كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

"ستموت في العشرين"..

فيلم لا يقبل الأعذار

أحمد شوقي

عن فيلم «ستموت في العشرين»

   
 
 
 
 
 
 

اعتدنا في السينما العربية أن نسوق الأعذار وأسباب الإعجاب للأفلام وصناعها: هذا عمل أول لمخرج يعد بما هو أفضل، ذلك فيلم يأتي من دولة لا تصنع السينما ووجوده في حد ذاته مكسب، وتلك قضية مهمة يطرحها الفيلم بجرأة تستوجب التغاضي عن بعض هنّات الصناعة. تعاطف طبيعي مع بني الجلدة واللغة والثقافة.

لكن بعض الأعمال النادرة تأتي لتهز قناعاتنا وتخبرنا أنه بالإمكان ـ ووفق كل المعوقات سابقة الذكر ـ أن يصنع أحدهم فيلمًا كبيرًا بحق. والمثال الأحدث هو "ستموت في العشرين"، العمل الأول للمخرج السوداني أمجد أبو العلاء، الذي حصد جائزة العمل الأول بمهرجان فينيسيا، استقبله الجمهور بحفاوة في تورنتو، وها هو يواصل المسيرة الناجحة في الجونة السينمائي.

فيلم يأتي من السودان الذي تعرض على مدار عقود لإخصاء سينمائي ممنهج: إغلاق القاعات ومنافذ العرض، اتجاه بالمجتمع نحو المحافظة وتحريم الفنون، وسد الطرق في سبيل من يسعى لتحدي الظروف وصناعة فيلم حقيقي صادق. فيلم تم تصويره خلال اندلاع الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بنظام البشير بكل ما في ذلك من تعقيدات.

باختصار، فيلم يحمل أعذاره داخله، فلو جاء متوسطًا في أحد أو بعض عناصره لما لام أحد صناعه، لكن المخرج الموهوب صنع فيلمًا من النوع الكبير، الذي لا يأتي إلا بمزيج الشك والثقة: الشك في العالم ومسائلته سينمائيًا، والثقة في الذات والقدرة على التعبير بالصورة ـ والصورة فقط ـ عما هو أكبر من حكاية الفيلم، على ما تحمله الحكاية في حد ذاتها من طرح قيّم لهواجس بحجم الموت والحياة، الدنيا والآخرة، الدنس والطهرانية.

أن تكون ميتًا حيًا أو حيًا ميتًاالقول الشائع الركيك الذي يعتبره البعض حكمة بليغة يخبرنا "أن تكون ميتًا حيًا خير من أن تكون حيًا ميتًا". لماذا نصف القول بالركاكة؟ سؤال يجيب عليه فيلم أمجد أبو العلاء، بسيناريو كتبه رفقة يوسف ابراهيم عن قصة لحمّور زيادة.

أصحاب القول الشائع يقصدون السيرة الأطول من العمر، الإنجاز الذي يخلد صاحبه بعد مماته مقابل الحياة الخاوية من التأثير. "ستموت في العشرين" يخبرنا أن هناك ما هو أعقد من هذا التبسيط المخل، فهناك من يولد ميتًا، وهناك من يموت ليحيا، وهناك من يقاتل طيلة عمره كي يشعر بالحياة، فيكتشف في نهايتها أنه كان لخواء الموت أقرب وإن اعتقد في العكس. كل هذه الحالات / التساؤلات تتوالد من قصة الطفل مزّمل، الذي يتعرض يوم ميلاده للعنة من درويش صوفي تجعله محكومًا بالموت في العشرين من عمره.

"الخوف لا يمنع الموت لكنه يمنع الحياة"، قول أعمق حكمة وأعذب بلاغة، كيف لا وهو يأتي من نجيب محفوظ نفسه؟ وكأنه يصف حياة مزمّل الذي يعيش أسير النبوءة، تحيطه في والده الذي هرب من فكرة الموت، وأمه التي تحاصره حبًا ورعبًا، وأهل قريته المؤمنين بصدق الفأل، ومنهم الأطفال الذين يعلم الفيلم ـ بنظر ثاقب قد يكون ممزوجًا بذكرى شخصية ـ أن بإمكانهم أن يكونوا أكثر البشر وحشية وإيلامًا لبعضهم البعض بدعوى المزح واللعب.

