كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

الفيلم العربي القصير حاليًا:

تمرينٌ أو إبداع؟

نديم جرجوره

الإسماعيلية الدولي

الدورة الحادية والعشرون

   
 
 
 
 
 
 

يُعاني الفيلم القصير مآزق جمّة في العالم العربي. إنتاجه متوفِّر. صناعته مستمرّة. محبّوه موجودون. الدراسة الأكاديمية تفرضه على طلاّب يدرسون السينما أو "السمعي البصري"، كما يحلو لمعاهد وجامعات خاصّة تسمية الدراسة، فيُنجزونه في مرحلة التخرّج، وفي دراسات عليا. طلاّب عديدون يكشفون، بأفلام التخرّج تلك، امتلاكهم الجميل لمفردات سينمائية مُثيرة للتنبّه والاهتمام والمتابعة والنقاش. بعضهم يُنجز فيلم التخرّج لنجاحٍ يبتغيه في امتحانات أخيرة، لكنه ـ في الوقت نفسه ـ يضع ذاته وروحه وهواجسه وحساسيته فيه. هذا مهمّ للغاية. هذا يكشف هيامًا ـ انفعاليًا وحسّيا وتأمّليًا وثقافيًا ـ بالسينما أولاً، وبالفيلم القصير ثانيًا. صحيح أنّ هذا البعض غير قادر على بدء حياة مهنيّة كالتي يحلم بها أعوام الدراسة؛ وصحيحٌ أنّ تكاليف الحياة اليومية مُرهِقة، وهذا ضاغط على الجميع، فينصرف البعض إلى أعمالٍ مختلفة لتوفير نمط عيشٍ، متواضع على الأقلّ. لكن الشغف السينمائيّ ينكشف في أفلام التخرّج، وإنْ يبقى عددها قليلاً. الشغف السينمائيّ يُترجَم إلى متتاليات بصرية في أفلامٍ قصيرة، رغم أن بعض صانعي تلك الأفلام ينفضّون عن النوع القصير سريعًا، ويذهبون إلى الطويل أو الوثائقي مثلاً، وهذه إحدى مآزق صناعة الفيلم القصير.

مهرجانات سينمائية مُقامَة في مدنٍ عربية مختلفة تُفرِد حيّزًا كبيرًا له في دوراتها السنوية، من دون أن يكون له مهرجانٌ مستقلّ، عربيّ أو دوليّ، كـ"مهرجان كليرمون فيران" في فرنسا مثلاً، الموصوف بـ"كانّ الفيلم القصير" لشدّة أهميّته. لكن مآزقه عديدة: توزيعه وعرضه التجاري مُصابان بعطبٍ كبيرٍ، إذ لن يهتمّ بتوزيعه وعرضه موزّعون وأصحاب صالات. المحطّات التلفزيونية العربية منفضّة عنه، إنتاجًا أو مشاركةً في الإنتاج، وعرضًا. تجربة يتيمة تشهدها بيروت قبل أعوام طويلة: صالات قليلة للغاية تعرض فيلمًا قصيرًا قبل عرض فيلم طويل، والفيلمان لبنانيان. محطّات تلفزيونية لبنانية تبثّ بعض الإنتاج اللبناني القصير، وتستضيف شبابًا يُنجزونه. التجربة يتيمة. زمنها قصيرٌ للغاية. 

مآزق الفيلم القصير جمّة. مُشاهدون سينمائيون كثيرون غير آبهين به. نقّاد وصحافيون سينمائيون أيضًا. جمهور الصالات غير راغب فيه. ساهرون في منازلهم غير مكترثين بشاشة صغيرة إنْ تعرضه، فحاجتهم كبيرة إلى ترفيه وتسلية، وإلى أفلام وبرامج ومسلسلات "خفيفة الظلّ". 

هذه مسائل أساسية. ومع هذا، يخوض كثيرون تجربة الإخراج السينمائي لأفلام قصيرة. صناعته غير سهلة البتّة. يحتاج إلى خطط عملية للحصول على إنتاج أو تمويل أو دعم. يحتاج إلى كفاحٍ حقيقي، أحيانًا، كي يحصل صانعوه على ميزانيات لإنجازه، وإنْ تكن الميزانيات أقلّ من تلك المطلوبة لفيلم طويل أو وثائقيّ. ممثلات وممثلون معروفون يتردّدون عن المشاركة فيه، رغم أنّ البعض مُغامِر. انتشاره الجماهيري قليلٌ. هذا عائقٌ أمام موافقة تمثيلية لمعروفين. أجور العاملين فيه متواضعة، وهذا إنْ يحدث يكون عائقًا آخر. ميزة التطوّع تسم عاملين فيه، غالبًا. لكن هذا غير مؤكّد أو دقيق، إذْ يوافق البعض على التجربة، معتبرًا أنها جزءٌ من تمرين واختبار، أو إضافة نوعية ومعنوية إنْ يكن للمخرج صيتٌ إيجابيّ في صناعة الأفلام، أو مغامرة مع مخرج شاب يمتلك نصًّا مثيرًا للاهتمام. 

التنويع السينمائي الخاصّ بالفيلم القصير مفتوح على التجريب والـ"فيديو آرت" والتحريك. هذه كلّها محتاجة إلى ميزانيات وتقنيات. الكفاءات موجودة في المجالات المختلفة للفيلم القصير. الانغماس في صناعته يُنتج أفلامًا تُبهر وتُمتّع وتُصيب عمق مُشاهِد مهتمّ، وتحرّضه على تأمّل وتفكير. لن يكون هذا شاملاً. نتيجة إنجاز القصير شبيهةٌ بنتيجة إنجاز الطويل أو الوثائقيّ: الجماليات طاغية أحيانًا، والخلل والارتباكات تسود متنه وأشكاله أحيانًا أخرى. 

