جائزة أسبوع النقاد في فينيسيا مصنع لمبدعين بلغوا نواصي
الأوسكار وسعفة كان وأسد فينيسيا الذهبيّين.
تنطلق في جزيرة الليدو بمدينة فينيسيا (البندقيّة)، في
الثامن والعشرين من أغسطس الجاري الدورة الـ76 للمهرجان السينمائي الأعرق
في العالم، “مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي” ويستمر حتى السابع من سبتمبر
القادم.
فينيسيا (إيطاليا)
– كما هي العادة منذ 35 سنة، يشهد مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي الذي
تنطلق نسخته الـ76، الأربعاء، في اليوم التالي من افتتاحه الرسمي، انعقاد
الدورة الـ34 لجائزة أسبوع النُقّاد التي تُنظّمها جمعية نُقّاد السينما
الإيطاليين، والتي أصبحت خلال العقود الأربعة الماضية فضاءً خرّج العديد من
الطاقات السينمائية العالمية، وما أسماء من قبيل كيفين رينولدز، مايك لي،
بيتير مولان، أوليفييه آسّاياس، عبداللطيف كشّيش، بابلو ترابيرو، علاء
الدين سليم وعدد آخر من المخرجين الذين فازوا بجوائز المهرجانات الكبرى
ككان وفينيسيا وبرلين وترشّحوا لجوائز الأوسكار، إلاّ بعض من المخرجين
الذين أنجزوا خطوتهم الأولى في هذا البرنامج، ما جعل منه، كما يقول المفوّض
العام للبرنامج (المدير الفنّي) جونا نازارو، “مصنعا للطاقات السينمائية
التي ترسم دائما مستقبل السينما العالمية”.
تسعة أفلام طويلة
يضمّ برنامج الدورة الحالية للجائزة تسعة أفلام طويلة، هي
الأعمال الأولى للمخرجين المشاركين، من بينها فيلمان عربيّان هما شريط
“سيّدة البحر” للسعودية شهد أمين، و“جدار الصوت” للبناني أحمد غُصين، إضافة
إلى فيلم الافتتاح “زهور بومبَيْ” للهندية جيتانجال راو “الذي أنجزته
المخرجة بدم قلبها، كدلالة على شغف وحب كبيرين للسينما وهما اللذان يكادان
يختفيان من عالم سينما الغرب المُتخم بالمؤثرات والفذلكات التقنية
والرقميّة”.
هكذا يبدأ جونا نازارو حديثه مع “العرب” عن اختيارات الدورة
الحالية من برنامجه. وكان نازارو خلال تقديمه لبرنامج العام الماضي أكّد
لنا قناعته بأنّ “السينما الجديدة ستنهض من الجنوب”، مشيرا إلى “التجارب
الرائعة القادمة من سينما بلدان شمال أفريقيا والشرق الأوسط”.
ويضمّ برنامج الجائزة لهذا العام أيضا مسابقة حصرية للفيلم
الإيطالي القصير. وهو مكوّنٌ من تسعة أفلام.
جونا نازارو: المهرجان
بات مصنعا للطاقات السينمائية التي ترسم المستقبل
ويقول جونا نازارو “لا تقتصر المشاركة العربية بهذا الحجم
الهام في البرنامج، بل إنّ ملصق برنامجنا لهذا العام، أي الصورة الدالّة
على البرنامج، خرج من ريشة فنّانة لبنانية شابة، هي كريستيل حلال التي
أهدتنا هذه الصورة”، ويُضيف “كنت قد كلّفت كريستيل وطلبت منها أن تُحقّق
لنا عملا يُفصح عن أمر هام: ففي عالم اليوم هناك من يتسابقون لإقامة
الحواجز وتشييد الجدران، فيما نحن نرغب أن نعيش في عالمٍ خال من الجدران
والحواجز، وحيث الجميع متساوون، رجلا ونساء. وقد أنجزت كريستيل هذه الصورة
الرائعة التي تمثّل فضاءً يدور حوله بشر مسافرون صوب الضوء، أو ربّما هم
انبثاقات من ذلك الضياء”.
