كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 

يوسف شريف رزق الله..

أكثر وأهم من مجرد "ناقد سينمائي"

د. أمل الجمل

عن رحيل عاشق السينما

يوسف شريف رزق الله

   
 
 
 
 
 
 

"لم يكن يوسف شريف رزق ناقداً سينمائياً، أين النقد الذي كان يكتبه أو كتبه بالفعل؟ أنتم المصريون تُبالغون" هكذا يحتج أحد الزملاء العرب من النقاد النشيطين جدا.

أرد عليه: "كلامك صحيح. لم يكن يوسف شريف رزق الله ناقداً، لكنه لعب دوراً تثقيفياً أهم وأعلى في القيمة الفكرية والمردود الإنساني من دور الناقد السينمائي الذي يكتب للنخبة، خصوصاً أنه من جيل كان يعتمد على أبسط وسائل التواصل، إذ لم يكن على أيامهم وجود لوسائل التواصل الاجتماعي. يا عزيزي يوسف شريف رزق الله ساهم بقوة في نشر الوعي والثقافة السينمائية بين أطراف المجتمع عبر برامجه التليفزيونية. المؤكد أن كثيرين من أبناء مصر، وربما من أرجاء الوطن العربي تعلموا من يوسف شريف رزق الله حب السينما، ومعنى السينما، وملايين الحيوات الإنسانية التي تبثها السينما.

الرجل الموسوعة

يوسف شريف رزق الله الذي كان يحلو لنا - عندما نتحدث عنه بإعجاب كبير في ماسبيرو - أن نصفه بـ"الموسوعة السينمائية". لقد تعلمت أجيال عديدة وتفتح وعيها على برامجه السينمائية التي كان يُعدها لكبار المذيعات بالتليفزيون المصري، أو تلك التي كان يُقدمها بنفسه. ساهم في تأسيس بعض الجمعيات والنوادي السينمائية، ونشط فيها بدور فاعل عندما كان النقد السينمائي المصري لا يزال في دور التكوين، ولن نقول في دور التأسيس؛ لأن هناك أجيالا سابقة على ذلك لا يمكن إنكار دورها بشهادة سمير فريد نفسه.

ترجم يوسف شريف رزق الله مقالات وحوارات، والكتابة عن بعض الأفلام في نشرات تلك الجمعيات والنوادي السينمائية. الأستاذ الكبير سمير فريد عندما تحدث عن الأرشيف وفكرة التوثيق للسينما المصرية أشار إلى جهود يوسف شريف رزق الله معه، فقد تعاونا في البداية رغبة في إنجاز توثيق علمي، لكن المشاغل أخذت يوسف لاحقاً ولم يُواصل.

لماذا؟

على مدار سنوات كنت أتساءل: لماذا لا يتولى يوسف شريف رزق الله رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي؟! كنت أتساءل حتى من قبل أن أمارس مهنة النقد السينمائي. كنت بسبب عشقي للسينما في المرتبة الأولي، وكذلك عملي التليفزيوني في تغطية فعاليات المهرجانات السينمائية. كنت في جميع المرات لا أمتلك دعوة لحضور فيلم الافتتاح. فقط "البادج" الذي يتم توفيره لفريق العمل التليفزيوني والذي لم يكن يسمح لنا بالمرور عبر البوابة الداخلية، وبالتالي قاعة المسرح الكبير. لكنني كنت دائماً مع التجربة والإصرار أعلم أن هناك ثغرة يمكن الإفلات منها لمشاهدة فيلم الافتتاح من دون دعوة.

كنت أظل أعمل كالنحلة، وعندما أُدرك أن موعد الفيلم اقترب - حتى وإن لم ننتهِ تماماً من التصوير مع جميع الضيوف والنجوم - أخبر زملائي بأن دوري معهم انتهي، والآن تبدأ رحلة المشاهدة.

ما أكثر الحجج التي ذكرتها لرجال الأمن على البوابة، والتي لا أتذكر منها شيئاً الآن. فقط أتذكر دوما لقطة لى وأنا أتمتم لهما على عجل ببضع الكلمات وأشير بيدي قبل أن أهبط لأعبر السلسلة الحديدية وأختفي بسرعة البرق، وفجأة أجدني جالسة أمام الشاشة العريضة بالمسرح الكبير لملاحقة أبطال فيلم الافتتاح.

كان دوما هناك

دوما عقب الافتتاح تجد القاعة شبه فارغة، عدد محدود جدا يتبقى، يُفضل متابعة الفيلم على السهر والحفلة.

