كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

نال 3 جوائز أوسكار بينها أفضل فيلم

«غرين بوك».. معزوفة سينمائية تتحدى العنصرية

مارلين سلوم

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 2019)

   
 
 
 
 
 
 

هناك أفلام تود لو تستطيع لقاء أبطالها وصناعها لتشد على أياديهم وتعبر لهم عن مدى إعجابك بما قدموه، ليس لك كمشاهد فقط، بل للفن السابع عموماً. هؤلاء الذين يزيدون في إثراء أرشيف السينما العالمية، ويساهمون في تقديم أعمال تملك سحر السهل الممتنع، تصل إلى كل العقول والقلوب، يستحقون الثناء. «غرين بوك» الذي ما زال يعرض في الإمارات، من تلك الأعمال المميزة جداً، والتي ترغب في مشاهدتها أكثر من مرة، وتفرح لحصوله على 3 جوائز أوسكار.

يجسد «غرين بوك» أو «الكتاب الأخضر» مفهوم السهل الممتنع بكل تفاصيله. يستند إلى قصة حقيقية دون أن يستمد حكايته في سردها من كتاب أو نشرات صحف ووسائل إعلام. قصته تأتي من زمن «العبودية» وزمن «الأبيض والأسود» في مفهومه العنصري والتمييز بين البشر وفق لون بشرتهم. كتبها نيك فاليلونغا، ابن توني فاليلونغا الملقب ب «توني ليب»، أحد أبطالها، والذي بفضلها انتقل من صفوف العنصريين «الرافضين» لأصحاب البشرة السمراء، إلى أحد المدافعين عنهم وبشراسة.

القصة صعبة ومكتوبة بدقة وعمق وبكثير من الحكمة، وشارك فاليلونغا في كتابتها بجانب نيك، كل من براين كوري وبيتر فاريللي الذي تولى الإخراج، ونالوا أوسكار أفضل سيناريو أصلي. صحيح أن فاريللي لم يحصد جائزة أفضل إخراج، لكنه نجح بسلاسته في جعل الفيلم قطعة موسيقية- كوميدية- درامية بامتياز؛ ومن يشاهد «غرين بوك» يلاحظ التناغم الشديد بين الشخصيات، ويلمس أن النجاح لم يأت فقط من غرابة القصة ومضمونها الإنساني، بل من روح الفريق التي سادت العمل، فاستحق أوسكار أفضل فيلم لهذا العام.

أما الجائزة الثالثة، فلا بد أن تكون من نصيب ماهرشالا علي أفضل ممثل مساعد، ولا بد أن تتوقع له هذا الفوز، لأنه ممثل يلبس الشخصية ويبدع في أدائها فيقنع الجمهور؛ ماهرشالا، الذي سبق أن نال أوسكاره الأول عام 2017 عن فيلم «مونلايت»، يعيش الحالة بكل حواسه، فتصير الشخصية توأمه، ولا يبدو أمامك «ممثلاً» يبذل مجهوداً لأداء دوره.

تنطلق الأحداث من نيويورك عام 1962، فنرى الشخصية الرئيسية توني ليب (فاليلونغا)، ويؤديها بإتقان فيغو مورتنسن، أمريكي من أصل إيطالي، يعمل حارساً في ملهى ليلي، صاحب إرادة قوية ومغامر جريء وذكي. يغلق الملهى أبوابه فيقدم توني أوراقه للعمل سائقاً لدى الدكتور دون شيرلي (ماهرشالا علي). أمريكي من أصل إفريقي، غريب الأطوار، حاصل على دكتوراه في علم النفس، لكنه فعلياً من أشهر عازفي البيانو ومؤلف سيمفونيات لأوركسترا نيويورك الفيلهارمونية وأوركسترا فيلادلفيا.. طبعاً لم يكن توني يعرف من هو دكتور شيرلي، لكنه رضي بالعمل لديه سائقاً لمدة ثمانية أسابيع، يقوم فيها بجولة موسيقية في ولايات الجنوب الأمريكي مع فرقته «الثلاثي دون شيرلي»، المكونة منه ومن عازفين اثنين. ولم يكن ليرضى بالعمل لديه لأنه «أسمر» البشرة، لولا حاجته الملحة للعمل، وإنقاذ أسرته من الديون، خاصة أن شيرلي عرض عليه مبلغاً مالياً مغرياً.