يفرح نقّاد وصحافيون سينمائيون بمن يُخرج فيلمًا قصيرًا، بعد أفلام طويلة تُثير نقاشًا متنوّعًا. اللبناني غسان سلهب مهمومٌ بأفلام قصيرة غير تقليدية البتّة. آخرها "وردة" (2019)، الذي يُنجزه أثناء عمله على روائيّ جديد له بعنوان "النهر" (انتهاء تصويره مؤخّرًا يُدخله في المراحل الفنية والتقنية المختلفة). يمزج "وردة" بين شعرية صورة وتأمّل بصري بمضامين رسائل روزا لوكسمبورغ. التونسية كوثر بن هنيّة تُنجز "بطيخ الشيخ" (2018) بعد 3 أفلام طويلة، كلّ واحد منها مُثيرٌ لنقاشٍ ومتع بصرية. البعض يعتبر الفيلم القصير "محطّة استراحة" لن تُلهيه عن إكمال مشاريعه الطويلة، فالاشتغال الدائم ضرورة، وابتكار صُوَر ومعان بصرية حاجة إلى مزيدٍ من تطوّر ذاتي وفكري. 

المنطق التجاري يتحكّم في سوق العرض، لذا يُسْتَبعدُ الفيلم القصير من عمل الموزّعين وأصحاب الصالات، ومن اهتمام مؤسّسات التلفزة. "مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة" أبرز نشاط سينمائي عربيّ يهتمّ بالفيلم القصير. "مهرجان الفيلم العربي" في بيروت يجتهد لإبرازه. هذان مثلان لن يُغيِّبا مهرجانات أخرى تُعنى، بشكلٍ أو بآخر، بالفيلم القصير. لكن المأزق الفعلي كامنٌ في غياب مشاهدين وجمهور له، وهذا محتاج إلى خطط عمليّة، يُشارِك فيها منتجون وموزّعون وأصحاب صالات ومحطات تلفزيونية ونقّاد وصحافيون سينمائيون.

 

العربي الجديد اللندنية في

26.04.2019

 
 
 
 
 

قلم علي ورق

«البنا» جاسوساً

محمد قناوي

»إخوان النازي» فيلم وثائقي عرضه مهرجان الاسماعيلية للأفلام التسجيلية في دورته الاخيرة وقوبل بردود افعال متباينة بسبب كشفه لأول مرة علاقة مؤسس جماعة الاخوان الارهابية بمخابرات النازي هتلر؛ وقيام البنا بالعمل كجاسوس للألمان خلال فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها والفيلم عبارة عن بحث وتحقيق مادة وثائقية نادرة صدرت قبل عرض الفيلم في كتاب للكاتب توحيد مجدي والذي صدر عن قطاع الثقافة بأخبار اليوم ويحمل عنوان»عملية شرفة القصر..‏أسرار حسن البنا في الرايخ »الإمبراطورية» الثالث»، من ملفات وسجلات استخباراتية رسمية وحكومية بريطانية وألمانية وإسرائيلية موثقة وقامت بإخراج الفيلم جيهان يحيي.

الفيلم يقدم توثيقا نادرا عن علاقة جماعة الإخوان وتحديدا »حسن البنا» بالرايخ الثالث وأدولف هتلر، الذي كانت تجمعهما علاقة خاصة عبر المراسلات والهاتف، ويكشف الفيلم أن البنا لعب دورا واضحا لخدمة آلة الحرب النازية والرايخ الثالث،كما يوثق الفيلم لدور حسن البنا في حادث 4 فبراير 1942، والتي عرفت بعملية»شرفة قصر عابدين»حيث يكشف الفيلم عن قيام البنا باستئجار شقة في مواجهة قصر عابدين كان يتجسس منها لحساب الرايخ الثالث لمدة 5 أعوام كاملة، في عملية سرية تحت كود »شرفة القصر»، وكانت الاستخبارات البريطانية ترصد صدور إشارة لاسلكية من عابدين وظنت أن خلفها الملك فاروق؛ كما سلط الفيلم الضوء علي الآثار السلبية لهذه العملية ابرزها واقعة انهيار البورصة المصرية، حيث قامت النازية بتزوير الجنيهين المصري والإسترليني بهدف تدمير الاقتصاد البريطاني وعملات الدول التي يتغذي عليها لضرب آلة حرب الحلفاء، وكان علي»البنا»الترويج لتلك النقود المزورة وقد استخدم هذه الأموال في شراء الأسلحة من القواعد البريطانية الموجودة في قناة السويس؛ ويكشف الفيلم كيفية تجنيد البنا والذي تم عن طريق طبيب فرنسي عميل لمخابرات هتلر؛ ومن خلال هذا الجاسوس تمكنت المخابرات الالمانية من الوصول الي »البنا» وعرضت عليه فكرة التعاون معهم بعد ان علمت انه رجل له تأثير في الشباب، ومعرفة خبايا المصريين، ويمتلك قدرات التنظيم السري وإمكانيات عسكرية، حيث الجماعة تمتلك ميليشيا عسكرية وكان مستعدا للتعاون مع الالمان لأن مشروعهم كان يحقق كل طموحاته وآماله ويحدد الفيلم وبالوثائق عدد شباب الإخوان الذين شاركوا في الحرب العالمية الثانية بـ55 ألف مقاتل، ولكن بعد انتهاء الحرب لم يكشف الفيلم   كيف اختفي هؤلاء دون أن يهتم أحد باختفائهم، لكن الفيلم يكشف أن البنا جمع قوائم الشباب المعدم والأيتام واختارهم بدقة شديدة، وبذلك عندما قتلوا في الحرب العالمية الثانية لم يهتم أحد بالسؤال عنهم. وثائق أخري احتواها الفيلم تؤكد أن المتبقي من المشاركين 939 فردا، وتسلمت المملكة المصرية آنذاك 56 فردا منهم، أما البقية فصاروا نواة تنظيم الإخوان الإرهابي في الدول الأوربية.