وعن الفيلمين العربيّين اللذين اختارهما لبرنامج هذا العام،
يقول “إن فيهما أمرا في غاية الأهمية بالنسبة لي، وذلك هو التوجه مع الواقع
الذي تعيشه الشخصيات داخل بلدانها، وقد يكون هذا التوجه حادا ومريرا في بعض
الأحيان.
ففيما يتعلّق بفيلم ‘جدار الصوت’، والذي تدور أحداثه خلال
الحرب الإسرائيلية اللبنانية الثانية، نرى ماذا يعني أن يعيش المرء كجارٍ
لشخص ضيّق الصدر إلى درجة كبيرة، وبينما جعلت الحرب الإسرائيلية اللبنانية
اللبنانيين يُدركون أن بالإمكان الوقوف في وجه عدو مُدجّج بأحدث وأعنف
أنواع الأسلحة الفتّاكة، فقد صارت تلك الحرب أيضا لحظة هامّة في تاريخ
الشعب اللبناني”.
ويضيف “على أنّ المخرج لا يحسم تلك اللحظة بشكل تبريري أو
أيديولوجي أو قومي مُغلق ببلادة، بل يُحاول التأمّل في مغزى أن يكون هناك
بلد ما، وأن يكون هذا البلد مُعرّضا إلى الاقتحام دائما، ومغزى أن تتواجه
مع العدو الذي يصل إلى بلدك ويقتحم منزلك، ومعنى أن تعيش في حالة حرب دائمة.
إنّه يفعل كلّ ذلك من وجهة نظر السينمائي المتأمل في الوضع
فيلميا. موفّرا مفاتيح قراءة سينمائية للعديد من التساؤلات التاريخية،
وبذلك يُنجز فيلما رائعا، مغلّفا بظُلمة الليل القاتمة، لكن برؤيوية
وشاعرية عاليتين”، ويقول جونا نازّارو بأنّ ما يُهمّه في الاختيارات هو
“تلك اللحظة التي تتواجه فيها السينما مع تاريخ بلد ما وتجترح شكلها الخاص
ولغتها الخاصة بها”.
ويُؤكّد “الشيء ذاته يتحقّق في شريط ‘سيّدة البحر’ للمخرجة
السعودية شهد أمين، والذي يمكن اعتباره حكاية شبه أسطورية، بشكل من
الأشكال. إنّه عمل مُدهش بصريا، صوّر بالأسود والأبيض باعتناء مُذهل
بالشكل. إنّه قصّة تحرّرٍ تُجبر عليه الفتاة، الشخصية الأساسية في الفيلم،
وذلك لأنها تكتشف، على حين غرّة، بأنها لم تعدْ تنتمي إلى قرية الصيّادين
الرجال، فهي لا ترغب أنْ تتحوّل ‘عروسة بحر’، لذا فهي تُكافح ضد نزوعها
الطبيعي”.
ومن ثمة، يواصل نازارو “قد يُفضي الوقوف في وجه النزوع
الطبيعي، في بعض الحالات، إلى توليد منظومة جديدة، منظومة مُغايرة لما
يتذرّعه الرجال، أكثر غموضا وسرّية وحسيّة، وتضع موضع النقاش منظومة
الرجال. تجد هذه الفتاة نفسها عند مفترق طريقين: فإمّا عليها أن تقف إلى
جانب كينونتها الآيلة إلى تغيّرات، أو أن تقف إلى جوار الصورة التي كوّنها
الرجال عن ذلك الجسد. هل عليها أن تنحاز إلى جانب الماء والمد البحري
والقمر، وكلّها أمور تتغيّر وتتحوّل باستمرار، أم أن تظلّ جامدة واقفة في
دائرة عصيّة على التغيير، تلك الدائرة التي اختطّ حدودها الرجال؟ وتصطبغ
هذه التأملات لديّ بمغزى سياسي عميق لم أعثر على شبيهه في أفلام أخرى،
مُصاغا بالدقّة التي أنجزتها شهد أمين”.