ودوما، هناك، وسط كل هذا الدفء بقاعة السينما كنت ألتقي يوسف شريف رزق الله. أراه عقب نهاية كل فيلم افتتاح. على مدار أكثر من عشرين عاماً تكرر المشهد. يبتسم في بعض المرات بود إن التقت الوجوه.

في بعض المرات صورنا معه وأجرينا حوارات عن السينما وأفلامها، عندما بدأت العمل على كتابي عن أفلام الإنتاج المشترك ذهبت إليه بمقر المهرجان، استقبلني بوجه بشوش كعادته، اقترح على أحد الشخصيات. أخبرته بمخاوفي من سرقة الفكرة. صمت قليلاً متأملا المكتب أمامه. رفع وجهه مبتسماً: "إذًا فقد أُغلق هذا الباب". أخبرني أنه مؤكد لديه وثائقي ومعلومات لكن مكتبته مزدحمة ويحتاج لإعادة البحث.

على مدار سنوات كنت أذهب إليه عندما أراه أثناء فعاليات مهرجان القاهرة وأسأله: أستاذ يوسف ممكن ترشح لي الأفلام الأكثر أهمية لمشاهدتها؟ فيبتسم ثم يمر بالقلم على برنامج عروض الأفلام، وأثناء ذلك يُخبرني لماذا يفضل هذا أو ذاك.

طوال تلك السنوات أيضاً لم أتوقف عن التساؤل لماذا لا يكون هذا الرجل هو رئيس مهرجان القاهرة السينمائي؟! خصوصاً عندما أدركت أنه مَنْ يختار الأفلام التي كنت أستمتع بمشاهدتها بالمهرجان. كانت الردود دوما في الكواليس أن هناك سيدة حديدية هي الرئيس الفعلي وهي التي تحرك الأمور وتدير رئيس المهرجان نفسه.

لاحقاً وبعد سنوات طويلة، عندما عرض المنصب بالفعل عليه ورفضه، أدركت أن يوسف شريف رزق الله لم يكن يشغله أو يهمه منصب الرئيس. الرجل كان يحب دور المدير الفني، يحب السفر إلى مهرجانات السينما والحياة بين صالات وقاعات عروض الأفلام لاختيار الأفضل من بنيها.

كنت أشاهده وهو يتنقل بسرعة بين قاعات السينما أو على درجات السلم في مهرجان كان، أحياناً في طريقه إلى صناديق الصحفيين والنقاد، أو عقب الخروج أو الدخول إلى فيلم سينمائي، وأمام القاعات السينمائية في "كارلوفي فاري" السينمائي العام الماضي، أحياناً بصحبة زوجته وأحياناً بمفرده. وفي مهرجان برلين أيضاً، فحتى في أصعب لحظات المرض، كان حريصاً على الحضور، فقد نُقل إلى المستشفى في أحد الأعوام أثناء فعاليات مهرجان برلين، ومع ذلك أصر على المواصلة.

شهادة منه

أتذكر عندما هاتفني للمرة الأولى. كنت كتبت نقداً تقييماً حول دورة مهرجان القاهرة بجريدة الحياة اللندنية، هاتفني لتوضيح الأمر بعتاب، كان ردي: "أستاذ يوسف.. أنا كتبت هذا من باب الغيرة على مهرجان تُنظمه بلدي وأُريد له الأفضل دوما. وهو قادر على أن يكون الأفضل" فرد قائلاً: "أمــل.. أنا أعرف أن إخلاصك الأول لقاعة العرض السينمائي وللفيلم السينمائي".

كانت تلك الجملة بمثابة شهادة كبيرة منحتني سعادة، خصوصاً عندما وجدت زملاء يُرددونها. وحينما كان يلومني البعض بشأن نقدي اللاذع لبعض كتب الزملاء كنت أُعيد ترديد جملة يوسف شريف رزق الله عليهم. ولذلك عندما هاتفني مرة أخرى يخبرني بأنه اختارني؛ لأكون أحد أعضاء لجنة المشاهدة بمهرجان القاهرة السينمائي فوافقت فقط لأنني خجلت من رفض طلبه. كنت من تجارب سابقة أُدرك أن عمل اللجنة يستهلك الوقت والجهد بشكل مرعب. صمدت، لكن بعد شهرين تقريباً قررت التوقف والاعتذار له، خصوصاً عندما أدركت أن رأي اللجنة استشاري، وأنه يمكن أن تُقيم فيلماً بأنه عظيم ومهم لكن يتم استبداله بآخر، أقل في المستوى، لأسباب إدارية أو لصعوبات ما. أخبرته أن الأمر يقتل لي وقتي وأن لديَّ مشاريع صارت مؤجلة، فتفهم الأمر، وصرفوا لي مستحقاتي كاملة.

