كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

ملف:

مهرجان برلين السينمائي:

لا تغييرات جذرية ولكن...

شفيق طبارة

مهرجان برلين السينمائي الدولي

الدورة السبعون

   
 
 
 
 
 
 

حتى الآن، لم نلحظ تغييرات جذرية في الدورة السبعين من «مهرجان برلين السينمائي» التي تستمر حتى الأول من آذار (مارس) رغم وضع الناقد الإيطالي كارلو شاتريان على رأس إدارة البرليناله. ما حدث خارج المهرجان وحوله في الطرقات والمباني المجاورة تغيّر أكثر، الحضور لا يزال كبيراً، والبطاقات نفدت كلياً. هناك بعض التخبط وهذا شيء متوقّع، فالأخطاء واردة في ظل إدارة جديدة تتولى تنظيم أول دورة لها. لذا، لا يمكن الحكم عليها من أول نسخة تتسلّمها، ولا أن نلحظ تغييراتها الجذرية. أما بالنسبة إلى الأفلام، فلا تغيير. لا تزال الأفلام مُخيبة للآمال وليست على قدر التوقعات، ولكن المهرجان ما زال في البداية، فلننتظر ونرَ. انطلق البرليناله بعرض الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية. في اليوم الأول، عُرض عملان ينافسان على الدبّ الذهبي. فيلمان مختلفان: الأول من إيطاليا والثاني من الأرجنتين. الرابط بينهما أنهما ليسا في المستوى المطلوب. الأول: سيرة الرسام الإيطالي أنطونيو ليغابو من إخراج مواطنه جيورجيو ديريتي بعنوان «بعيد عن الانظار». والثاني: فيلم يُصنّف بالرعب النفسي من توقيع الأرجنتينية ناتاليا ميتا بعنوان «المتطفّل». بالتزامن مع أفلام المسابقة الرسمية، عُرضت إنتاجات في المسابقات الأخرى، المستحدثة في المهرجان وفي الـ Encounters. افتتح هذه المسابقة المخرج الروماني كريستي بويو بفيلمه الجديد «مالمكروغ». نتوقف هنا عند الأفلام الثلاثة المذكورة.

 

####

 

كريستي بويو: متاهة الكلمات

شفيق طبارة

تحتوي أفلام المخرج الروماني كريستي بويو دوماً على متاهات، يسجننا ويضيّعنا فيها، سواء أكانت غرفاً أم ممرات المستشفيات في فيلم «موت السيد لازاريسكو» (2005)، أم طرقات وحواري بوخاريست في «أورورا» (2010)، أم مؤامرات مشوّشة وعلاقات أسرية مضطربة كما في فيلم «سيرانيفادا» (2016). الروماني الشهير الذي يصف نفسه بأنه مراقب وناقد اجتماعي بروح دعابة سوداء، يعتبر أهم اسم في «الموجة الرومانية الجديدة». في فيلمه الجديد «مالمكروغ» Malmkrog الذي افتتح مسابقة Encounters المستحدثة في «مهرجان برلين»، يقدّم بويو متاهة كلمات بطول ثلاث ساعات ونصف ساعة تقريباً. الفيلم عبارة عن سجن للغة والخطابة لا يمكن للشخصيات ولا الجمهور الهروب منه. متاهات كلامية مربكة، أطروحة فلسفية تقدم محاكاة ساخرة خاصة، مستوحاة من نص الفيلسوف الروسي فلاديمير سولوفيوف «الحرب والمسيحية: ثلاثة أحاديث» (1915).

في منزل ريفي كبير في ترانسيلفانيا، في نهاية القرن التاسع عشر، يجتمع ضيوف في بيت المالك نيكولاي قبل أيام فقط من عيد الميلاد. هم عليّة القوم بينهم جنرال عسكري، رجل نبيل، سياسي وسيدات ارستقراطيات. الفيلم مقسّم إلى ستة أجزاء، خُصِّص كل جزء لشخصية. الروتين اليومي في الفيلا هي المحادثات الطويلة: يقفون في الصالون ويتحدثون، يتناولون الطعام ويتحدثون، ينتظرون العشاء ويتحدثون، يشربون الكونياك ويستمعون للبيانو وهم يتحدثون. وبينما يتناقش الجميع، يحرص الموظفون في البيت على أن يسير كل شيء بسلاسة. يتم التعامل مع حالات الطوارئ بشكل سري، من دون إزعاج سيل المناقشات المتدفقة! يمكن سماع ضوضاء مراراً وتكراراً، لكن الضيوف يتجاهلونها، ويستمر النقاش إلى ما لا نهاية.

