانب الصداقة، تتحدث أيضاً عن الطموح والجشع والحلم الأميركي والرأسمالية، وكيف يمكن لمن هم في الأسفل صعود السلالم وتغيير وضعهما الاجتماعي والاقتصادي. هذه الصداقة والمغامرة محكومة بالانتهاء بشكل مأسوي. تعلن المخرجة ذلك صراحةً في مقدمة الفيلم. هذه العظام في أول الفيلم ليست مجرد مفسد لنهاية القصة، إنما رمز لما هو مخفيّ تحت نجاحات وتناقضات الولايات المتحدة اليوم. جذور الماضي لا ينبغي نسيانها، الحاضر لا يختلف أبداً عن الهيكل الاقتصادي والاجتماعي للماضي. الحلم الأميركي في «البقرة الأولى» ليس في الغزو المادي الاقتصادي، لكن في تبادل الخبرات بين الشخصيات. في الواقع، تكمن الحرية هنا بالتحديد في الكفاح ضد الرأسمالية.

قدمت المخرجة الأميركية قصة جميلة، نبتسم فيها عندما نرى كيف أن كينغ وكوكي يتصرفان بطريقة غير معتادة عن «أبطال الويسترن»، أو عندما تقود كيلي القصة إلى مسارات جديدة بعيدة عن الكليشيه ومليئة بالأفكار الجديدة. فلا نرى بنادق، بل أدوات مطبخ. لا سرقة قطارات بل سرقة حليب بقرة. تبرهن كيلي مرة أخرى عن قدرتها على التعامل مع اللغة السينمائية بطريقة سردية نادرة. صورة جميلة تعرف كيف تتواصل بها مع المشاهد.

 

الأخبار اللبنانية في

25.02.2020

 
 
 
 
 

أفلام الثورات العربية.. وخفوت الجاذبية فى الشارع

طارق الشناوي

يبدأ الفيلم بلقطات تسجيلية (أبيض وأسود) فى عام 62 مع الشعب الجزائرى وهو يحتفل بانتصاره بعد أن دفع ثمنًا غاليًا، مليونًا ونصف المليون شهيد لتحرير أرضه، ونستمع إلى الجماهير وهى تردد النشيد الوطنى الذى كتبه كسلاح للمقاومة الشاعر الجزائرى مفدى زكريا ولحنه الموسيقار محمد فوزى، وتبدأ كلماته الهادرة فى وجه المحتل الفرنسى المتوعدة بالنغمات «قسمًا بالنازلات الماحقات» وكان الفدائيون يرددونه وهم يضعون أرواحهم على أياديهم فى مواجهة جنود الاحتلال، الكلمات بالعربية الفصحى لتؤكد هوية هذا الشعب، وعلى الشريط السينمائى تتغير الصورة من زمن الستينيات بكل تفاصيله وظلاله لنرى الشاشة ملونة، حيث إنها تنتقل قرابة 60 عامًا تتناول اللحظة الحاضرة وخروج الملايين مجددًا من أجل الدفاع عن الكرامة والحرية والعدالة وتحطيم صنم يرى أن الاستمرار وبقاء الحال على ما هو عليه هو فقط الثمن الطبيعى للاستقرار.

كانت الجزائر بعيدة عن الانخراط فى الحراك الشعبى وترديد نفس الشعار الذى بدأ فى تونس مع نهاية عام 2010 (الشعب يريد إسقاط النظام) فيما عرف بثورات الربيع العربى، كان الشعب يريد أن تصل رسالته السلمية للسلطة السياسة الممثلة فى المناضل عبدالعزيز بوتفليقة الذى كان يمثل فى الضمير الجمعى الجزائرى آخر الأسماء التى لاتزال على قيد الحياة من بين رجال ثورة التحرر، وهو الذى أنهى فى الجزائر ما عُرف بـ(العشرية السوداء).. إنها تلك السنوات التى تناثرت فيها الدماء الذكية على الأرض بسبب الذين تدثروا عنوة بالإسلام وباتوا يمنحون للدماء مشروعية، تمكن بوتفليقة من إيقاف هذا النزيف، وهو ما يمكن لأحد أن يسلب منه هذا الإنجاز، مهما شابت الحكم بعد ذلك مظاهر فساد.

التمسك بالكرسى أبقاه هو والحاشية أكثر من عشرين عامًا، وكان يطمح فى المزيد، وهنا كان ينبغى للشعب أن يقول كلمته، الثورة الجزائرية فى الشارع لم تتوقف موجاتها حتى بعد نجاحها فى إيقاف سيناريو التمديد، ولايزال من طقوس قطاع من الشعب التظاهر كل يوم جمعة، فهو معترض على الاستحقاق الرئاسى الذى أتى بالرئيس عبدالمجيد تبون، بحجة أنه كان رئيسًا للوزراء وعمل أيضا وزيرًا أكثر من مرة فى عهد بوتفليقة.. حققت المظاهرات هدفها، ولكن لا يزال هناك من يريد رئيسًا كان بعيدًا تمامًا عن الاقتراب من السلطة السياسية السابقة والتى تجاوزت عقدين من الزمن.