الفيلم يؤكد أن هناك تشابها في العقيدة بين تنظيم الاخوان والنازية الالمانية، فمؤسس تنظيم الاخوان يوهم مجنديه بالدفاع باسم »الدين والخلافة» والتي تتقارب بدورها مع العقيدة النازية،وبالتالي الإخوان والنازية وجهان لعملة واحدة.

 

####

صباح الفن

إخوان النازي

انتصار دردير

مفاجأة كبيرة فجرها الفيلم الوثائقي »اخوان النازي» عند عرضه الأول بمهرجان الاسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة خلال دورته ال21 التي انقضت مؤخرا، ورغم أن الفيلم كان يعرض خارج المسابقة وبعيدا عن المنافسات والجوائز لكن أهميته جاءت مما فجره من معلومات بدت مفاجئة لأغلب الحاضرين من النقاد والسينمائيين،

يعتمد الفيلم بشكل أساسي علي الوثائق والمستندات التي نجح في تصويرها كاتب الفيلم الصحفي توحيد مجدي من الأرشيف البريطاني ويستعرض خلال55 دقيقة تاريخ يكاد يكون مجهولا لجماعة الاخوان الارهابية حول علاقة مؤسسها حسن البنا بالزعيم النازي أودلف هتلرخلال الحرب العالمية الثانية وكيف كان البنا مهووسا بالزعيم النازي الي حد أنه قام بتغيير شعار الجماعة ليتشابه وشعار النازية، ولأجل ذلك نجح في تجنيد نحو15 ألف مصري بعدما أقنعهم بأنهم يحاربون لأجل القضية العربية ليدفع بهم للتطوع في صفوف الألمان ضد بريطانيا والحلفاء، وقد انضموا لأحد معسكرات التدريب الألمانية، تكشف الوثائق كيف قام حسن البنا باستئجار شقة تطل شرفتها علي قصر عابدين ليراقب من خلالها كل مايجري بالقصر ويسجل محادثات الملك فاروق من خلال أجهزة سلمتها له الاستخبارات الألمانية.

ورغم أن مخرجة الفيلم جيهان يحيي تخوض تجربتها الأولي في اخراج الأفلام الوثائقية من خلال هذا الفيلم الا أنها نجحت في اثارة القضية بجميع جوانبها  لتضع مشاهدي الفيلم أمام هذه الحقائق الصادمة من خلال عدة محاور أولها هذا التوثيق غير المسبوق بالمستندات واللقطات التي تكشف عن التعاون الوثيق بين مؤسس جماعة الاخوان وبين الزعيم النازي، كما صورت بنفسها بعض مشاهد تمثيلية بتقنية الأبيض وأسود والتي تتناول شخصية عميلة أرسلتها المخابرات البريطانية تدعي نور عنايت بهدف التوصل لحقيقة التعاون بين الاخوان والنازي، حيث زارت حسن البنا في بيته وهي تتخفي في شخصية فتاة فقدت شقيقها المنتمي للجماعة، والي جانب ذلك كله استعانت المخرجة بآراء بعض الشخصيات الذين أكدوا علاقة البنا بهتلر ومن بينهم المحاميان المنشقان عن جماعة الاخوان ثروت الخرباوي وسامح عيد والباحث عمارعلي حسن وكاتب السيناريو توحيد مجدي واللواء فؤاد علام رئيس مباحث أمن الدولة الأسبق وقد أكدت المخرجة أنه شخصيا تفاجأ بهذه الحقائق، ولفرط حرص الكاتب والمخرجة علي الفيلم وحالة القلق التي انتابتهما لانجاز عملهما قررا انتاجه علي نفقتهما الخاصة وأحاطاه بكثيرمن السرية خلال فترة التصوير.

هذا الفيلم يمثل بلغة الصحافة انفرادا هاما ويجب أن يعرض علي نطاق واسع لأنه يكشف وجها قبيحا مجهولا للجماعة الارهابية.

 

أخبار اليوم المصرية في

26.04.2019

 
 
 
 
 

أمل رمسيس:«تأتون من بعيد» عبر عن الشتات الفلسطينى وقوة الحركة السياسية قبل النكبة

حوار : منى شديد

«تأتون من بعيد» عنوان الفيلم التسجيلى الطويل الذى حصدت به المخرجة أمل رمسيس العديد من الجوائز وأشاد به النقاد لأنها قدمت فيه الشتات الفلسطينى من خلال قصة الصحفي والكاتب الفلسطيني اليساري الراحل نجاتي صدقي فهي قصة غير عادية لعائلة كانت شاهدة على النكبة الفلسطينية والعديد من الحروب الأخرى فى العالم خلال القرن العشرين،

 بداية من الحرب الأهلية الإسبانية التي شارك فيها الأب «نجاتي صدقي» في النضال ضد الفاشية، ومرورا بالحرب العالمية الثانية، وبعدها النكبة الفلسطينية ثم الحرب الأهلية اللبنانية، حصلت أمل عن هذا الفيلم على جائزة التانيت الفضي من مهرجان أيام قرطاج السينمائية وجائزة لجنة التحكيم الكبرى لأفضل فيلم تسجيلي طويل من مهرجان تطوان لسينما البحر المتوسط في المغرب الشهر الماضي وأفضل فيلم في مهرجان الأرض للأفلام الوثائقية في إيطاليا، كما حازت فى الدورة الأخيرة من مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والروائية القصيرة على جائزتى الفيبريسى واتحاد النقاد الأفارقة وفى هذا الحوار تحدثنا عن تجربة الفيلم والصعوبات التى واجهتها فى الوصول لأرشيف الحروب.