ويقول جونا نازارو بأنّ فيلم المخرجة السعودية شهد أمين
“ليس شريطا يتناول سلبيات في مجتمعها فحسب، بل، في واقع الأمر، هو فيلم
يتحدّث عمّا هو سلبي في الكثير من بلدان العالم، وما لمسناه بخصوص هذا
الفيلم هو أنه يتحدّث عن أمورٍ عديدة تقع حتى هنا، في بلادنا أيضا، لذا
فإنّ النظرة التي ينطلق منها الفيلم تولّد ‘تضامنا’ ونقطة التقاء تُتيح
إمكانية التحاور، وإذا ما ألقينا نظرة حولنا اليوم، فإنّنا سنرى بأنّه لم
يعد هناك حوار ما بين الناس أو بين البلدان، ولهذا، وبتواضعٍ كبير، أُحاول
تخيّل ‘أسبوع النقّاد’ كمثل بلد يُتيح للناس، للرجال وللنساء، أن يتحاوروا
في ما بينهم، رُغم عدم وجود هذا البلد على الخارطة في الواقع. وعبر عرض
أفلام ‘سكّان’، هذا البلد الافتراضي للجمهور فإنّنا نفترض أشكالا للحوار ما
عادت موجودة، وأرى بأن لدى مخرجينا قدرة هائلة لطرح موضوعات كثيرة على بساط
البحث والجدل والنقاش والسجال”.
الحل في الجنوب
“هذه
بعض الأسباب التي جعلتني أختار فيلمي أحمد الغُصين وشهد أمين ضمن برنامجي،
ولهذا السبب أيضا”، يقول جونا نازارو “أؤمن بأن الوضع الجديد للسينما
العربيّة ضروري ومثير للاهتمام لأنّه يُفصح عن حيويّة جديدة وقويّة”.
جونا نازارو واثق بالمطلق بمستقبل السينما الجديدة القادمة
من الضفة الجنوبية للبحر المتوسّط، ومن هنا طرحنا عليه السؤالين التاليين:
هل بإمكان هذه السينما المقاومة من أجل البقاء؟ وإذا ما كانت في حوزة هذه
السينما مفردات التواصل إبداعيا والشغف والقدرة على استنباط واجتراح حكايات
ولغات جديدة، فهل ستُتيح لها ظروف الإنتاج، اقتصاديا ومجتمعيا ورقابيا،
مقوّمات الاستمرار؟
وعنهما يُجيب “هذان سؤالان على قدرٍ من الأهمية في هذا
الإطار، لأنّ هناك حاجة إلى مُعطيات تُتيح إحداث التغيير المُرتجى، ومن
بينها الاستمرارية والتواصل والتراكم الكمّي”.
ويضيف “المستقبل لم يُكتب بعدْ، ومستقبل هذه البلدان التي
تعيش اليوم حيويّة ثقافيّة عظيمة شديد الارتباط باستقرار هذه البلدان
سياسيا. وإذا ما افترضنا بأنّ قدرا من غياب الاستقرار يُسهم، في بعض
الأحيان، برفع وتأثر الوعي وزيادة القدرة على المواجهة، فإنّ غياب
الاستقرار لوقت طويل قد يولّد اضطرابا على جميع الأصعدة، وبالذات على
الصعيد الاقتصادي، كما يحدث الآن، للأسف الشديد في لبنان اليوم”.
ولذلك لا يرى نازارو من حالة الانتعاش الاستثنائية على
الصعيد الإبداعي في هذه البلدان، مجرّد ردّ سياسي على أوضاع سابقة، بل هي
ردّ إبداعي وفني على سلسلة من الأوضاع التي ما عادت مقبولة على الإطلاق.