فى كل الأحوال، كان المخرج جزائرى الجذور برازيلى الهوية، كريم عينوز، الحاصل على العديد من الجوائز العالمية وآخرها جائزة قسم (نظرة ما) فى مهرجان (كان) الأخير بفيلمه (عوالم خفية)، بينما فيلمه الجديد (نرجس) يرتكن إلى رؤية توثيقية للحظة، الفيلم الجديد عرض فى قسم (البانوراما) ومرشح بقوة لجائزة الجمهور. لاحظت أن قطاعًا معتبرًا من الجمهور الجزائرى حرص قبل يومين فى العرض الأول للفيلم بالمهرجان على الحضور بكثافة عددية لمؤازرة فيلم يمثل بلدهم بالمهرجان، وأيضا التصويت له لنيل جائزة الجمهور، وهو كشريط سينمائى يستحق فعلًا الإشادة.

الفيلم يتتبع حياة يوم من متظاهرة، والتى بدأت رحلتها فى الشارع مع الأيام الأولى للثورة الجزائرية، المخرج يمنح الجمهور من خلال عين الكاميرا الإحساس بالحرية فى اختيار اللقطات، تنقل الكاميرا بحياد الحياة فى الشارع ونشاهد الجميع- فى لقطات محايدة قبل الاحتشاد السلمى الجماهيرى - مثل طفل يلهو مع أسراب الحمام على الأرض، عجوز تعبر الشارع، ثم يبدأ الشارع فى إعلان الغضب.. ونتابع بطلة الفيلم، وهو تعمد ألا يطلق عليها مناضلة ولكن متظاهرة لتصبح واحدة من الملايين، ووصف حالة الفيلم من خلال رصد اجتماعى (يوم فى حياة متظاهرة) فهى مثل الآخرين، وكانت أيضا تتحرك بعفوية، فهى كما يبدو لنا لم تكن تضع فى العادة مكياجًا على وجهها، ولكنها بسبب التصوير وضعته وقالت ذلك مباشرة.

فى السنوات الأخيرة، صار من النادر أن تجد أفلامًا تتناول الربيع العربى مساحة فى المهرجانات، بعد أن كانت هى الهدف، وبالطبع كُنت مواكبًا لكل تلك العروض بداية من 2011، حيث لحق مهرجان (كان) بتلك الأفلام لمؤازرة هذه الثورات، من خلال الحفاوة بالأفلام ومنحها مساحات على جداولها، ناهيك عن التكريم الأدبى الذى حظى به مخرجو هذه الأفلام، كانت السينما العربية فى الدول الثلاث «مصر وتونس وليبيا» منذ البدايات حاضرة بقوة فى (كان) 2011، والكتالوج الرسمى للمهرجان أفرد مساحة لها بكان، رغم أنه تم إعدادها وفى أسابيع قليلة حتى تلحق بالمهرجان، وجاء فيلم (18 يوم)، الذى رصد بعيون عشرة مخرجين مصريين وشارك فى تمثيله عدد من كبار نجومنا، هو الفيلم الأشهر بين تلك الأفلام، وحتى الآن لم يجد بعد عرض (كان) دارًا ترحب به ولا حتى على (اليوتيوب)، ولم يقل أحد الحقيقة، هل الدولة لا ترحب بالفيلم أم أن المشاركين فى تنفيذ الشريط- وكلهم متبرعون- تغيرت قناعات العدد الأكبر منهم تجاه ثورة 25 يناير؟، وأتصور أن الإجابة الثانية هى الصحيحة فهم لم يتحمسوا لعرضه، لأنهم أيضا شاركوا على عجالة فى تصويره ولأسباب مختلفة، وبعضهم كان حريصًا على نفى علاقته بزمن مبارك والعائلة الحاكمة، ولهذا شارك فى الفيلم لتبرئة ساحته، ولكن مع مرور السنوات لم يعد الأمر كذلك، ورغم ذلك، فإن هذا لا ينفى أيضا أن موقف الدولة الرسمى البارد تجاه الشريط، والذى أتصور أنه لن يعرض رغم افتقاده أى قدر من الجذب الجماهيرى، ولو عُرض فلن يتحمس له الجمهور. ولا أتصور أن فيلم (نرجس) الجزائرى سوى أنه بعد (برلين) سيحظى بمساحته فى الشارع الجزائرى، خاصة أنه ينهى اللقطات، بينما يتردد فى أعماقنا هذا المقطع من السلام الوطنى، (وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر) وسوف يستمر هذا الشعب العريق الذى دفع مليونًا ونصف المليون شهيد من أجل نيل حريته.. وستواصل السينما توثيق لحظات الكفاح!.

 

المصري اليوم في

25.02.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004