رغم أني شاهدته مرات عدة وهو غاضب، بل كان ثائراً في بعضها، شاهدت الحزم في توجيه القرارات بشكل يخلو من التردد، لكنني سأظل أتذكر ابتسامته الطفولية الجميلة تملأ وجهه البشوش دوما في كل اللقاءات التي جمعتنا، ولن أنسى أبداً قدرته على التسامح والتصالح برقي. فرغم أننا اختلفنا لاحقاً بسبب منع إدارة مهرجان القاهرة السينمائي عرض فيلم تامر السعيد "آخر أيام المدينة"، ورغم أنني كتبت أربعة مقالات أُفند فيها الأخطاء والمغالطات التي وقع فيها المهرجان بشأن تعاملهم مع الفيلم والمخرج، ورغم أن العلاقة بيننا توترت لبعض الوقت، لكنني لن أنسى أبداً اتصاله الهاتفي أثناء مرض زوجي د. شريف حتاتة ليسألني عن أخباره الصحية، ويخبرني أنه عثر على الدواء الذي نحتاجه فشكرته لأننا كنا قد عثرنا عليه بمساعدة بعض الأصدقاء.

عزيمة الشباب

لن أنسى لقاءه العام الماضي بمهرجان "كارلوفي فاري"، فعقب مشاهدتي أحد الأفلام كنت أنتظر أمام قاعة المشاهدة على الكمبيوتر، فإذا به قادماً من بعيد مسرعاً بحماس وعزيمة الشباب رغم ظروفه الصحية الصعبة والإرهاق البادي عليه. كان يبتسم بود، مد يده وسلم كأن شيئاً لم يحدث، كأنه لم يدب بيننا خلاف عنيف بسبب منع فيلم سينمائي. سألني ماذا سأفعل؟ ثم أخبرني أن هناك فيلماً مهماً في تلك القاعة، وانتظر قليلاً حتى تلحق به زوجته قبل أن يبتلعه ظلام قاعة العرض.

اليوم - بعد أن جاءني خبر رحيله قبل عدة أيام - أتأمل مسيرته، لقاءاته المتلفزة مع نجوم السينما العالمية بصحبة سمير فريد وأشرف فهمي وآخرين، محاولاته وجهوده في التوثيق السينمائي والتي توقفت بسبب مشاغله العديدة، أتذكر مراحل الوعي السينمائي عندي الذي ساهم هو في تشكيله، حتى ولو بدرجة ما. أُفكر في آخرين أحبوه، وارتبطوا به، وفي الميراث الإنساني الذي تركه من ورائه، فأشعر أنه لم يرحل، وأنه لا يزال يعيش بيننا، وربما لسنوات طويلة أيضاً.

 

موقع "مصراوي" في

19.07.2019

 
 
 
 
 

رحل فارس السينما وناسكها

بسنت حسن

مثلما يرى الناصرى أن عبدالناصر هو عمود الخيمة، يرى السينمائى أن يوسف شريف رزق الله هو مصدر المعرفة والثقافة السينمائية الأول فى مصر، فالسينما العالمية بالنسبة للمواطن المصرى، كانت هى ما يقوله ويحكى عنه يوسف شريف رزق الله فى برامجه.

عشق المصريون السينما على يديه، وتوقفوا عن عشقها عندما توقف الفارس عن الوقوف أمامهم ببساطته ورقيه المعرفى، وطلاقته فى نطقه للغات الأجنبية- كما ينطقها أهلها- بل وتواضعه ونبله الجم الذى يلمسه الجميع. فكان هو الإعلامى والناقد السينمائى الأوحد الذى يعرفه رجل الشارع والجمهور غير المتخصص. خسارة يوسف شريف رزق الله على الصعيد السينمائى فادحة، أما خسارته كمصدر ووجه جماهيرى يثق فيه ويحبه الجماهير ويصدقونه، فهى خسارة لا تعوض.

لقد جعل يوسف شريف رزق الله السينما وجبة خفيفة مشبعة وصحية تتذوقها الأسرة المصرية كل أسبوع.. وجعلها أيضًا نزهة أليفة لكل أفراد الأسرة على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم فى زمن كان الإعلام مصدره واحد ومعروف وهو الدولة، وكان ذلك كافيًا وشافيًا للجميع، لم يكن الإعلام يجمل شيئًا.. كان الإعلام إعلامًا جميلًا قيمًا دون مؤثرات تؤذى العيون والآذان أحيانًا.. وكان من يظهر على الشاشة يصدقه الكل. فلم تكن هناك دول أو جهات أو أحزاب أو كيانات تمول تلك الشاشة لتحارب غيرها، أو تستهدف نشر ثقافة ما لهدم أخرى.