·        متى ولدت فكرة الفيلم وكيف؟

بدأت فى 2003 عندما قرأت بالصدفة مقالة عن مشاركة العرب فى الحرب الأهلية الإسبانية ضد فرانكو، فحتى ذلك الوقت كان المعروف عن هذه الحرب أن المغاربة شاركوا فيها رغما عنهم مع جيوش فرانكو النظامية ضد الجمهوريين والمطالبين بالديمقراطية حيث كانتإسبانيا فى ذلك الوقت تحتل شمال المغرب، وجلبهم فرانكو ليكونوا فى الصفوف الأولي، وهذا المقال تحدث لأول مرة عن وجود عربى آخر فى هذه الحرب، وأن العرب كانوا بين المتطوعين الأميين الذين جاءوا للدفاع عن الجمهورية ضد فاشية فرانكو، معلومة جديدة لا يعرفها الكثيرون، ولهذا تواصلت مع كاتب المقال وكان فى ذلك الوقت عمره تعدى الـ85 عاما، وأخبرنى أنه عرف بهذه القصة أيضا عن طريق الصدفة أثناء بحثه فى أرشيف موسكو عن دور الصينيين فى الحرب الأهلية الإسبانية وأكتشف فى الأوراق أسماء عربية، وقدم لى كل الوثائق التى عثر عليها لأنه وجدنى مهتمة بالموضوع ومن الممكن أن أستكمل البحث فيه، وبالفعل بدأت العمل على الفكرة والبحث عن معلومات أكثر عن الحرب الأهلية الإسبانية حتى أرى إلى أين سيصل بى الأمر.

·        ما الذى كنت تبحثين عنه بالتحديد؟

كنت أبحث عن قصة شخصية أحكى من خلالها، لأنى لم أكن أريد تقديم فيلم تاريخى كلاسيكى اشبه بريبورتاج عن الحرب الأهلية ومشاركة العرب فيها، إلى أن قرأت كتابا لكاتبة إسبانية فى عام 2007 عن الرحالة العرب وكان به فصل كامل عن الكاتب الفلسطينى نجاتى صدقى ورحلته إلى إسبانيا، فتواصلت معها وعرفت منها أنها ترجمت فى كتابها جزءا من مذكرات صدقى نفسه المنشورة فى بيروت وحصلت منها على وسيلة للتواصل مع ابنته هند المقيمة فى أثينا باليونان وأرسلت لى الأخيرة نسخة من المذكرات وبعد أن قرأتها قررت أن أذهب للتصوير معها رغم أنه وقتها لم تكن لدى أى ميزانية إنتاج للفيلم لأنى مازالت فى مرحلة الإعداد ولم تكن فكرة الفيلم قد تشكلت بعد بشكل كامل، ولكن بعد لقائى بها والحديث عن الأسرة شعرت أن هذه هى القصة الشخصية التى كنت أبحث عنها.

·        لماذا توقفت عن العمل فى الفيلم لما يقرب من 8 سنوات وما الذى دفعك للعودة إليه مرة أخرى؟

حاولت البحث عن إنتاج للفيلم فى نهاية 2007 وبداية 2008 ولكن للأسف لم أجد أحدا مهتما بالحرب الأهلية الإسبانية ولا بالوجود العربى فيها، وكنت أعيش فى إسبانيا وعدت إلى القاهرة وانشغلت بمشاريع أخرى على رأسها تأسيس مهرجان القاهرة لسينما المرأة، وقدمت فيلمين تسجيليين ثم قامت ثورة 25 يناير 2011، وأعقبها الكثير من الأحداث، فظل مشروع الفيلم مؤجلا لأجل غير مسمى رغم أنى لم أتوقف عن البحث فى الأرشيف، إلى أن اتصلت بى هند من اليونان فى عام 2015، وقالت لى: إن على أن أقابل شقيقتها الكبرى دولت فى موسكو فى أسرع وقت إذا كنت لا أزال مهتمة بمشروع الفيلم لأنها بدأت تفقد ذاكرتها، وبالفعل سافرت مع «زوجى نجاتي» للتصوير معها فى موسكو، وكان هذا اللقاء هو الدافع لاستكمال الفيلم بعد أن اصبحت الفكرة مكتملة، فبدأت فى مونتاج جزء من المادة التى تم تصويرها مع هند ودولت، وتقدمت بهذا الجزء لجهات مختلفة طلبا للدعم الانتاجي، وأطلقنا أيضا حملة على شبكة الإنترنت لجمع تبرعات دعم وحصلنا على منحة من آفاق وجهات أخرى استكملنا بها التصوير ومونتاج الفيلم وأنهيته فى 2018.

·        ولماذا ظل الوجود العربى فى الحرب الأهلية الإسبانية مجهولا رغم أن هناك دلائل عليه؟

هناك دائما محاولات للطمس فى كل ما يتعلق بالحرب الأهلية الإسبانية ليس فقط فيما يتعلق بعلاقتها بالعرب وإنما بشكل عام، لأن فرانكو هو من انتصر فى هذه الحرب وتلى ذلك عصر ديكتاتورى استمر لفترة طويلة، ثم فترة تحول للديمقراطية كانت المساومة المطروحة فيها هى الصمت حتى يكتمل هذا التحول، والسبب الثانى هو أن أغلب العرب المشاركين فيها دخلوا إسبانيا بجوازات سفر مزورة أغلبها فرنسية لأنهم جاءوا عن طريق فرنسا يحملون أسماء حركية غير أسمائهم الحقيقية، فما أثار كاتب المقال الذى كشف عن هذا هو أنه وجد فى أوراق الأرشيف أسماء عربية مكتوب أمامها أنها لفرنسى الجنسية جاءوا من وهران بالجزائر وهو ما دفعه للتعمق فى البحث وأكتشف أنهم جاءوا جميعا بأسماء حركية للمشاركة فى النضال السياسي، وحتى نجاتى صدقى لم يكن معروفا باسمه الحقيقى فى هذه الحرب وإنما كان يعرف باسم مصطفى بن جالا وفى موسكو كان يعرف باسم مصطفى سعدي، ولهذا لم نعرف عنهم شيئا، وبعد انتصار فرانكو وسيطرة الديكتاتورية كانت هناك حالة من القمع الشديدة وقتل الكثيرون ودخل آخرون السجن ولهذا لا يفصح الكثيرون ممن شاركوا فيها عن هذا.