تتناول الأحاديث الطويلة أسئلة كبيرة حول الحرب والسلم والموت والمسيح وأوروبا والفلسفة واللاهوت والنظريات الاجتماعية. المهم هو كيف تتصاعد النقاشات ببطء وثبات. في البداية، يمارس الضيوف رصانة مثالية. تسود فرحة النقاشات، من دون أن يشعر أي شخص بهجوم الآخر. يتّفق الكلّ على إكمال النقاشات، ولو أنّ هناك بينهم من لا يريد ذلك. مثلاً عندما يقف الخمسة في غرفة الرسم، لمناقشة خطاب عن الحرب لمدة دقيقة، يستغرق النقاش ساعة كاملة، وتلتقط الكاميرا الدوّارة البطيئة جميع الشخصيات والغرفة. في الجزء الثاني، يتم التركيز أكثر على الموظف التنفيذي في البيت الذي ينظم الموظفين، ويوبخهم إن كانت هناك شائبة ما في أدائهم مثل مذاق الشاي. في الأجزاء الأربعة الأخرى، تصبح المناقشات سامّة، أكثر سلبيةً وعدوانيةً، فتنهار الرصانة، خاصة من جانب أولغا المؤمنة التي تتعرض لهجوم وسخرية بشكل علني. ليس سهلاً دوماً فهم الجمل والأفكار التي لا تنتهي، وسوف يلاحظ الضيوف ذلك أيضاً. عبارات مثل «لا أعرف ما الذي نتحدث عنه» أو «لم أفهم ذلك» تُستخدم بانتظام. يدور الفيلم حول نفسه وحول الأشخاص الذين يستمعون إلى بعضهم بعضاً. إنهم يحبون أنفسهم، يصفون أنفسهم بالمفكرين الكبار. يحبون الاقتباس من نيتشه، وروسو إلى تولستوي وماركس ثم تأتي أفكار الفيلسوف سولوفيوف الأكثر مباشرة والمشحونة فلسفياً.

«مالمكروغ» عبارة عن حوارات معقّدة، ذكية مع هجاء ومشاهد مضحكة

يلعب الشريط مع المشاهد. كلما انتهت مناقشة، تُفتح مناقشة أخرى. وبعد مناقشة مرهقة لا نهاية لها، يقول أحدهم إنّه من الضروري مواصلة الحوار. كأن الشخصيات محكوم عليها بالمحادثة، كما لو أنّها عقوبة ما. يطرح النبلاء أسئلة كبيرة، أكثرها وجودي يبقى بدون إجابات حقيقية. يكشف المخرج تصلّب جبهات المحادثة مع تقدم فصول الفيلم. ترقص كاميرته بين الشخصيات. وبناءً على تحالفات يتم تشكيلها، يتم إنشاء مشاهد جماعية أو شخصية. أولئك الذين يملكون الرأي نفسه، غالباً ما يقفون معاً في المشهد. وعندما تتباين الآراء، يُفصل المتحدثون عن بعضهم. القسم الأخير تقريباً، يتكوّن فقط من لقطات مقربة: الجميع الآن يقف وحيداً!

هناك دائماً شيء مخفيّ، وغير واقعي حتى عندما يحدث القليل. شيء غير معلن في الخلفية. يضع المخرج الممثلين أمام الكاميرا، وخلفها هناك أحداث تقع. بعض الشخصيات تتوارى خلف الأثاث الأنيق. وعلى الرغم من أن معارك الكلمات واضحة، هناك بقعة عمياء نلاحظها فقط في بعض الأحيان. في الخلاصة، الفيلم عبارة عن حوارات معقّدة، ذكية ومتطورة مع هجاء ومشاهد مضحكة. «مالمكروغ» يمكن ألا يكون أجمل أفلام بويو، ولكنه بالتأكيد أكثرها نضجاً وتعقيداً، ومعه يبقى بويو من أهم الأصوات في السينما الأوروبية.