لم يكن الضباب يخيم على فضائنا، ولم تكن الأرباح المادية فى حساباتنا كما هى اليوم. كان البياض طاغيًا على كل أسود.. وفى تلك الأجواء غير المغرضة وغير الملتبسة والمليئة بالشفافية، ظهر الرجل غزير المعرفة ذو النوايا البيضاء والثقافة العميقة والقلب الأخضر الذى لم يذبل، ليحدثنا بشغف عن السينما وليخلق الشغف بداخلنا لهذا الفن بمرور الوقت.. وبمنتهى النعومة والدفء تسلل إلينا حتى أشبعنا وشبعنا بالجمال، فصرنا نشعر تجاهه بعاطفة عريقة لم تخب مع الزمن، بل كانت دومًا ما تتأكد وتتأصل، وتكون جيل كامل يصنف اليوم بـ«جيل الوسط»، جيل أحب السينما على يديه وصار متذوقًا لها.. جيل علمه رزق الله أسمى معانى الجمال والرقى والنزاهة، جيل تربى على أن النقد السينمائى لا علاقة له بالارتزاق والتربح والدعاية والسمسرة.

جيل نظيف ينتمى بالكامل لسينما يوسف شريف رزق الله، وهذا الجيل يقف اليوم حائرًا ما بين منظومتى قيم.. منظومة تشربها على يدى الفارس النبيل ومنظومة أخرى لا يعرفها أوجدها وفرضها أنصاف ومبتسرون جُل أمانيهم التربح. جيل جديد يحب المال حبًا جمًا بعد أن فشل فى أن يحب نفسه ويحب السينما.. فخطفت هؤلاء الأضواء الزائفة، وغرتهم أجواء السوق وآلياته وماراثون المهرجانات المحموم والجوائز المالية الموجهة والمبيعة سلفًا، والمنح والدعم والتمويل وصارت الشللية، هى طريق النجاح.

هكذا حال أباطرة النقد السينمائى الجدد والمشتغلين فى المهرجانات وشركات التوزيع الخارجية التى تريد السيطرة على المجال السينمائى، وسوق الفيلم المصرية والعربية، وإن بدت البسمات على وجوه البعض منهم فى حفلات الافتتاح والختام وهم يرتدون ملابسهم الأنيقة التى تجعلهم يبدون فى عمر أصغر بكثير من أعمارهم الحقيقية، فى إعلان صريح منهم بأننا جيل الشباب المسيطر الآن على مقاليد اللعبة السينمائية والممثلون الشرعيون الوحيدون للسينما فى مصر والعالم العربى، بل والعالم كله! ورغم كل ما سبق.. فعيون هؤلاء بما فيها من نهم وقح ينم عن جوع وعطش للمزيد من الغلو والسيطرة وتحقيق المكاسب وتسديد الضربات والطعنات للبعض دون تردد دومًا ما تفضحهم.. فتلك الأحصنة الجامحة التى تسير كالرهوان بلا تؤدة ولا هوادة وبجنوح يثير الشفقة والغثيان فى آنٍ واحد حتمًا إلى زوال.

أما ترك الحبل على الغارب لتلك الثقافة البراجماتية القائمة على مبدأ الشللية والأقرب فى تكوينها لفكرة العصابات، فهى مسألة غاية فى الخطورة وستنسحب حتمًا على ثقافة ومنظومة القيم فى المجتمع ككل. فالسينما أداة من أدوات التغيير والحراك الاجتماعى.. وبعد أن راح النبيل وراح معه زمن النبل، لا بد من اليقظة والحذر والتصدى لذلك الجنوح وضبط إيقاع الأشياء، بل وضبط البوصلة على وضعها الصحيح.