مزمّل يعيش حياة بلا حياة، حذر الموت يجعله طفلًا يطرق أبواب الشباب، لم يعش شيئًا يجعل موته خسارة له أو لغيره، حتى يصطدم بمن يُفرّق المسيرة الجنائزية ويلعب دور محامي الشيطان ليخبره أن في الحياة ما هو أكبر من الحرص عليها. "لو كنت مكانك لعشت عشرين عامًا يخدمني الجميع لأفعل كل ما أريده ثم أكمل العشرين لأسخر منهم"، يقولها العراب / الشيطان سليمان الذي يُعمّد مزمّل حيًا بإكمال قطبي الين واليانج، الصواب والخطأ، وإعلامه بأن الطهرانية لا داع ولا طعم لها، مالم يعرف المرء معنى الخطيئة ولذتها.

غير أن أفضل ما في خطاب الفيلم هو إنه لا يتوقف عند هذه المرافعة المؤثرة في مواجهة البيوريتانية، بين قوسين في مواجهة التفكير الغيبي والحلم بفردوس لا نوقن بوجوده. بل يعود في الفصل الثالث ليُسائل المرافعة وصاحبها هو الآخر: هل كان التحدي يستحق؟ هل ربح صاحبه أم خسر؟ سؤال إجابته ستظل للأبد تأتي بعد فوات الأوان!

الإخلاص للذاكرة ولفن الصورة

ما سبق يعكس القيمة الفكرية الثرية للفيلم، لكن "ستموت في العشرين" ليس رواية مصوّرة وإن كان البعد الراوئي ظاهرًا فيه، بل يمتلك الفيلم إنجازًا مزدوجًا، سرديًا وبصريًا، يتمثل في الإخلاص الواضح للذاكرة والتراث الإبداعي، ولكون فيلم السينما هو بالأساس صورة موظفة في خدمة دراما.

الثقافة العربية عمومًا معادية للتأثر وإن وجد، وكل فنان أو صانع أفلام يحاول أن يثبت أنه يأتي بالعمل الأصيل الذي لم يأت به الأوائل، وإن كان هذا هدفًا مستحيل التحقق عمليًا. لكنها نتيجة مفهومة لثقافة التفتيش في النوايا والاتهام بالاقتباس التي يمارسها بعض النقاد وجُلّ الجماهير. فيلم أمجد أبو العلاء على النقيض يفخر بالانحدار من ثقافة عربية أدبية وسينمائية عريقة، تنضح كل لحظة فيه بفنان هضم تاريخًا طويلًا أراد أن يكون أحدث حلقاته، فأتي عمله أصيلًا لأنه ذو جذور، ليس معلقًا في الهواء يريد إعادة اختراع العجلة.

أليس هرب النور من عجزه وتركه الأم تواجه القدر وحيدة مع نسلها هو هرب مصطفى البشاري من قرية الكرنك وتركه حزينة في رائعة يحيى الطاهر عبد الله "الطوق والأسورة" التي حولها خيري بشارة فيلمًا أيقونيًا؟ أليس سليمان العائد من الغرب بمزيج من التحضر والسخط والحنين للداخل والخارج معًا هو مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح الأشهر "موسم الهجرة إلى الشمال"؟ أليست صورة سباستيان جيوبفيرت المدهشة تحاكي في توظيف الكتلة والفراغ، والنور والظل، ما فعله عبد العزيز فهمي في مومياء شادي عبد السلام؟ الأمر يصل لاقتباس كادر وقوف ونيس بين دفتي المقبرة بحذافيره ليصير مزّمل بطله الجديد بتطابق في النسب والإضاءة والتكوين يستحيل أن تكون وليدة الصدفة.

الإجابة على كل ما سبق هي نعم ولا، هي نعم بوجود تأثر وتحية ناضجة لأعمال محفورة في الذاكرة، ولا لأنها عناصر تم هضمها لتصير أجزاءً عضوية في بناء متماسك، متمايز، له قيمته المجردة بمعزل عن مصادر إلهامه. وكأن "ستموت في العشرين" مثالًا طال انتظارنا له، لنوقن أن الإبداع مسيرة متواصلة، تُسلم فيها الراية من جيل إلى جيل، ومن موهوب لآخر، في سلسلة يمكن القول باطمئنان كامل أن أمجد أبو العلاء هو أحدث حلقاتها.

