فيلم "الموتى لا يموتون" يميل إلى الكوميديا التي تتضمن
رموزا كثيرة منها ما يتعلق بعالمنا المعاصر وما آل إليه ومنها ما يعبّر عن
رؤية مخرجه العبثية العدمية.
افتتح المخرج الأميركي جيم جارموش مهرجان كان، مساء
الثلاثاء، بفيلم “الموتى لا يموتون” الذي يوجّه انتقادات حادة للمجتمع
الأميركي، والفيلم الكوميدي سينافس على جائزة السعفة الذهبية مع أحدث أعمال
كوينتين تارانتينو وبيدرو ألمودوبار بالإضافة إلى مجموعة من الأفلام
لمشاهير المخرجين.
اختار منظمو مهرجان كان العريق افتتاح الدورة الـ72 مساء
الثلاثاء بالفيلم الأميركي الجديد “الموتى لا يموتون”
The Dead Don’t Die
للمخرج الشهير جيم جارموش الذي يشارك في مسابقة كان للمرة التاسعة بهذا
لفيلم، وحضر من نجوم الفيلم سيلينا غوميز وبيل موراي وتيلدا سوينتون الذين
ساروا فوق البساط الأحمر المميز.
وجيم جارموش من المخرجين السعداء الحظ مع مهرجان كان، فقد
عرض المهرجان في برامجه وتظاهراته المختلفة 12 فيلما من أفلامه منذ عام
1984 وفازت أربعة منها بالجوائز، وأهمها بالطبع “السعفة الذهبية” وفاز بها
فيلم “أغرب من الفردوس” (1984) وهو ثاني أفلامه الروائية الطويلة، ثم
الجائزة الكبرى للجنة التحكيم التي حصل عليها فيلم “أزهار مكسورة”
(2005).
والحقيقة أن عرض فيلم من أفلام المسابقة الرسمية في افتتاح
المهرجان، يتنافس مع غيره من الأفلام على الجوائز، هو تقليد مبتدع تجانبه
الحكمة، ففي ذلك تسليط للأضواء على فيلم واحد يحظى بالاهتمام أكثر من غيره
من أفلام المسابقة، ولحسن الحظ كانت لجان التحكيم الدولية تتجاهل عادة فيلم
الافتتاح الذي يعتبر عرضه في افتتاح المهرجان تكريما كافيا بحيث لا يحصل
بعد ذلك على جوائز رئيسية، وغالبا ما يخرج دون أي جائزة.
تدهور إنساني
جيم جارموش يبدو وقد أصبح مغرما بعالم الموتى الأحياء
والكائنات الغريبة القادمة من الفضاء والظواهر الكونية الشاذة، وعالم مصاصي
الدماء، وهو يستخدم هذه “الثيمة” في سياق رؤية خاصة تنذر بما تواجهه
البشرية من خطر ومدى ما بلغه التدهور الإنساني.
وسبق أن أخرج المخرج الأميركي كيرتيس هاينغتون فيلمه بعنوان
“الموتى لا يموتون” وهو نفس اسم فيلم جيم جارموش، ولكن كفيلم رعب تلفزيوني
قليل التكلفة عام 1975، وقام بدوري البطولة فيه جورج هاملتون وليندا
كريستال، أما كاتب سيناريو الفيلم فهو روبرت بلوك وهو نفسه كاتب رواية
وسيناريو فيلم هيتشكوك الشهير “سايكو” (1960)، وفي فيلم جارموش تحية خاصة
إلى بلوك.
أما الفيلم القديم فكان موضوعه يحدث في ولاية إلينوي في
الثلاثينات عندما سعى رجل لمعرفة من الذي تسبب في اتهام شقيقه بقتل زوجته
وهو بريء وبالتالي إعدامه بالكرسي الكهربائي، لكنه يصطدم خلال ذلك بشخص
يعتزم إحياء الموتى واستخدام الموتى الأحياء (الزومبي) للسيطرة على الولاية
بل ويصدم عندما يجد أن شقيقه قد أصبح بدوره من ضمن هؤلاء.