 

الدستور المصرية في

19.07.2019

 
 
 
 
 

ذكريات مع الأستاذ يوسف شريف رزق الله

بقلم: أحمد شوقي

(1)

قابلت الأستاذ يوسف لأول مرة عام 2012، تلقيت اتصالًا يفيد بترشيحي لعضوية لجنة المشاهدة في مهرجان القاهرة الذي كان وقتها تحت تنفيذ مؤسسة أهلية تم إطلاقها وفقًا لخطة الوزير عماد أبو غازي لنقل المهرجانات للمجتمع المدني. ذهبت لأكتشف ما الذي يعنيه أن تكون ضمن لجنة اختيار في مهرجان، وفي 17 قصر النيل قابلت رجلين شامخين طالما شاهدتهما على شاشات التلفزيون طفلًا ومراهقًا، يوسف شريف رزق الله المدير الفني ورفيق الصبان مدير لجنة المشاهدة، وكذلك د. ماجدة واصف التي كان من المفترض أن تكون رئيس المهرجان، ولك أن تتخيل قدر الانبهار والمتعة لمحب يدخل لأول مرة هذا العالم بعدما صار بإمكانه مقابله هؤلاء بشكل دوري.

لكن التجربة تم وأدها سريعًا بحكم قضائي أخذه ممدوح الليثي بحقه في المهرجان وعدم جواز إسناده لمنظمة مدنية، الأمور تعقدت فجأة بشكل يفوق فهمي لأجدنا (أعضاء الفريق الفني) مدعوين لاجتماع يُقام للأسف في جروبي على الرصيف المقابل لإدارة المهرجان الذي يبدو أننا لم نعد مرحب بنا داخله. في الاجتماع كنت وصديقي يوسف هشام الأصغر والذين لا نعرف أي خلفيات أو خلافات أو حسابات، فكان الأمر بالنسبة لي بسيط: هذه المجموعة من الأساتذة هم من استعانوا بي وبالتالي إن رحلوا رحلت، لتبدأ الدهشة لاحقًا عندما وجدت مجموعة من حاضري الاجتماع من كبار الأساتذة يعودون للعمل مع الإدارة الجديدة / القديمة، في دورة كان من حسن حظي أن كنت في هولندا وقت عقدها فلم أتابع ما فعلته فيها الأحداث السياسية الدامية التي جعلت المهرجان يُعقد في الخفاء وحفل ختامه يقام نهارًا بشكل سري.

(2)

اللقاء الثاني جاء في مايو 2013 بكافيتريا دار الأوبرا، كان محمد حفظي قد تولى إدارة مهرجان الاسماعيلية واختارني لتولي الجانب الفني المتعلق باختيار أفلام المهرجان وإدارة لجنة المشاهدة، اخترنا مجموعة أفلام جيدة وجاء وقت وضع برنامج العروض الذي تطوع الأستاذ يوسف ووافق مشكورًا على أن يساعدنا في برمجته بشكل ملائم، اجتمعنا في الأوبرا للعمل على برنامج العروض وهي لمن لا يعلم أحد أشق المهمات في أي مهرجان لتعلقها بحسابات متداخلة: مواعيد حضور الضيوف ووصول النسخ وتصاريح الرقابة وفلسفة العروض والإعادات لكل قسم على حدة، وقتها أنهينا البرنامج في جلسة واحدة وقال لي الأستاذ مبتسمًا: أنت أول واحد يحسسني إن الموضوع سهل كده.

وخلال أيام مهرجان الإسماعيلية في شهر يونيو جائني عرض من الأستاذ يوسف والدكتورة ماجدة واصف للذهاب فور نهاية المهرجان لمقابلتهما في مقر مؤسسة نون بالتوفيقية فور انتهاء عملي بالإسماعيلية، وبالفعل ذهبت لنتفق سريعًا على مساعدة الأستاذ في الجانب الفني للدورة الثانية من مهرجان الأقصر للسينما المصرية والأوروبية، والذي كان قد تم إطلاقه في سبتمبر 2012 بعد "الطرد" من القاهرة. وكان العمل المطلوب هو تولي مراسلات المهرجان مع الموزعين الدوليين وأصحاب الأفلام، تنظيم لجنة المشاهدة وإدارتها، والإشراف على مسابقة الأفلام الطويلة للمهرجان.

بحماس كبير ولضيق الوقت انطلقت أطلب الأفلام وأشكل اللجنة وأبدأ عملها، كل هذا خلال النصف الثاني من يونيو 2013، والذي انتهي بالثورة وتلاها الاعتصام واشتعل الشارع بما يستحيل معه إقامة المهرجان في سبتمبر فجاء القرار بتأجيل المهرجان لتقام دورته الثانية في يناير التالي، ليمنحني هذا المزيد من الوقت والهدوء لمشاهدة الأستاذ يعمل، وترتيب البرنامج دون ضغوط، فالمهرجان كان صغير الحجم في كل شيء، وبالفعل مرت الدورة الثانية بنجاح هادئ جعلت التعاون يتكرر تلقائيًا في دورة ثالثة قبل أن تُقام كان القرار قد صدر بانتقال إدارة الأقصر كما هي لمهرجان القاهرة: د. ماجدة رئيسًا والأستاذ يوسف مديرًا فنيًا.