وليس أقدر في التعبير عن هذا الإجلال للسينما، أن الفيلم في خضم انغماسه في جدل الموت والحياة، لا ينسى أن يقدم التحية لفن السينما، لماكينة العرض وأطياف الضوء، لسامية جمال وهنومة "باب الحديد"، باعتبارها أحد أدوات اكتشاف مزمّل لقيمة الحياة، أو ربما تكون أهمها. هذا فيلم لمخرج يحب السينما بحق، والأقيم إنه يجيد فعلها، فكم من محب حاول فلم يتوفق في أن يصنع هذا المزيج المؤثر من تكامل كل ما يمكن أن تحبه في فيلم سينمائي.

 

موقع "في الفن" في

20.09.2019

 
 
 
 
 

ستموت في العشرين: ابن الموت الذي أعاد الحياة للسينما السودانية

حسام هلالي

كتابة
شيء جديد يتخلّق تحمله الأخبار الآتية من السودان منذ مطلع العام الحالي، وكأن  كونًا بكامله يخرج من العتمة إلى بريق الأنوار، فمع هتافات الحشود التي أنهت ثلاثين عامًا من حكم الرئيس البشير ونظامه الإسلامي، تزامنت ثورة أخرى كان مفجروها يقفون وراء الكاميرا، وفي بلد يعاني لعقود من توقف صناعة السينما من أجل أهداف أيديولوجية محافظة لطالما نظرت للفنون كمصدر تهديد للسلطة. خرجت أصوات يافعة تنادي بنهاية هذه الحقبة.

تزامنت ما يمكن أن نسميها الموجة السينمائية الجديدة في السودان مع الدورة 69 من مهرجان برلين السينمائي (فبراير 2019) عندما حصل المخرج صهيب قسم الباري على جائزتي «أفضل فيلم وثائقي» و«جائزة الجمهور» عن فيلمه «التحدث عن الأشجار» الذي يسرد قصة أربعة رواد من جيل ما قبل الديجيتال وهم يناضلون من أجل إعادة إحياء الثقافة السينمائية في رمزية لنهوض هذه العنقاء من رماد سودان البشير. بجانب وثائقي آخر للمخرجة مروة زين «أوفسايد الخرطوم» الذي تطرق لقصة نسوية هذه المرة لمجموعة من الفتيات اللاتي يناضلن للعلب كرة القدم في بيئة مقيدة للإناث بالأخص ولكل من يغاير الثقافة السائدة عمومًا. يسبقهم بفترة وجيزة الفيلم الروائي الأول للمخرج حجوج كوكا «الكشة» الذي جاء من بقعة مغايرة من الجغرافيا السودانية لا تخضع لسلطة الدولة: جبال النوبة في جنوب كردفان.

واستمراراً لهذه الموجة الجديدة، شهدت الدورة  76 من مهرجان فينيسيا السينمائي العرض الأول لـ «ستموت في العشرين» للمخرج أمجد أبوالعلاء، الذي حصد جائزة «أسد المستقبل» في أولى تجاربه الروائية الطويلة. إضافة إلى جائزة مؤسسة أدفانتج «Advantage Foundation» للفيلم الإفريقي الأكثر تأثيرًا بالمهرجان، فيما جاء الفيلم عبر إنتاج مشترك بين السودان وفرنسا ومصر وألمانيا والنرويج. مستغرقًا في إعداده حوالي الثلاث سنوات، ومحققًا للقب أكبر إنتاج في تاريخ السينما السودانية بميزانية قاربت المليون دولار.

في مغامرته الجديدة يعود أمجد بعد سبع سنوات من الانقطاع منذ فيلمه القصير الأخير «استديو» (2012) الذي جاء نتاجًا لورشة عمل بإدارة المخرج الإيراني الراحل عباس كايروستامي. مراكمًا الخبرة والتحضير المضني ومزيدًا من الشغف لإنجاز فيلمه الطويل الأول له وللسودان منذ عقدين. وسط صعوبات التصوير وتعقيداته الاجتماعية في بيئة لا تخبر صناعة السينما وتكتفي بالدور السلبي للمشاهدة دون الإنتاج.

في 102 دقيقة استطاع أمجد أن يقدم حكاية سودانية بالغة الأصالة. تتقاطع مع الذاتي وتنطلق من المحلي عبر عوالم ما وراء الطبيعة التي تزخر بها البيئة المحلية السودانية. في معالجة سينمائية لقصة الروائي حمور زيادة «النوم عند قدمي الجبل». عبر تعاون ثنائي مع السيناريست الإماراتي يوسف إبراهيم الذي سبق لأمجد مشاركته في أكثر من تجربة.