·        هل كان أغلب المشاركين فيها من المنتمين للحزب الشيوعي؟

لا كانت لهم انتماءات مختلفة، وكلهم جاءوا للمشاركة فى الثورة الإسبانية ضد الديكتاتورية التى بدأت بالإضرابات العمالية، وكان الدافع وراء مشاركتهم هو أن انتصار الحركة العمالية هناك يعتبر هزيمة للفاشية وللبلاد المستعمرة فى شمال المغرب «فرنسا وإسبانيا» وفى حالة نجاتى صدقى هو انتصار ضد الانتداب البريطانى فى فلسطين.

·        ما الذى جذبك فى قصة نجاتى وأسرته؟

وجدت فيها القصة الشخصية التى كنت أبحث عنها وعرفت الاسم الحقيقى لواحد من أصحاب الأسماء الحركية فى الثورة الإسبانية، بالإضافة إلى أن قصته هى قصة شتات فلسطينى تربط بين كل الحروب بداية من الحرب الأهلية الإسبانية وحتى الآن، شتات بدأ من قبل النكبة، فآراء نجاتى الحرة ومواقفه كانت سببا فى طرده من الحزب الشيوعى وفرقته عن ابنته دولت وشتت أسرته، قصته منحت الفيلم بُعدا أكبر من مجرد مشاركة العرب فى الثورة الإسبانية فهو يعكس طبيعة الحركة السياسية القوية التى كانت موجودة فى فلسطين قبل نكبة 1948، وأصبح الفيلم يتناول الحروب وما الذى يبقى فى ذاكرتنا نتيجة للحروب المختلفة التى عاشتها هذه الأسرة ونرى من خلالها كيف يتكرر التاريخ وأن الفاشية مازالت موجودة والصهيونية امتداد للمشروع الفاشى فى أوروبا فى الثلاثينيات، وجود هذه الأسرة هو ما أعطى للفيلم عمقا أكبر وأبعد من مجرد تاريخ الحرب الأهلية الإسبانية.

·        ومتى اكتملت صورة الفيلم بالنسبة لك؟

بعد أن قابلت دولت فى موسكو فى 2015 ، واكشتفت أن ذاكرتها قوية جدا وحكت لى أشياء ربما لا يعرفها أشقاؤها، ومن هنا بدأت الصورة تكتمل فى ذهنى وأشعر أن لدى فيلما، لأن قبل أن أقابلها كانت القصة مشتتة ولدى مقتطفات وأجزاء ومعلومات غير مكتملة وبوجودها اكتملت الصورة.

·        وما الصعوبات التى واجهتك؟

أولا أننى أعمل على الحرب الأهلية الإسبانية والتى كانت حتى وقتا قريبا من الصعب الحديث عنها لأن ديكتاتورية فرانكو هى التى انتصرت، ولهذا لم يكن أحد مهتما بالفيلم ولا بدور العرب، فكل ما يريده الأوروبيون منا هو قصص عن الضحايا وفيلمى لا يقدم هذا بل على العكس يتحدث عن شخصيات اختارت ودافعت عن اختيارها، ويقول للأوربيين إن العرب جاءوا للدفاع عنهم ضد الفاشية التى كانت تحكمهم وبالتأكيد هم لا يريدون هذا النوع من القصص من العالم العربي، وإنما يريدون أعمالا عن التحرش والختان وما إلى ذلك، ولهذا لم أجد دعما إنتاجيا للفيلم فى أوروبا والدعم الذى حصلت عليه بعد لقائى بدولت كان من صناديق دعم عربية.

·        هل واجهت صعوبات فى الوصول لأرشيف الحروب؟

نعم هناك صعوبة كبيرة فى الوصول للأرشيف واستخدامه، فمن الممكن أن نجد بعض الأشياء على اليوتيوب لكن لا يمكن استخدامها بسبب حقوق الملكية الفكرية، وأقل سعر للدقيقة الواحدة من الأرشيف هو 1500 يورو، وفيلم مثل هذا بالتأكيد يحتاج للقطات أرشيفيه وهو أمر مكلف جدا فقد اشتريت بعض المقاطع وصلت تكلفتها إلى 10 آلاف يورو، وفى رأيي أن تحديد هذا السعر المرتفع جزء منه سياسى لأنه ليس مطلوبا أن نرى صورا ولقطات من النكبة على سبيل المثال، خاصة أنها ملك للأرشيف البريطاني، فأغلب أرشيفات الحروب ملك لبريطانيا وفرنسا، ولهذا أرى أن منعها وارتفاع أسعارها يرجع إلى ضرورة طمس أجزاء من التاريخ ومنع الناس من استرجاعها ومعرفة الحقائق، فالصورة هى التى تعطى مصداقية للرواية التاريخية، لكنى حرصت على أن يتضمن الفيلم نوعا من الاعتراض على ما يحدث للأرشيف بأن الصورة الأرشيفية ليست الوثيقة الوحيدة على مصداقية القصة التاريخية فالذاكرة البصرية واسعة وحكايات البشر هى التى تمنح التاريخ مصداقيته، ولهذا حاولت أن أعمل على الأرشيف بهذا المنطق، فعلى سبيل المثال قصف العراق استخدمته على قصف العراق وعلى قصف مدريد أيضا فهو يخدم فكرة الفيلم ورمزية أن الحروب كلها متشابهة والتاريخ يكرر نفسه وعدم وجود صور لا يعنى أن الحدث لم يقع.