(3)

أنهيت عملي في الدورة الثالثة للأقصر في يناير 2015 وابتعدت تمامًا عن إدارته، لم أرد أن أفرض نفسي أو أضغط لأنتقل معهم للقاهرة، وكنت أعلم أنني في النهاية صغير بمعايير الصناعة، في مقتبل حياتي المهنية، وأن محدودية الاختيارات حسب ميزانية الأقصر الضعيفة ربما كانت تمنعهم من الاستعانة بمن هو أكبر عمرًأ وخبرة، ومع مرور الشهور آمنت بأن هذه هي الحقيقة (فلم أكن أتصور أن مهرجان بحجم القاهرة لا يتم العمل عليه على مدار السنة وأن يناير هو موعد مبكر جدًا لتكليف أي شخص بأي مهام)، لكن لم يأت منتصف العام إلا وقد تلقيت اتصالًا يدعوني للحضور لمقر المهرجان لمقابلة ماجدة ويوسف، ليكلفاني بمهمتين خلال الدورة 37: الإشراف الفني والإدارى على برنامج ضيف الشرف (السينما اليابانية)، وملف ندوات الأفلام خلال عروض الدورة.

لكن وخلال التحضيرات امتدت المهمة وتشعبت لتتضمن قيامي بأعمال أخرى إما لتخفيف العبء الضخم من على الأستاذ يوسف، أو لأنني ببساطة كنت المتاح لإنهاء بعض المهام التي تظهر فجأة ولا يوجد من يمكنه القيام بها دون تعقيدات، ليُقرر الكبيران ـ باعتراف نادر بقدرات مرؤوسيهما ـ أن يتغير المسمى الوظيفي لي، لأكون بداية من الدورة التالية (الدورة 38) نائبًا للمدير الفني للمهرجان، يوكل إليّ ما يريد من صلاحياته، وهو الدور الذي قمت به في الدورات 38 و39 و40، مستمرًا مع الأستاذ يوسف بعد تعديل إدارة المهرجان وتولي الأستاذ محمد حفظي لرئاسته.

(4)

عندما أنظر لترتيب الأحداث السابقة أجد أنني بالتأكيد كنت أكثر تلاميذ الأستاذ يوسف حظًا، أولًا لأن القدر سمح لي أن أعمل معه بانتظام وبشكل شبه يومي خلال الستة أعوام الأخيرة من حياته (من منتصف 2013 حتى منتصف 2019)، وثانيًا لأن هذه هي الفترة التي تزايدت فيها متاعبه الجسدية فصار من الممكن أن يوكل مهامًا رئيسية لمن حوله ويكتفي بمتابعتهم والإشراف عليهم، فقد كان ككل مهووس بالكمال يُحب أن يفعل كل شيء بنفسه وبيده.

أما السبب الثالث للحظ فهو الأستاذ يوسف نفسه، هو طريقته إدارته للأمور ونقله للمعلومة وتعاونه مع من حوله، فهو بلا جدال أحد أكثر المديرين الذين رأيتهم انفتاحًا على قبول الآراء المخالفة له، وسماع الاقتراحات والاعتراضات والأخذ بما يقتنع به منها دون كبرياء زائف أو عناد يعرفه كل من يعمل مع مدير يؤمن أنه مُلهم وصاحب رأي سديد في كل شيء. على ثقافته الموسوعية وخبرته المذهلة التي يتضائل أمامها الجميع لم يمتلك يوسف ذرة من الغرور يمكنها أن تؤثر على العمل الذي كان يقدسه.

أمر آخر سأظل أذكره ما حييت هو إن الأستاذ يوسف شريف رزق الله هو أكثر شخص تعلمت منه مهنيًا، بينما هو الشخص الوحيد الذي لم يقدم لي وعلى مدار ست سنوات من التواصل شبه اليومي أي نصيحة من أي نوع. لم يعش للحظة دور الحكيم الذي يعلق على تصرفات الآخرين فيقومهم ويسدي لهم النصائح، كان يُقدم لنا الدروس بأكثر الطرق صدقًا: كان يعمل، أراه يفعل الأشياء فأتعلم، يناقش الموضوعات معي مناقشة الزملاء فأتعلم، نتحدث عن الحياة والذكريات وعن الأفلام وصناعها فأتعلم. كل هذا دون لحظة واحدة أشعرني فيها بأي قدر من الأستاذية المباشرة رغم إنه لو فعلها لما اعترضت أو غضبت، فإت لم يكن أستاذك هو يوسف شريف رزق الله فمن يمكن أن يكونه؟!