أحد أهم وجوه «الموجة الرومانية الجديدة»

لا يمكن التكلم عن فيلم المخرج الروماني كريستي بويو الجديد من دون العودة إلى أفضل أفلامه السابقة، شخصياً أحب اثنين منها: الأول هو «وفاة السيد لازاراسكو» (2005) الذي يتحدث عن رجل عجوز يدعى السيّد لازاراسكو، يعيش وحيداً مع ثلاث قطط. يعاني من صداع سيّئ منذ أيام، فيشعر بضرورة استدعاء سيارة إسعاف لنقله إلى المستشفى. يُنقل طوال الليل من مستشفى إلى آخر. كل مستشفى يشخّص حالته بشكل مختلف، ويرسله إلى مستشفى آخر بحجّة عدم توافر أماكن أو عددٍ كافٍ من الموظّفين، أو عدم توافر المعدّات المناسبة. فيلم بتجربة فريدة، بحيث يبدو كأن الأحداث تحدث أمام عيوننا فعلاً، كأننا نشاهد حدثاً مباشراً، من وراء طريقة التصوير، السيناريو، والأهم من ذلك التمثيل. على الرغم من قصته الدرامية، فالفيلم مليء بالكوميديا السوداء، وخاصة من السيد لازاراسكو الذي يتمتّع بحسّ فكاهة عالٍ حتى وهو في أصعب الحالات. تجد نفسك تضحك في الأوقات الحرجة. الفيلم يمكن أن يُفسّر على أنّه نقد للمؤسّسات الطبية الرومانيّة، لكنه أكبر من ذلك، فهو نظرة إلى المعاناة الإنسانية مع المستشفيات التي تحصل في جميع أنحاء العالم. أما الفيلم الثاني فهو «سيرانيفادا» (2016) الذي يقارب اجتماعاً عائلياً كبيراً في بوخارست لتناول العشاء كجزء من التقاليد الأرثوذكسية. لكن المناسبة لا تمرّ على خير، إذ سرعان ما تتدرّج من عشاء عائلي إلى حفلة مشحونة بل محتدمة إلى حدّ تصفية الحسابات الشخصية. كابوس جميل. ما يقارب ثلاث ساعات، مصوّر كله تقريباً داخل شقة صغيرة، مع أكثر من 10 شخصيات في الوقت نفسه. جو كارثي وخانق، تشعر بأنك تريد أن تصرخ في وجه الجميع ليهدأوا قليلاً. سيناريو ممتاز مع تفاصيل كثيرة لا يمكن إغماض العين ولو قليلًا. كثير من المشاكل، كثير من الحوارات، كثير من التقلّبات. مشاكل سياسية عالمية تُحلّ وتناقش. الهجمة الإرهابية على مجلة «شارلي إيبدو» الفرنسية، هجمات 11 سبتمبر، وغير ذلك من القضايا العالمية والشخصية. أجيال وأعمار مختلفة وصراعات ثقافية، فكل شخص يفسر المؤامرات على طريقته، كل هذا وأكثر في حوارات طويلة ومشاهد أطول. على غرار فيلم «وفاة السيد لازاراسكو»، تشعر كأنك معهم وواحد منهم من خلال طريقة التصوير التي يعتمدها بويو في أفلامه، فالكاميرا ترقص وتتحرك بين الشخصيات وعلى مستوى نظرهم. «سيرانيفادا» جميل، أصيل وواقعي.

 

####

 

أنطونيو ليغابو... الفنّان الذي لم يحبّه الله

شفيق طبارة

يواصل ضرب رأسه إلى أن تنفر الدماء منه، بحيث ـــ كما يقول ـــ يمكن أن يخرج الشرّ مع الدم! ولكن الشرّ لا يرحل. معظم الناس يرونه غريباً، بسبب إعاقته العقلية والبدنية. هو الذي يعامِل الجميع باحترام، يحدق مباشرة في العين، يفرط في الضحك وحركته وكلامه بطيئان، وشديد الحساسية للضوء. يقول إن الله لا يحبه، لكنه يتذكر أنّه خلال طفولته، قيل له: «كل شخص لديه هبة، كل حياة لها معنى». يحب الحيوانات، يعانق الخيول والكلاب، يحدق بعناية في حركات الدجاج والديك الرومي، يطارد الصرصار مع ضحكة سعيدة مكتومة في المطبخ. يحبّها لسبب مهم، لأنها أيقظت داخله موهبة الرسم.