فيلم كوميدي
في حين كان هذا الفيلم ينتمي إلى أفلام الرعب، يميل فيلم
جيم جارموش إلى الكوميديا التي تتضمن رموزا كثيرة منها ما يتعلق بعالمنا
المعاصر وما آل إليه وموضوع التغيرات المناخية وما يمكن أن يحدث لكوكب
الأرض نتيجة لذلك من مخاطر، ومنها ما يعبّر عن رؤية مخرجه العبثية العدمية
التي تتبدى في خلق مشاهد غير معتادة وتحكيم الاندماج والواقعية عن طريق
الحوار الغريب، مع تعليقات كثيرة تتردد على ألسنة الشخصيات المختلفة تشير
إلى ولع جارموش بأفلام معينة مثل “حرب النجوم” و”سايكو” وأفلام الرعب أو ما
يعرف تحديدا بأفلام “الزومبي”، ويصل الفيلم في ثلثه الأخير إلى السريالية
كما يعكس أيضا سخرية جارموش من العلاقة بين صانع الأفلام والأفلام، وبين
المخرج والممثلين وبين الممثلين بعضهم البعض.
يختلق جارموش بلدة في الوسط الأميركي يطلق عليها “سنترفيل”
(في الفرنسية معناها وسط المدينة) لكنها بلدة تشهد الآن ظاهرة غريبة تتمثل
في امتداد ضوء النهار حتى وقت متأخر، ربما بفعل الظاهرة التي تنقلها
الأخبار أي أن الأرض تحركت خارج مجالها المحدد.
أمامنا ثلاثة من قوات الشرطة: رجلان هما كليف (بيل موراي)
وروني (آدم درايفر) وامرأة هي ميندي (كلوي سيفيني)، الرجلان وهما داخل
السيارة في دورية اعتيادية يلاحظان التغير الذي وقع، يحاولان الاتصال
بالشرطية ميندي الموجودة في قسم الشرطة، لكن جهاز اللاسلكي يتعطل فجأة ثم
يكتشف روني أن هاتفه المحمول لا يعمل وقد فرغ فجأة من الشحن، والمذياع الذي
يفترض أن يبث أنباء عما يجري في المنطقة ينقطع، وعندما يعود لا يصدر عنه
سوى أغنية “الموتى لا يموتون” لستيرغل سمبسون وهي الأغنية التي ستتردد في
مقاطع مختلفة تستمع إليها شخصيات متعددة في سياق الفيلم بعد ذلك.
هناك لص متقدم في العمر، ذو لحية كثيفة يختبئ في الغابة،
ومع تغير الليل والنهار تهرب الحيوانات من المزارع وتتحول الحيوانات
الأليفة كالقطط والكلاب إلى حيوانات متوحشة تهاجم أصحابها.
الفيلم يعكس سخرية جارموش من العلاقة بين صانع الأفلام
والأفلام، وبين المخرج والممثلين وبين الممثلين بعضهم البعض
ومن قلب المقابر تنهض جثتان تتحركان في اتجاه مطعم البلدة،
حيث تعمل ليلي وبوسي وتبدأ غارات القتل العشوائي التي يشنها الزومبي أو تلك
الكائنات الميتة التي ترفض الاستكانة للموت وتعود لمهاجمة من كانوا من
الأهل والخلان، فالماضي ينهض مجددا، لا يموت، والكائنات الزومبي التي
يطلقون عليها أيضا “الغيلان” تنهش اللحم وتخرج الأحشاء وتلتهمها في مناظر
مقززة أكثر منها مرعبة.
وفي دار الدفن هناك زيلدا (تيلدا سوينتون) وهي امرأة
اسكتلندية غامضة تجيد استخدام السيف على طريقة الساموراي الياباني، وتبدو
واثقة من نفسها كثيرا، غير آبهة بالكائنات الغريبة التي تخرج من المقابر،
وهي التي وراءها لغز سيكشف عنه الفيلم قرب النهاية، ولكن دون أن يضيف أي
شيء للفيلم، بل ويبقى مصيرها مجهولا بل وهدفها من احتراق قسم الشرطة
والحصول على ما حصلت عليه من معلومات.