(5)

اليوم مر أسبوعين على رحيله، الأيام تمضي فلا ترحم ولا تمنحنا فرصة لممارسة الحزن كما يليق بصاحبه، العمل لا يتوقف وإن رغبنا في أن يمنحنا هدنة. اليوم ذهبت مع محمد حفظي لزيارة منزل الأستاذ يوسف ومقابلة أسرته فأدركت فجأة أنها المرة الأولى من سنوات التي يمر أسبوعان دون أن نتحدث ولو تليفونيًا، وإنها المرة الأولى من سنوات التي أرتب فيها لرحلة سفر دون أن يكون السؤال الأهم في ذهني هو كيفية إخبار يوسف بسفري دون أن يتضايق أو يتهمني بأنني أسافر كثيرًا وأترك العمل يتراكم عليه. أدركت إنها ليست مجرد أجازة أو وعكة ستستمر عدة أيام وتعود بعدها الأمور لطبيعتها. أدركت كم أحببت هذا الرجل واستفدت منه وكان ـ دون أن يتعمد ـ مُعلمي الأكثر تأثيرًا. اليوم فقط أدركت أنه لم يعد معنا فاستعدت شريط الذكريات من بدايته، أدركت أن العالم يستمر في أن يصبح أسوأ وأظلم في كل يوم عن سابقه، وأننا لا نملك سوى أن نواصل المسيرة العبثية التي لا يمكننا إلا أن نحبها ونخلص إليها.

 

الـ FaceBook في

26.07.2019

 
 
 
 
 

مهرجان "جمعية الفيلم" يهدي دورته الـ46 إلى الراحل يوسف شريف رزق الله

كتب: نورهان نصرالله

كشفت إدارة جمعية الفيلم برئاسة مدير التصوير السينمائي محمود عبدالسميع، تكريمها للناقد الراحل يوسف شريف رزق الله بإهدائه الدورة الـ 46 للمهرجان السنوي للسينما المصرية والذي تقيمه الجمعية سنويا في شهر فبراير، مؤكدا بأنه كأحد الأعضاء الأوائل للجمعية منذ بدايتها، بالإضافة لكونه موسوعة متنقلة للسينما العالمية.

وقال عبدالسميع، في بيان صحفي له اليوم الجمعة: "لقد أحزن برحيله قلوبنا في الفني والثقافي جميعًا، وأيضا محبيه فقد ترك في أذهاننا ذكريات لن تُنسي وأشبع شغف أرواحنا التي تتطلع لكل ما هو جديد في عالم الفن، فهو يعد أقدم وأبرز نقاد السينما الغربية في مصر والوطن العربي، وخسارتنا كبيرة بغيابه عنا".

وتابع رئيس "جمعية الفيلم": "تولي رزق الله رئاسة جمعية الفيلم بالقاهرة 1980 وحتى 1999، كما كان رئيسا للدورات الخاصة بالمهرجان الذي تقيمه الجمعية في تلك الفترة أيضا، كما كان من الأعضاء الاوائل للجمعية، وأيضا كان المسؤول عن العروض الأجنبية التي كانت تعرض ضمن نشاط الجمعية، والندوات التي كانت تقام بعدها لمناقشتها"

 

الوطن المصرية في

26.07.2019

 
 
 
 
 

يوسف شريف رزق الله.. عاشق الفن الذي منح السينما عمره

كتب - مروان شاهين

رمز تاريخي للمهرجان العالمي.. وتتلمذ على يديه أجيال من النقاد والسينمائيين

يُعد الناقد السينمائى الكبير يوسف شريف رزق الله المدير الفنى لمهرجان القاهرة السينمائى ورمزه التاريخى، أحد أكبر عشاق فن السينما، حيث منح الحياة السينمائية عمره، وتتلمذ على يديه أجيال متعاقبة من النقاد والسينمائيين، فضلاً عن دوره البارز فى قيادة دفة المهرجان على مدار أربعة عقود، منذ أن كان سكرتيرًا فنيًا له عام ١٩٧٨، ومديره الفنى منذ عام ٢٠٠٠.