في نهاية عام 1899، ولد أنطونيو ليغابو لأم إيطالية في زيوريخ. خلال نشأته، أظهر تشوّهات نفسية وجسدية، ما أدى إلى مشكلات سلوكية حادة بسبب عذابه المستمر. في العشرين من عمره، طُرد ليغابو من سويسرا إلى إيطاليا. لم يكن معروفاً يومها. واصل التجوال والعيش على الصدقات حتى وجد أخيراً صديقاً، هو الرسام مارينو مازاكوراتي الذي وفّر له ملجأ وقلماً وفرشاة. بدأ ليغابو بخلق رسومات رائعة جعلته مشهوراً قليلاً مع الوقت. لكن حتى النجاح والمال لا يساعدان في إسكات شياطين الماضي، هو الذي كان يشعر بالضيق بسبب السخرية من مظهره. لكن الوضع بات أفضل قليلاً، إذ صار يُعامَل بشكل أفضل بسبب موهبته. لكن إذا دفع له تجار الفنون في روما وجباته اليومية في المطعم، عليه تناول الوجبة في غرفة مجاورة، وحده، فمظهره الغريب يزعج العالم، بالإضافة إلى مشاكله السلوكية. هو فنان موهوب، لكن نجاحه لم يستطع إنقاذه من مأساة وجوده.

السينما تحب الغرباء، تحب الأشخاص المختلفين إلى حد ما، الذين لا يبالون بالمعايير. وعندما يتجاوز هؤلاء الغرباء اختلافهم ويبرهنون عن قدرات خاصة، يتم وصف ذلك بنصر بطولي ضد الظروف المعاكسة. قصة حياة الرسام الإيطالي أنطونيو ليغابو الذي يُعد من أهم الفنانين الفطريين، حوّلها مواطنه المخرج جورجيو ديريتي إلى فيلم بعنوان «بعيد عن الأنظار» (Hidden Away) يشارك في المسابقة الرسمية من «مهرجان برلين». كل شيء في الشريط بدأ من عين ليغابو، مرّ سريعاً عبر طفولته ثم باكتشاف عبقريّته الإبداعية، وارتباطها بأزماته النفسية، وتجاربه في عالم معاد له. ما يرينا إياه المخرج من الخارج من لقطات واسعة ومقربة، بحركة مستمرة للكاميرا، وتصميم جمالي يغازل التعبيرية في بعض النقاط، وهو ليس إلا انعكاساً عاطفياً لما يحدث داخل رسامنا. ليس مفاجئاً أن يستخدم ديريتي كاميرا شخصية جداً، حيث تدخل المشاهد مباشرة في عين ليغابو. في البداية، بدأ المخرج باستخدام وسائله السينمائية للإشارة إلى إدراك ليغابو ومعاناته. في وقت لاحق، ضبط نفسه قليلاً وامتنع عن التأكيد على المعاناة بالموسيقى العاطفية والمشاهد التي تستجدي التعاطف. بدلاً من ذلك، أعطى الحرية للممثل إيليو جيرمانو لنقل كل شيء، وليس هناك شكّ في أن قوة الفيلم تكمن في إيليو وتجسيده لليغابو الذي يستثمر كل مشهد ليصف واقعياً التشنّجات اللغوية والصوتية والحركية ويخطفها بشكل ممتاز في لحظات التأمل والحزن. قدّم الممثل صورة معقّدة ومقنعة لشخص وجد من الحيوانات وسيلة لطرد شياطينه. مع كل التركيز على مسار حياة الفنان الصعب، بقي إرثه الأكثر أهمية تحت الطاولة أي فنّه. ركّز المخرج على ليغابو كإنسان يعاني في حياته. وعلى الرغم من أنه هذا صحيح، إلا أنّه بدا مبالغاً فيه بحيث يظهر الفيلم كأنه ادّعاء سطحي ذاتي. مثلاً المشهد الذي يدمر فيه ليغابوا أعماله بغضب، هو واحد من الكليشهات الكثيرة التي استعملها المخرج، لافتقار الفيلم إلى العمق لجهة إبراز الناحية الفنية للرسام. لذلك يمكننا بسهولة أن نضع اسم أي رسام آخر، ولن يلاحظ أحد الفرق، ونخرج بفيلم جديد باسم فنان آخر.