الفانتازيا هنا كلمة مفتاحية لطالما أحاطت بسينما أمجد أبوالعلاء منذ تجاربه السابقة. ما يحيلنا إلى عمله القصير الذي قدمه قبل أكثر من عشر سنوات «ريش الطيور» الذي أسس حضورًا لأمجد لدى المشاهد السوداني بعد عروضه المتكررة على شاشة التلفزيون وسط كثير من الاحتفاء النقدي. رغم كل ما شاب فيلمه من تواضع في تقنيات التصوير وقتها. بمشاركة اثنين من أشهر نجمات الدراما السودانية: القديرة فايزة عمسيب، وهالة الأغا في واحد من أنضج أدوارها.

إلا أن هنالك الكثير مما يمكن أن نتتبعه في ذلك الشريط القصير (نصف ساعة) باعتباره انطلاقة للغة أمجد البصرية في «ستموت في العشرين»، فقد شكل «ريش الطيور» معالجة معاصرة لإحدى حجاوي الحبوبات (قصص الجدات) التراثية: «فاطنة السمحة والغول» بكل ما يحويه الفيلم من اشتغال على خصوبة المخيلة الطفولية، وقصص الحب الأول، وغياب الأب والاغتراب، فيما تلاقت عوالم الخرافة في «ريش الطيور» مع الحياة العصرية البسيطة، كالإضاءة بالفوانيس -تلك الثيمة البصرية الأثيرة لدى أمجد- مع الكثير من التفاصيل الأخرى كالحقول، وصاجات الطهي بالحطب، والنيل، وغيرها مما تكرر بنضج تقني هذه المرة في «ستموت في العشرين».

لكن على الجانب الآخر، لم تنل كاميرا أمجد في هذا العمل الجديد من النَفَس الواقعي للسرد، في تسخير بصري لواقعية حمور زيادة السحرية التي لطالما كانت خيارًا في أعماله الأدبية المستوحية لعوالم القرية السودانية البسيطة في تكوينها، والبالغة التعقيد في أبعادها الاجتماعية والروحية. بكل محمولاتها الصوفية الغارقة في الغيبية.

يحكي أمجد في «ستموت في العشرين» قصة الطفل المنحوس: مزمل، الذي يقوده حظ والديه السيء بعد ولادته لنبوءة يوقعها أحد شيوخ الصوفية الزائرين بدراويشهم لقريتهم البسيطة في ولاية الجزيرة الزراعية. يقرر الشيخ بعد أن يسقط أحد دراويشه مغميًا عليه وهو ينهي تسبيحه بـ «سبحان الله عشرين» أن وليدهم لن يعيش لأكثر من عشرين عامًا، ووسط الإيمان المُسّلم به من قبل المجتمع القروي تتحول حياة مزمل طوال طفولته ومراهقته إلى حالة كئيبة من انتظار الموت. تدفع والده العاجز عن تغيير هذا المصير إلى الهجرة بذريعة طلب الرزق، وترك ابنه الوحيد مع أم تتشح بالسواد دائمًا وتعيش ثكلها وحدادها على ابنها طوال حياته القصيرة.

ووسط حالة الإذعان التامة من الجميع لكرامات أولياء الصوفية المترسخة في الريف السوداني، تسير كاميرا أمجد بين الطرقات الترابية وبيوت الطين والحقول المطلة على النيل، لتصور عالمًا أسيرًا للماضي لا تصله الحداثة إلا في أبسط صورها التقنية. ما يحيل للمشاهد انطباعًا عابرًا للحقب الزمنية. لا تختلف فيه بيئة القرية وسلوكيات شخوصها في 2019 عما كانت عليه قبل خمسة قرون، لولا وجود السيارات وأجهزة الراديو التي لم تخرج بلدة أبو حراز – حيث صوّرت أغلب مشاهد الفيلم – من عزلتها.