وقد وُلد رزق الله فى ٥ سبتمبر عام ١٩٤٢ بحى غمرة بالقاهرة، وتميز منذ صغره بالذكاء والتفوق الدراسي، حيث حصل على المركز الخامس على الجمهورية فى شهادة الثانوية العامة، ليلتحق عقب ذلك بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، حيث تخصص فى دراسة العلوم السياسية، كما حصل على دبلومة من معهد التليفزيون، ليدخل «ماسبيرو» من باب قطاع الأخبار، حيث عمل محررًا ثم رئيسًا للتحرير للنشرات الإخبارية فى مراقبة الأخبار.

وخلال فترة السبعينيات من القرن الماضي، قام بتغطية العديد من مهرجانات السينما العالمية أشهرها مهرجان «كان»، حيث لمع نجمه، وليقدم العديد من البرامج المهتمة بفن السينما منها «نجوم ام، وسينما × سينما»، كما قام بإعداد برنامجي «أوسكار، نادى السينما» وهى برامج كانت تحظى بمشاهدة مكثفة من قبل قطاع عريض من الجماهير نظرًا للمادة الفنية الدسمة التى كانت تحتويها، والتى كانت بصمة رزق الله واضحة فيها، خاصة برنامج «نادى السينما» الذى مثل انطلاقة له نحو السينما العالمية، ومزج فيه بين تجارب سينمائية متنوعة، كذلك برنامج «نجوم وأفلام» الذى عرض خلاله لمسيرة رموز السينما المصرية.

وخلال رحلته الطويلة فى التليفزيون المصرى شغل رزق الله العديد من المناصب، منها منصب رئيس تحرير النشرات الإخبارية فى مراقبة الأخبار باتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري، ورئيس قناة النيل الدولية، ورئيس قطاع التعاون الدولى بمدينة الإنتاج الإعلامى، ورئيس جهاز السينما بالمدينة.

كما شغل منصب السكرتير الفنى لمهرجان القاهرة السينمائى الدولى منذ عام ١٩٨٧ ثم أصبح مديرًا فنيًا للمهرجان منذ عام ٢٠٠٠، كما تولى رئاسة جمعية الفيلم المصرية، وشارك فى لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية فى فرنسا وإيطاليا وهولندا.

نال رزق الله العديد من التكريمات والجوائز، منها وسام الفنون والآداب بدرجة فارس من الحكومة الفرنسية، كما كرمه مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عام ٢٠١٨، واختير فى عام ٢٠١٢ من قبل جمعية الأفلام البريطانية BFI مع مخرجين ونقاد من ٧٣ دولة، للتصويت على قائمتها لأفضل الأفلام عبر التاريخ.

رحل يوسف رزق الله عن الحياة فى ١٢ يوليو ٢٠١٩ عن عمر ناهز الـ٧٧ عامًا، إثر وعكة صحية نقل على إثرها للعناية المركزة، إلا أن إرادة الله نفذت ليلقى وجه ربه ولتشيع جنازته من مسجد السلطان حسين بمنطقة العروبة فى مصر الجديدة، وقتذاك نشرت جمعية نقاد السينما المصرية بيانًا نعت فيه رزق الله وقالت عنه: «إنه أحد مؤسسى الجمعية والمدير الفنى لمهرجان القاهرة السينمائى الدولي، والمعلم الذى غرس حب السينما فى القلوب»، كما نعاه القائمون على مهرجان القاهرة السينمائي، ونشروا صورة لتكريمه على موقع المهرجان بموقع «فيس بوك» من قِبل المهرجان تقديرًا لعطائه الفنى وإسهاماته الكبيرة فى المهرجان، وجاء فى التعليق على الصورة « ينعى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى بكل الحزن مديره الفنى ورمزه التاريخي، عاشق السينما المعلم الكبير يوسف شريف رزق الله، الرجل الذى ساهم فى زرع حب السينما فى آلاف القلوب، والذى يدين له المهرجان بالكثير والكثير.. وداعًا يوسف شريف رزق الله»، كما نعت نقابة المهن التمثيلية الناقد الراحل، واصفة إياه أنه كان رمزًا للمثقف المحب والعاشق لفنه وعلمه، وأنه كان مدرسة كبيرة تخرجت فيها أجيال وأجيال».

«رزق الله» كان أحد أهم أعمدة المهرجان، كونه كان مسئولا عن انتقاء واختيار الأفلام التى تعرض على لجنة الاختيار لعرضها خلال أيام المهرجان وتكريمه خلال الدورة الماضية من المهرجان كان طبيعيا وتتويجا لجهده الكبير لتخرج الدورة السابقة من المهرجان بشكل مميز.

 

البوابة نيوز المصرية في

31.07.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004