لم يصور جورجيو ديريتي سيرة الرسام أنطونيو ليغابو، بل صوّر مأساة جسّدها بشكل بارز ممثل غير عادي يرجع له الفضل في إنجاح الفيلم (يذكرنا قليلاً بالممثل دانيال داي لويس بتقمّصه الشخصيات خاصة فيلم «قدمي اليسرى»). بدأ الشريط سريعاً وأصبح مبتذلاً. كنا ننتظر معاملة عميقة لحياة ومعاناة فنان، فحصلنا على تعبيرات تمثيلية. فن مجوّف وحرف يدوية. ليغابو يستحق فيلماً أفضل.

 

####

 

«متطفّل» ناتاليا ميتا: قصة نفسية لا تُسمن ولا تُغني من جوع!

شفيق طبارة

بعد صدمة ما (تروما)، يفقد الشخص السيطرة على صحته النفسية، وهذا شيء ليس بجديد. إذا أردنا تقديم قصة مماثلة للسينما، نحتاج إلى فكرة مختلفة. في فيلم الأرجنتينية ناتاليا ميتا «المتطفّل» (The Intruder عرض ضمن المسابقة الرسمية من «مهرجان برلين») هذه الفكرة هي «الأصوات». إينيس (إيريكا ريفاس) تعمل كمغنية وأيضاً مدبلجة أفلام «فئة ب» إلى الإسبانية (مثل إنتاجات يابانية كثيرة مليئة بالدم والإثارة الجنسية). إنّها في علاقة مع ليوبولدو (دانيال هاندلر)، رجل مسيطر، متأنّق ومتحكّم بكل شيء. عندما كانا في رحلة رومانسية وغريبة في أكثر المناطق سياحيةً في المكسيك، تنتهي بحادثة مأساوية (انتحار ليوبولدو). تفقد إينيس السيطرة على صوتها، وتدريجاً تفقد أيضاً القدرة على إدراك الواقع برمّته. منذ تلك اللحظة، تصبح الآلام والرهاب والصدمات النفسية مجرد محفّز ومضخم لانقسام متزايد بين الواقع والخيال إلى مستويات مرضية. من الإجهاد إلى الاضطرابات النفسية، من حبوب منع الحمل إلى الكوابيس المتكرّرة، من الطاقات التي لا يمكن التحكم بها إلى الظواهر والأشباح والأصوات التي لا يمكن التخلّص منها.... القصة المستوحاة من رواية El mal menor للكاتب الأرجنتيني C.F. Feiling، تستحيل قصة إثارة نفسية تتعقّد أكثر في الجزء الثاني من الفيلم حين تعود والدتها مارتا (سيسيليا روث) للعيش معها ومساعدتها، وأيضاً مع ظهور ألبيرتو (ماهويل بيريز بسكايارت)، العضو في الجوقة التي تغني فيها، ويبدو أنه يلائم عالمها الشخصي الجديد (الفوضوي).

لا يقدم «المتطفّل» الرعب الكلاسيكي. بدلاً من ذلك، تهتم المخرجة بالتأثير الاجتماعي لهذا «الشبح» ورعب الأصوات. وغالباً ما يكون هذا أقل من الضغط الذي يمارسه الآخرون على إينيس، ما يجعلنا نشك: ما هو الواقع؟ أين يبدأ الحلم؟ ما هو هذا الشيء الخارق؟ ما هي الأصوات؟ وهل هي مجرد تعبير عن النفس التالفة؟ ولكن... يلعب «المتطفّل» في منطقة معقدة، يحاول التلاعب بالمشاهد بقوة التأثيرات الصوتية التي تخلق مناخات عاطفية مثيرة في عالم حميم غير قابل للتحقّق يهيمن عليه الشعور بالخطر وانعدام الثقة. يصرخ الفيلم من أجل هذا، ولكنه يظهر بطيئاً. اللعب على الأصوات الطبيعية وظهور أصوات غربية فجأة، لا حاجة ملحة إليهما. إذ لا تحقق الحيل الجمالية لإعطاء مساحة أكبر لفكرة الفيلم الأساسية هدفها. وهنا تكمن المشكلة، لأنّ الفيلم لا يسير فعلياً. مع أنه قصة جنسية نفسية كما أوضحت المخرجة، فإن العنصر الجنسي مبتذل جداً وغير مثير، سواء أكان من «المتطفّل» أم من خلال أشخاص حقيقيين يريدون الوصول إلى جسد إينيس. فهذا الإلحاح الجنسي يعمل بشكل عكسي. لسوء الحظ، الفيلم ذو المستويات المعقدة لا يصبح مثيراً للاهتمام، إذ لا تقع القصة في لغز محيّر يجبر المشاهد على تجميعه، ولا توفر الفكرة الأساسية لحظات جميلة.