 

الأهرام المسائي في

29.04.2019

 
 
 
 
 

»رمسيس راح فين؟«.. في رحلة البشر وأقدار الحجر

نعمة الله حسين

حواديت الشوارع وارتباطها الوثيق مع حكايات وذكريات الطفولة والصبا والشباب.. نستطيع بها أن نؤرخ لحياتنا الخاصة وللأحداث العامة.. حواديت الشوارع كثيرة وحكايتنا كلها معها كثيرة
..
الشارع اللي فيه البيت والمدرسة.. وأول خروجة خارج الحي.. ولعب الكرة.. وفوانيس رمضان.. الذكريات التي تشكل وجداننا وتربط الذاكرة بالزمن
.

وقد استطاع المخرج »عمرو بيومي» أن يتجول بنا بين الخاص والعام من خلال فيلمه التسجيلي الأخير وهو شديد الأهمية »رمسيس راح فين؟»، الذي فاز بالجائزة الكبري في مهرجان الإسماعيلية للأفلام التسجيلية والقصيرة.. والفيلم شديد الأهمية وهي لا تكمن فقط في تاريخ التمثال ونقله.. بل ربط عمرو بيومي كل ذلك بذكاء وحساسية شديدة بين التمثال والميدان وحكايته الخاصة علي مراحل تطور عمره، وربط ذلك بكل الظواهر التاريخية والاقتصادية والاجتماعية، التي أحاطت بتلك الفترة وشهدت تلك الأحداث.

من بين الحقائب أوراق من دفاتر السفر يعود بذاكرته إلي المفتاح الأول الذي حمله لشقتهم بحي السكاكيني الشهير والمجاور لمنطقة الظاهر والقريبة من (محطة مصر)، ميدان رمسيس الشهير الذي وإن تغير اسمه رسميا إلا أنه مازال معروفا ومشهورا به حتي الآن.

>>> 

في رحلة البشر أقدار للأحجار تحكي تاريخا بكل عظمته وحضارة قديمة مازال العالم يدين لها بالكثير.. مع بداية الثورة وأول رئيس لها محمد نجيب.. ثم جمال عبدالناصر وتصاعد نجم المشير عبدالحكيم عامر، وصدور قرار بنقل تمثال رمسيس من ميت رهينة لميدان رمسيس سنة 1955 الذي كان يحتله تمثال نهضة مصر للفنان القدير محمود مختار، وتم اختيار مكان جديد له أمام جامعة القاهرة في نهاية كوبري الجامعة وكان المشرف علي عملية النقل المهندس »صادق نجيب»، وشاركت في ذلك الوقت »بلدية القاهرة» وسلاح المهندسين.

>>> 

ومنذ احتلال التمثال لموقعه في الميدان صار قبلة الناظرين ومكانا جميلا للقاء.. ونقطة التقاء لكل الشوارع والاتجاهات التي تحيط به من كل جانب.. وطغت شهرة الميدان والتمثال علي كل ما يحيط به.. وكانت نافورته الشهيرة من أجمل مواقع التصوير، وكان هو أفضل »كارت بوستال» فيه خير دعاية لمصر.

وإذا كان تمثال »نهضة مصر» يرمز إلي ثورة ١٩١٩..  فإن »رمسيس» كان رمزا لثورة يوليو.. وعندما خرجت جنازة عبدالناصر كان التمثال شاهدا علي عظمة شعب ورحيل قائد.. »محطة مصر» أو »باب الحديد» فيلم يوسف شاهين الشهير وعلاقته بالتمثال.

>>> 

وعندما تم بناء كوبري أكتوبر وزادت حركة المرور اختنق التمثال، وبات من الضروري  نقل التمثال.. وإن كانت الرواية الأقرب إلي الحقيقة هي أنه مع دخول مترو الأنفاق ووجود ثلاث محطات تحمل اسم الرؤساء جمال عبدالناصر وأنور السادات.. وحسني مبارك وإهداء كوريا لمصر ثلاثة تماثيل لهم.. كان من غير الطبيعي أن يكون تمثال »مبارك» والمحطة التي تحمل اسمه تحت الأرض.. وتمثال رمسيس بكل عظمته يتبوأ الميدان ويشرف بقامته عليه، ليصدر قرار جديد بنقل التمثال مرة ثانية لميت رهينة تمهيدا لنقله بعد ذلك للمتحف المصري الجديد بجوار الأهرامات.. ولقد أصر المهندس »أحمد حسين» المشرف علي نقل التمثال  أن يكون رحيل التمثال في موكب ملكي مهيب.. ولذلك كان القرار أن يُحمل التمثال واقفا ويرحل وهو يودع شوارع القاهرة وسكانها.

وبالفعل نقل التمثال في مشهد مهيب وخرجت الجماهير تودعه ووقفت النساء في الشرفات وهي تطلق الزغاريد وتحمل الأعلام تحية لفرعون مصر، هذا الملك الجسور الذي لُقِّب بملك الحرب والسلام.. ورغم رحيل »رمسيس» من الميدان في أغسطس سنة ٢٠٠٦.. إلا أن روائح الميدان مازالت تعبق برائحة التمثال والناس لا تمل من إطلاق  اسمه علي الميدان.

>>> 

 طوال  رحلة التمثال ومشواره قبل وبعد الانتقال كان بيومي يستعرض رحلته مع الشوارع القريبة وأول مرة خرج بعيدا عن حيه.. وعلاقته بوالده الصارم، كل ذلك من خلال ضفيرة جدل بها الأحداث بصورة متشابكة ومتطابقة لمعظم حياة أبناء هذا الجيل من الطبقة المتوسطة.. وبعد ذلك كيفية امتلاء الشوارع بمظاهرة الثورة في يناير وخروج الجماهير.