تضافرتْ أحاسيس العزلة والاغتراب مع هاجس الموت المطبق على أسرة مزمل وشخصيته كطفل مدلدل من قبل أمه، بصورة لا تحميه تمامًا من حالات التنمر والتذكير الدائم له من كل سكان القرية عبر تعليقاتهم الآسفة أنه ابن موت. مهووس طوال الوقت بسماع دقات قلوب النيام للتأكد من أنهم لن يسبقوه إلى القبور، لتخرج شخصيته فائقة السلبية كبطل مغلوب على أمره. ينشأ على الإذعان للمقدر والمكتوب دون شك في امتلاك الإنسان للإرادة الحرة والقدرة على تغيير مصيره بيده، ويصبح طريقه الوحيد للحياة هو الإعداد باكرًا لآخرته بالصلاة وخدمة مسجد القرية وحفظ القرآن. في قرية بسيطة المعمار لا يناطح النخل فيها سوى قباب أضرحة الأولياء. كإحالة بصرية لأغنية مصطفى سيد أحمد (عم عبدالرحيم) حين يقول: «تحكمك القبور».

كادت هذه الروح الانهزامية أن تنل من أية جاذبية للشخصيات الرئيسة في الفيلم: مزمل، الذي أدى دوره كل من مصطفى شحاتة ومعتصم راشد عبر مرحلتين عمريتين مختلفتين، وطلال عفيفي -المدير المؤسس لمهرجان السودان للسينما المستقلة- في دور الأب (النور). إضافة إلى أداء استثنائي من إسلام مبارك في دور الأم (سكينة)، لولا التحول الدراماتيكي للقصة بعد قفزة زمنية مع نهاية الربع الأول للفيلم إلى الأشهر الأخيرة في حياة مزمل قبل إتمامه العشرين، فبينما يعود النور بعد أعوام من الاغتراب ليشهد اختيار قبر ابنه، ويشارك مع أمه في طقوس تجهيز الكفن، تلعب ثلاثة شخصيات أخرى أدوارًا استثنائية تدفع لتفجير إحساس الرفض والتمرد لدى مزمل الشاب من مصيره المحتوم.

الشخصية الأولى التي لطالما شكلت ملاذًا لمزمل منذ الصغر هي ابنة جيرانه (نعيمة) رفيقة صباه وحبيبته التي أدت دورها موهبة واعدة هي (بُنة خالد)، حيث تتحدى بجنون رومانسي نبوءة موته وتتورط معه في علاقة حب ظلت هي المبادرة فيها. كشخصية مفعمة بالمرح ومقبلة على الحياة لطالما حاولت انتشال مزمل من سلبيته المذعنة للموت. آملة أن تجد في غريزته البتول أي دافع للحياة بذريعة هذا الحب المستحيل.

الشخصية الأنثوية الفريدة الثانية هي ست النسا (أدت دورها آمال مصطفى)، وهنا يقدم أمجد في قصته نموذجًا آخر لشخصية مفارقة لاسمها (ست النسا) ليصهر فيها مختلف الشخصيات النسائية الهامشية: كالحنانة والمشاطة والخادمة والقونة (المغنية الشعبية) وبالتأكيد عاملة الجنس. مستغلًا السانحة لتشريح القرية السودانية وعالمها الطبقي والعرقي عبر هذه الشخصية القادمة من الكمبو، وهو حي الصفيح –إذا ما جاز التعبير– حيث يسكن أبناء سلالات الرقيق المعتوقين، والعمال النازحين من غرب وجنوب السودان، الغارقين بمهنهم الهامشية وأصولهم الزنجية في الفقر بكل ما يتيحه لهم من ترف التحرر من قيم وأعراف القرية. حيث تُصنع وتباع الخمور غير القانونية، ويعيش النساء على البغاء والغناء في مناسبات القرية المجاورة.

يتحقق التحول الأكبر في خط حياة مزمل بعودة مهاجر آخر: سليمان، عشيق (ست النسا) القديم وابن القرية الضال، الذي أدى دوره المسرحي القدير محمود ميسرة السراج. بوصفه نموذج ثائر على مجتمع القرية المحافظ والغارق في الخرافة. الأمر الذي يبدو واضحًا في ابتعاد سليمان الطويل عنها وعودته إليها على مضض في آخر حياته. كشاب متمرد انطلق ما أن أتيحت له الفرصة للهرب إلى العاصمة الخرطوم. حيث احترف التصوير السينمائي وشغف بالفنون، واتبع مسار تيار النيل إلى مصر ومنها إلى أوروبا. مذكرًا بصورة لا يمكن إغفالها بشخصية مصطفى سعيد في رواية الطيب صالح الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» ولكن دون أي حضور للخطاب ما بعد الكولونيالي. بل على العكس، ظل سليمان طوال الوقت رجلًا مثقلًا بالنوستاليجا إلى زمان شبابه الغابر «سودان الإنجليز» وناقمًا على الحاضر الغارق –للمفارقة– في أزمنة سحيقة أبعد.