وهناك أيضا الشاب الذي يدير محطة الوقود، وآخر صاحب محل
الأدوات الحديدية وهو مثل الضابط روني، ضابط الشرطة الشاب، يعرف الكثير عن
عالم الزومبي ويعرف أن الوسيلة الوحيدة للقضاء على هذه الكائنات هو عن طريق
قطع رقابها. ومعلوماته مستقاة من أفلام الرعب شأن شخصيات الشباب الذين
سيظهرون في الفيلم ومنهم سيلينا غوميز وصديقاها، وسيلقون جميعا مصيرهم دون
أي مقاومة.
وعلى الرغم من طرافة الفكرة وطرافة الكثير من عبارات
الحوار، يعاني الفيلم من هبوط في الإيقاع نتيجة كثرة الانتقالات وتعدد
الشخصيات، وتكرار الكثير من المواقف، بل وتكرار نفس عبارات الحوار أكثر من
مرة.
ويعجز السيناريو عن نقل الموضوع خطوة إلى الأمام مع تكرار
عبارة عن القصة ستنتهي نهاية سيئة على لسان روني.ولكن عندما يسأله رئيسه
كليف كيف عرف ذلك؟ يجيبه أنه عرف من السيناريو، وأنه قرأ النسخة الكاملة
التي أطلعه عليها جيم، أي جارموش المخرج، وهو حوار عبثي بالطبع يتمادى فيه
الفيلم عندما يقع ما يجعل روني يندهش فيسأله كليف “ألم يكن هذا في
السيناريو؟”، فيجيب بالنفي.
تكاثر الموتى الأحياء
بيل موراي وكلوي سيفيني وسيلينا غوميز وتيلدا سوينتون وسارا
درايف يتوسطون المخرج جيم جارموش
يتوسع المخرج تدريجيا في تصوير تكاثر الموتى الذين يعودون
إلى الحياة في صورة زومبي أو كائنات شرسة شرهة لالتهام الأحياء بما في ذلك
أقاربهم، ومواجهتهم بالسيوف وقطع الرقاب ثم كيف تتجمع مجموعة كبيرة منهم
لتحيط بسيارة ضباط الشرطة الثلاثة في مشهد سريالي عيبه الأساسي أنه يستمر
لفترة طويلة على الشاشة دون أن يتطور حتى من ناحية الحوار، وليبدو كما لو
أن جارموش نفسه قد أصبح محاصرا يبحث عن وسيلة للخروج من السيارة ولا يجد
سوى أن يحوّل كل من بطليه الشرطيين إلى ما يشبه أبطال “الويسترن” وهما
يخوضان معركتهما الأخيرة، يستخدم أحدهما السيف ويستخدم الثاني البندقية،
لكن النهاية محسومة مسبقا كما أخبرنا آدم درايفر مرارا، لأنه “قرأ
السيناريو” بالطبع!
ولا يتسق الحوار رغم طرافته مع الأسلوب العام للفيلم،
فالحوار في هذا المقطع يكشف أننا نشاهد فيلما وأن الشخصيات التي نراها هي
شخصيات لممثلين وممثلات وليست شخصيات حقيقية، وربما يكون الموضوع كله محض
تدفق من خيال تلك الشخصيات.
وفي مناطق أخرى يميل الفيلم إلى الدعوة للاندماج مع القصة،
ولكن لأن القصة غير مترابطة في السيناريو، والتطور لا يحدث كما يتوقع
المتفرج، يبدو أن جيم جارموش قد بدأ موضوعا لم يتمكن من التوصل إلى نهاية
مناسبة له، وهو أمر يؤسف له بالطبع.
“الموتى
لا يموتون” فيلم افتتاح متوسط الجودة، لا يثير كثيرا المشاعر أو الضحكات
رغم طرافة بعض المواقف، ومع تقدم المهرجان خلال الأيام القادمة والدخول إلى
قلب أفلام المسابقة، ربما سيتراجع الفيلم في الذاكرة أو يتلاشى ليخلي مكانه
لأعمال أخرى أكثر تماسكا.
كاتب وناقد سينمائي مصري |