»عمرو بيومي» يملك وعيا كبيرا وقدرة علي التحليل من خلال أسلوب بسيط وسهل.. والغريب أن معظم المادة الأرشيفية لنقل التمثال بعد نفيه من الميدان ضاعت كلها كما ذكر المصور القدير »محمود عبدالسميع».

عمرو بيومي منذ تخرجه في معهد السينما عام 1985 شارك كمساعد مخرج في عشرة أفلام قبل أن يقدم فيلمه الأول »الجسر» من بطولة الفنان »محمود مرسي»، وليقدم بعد ذلك ٢٠٠٨ فيلم »بلد البنات» وبعد ثورة يناير قدم فيلم »نافذة علي التحرير».

وفي فيلم »رمسيس راح فين؟» شارك بالكتابة والتصوير والتقصي عن المادة الفيليمية والأرشيفية.. ليستحق  بدون شك الجائزة الكبري في مهرجان الإسماعيلية.

 

آخر ساعة المصرية في

30.04.2019

 
 
 
 
 

"رمسيس" عمرو بيومي: ذاتٌ تقرأ أزمنةً

نديم جرجوره

تمثالٌ يحمل تاريخًا، وحاضره يعكس تبدّلًا في أحوال بلدٍ واجتماع وثقافة وعيش. للسياسة حضورٌ، فالتمثال امتدادٌ لأهواء زعماء يحكمون البلد ويتحكّمون بناسه، منذ انقلاب ضباط على الحكم الملكي (23 يوليو/ تموز 1952). التمثال تاريخٌ حافلٌ بحكايات وتفاصيل، يصلح بعضها (على الأقلّ) لدرسٍ أو نموذج أو مثال، فالشخص المُمثَّل بالتمثال قائدٌ عسكري فرعونيّ، له انتصارات وفضائل على شعبه وبلده. التمثال نفسه يسحر فتى في بداية وعيه، فهو (التمثال) واقفٌ في ميدانٍ يحمل اسمه، في محيط منزل عائلة الفتى، ما يدفع الأخير، لاحقًا، إلى إعادة قراءة ما يُحيط بالتمثال من أحوال ومسارات، وما يُقدِّمه التمثال من عِبر ولحظات، تُوثِّق شيئًا من تحوّلات البلد ومفاصل حُكمه، وتُعرّي بعض المخفيّ أيضًا.

المخرج الوثائقي المصري عمرو بيومي يستعين بتمثال رمسيس الثاني، ليحاور ذاكرةً وتاريخًا وراهنًا، وليقرأ مسارات وأقدارًا، بدءًا من ذاته وذكرياته وعلاقته بوالده تحديدًا. في جديده "رمسيس راح فين؟" (2019، 62 دقيقة، إنتاج "رحّالة للإنتاج والتوزيع" وعمرو بيومي وناجي إسماعيل، بدعم من "صندوق دوكس بوكس" و"جمعية النهضة العلمية والثقافية ـ جيزويت" في القاهرة)، يمزج بين عمق الذاتيّ ورحابة العام، في متتالياتٍ بصرية، تستعين بأرشيفٍ ثريّ من صُوَر ورسوم وأشرطة، ويرتكز على تصوير لحظات آنيّة، توغل في حميمية الذات الفردية لبيومي، كامتدادٍ لسيرة تمثال وذاكرة وتاريخ. 

يجعل عمرو بيومي "تمثاله" مناخًا وحالة ووقائع. بصوتٍ ذي نبرة هادئة وسلسة، يُروَى ما يُضيف إلى صُوَره، ويقال ما يُساهِم في تفكيك سيرة وماضٍ، فالتفكيك دعوة إلى مُصالحة بعد تعرية واغتسال، والإضافة جزءٌ من لعبة أزمنة وأمكنة، يتداخل بعضها بالبعض الآخر، في توليفٍ (أسامة الورداني) يُشكِّل عصب الفيلم وبناءه الدرامي والحكائي. التداخل بين أزمنة وأمكنة مرادفٌ لتداخلٍ بين ذات عمرو بيومي وعلاقته بأبيه ومحيطه وبيئته، مُشاهدًا وشاهدًا على تبدّلات جذرية في مسار عام، كما في مساره هو، المنتقل به من مراهقة إلى شبابٍ (بيومي مولود عام 1961). كأنْ لا حدود تفصل بين الأشياء والحالات والانفعالات. كأنّ عمرو بيومي نفسه يختفي في تاريخٍ وذاكرة وهو يروي حكايته، ثم يختبئ في ذاته وحكايته كي يتحررّ من ثقل موروثاتٍ خاصّة وعامّة، فيرويها بسلاسةٍ أكبر وبساطةٍ أجمل وحميميةٍ أصدق. كأنّ "رمسيس راح فين؟"، الفيلم والسؤال معًا، اختبارٌ بصريّ لفهم ذاتٍ وبلدٍ وتاريخٍ وحاضر، بالتزامن مع لعبة التنقّل بين أوقاتٍ وبيئات.