يحتل سليمان، صديق والد مزمل منذ الصغر مكانة أبيه الغائب، ويعرفه على العالم الكامن خارج قريتهم عبر مصادفة يتورط فيها مزمل بعمله في دكان القرية وتوصيل زجاجات العرق –على مضض- خفيةً لهذا الزبون الغريب في سلوكه وآرائه الصادمة عن سكان القرية، وسكنه في أحد بيوت الحقبة الاستعمارية في رمزية لما تحمله هذه الشخصية من قيم لا تتناسب مع المجتمع المحلي، وما يجب على سكانها أن يبدوه في العلن، فهو مدمن على الكحول، ومستمع دائم للموسيقى الأجنبية، يستقبل عشيقته (ست النسا) للمبيت في بيته دون زواج على عكس ما كانت تأمله منه. بوصفه (ابن أصول) عائد من شوارع أوروبا وحاناتها، وهي محض امرأة من الكمبو.

كل هذه القيم المتناقضة تبدأ في إثارة الأسئلة والشكوك لدى مزمل حافظ القرآن، الذي يحاول استمالة سليمان وإخراجه بوعظ أخلاقي صارم مما هو فيه من رذائل –رغم أنه هو من يزوده بالخمر- ويدعوه لجلسة ختمة القرآن في المسجد، فيلبي سليمان الدعوة لكنه لا يبارح نافذته مراقبًا ما يحدث من الخارج، هو الذي اعترض صغيرًا «قلت لأبوي كتاب كبير قدر ده أحفظو ليه؟! ضربني ضرب! كم سنة بعدها وهجيت (رحلت)»، وما أن يدرك سليمان قصة النبوءة وانتظار مزمل لموته حتى يبدأ بضراوة لإخراجه من القرية وحكم الإعدام المبكر الذي نفذته عليه، فيعلمه الحساب، ويحدثه عن النساء والجنس، ويستفزه بغضب لترك حياة البيورتانية التي يعيشها بحجة بسيطة مفادها: «إن كنت ستموت قريباً فعليك أن تقضي أيامك الأخيرة في المتعة، فكيف للإنسان أن يؤمن بالفضيلة دون أن يجرب ويرتكب الخطيئة؟!»

تكمن المفارقة في علاقة مزمل الشاب بسليمان العجوز بأن الأخير هو من يمثل قيم الحداثة والتحرر في هذه المعادلة، فيما يسجن مزمل الشاب في العادات والتقاليد، وفي سعيه لإخراجه من عالم الغيب يفتح سليمان نافذة لعالم سحري آخر سيدخله مزمل مندهشًا: هو أشرطة أفلامه وجهاز العرض السينمائي. بوصف السينما الملاذ الأثير للخيال، والمهرب الأمثل من بطش الواقع، وهنا بالذات يكمن المضمون المحوري الذي يسعى أمجد أبوالعلاء لترسيخه، ليس فقط بصناعته لفيلمه ضمن هذا السياق السياسي والاجتماعي، بل وتحديدًا عبر العلاقة المفارقة في حكايته بين حافظ القرآن والسينمائي العجوز.

يميل أمجد في صورته السينمائية إلى أسلوب الإجلال الفني (Homage) لإرسال إشارات فنية ورسائل بصرية منطلقة من تجربته الذاتية. بوصفه مخرجًا ناضل من أجل التحقق الفني منذ أن كان طالبًا في كلية الشريعة والقانون التي تركها واتبع شغفه لدراسة الإعلام في الإمارات، فهو يستعير الكثير من اللقطات والثيمات الفنية والمشاهد لمخرجين يدين لهم بالفضل مستغلًا فيلمه لتوجيه التحية لهم: كالسوداني جاد الله جبارة الذي برزت لقطاته التوثيقية لخرطوم ما قبل قوانين الشريعة على شاشة سليمان وهو يعرّف مزمل على عاصمة بلده. بجانب عرضه لفيلم «باب الحديد» ليوسف شاهين حيث يقدم النجمة المصرية الراحلة هند رستم كنموذج للمرأة الكاملة. إضافة للعديد من مشاهد الفيلم التي اقتبس أمجد في تكوينها أعمالًا لعدة مخرجين كبار مثل ثيو أنجلوبولس الذي استعار من ثلاثيته «المرج الباكي»  مشهد الدراويش المبحرين بالزوارق بمشهدية عالية، وبالطبع لا يمكن إغفال جوزيبي تورناتوري في «سينما باراديسو» طالما أننا نتحدث عن علاقة بين فتى يتعرف على عالم جديد وعجوز مغرم بالسينما.