المخرجة الأرجنتينية، قدّمت فكرة جديدة ولكنها لم تكملها حتى النهاية. وإن كان هذا آخر ما وصلت به في فكرتها، فإنه غير كافٍ. واضحة هي تأثيرات سينما براين دي بالما وديفيد كروننبرغ، وجمالية أفلام «الجيالو»، وخصوصاً أفلام داريو ارجنتو. وفي بعض اللحظات، يذكرنا الفيلم ببعض جوانب فيلم Berberian Sound Studio للإنكليزي بيتر ستريكلاند. لكن كل هذه الاقتباسات لم تكن أيضاً كافية. بدأ الفيلم بشكل جيد ثم أفقدنا الاهتمام به مع مرور الدقائق. تحدّت ميتا مشاهديها فكرياً، لكنها شرحت كل شيء بدلاً من ترك المخاوف تصل إلى لاوعي المشاهد وبدوره يحولها إلى شيء ملموس جسدياً.

 

الأخبار اللبنانية في

24.02.2020

 
 
 
 
 

يوسف شاهين عنواننا الأثير وجرحنا الكبير!

طارق الشناوي

أعترف لكم بأنى فخور جدا بعدد من شباب مخرجى هذا الجيل، الذين يحاولون طرق الأبواب والبحث عن وسائل غير تقليدية للتعبير عن أنفسهم واختراق كل الحواجز، لتقديم أفكارهم وأحلامهم رغم كل المعوقات التى تواجه كل من يمتلك حلما ولا يجد أموالا لتحقيقه، ومع تقاعس الدولة فى الدعم، أصبح عليهم ليس فقط تقديم أفلام (Low budjet) ميزانية ضئيلة، ولكن (No budjet) ولكن بلا ميزانية.

هذا عن صُناع الأشرطة السينمائية، فماذا عن عشاق الصحافة والنقد؟، أجد فى هذا الجيل حماسا منقطع النظير، يتفوقون على جيلنا، وأرصد عددا من الصحفيات والناقدات أراهن متواجدات فى كبرى المهرجانات، يملؤهن الطموح للهاث وراء هذا العدد الضخم من الأفلام، يتحملن النفقات الباهظة، فى زمن لم تعد فيه المؤسسات الصحفية- وحتى الكبرى منها أو أغلبها على الأقل- تساهم بأى نسبة فى تحمل أى قدر من بدل السفر والإقامة، رغم ارتفاع التكلفة عاما بعد عام، هؤلاء حقا هن الوجوه التى تدعو للاطمئنان على الزمن القادم، ولا أدرى لماذا أغلبهن من النساء؟ ولكن تلك هى الحقيقة، وهكذا رأيت عددا منهن فى (برلين) ربما للعام الخامس على التوالى، وهو ما يتكرر أيضا فى (كان).

فى صقيع برلين ستجد أن السينما المصرية فى الأغلب بعيدة وعبر الزمن عن التواجد فى (برلين) تواجدنا قليل جدا، ولنا هذا العام المخرج الشاب ماجد نادر بفيلمه (معظم ما يلى حقيقى) يعرض فى قسم (منتدى السينما الموسع)، سبق لماجد وعدد أيضا من هذا الجيل الاشتراك بأفلام فى نفس القسم وغيره، ومن بينها فيلم ماجد القصير الأول (فتحى لا يعيش هنا أبدا)، يشارك أيضا فى نفس القسم فيلم (الموعود) للمخرج أحمد الغنيمى، ويعرض فى مسابقة الفيلم القصير، مساء غد، فيلم (Ecume) زبد البحر للمخرج المصرى عمر الهامى، والفيلم إنتاج كندى.

قبل أن نتوقف مع فيلم ماجد الذى يمثلنا بشرف وألق، دعونا نُطل على تاريخنا عنواننا الأبرز فى (برلين) أقصد يوسف شاهين، الذى شارك رسميا عام 58 بفيلمه (باب الحديد) وتوقع جائزتين واحدة كمخرج والثانية كممثل عن دور(قناوى) الأعرج بائع الجرائد، ولكن فى اللحظات الأخيرة تخطته الجائزة، برغم أن الجميع أشادوا به وتوقعوا أن يقتنصها، إلا أن أهم جائزة حصل عليها يوسف شاهين طوال رحلته هى (الدب الفضى) فى (برلين) عن فيلمه (إسكندرية ليه) فى منتصف السبعينيات، وهذا الفيلم يحتل قطعا مكانة مميزة على خريطة يوسف شاهين، وكاتب هذه السطور يضعه فى قائمة الخمسة الأهم فى تاريخه الذى يتجاوز 40 فيلما روائيا، الأربعة الآخرون هم (باب الحديد) و(الأرض) و(العصفور) و(عودة الابن الضال).