ويضيف “دعني أقلْ لك بأنّنا لو عشنا، هنا في إيطاليا أو حتى
في أوروبا، حالة الشغف والحماس التي يعيشها مبدعو تلك البلدان، لرأينا آثار
ذلك على المجتمع بأسره ولكان ذلك مثار نقاش ومتابعة من أوساط عديدة، لأنّها
حالة تولّد وضعا ثقافيا وسياسيا قويّا، وقد يوفّر سلسلة من الأجوبة التي
عجزت السياسة عن توفيرها، لذا ليس غريبا على الإطلاق أن نرى الفن السابع
يتحوّل إلى العدو الذي ينبغي الانقضاض عليه في كلّ مرّة تتمكن فيها السينما
من تنظيم نفسها ومن اجتراح رؤى لحلول وحوارات”.
سينما منسية
كان جونا نازارو قد افتتح في العام الماضي مسارا هاما صوب
سينما بدتْ حتى وقت بعيد، متموقعة في الزاوية المنسيّة لاهتمام المهرجانات
السينمائية، فباستثناء بعض المهرجانات، ومنها دبي وقرطاج، كان الاهتمام بما
يُنجزه السينمائيون السودانيون ضئيلا، وبدا نازارو، باختياره لفيلم “آكاشا”
للمخرج السوداني الشاب حجّوج كوكا، وكأنّه يُمسك برؤوس مدراء المهرجانات
الأوروبية والغربية ويُدير وجوههم صوب ذلك البلد.
وقد
رأينا الدورة الـ69 لمهرجان برلين يحتفي في فبراير الماضي بشكل رائع بهذه
السينما بدعوة مجموعة من السينمائيين السودانيين (الكهول والشباب)، ليفوز
المخرج صُهيب قسم الباري بجائزة الدبّ الذهبي لأفضل وثائقي بفيلم “حديثٌ عن
الأشجار”، أبطاله الأربعة أساتذة السينما السودانية إبراهيم شدّاد وسليمان
النور والطّيّب مهدي وإيهاب الحلو، والذين عرض المهرجان عددا من أعمالهم
السابقة، إلى جانب شريط المخرجة الشابة مروى زين “خرطوم أوف سايد”.
وستشهد الدورة الحالية لمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي
حضورا سودانيا جميلا آخر بفيلم “ستموت في العشرين” للمخرج أمجد أبوالعلاء،
المعروض ضمن مسابقة “أيام المخرجين في فينيسيا”.
ودونما أي ظن للزهو، يقول جونا نازارو “إذا ما توفّر لك
امتياز أن تكون مُنظّما لمهرجان أو تظاهرة سينمائية، فإنّ عليك أن تفتح
ناظريك على العالم بأسره، وبالذات على ما يتناساه الآخرون من العالم عمدا”،
ويُضيف “عندما شاهدت فيلم ‘آكاشا’ لحجّوج كوكا، ولم يكن العمل فيه قد انتهى
بعدْ، أدركت في الحال بأنّني إزاء فيلم قادم من عالم لا أعرفه، وبسبب جهلي
به، زادت رغبتي في التعرّف عليه”.
وكان فيلم “آكاشا”، بشكل أو بآخر، اللحظة الهادئة الأخيرة
قبل العاصفة، التي أزاحت الدكتاتورية في السودان، ويضيف جونا نازارو
“بالمناسبة أُخبرك بأنّ حجّوج أوشك على الموت خلال الانتفاضة، إذْ تعرّض
إلى ضربات عنيفة على رأسه من كعب بندقية خلال التظاهرات”، ويُختم “كنت على
اطّلاع على مشروع أمجد أبوالعلاء وتابعته في مراحله المتعدّدة، لكن شركة
الإنتاج قرّرت في اللحظة الأخيرة أن تُقدّم الفيلم إلى برنامج آخر، لا بأس،
فالمهم هو حضور الفيلم في فينيسيا”.
كاتب عراقي |