تضافرت موهبة أمجد الإخراجية مع الإنتاج الكبير لتقديم العديد من الفتوحات الفنية التي لم تتوافر من قبل لأي عمل سوداني. حيث أولى اهتمامًا فائقًا بكل التفاصيل الفنية في الأزياء والإكسسوار والديكور الفائقة المحلية. التي وفرت مشهدية جذابة خرجت فيها الكثير من الطقوس الفلوكلورية السودانية في حلة بهية وإن شابها أحيانًا بعض المبالغة والتطويل. تمثلت في جلسات الزار، والنوبة الصوفية، وطقوس الحنة (الزواج)، حيث لعبت الموسيقى الإيقاعية عاملًا أساسيًا لخدمة الصورة، وبموسيقى تصويرية مغايرة من توقيع التونسي أمين بوحافة، الحائز على جائزة «سيزار» لأفضل موسيقى تصويرية عن فيلم «تمبكتو» للموريتاني عبدالرحمن سيساكو، ولم يخل الفيلم من إقحام شريط الصوت لأغنية «يا شعباً لهبك ثوريتك» في تحية مباشرة للثورة السودانية التي تزامن اندلاعها مع انشغال طاقم العمل في ثورتهم الخاصة بين حقول ولاية الجزيرة.

ولكن يظل المجهود المقدر الأكبر في فيلم أمجد أبوالعلاء هو الأداء الاحترافي للممثلين الذين سجل غالبيتهم حضورًا أول على الشاشة الكبيرة، مع بروز مواهب إسلام مبارك وبنة خالد، فيما جاء أداء الممثل محمود السراج ناضجًا كأفضل أدواره بعد سنوات من العمل في التلفزيون والمسرح. كل هذا كان نتيجة لإيلاء المخرج عناية خاصة في إدارة ممثليه. مستعيناً بالمصرية سلوى محمد علي كمدربة تمثيل. مع عقد «بروفة طاولة» مع الممثل القدير محمود حميدة.

«ستموت في العشرين» هو أنشودة سينمائية تحتفي بالمكونات الثقافية للبيئة السودانية ضمن منظور نقدي. يحرض على التمرد والتملص من قيود التقليد وعوالم الغيب. يستفز من يشاهدها للهرب من المصير المقرر سلفًا كقدر محقق. طارحًا الهجرة كخيار أمثل وأخير عندما يعجز الأفراد عن رسم حياتهم كما يبغونها في أوطانهم، وهو إن كان في مشاهده مثقلًا بالحزن وكآبة الحداد وهاجس الموت، إلا أنه جاء كقبلة حياة للسينما السودانية، التي غابت عن شاشات العرض لعشرين عامًا وكأن الرقم عشرين الذي وضع حدَا لحياة مزمل منذ مهده هو رمز ولادة لهذه الموجة السينمائية الجديدة التي «ستعيش في العشرين».

 

موقع "مدى مصر" في

18.09.2019

 
 
 
 
 

اختيار فيلم «ستموت في العشرين» للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان الجونة السينمائي الدولي الثالث

أحمد السنوسي

اختارت إدارة مهرجان الجونة السينمائي، الفيلم المصري السوداني "ستموت في العشرين" للمخرج أمجد أبو العلاء، للمشاركة في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، ضمن فعاليات الدورة الثالثة للمهرجان، والتي ستقام في الفترة من 19 ـ 27 سبتمبر الجاري، كما قام المهرجان بتخصيص عرض "Red Carpet " لأبطال وصناع الفيلم يوم الجمعة 20 سبتمبر.

الفيلم الذي تشارك قنوات ART في إنتاجه يدور حول "مزمل" الذي يولد ملعونا بنبوءة تفيد موته عند بلوغه العشرين من عمره، يكبر "مزمل" وسط نظرات الشفقة التي تشعره بأنه ميت، حتى يعود "سليمان"، المصور السينمائي إلى قريته، يوفر جهاز عرض الأفلام الخاص بسليمان، نافذة لمزمل لرؤية العالم، وعندما يبلغ العشرين، يواجه حيرته ما بين اختيار الموت، وبين حافلة تنقله إلى عالم جدي.