يوسف شاهين لديه جراح متعددة وعميقة مع المهرجانات الكُبرى، وكيف أنهم يتآمرون ضده حتى يحجبوا عنه الجائزة، يوسف كان متهما فى الداخل بأنه يبيع للأجانب بضاعة ترضيهم ولهذا يشاركون فى إنتاج أفلامه، وهكذا تلقى ضربات مزدوجة من الداخل والخارج، وكلها تحت الحزام، هذا قطعا لم يثنه أبدا عن التواجد والنضال بالكاميرا، إلا أن رصيده العددى فى (كان) أكبر، وله أيضا جائزة فى اليوبيل الذهبى للمهرجان- مرور 50 عاما- نالها عام 97، وكنت حاضرا فى تلك الدورة، التى شارك فيها بفيلم (المصير) داخل المسابقة الرسمية ولم ينل جائزة، عن الفيلم، ولكن اختلط الأمر على الإعلام المصرى ونشروا خطأ حصوله على سعفة (كان) الذهبية، بينما الحقيقة أنها سعفة تذكارية، وهكذا يظل (دب برلين) الفضى هو الجائزة الأهم لتتويج مشوار شاهين.

يوسف حتى رحيله ظل يملك جاذبية لتتهافت عليه المهرجانات الكُبرى فهو الاسم العربى الأول، وهكذا شارك أيضا بآخر أفلامه الروائية (هى فوضى) 2007 فى (فينسيا) شاركه الإخراج تلميذه خالد يوسف.

لم يكن الأمر فقط متعلقا بندرة التواجد المصرى، ولكن أيضا عربيا لدينا القليل جدا، باستثناء لبنان والجزائر، بينما فى لجان التحكيم الفلسطينية آن مارى جاسر والمصرية هالة لطفى، شاهدت فيلمنا المصرى القصير (معظم ما يلى حقيقة) إخراج ماجد نادر، وهو خريج معهد السينما 2011، كما أنه يتولى مسؤولية التصوير.

سبق له تصوير فيلم (ورد مسموم) لأحمد فوزى صالح، وهو الفيلم الذى مثل السينما المصرية فى مسابقة (الأوسكار).

استطاع ماجد منح فيلمه روحا واحدة، وهى بمثابة ضربة بداية قوية لمخرج واعد تحمل بداخلها إرهاصة لفنان قادم له إطلالة خاصة على السينما (معظم ما يلى هو الحقيقة) يترك لك أن تبحث أنت عن الحقيقة، كل المفردات من التصوير والإضاءة وقبلها اختيار المكان وأداء الممثلين تمنحك بدايات لكى تبحث أنت عن حقيقة الحقيقة.

الإضاءة الموحشة التى تخفى أكثر مما تظهر، كل خطوة على تلك الأرض المليئة بالقاذورات تحمل سؤالا، لا نرى إلا بقايا صورة محطمة وشابا يمسك بها وحوارا بين شاب فقد يده وآخر يبحث عن الحقيقة، يسأله عن أخيه يقول له هل تريد الحقيقة أم ما يقال باعتباره الحقيقة؟ تأتى الإجابة: أريد الحقيقة القاطعة، وتلك الجملة هى مفتاح القراءة الصحيحة للفيلم، الحقيقة ليست عندى، هكذا جاءت الإجابة، ولكن ما يقال هو فقط الذى يذكره، أن شقيقه حى يرزق تمكن من الهرب قبل أن يتم إلقاء القبض عليه، ما هو الموضوع وما هى الحكاية وما هى الغنيمة المتنازع عليها؟، الفيلم يكثف الحوار فى كلمات محدودة يترك أمامك كل الأبواب مفتوحة لكى تضع أنت الإجابة، لتأكد لك مشاعرك، بأن معظم ما يلى هو الحقيقة!!.

tarekelshinnawi@yahoo.com

 

المصري اليوم في

24.02.2020

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004