ينتقل التمثال، أكثر من مرة، بين موقعه الأصلي في قرية "ميت رهينة" (بعد اكتشاف أطلال "مدينة ممفيس" في باطن القرية، بين عامي 1890 و1930) والميدان الحامل اسمه قبل تغيير الاسم إثر "عودته" إلى قريته. يتساءل بيومي عن اللحظة الأولى لتأثّره الذاتي بالتمثال: أهي تلك المنبثقة من مُشاهدته، للمرة الأولى، "باب الحديد" (1958) ليوسف شاهين (يُدخل لقطة تجمع شاهين بهند رستم، والتمثال خلفهما)، أم تلك المتأتية من شريط قديم، يتساءل فيه أطفالٌ: "رمسيس راح فين"، قبل أن يتبيّن لاحقًا أنّ الشريطَ إعلانيٌّ، وأن الدعاية خاصّة بـ"آيس كريم مصر"؟ 

تساؤل يحتمل إسقاطاتٍ، تكشف لاوعيًا جمعيًّا، إذْ يتعرّض التمثال لاستهلاكٍ تجاريّ، ولمادة صالحة للتندّر والتنكيت والرسوم الكاريكاتورية، المترافقة كلّها وهوس الحديث عنه، ذات محطة تاريخية.

للميدان اسم: "باب الحديد". نقل التمثال إلى الميدان نفسه، زمن جمال عبد الناصر (1955) والصدامات الحادّة داخل مجلس الثورة، يؤدّي إلى تغيير الاسم: "ميدان رمسيس" (صُوَر فوتوغرافية بالأسود والأبيض تلتقط بعض تفاصيل عملية النقل). استعادة مجلة سنوية، لاسمها رنّة تعكس ما يُفترض به أن يكون حاضرًا ("مصر اليوم" بالإنكليزية، الصادرة منذ ثلاثينيات القرن الـ20)، كشفٌ إضافيّ عن تبدّل تشهده مصر نتيجة انقلاب ضباط أحرار على حكم ملكي (مسار تاريخ مصر يحضر في تبدّل تشهده المجلة: صُوَر حاكمين منذ الملكية إلى ما بعد الثورة وانقلاباتها الداخلية). 

لـ"ميدان باب الحديد" حكايته أيضًا، فـ"ثورة 1919" تمتلك فيه حيّزًا لذكراها، مثبّتٌ حينها بتمثال "نهضة مصر". الهوس بالتاريخ العسكري الفرعوني، والرغبة في إقصاء كلّ ثورة سابقة على "ثورة يوليو"، دافعان إلى إزالة "نهضة مصر" إكرامًا لرمسيس الثاني. يُروى في الفيلم أنّ الأمر الصادر حينها بنقل التمثال يحمل ضمنيًا أمرًا بـ"إخلاء الميدان من تمثال ثورة 1919، ليحلّ محله تمثال ثورة يوليو 1952"، فيتغيّر الاسم أيضًا من "نهضة مصر" إلى "رمسيس".

هذه لن تكون تفاصيل عابرة. حاكمو مصر لاحقًا يُقرّرون إزالة تمثال رمسيس الثاني من مكانه، بحجّة ترميمه في المتحف الوطني (25 أغسطس/ آب 2006). متخصّصون يظهرون أمام كاميرا عمرو بيومي (عبد الغفار شديد، أستاذ تاريخ الفن؛ والمؤرّخ عماد أبو غازي؛ والمهندس أحمد حسين، مُصمِّم آلية نقل التمثال والمُشرف على عملية النقل) يقولون، ضمنًا أو مباشرة، نقيض هذا، أو شيئًا مكمِّلًا له مع إيضاحات علمية. تغيير معالم المدينة (القاهرة) برمّتها مؤثّر سلبيّ على "ميدان رمسيس". الخطط العمرانية وهندسة الطرقات والجسور في الميدان نفسه تفرض إزالة التمثال. للسياسة وصراعاتها دور. لكنّ للبيئة تأثيرًا أيضًا، فالتلوّث مُضرّ بالتمثال، وبالناس أولاً، ومنذ سبعينيات القرن الـ20، "يفقد التمثال أشياء منه".

للوثائقيّ الجديد لعمرو بيومي ميزات، إحداها كامنةٌ في قدرة بصرية جميلة على التوفيق بين كمّ هائل من المعطيات التاريخية، وأولوية الاشتغال الوثائقي السينمائي. في معطيات التاريخ، سياسة ونزاعات وتحدّيات وتسلّط ومناكفات ووقائع ومعلومات ومرويّات. هذه حاضرة بسلاسة في سرد الحكاية. في اشتغالات السينما، يتكامل الأرشيف بالراهن والصُوَر بالسرديات، فتتداخل هذه كلّها معًا، صانعةً بناءً متماسكًا ومكثّفًا في سرد الحكاية. أما الثورات، فحاضرةٌ بأشكالٍ مختلفة، لأن "ميدان رمسيس" شاهدٌ على مظاهراتٍ شعبيّة ضد رفع الأسعار زمن أنور السادات (18 يناير/ كانون الثاني 1977)، وامتدادٌ طبيعي لغليان "ميدان التحرير"، زمن "ثورة 25 يناير" (2011).

ميزة أخرى يتمتّع بها "رمسيس راح فين؟": الحكاية الذاتية البحتة صائبةٌ في تمدّدها في طيات تاريخ وذاكرة وتفاصيل وتحدّيات. هي جزءٌ من بناء درامي سينمائي، ومن لعبة مرايا تُعرّي أهواء وأمزجة ووقائع. سلاسة السرد التاريخي منبثقة من حميمية القول الذاتيّ. صُوَر الأرشيف إضاءة مطلوبة لفهم راهن وتبيان ملامحه. لحظات الآنيّ امتدادٌ لنبضِ ماضٍ مُقيم في أمكنةٍ ومناخ.

الأهمّ أيضًا أن يُشَاهد التاريخ كحكاية، وأن تُقرأ الذات كاعترافٍ وبوح، وأن تكون السينما توثيقًا يمتلك شفافية صورة وجمالية اشتغال. هذا ما يفعله عمرو بيومي في "رمسيس راح فين؟" (جائزة أفضل فيلم في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، الدورة الـ21 لـ"مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة"، المُقامة بين 10 و16 إبريل/ نيسان 2019).

 

العربي الجديد اللندنية في

03.05.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004