جدير بالذكر أن الفيلم حاز منذ أيام على جائز "أسد المستقبل"، في مسابقة أيام فينيسيا،  التي أقيمت ضمن فعاليات الدورة الـ76 لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي.

 

بوابة أخبار اليوم المصرية في

17.09.2019

 
 
 
 
 

«ستموت في العشرين» في أولى فعاليات الجونة السينمائي

تحرير:محمد عبد المنعم

تنطلق اليوم أولى فعاليات مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثالثة التي تستمر حتى 27 من نفس الشهر، ويشهد يوم الجمعة عرض مجموعة من الأفلام ففي الثانية عشر ظهرا، يُعرض فيلم محطمة النظام بسينما جراند بالغردقة، وفي الثالثة عصرا يعرض فيلم البؤساء بقاعة أوديماكس بالجامعة الألمانية، أنا فيلم محطة البرازيل فيعرض بقاعة سي سينما 3 بفندق ريحانة، وفي الثالثة والربع لدينا موعد مع فيلم علو الموج بقاعة سي سينما 1 بفندق ريحانة، وفي نفس التوقيت يعرض أيضا فيلم الخائن بسينما جراند بالغردقة.

في الثالثة والنصف عصرا يعرض فيلم أيتها الفتيات بقاعة سي سينما 2 بفندق ريحانة، ولنا موعد في السادسة مع فيلم فيلم أخوات السلاح بمسرح المارينا، وفي نفس التوقيت فيلم الخائن بقاعة أوديماكس بالجامعة الألمانية، وفيلم أغنية بلا عنوان بقاعة سي سينما 1 بفندق ريحانة، فيلم كابل، مدينة في الريح بقاعة سي سينما 2 بفندق ريحانة.

بينما في السادسة والنصف يعرض فيلم محطمة النظام بقاعة سي سينما 3 بفندق ريحانة، وفيلم البؤساء بسينما جراند بالغردقة، وتختم فعاليات اليوم في التاسعة والنصف  مع الفيلم الفائز بجائزة فينيسيا "ستموت في العشرين".

 

####

 

«ستموت في العشرين».. فيلم سوداني يجذب انتباه الجونة

تحرير:محمد عبد المنعم

عرض اليوم الجمعة، فيلم "ستموت فى العشرين"، ضمن فعاليات الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائى وهو فيلم السودانى، ويشارك فى مسابقة الأفلام الروائية بالمهرجان، وسبق عرضه إقامة سجادة حمراء لصناعه، وأيضًا للفنانين والضيوف الذين يحضرون الفيلم، حيث حرص مئات من المشاركين بالمهرجان على التواجد لمشاهدة العمل الذي حصل على جائزة "أسد المستقبل" في مهرجان فينيسيا السينمائي، بالإضافة إلى تواجد عدد كبير من الفنانين منهم أروي جودة، ياسمين صبري، خالد الصاوي، عمرو يوسف، وأحمد داوود.

وقال انتشال التميمي مدير الجونة السينمائي، إن فيلم "ستموت في العشرين" يعد سابع فيلم في تاريخ السينما السودانية، إذ بدأ بمهرجان فينيسيا وتورنتو والآن هنا في الجونة، مؤكدا أن الفيلم سيجوب العالم كله.

وعبر مخرج الفيلم، أمجد أبو العلاء، عن سعادته بعرض فيلم سوداني في مصر، إذ قال: "شيء يعنيني جدًا أن يعرض فيلمي في مصر".

وتستمر فعاليات الجونة السينمائي حتي يوم 27 من الشهر الجاري، إذ يشارك فيه 80 فيلمًا في مسابقات المهرجان الرسمية، وهي الأفلام القصيرة، الأفلام التسجيلية، الأفلام الروائية، وتتنافس على جوائز مالية تبلغ 224 ألف دولار أمريكي.

وعرض اليوم، أيضا الفيلم الفرنسي "البؤساء" الحاصل على جائزة لجنة التحكيم بمهرجان كان، ضمن فعاليات مهرجان الجونة السينمائي، وسط إقبال كبير من ضيوف المهرجان.

 

التحرير المصرية في

20.09.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004