قبل انطلاق الرحلة بسيارة د. شيرلي، يسلم توني «الكتاب الأخضر»، وهو دليل لأصحاب البشرة السمراء، بإرشادات حول الأماكن التي يمكنهم البيات فيها، والمطاعم وحتى الاستراحات، حيث كان في ذلك الوقت محرم عليهم استخدام دورات مياه وفنادق ومطاعم الأمريكيين «البيض». لم يدرك توني أن الأمر بهذه الصعوبة، وبأن التمييز العنصري يؤذي إلى هذا الحد، وبأنه سيعيش التجربة بنفسه ويلمس الإهانة «الآدمية» التي يتعرض لها هؤلاء «السود»، لمجرد اختلاف لون بشرتهم.

نعيش مع الثنائي توني ودون رحلة رائعة، تنقل الأول من العنصرية إلى التسامح والانفتاح والتصالح مع الآخر، بل الدفاع عنه بشكل مستميت، وتنقل الثاني من حيرته وكبريائه إلى البساطة والتصالح مع الذات. تناقض كبير بين الرجلين، «الأبيض» عفوي شعبي، غير منضبط ولا منظم، بينما «الأسمر» شديد الانضباط والنظافة إلى حد الوسواس. العازف المشهور صاحب الثروة الضخمة والصيت الذائع في أمريكا، محرم عليه دخول أفخم الأماكن بسبب لونه، بينما سائقه وحارسه الشخصي متاح له التنقل والتواجد في كل الأماكن.

مشهد السائق الأبيض وخلفه يجلس الدكتور الأنيق، يلفت أنظار الناس أينما حلاّ، وحين يمرا بحقل فيه عمال من أصول إفريقية، يصاب هؤلاء بالدهشة وألف علامة استفهام على وجوههم. كثيرة المشاهد الرائعة والمعاني التي لا تحتاج إلى حوار دائم كي تصل إلى عقلك وقلبك. وكثيرة العبارات التي تستوقفك لشدة عمقها وإنسانيتها، مثل قول توني لشيرلي: أنت تجلس في قصر وأنا أعيش في الشارع، عالمي أكثر سواداً من عالمك.. ثم قول شيرلي معبراً عن حيرته وصراعه بين انتمائه إلى الطبقة الراقية والمتعلمة والثرية، وأصوله الإفريقية غير المرغوب فيها في أمريكا في ذلك الوقت: لست أسود بما يكفي، ولا أبيض ولا رجلاً بما يكفي، فمن أكون؟.. كما تستوقفنا عبارة: العبقرية ليست كافية، يجب أن يكون هناك شجاعة لتغيير قلوب الناس.

الفيلم يحمل الكثير من المشاعر والمواقف الإنسانية، ولا تشعر فيه بثقل السير الذاتية، بل يتسلل بخفة إلى القلب، ليحكي قصة نضال موسيقي مبدع أراد تحدي العنصرية من خلال الموسيقى واقتحام قصور الأثرياء والصالات الفخمة والمسارح الراقية..

وأخيراً، وأنت تشاهد الفيلم لا يمكنك إلا أن تسأل نفسك عن هذه الموسيقى الرائعة، وهل حقيقة يعزفها ماهرشالا بهذا الإبداع؟ والحقيقة أن من أعاد كتابة معزوفات دكتور شيرلي (توفي عام 2013)- معتمداً على السمع نظراً لغياب أي نوتة مكتوبة- هو كريس باورز الملحن الأمريكي ( 29 عاماً) وهو من تولى تدريب ماهرشالا على البيانو لمدة 3 أشهر، حيث أصر هذا الأخير على إتقان العزف والحركات والتفاصيل وكأنه محترف وموهوب منذ طفولته؛ فأثمر الإبداع مع الإتقان في تحفة فنية اسمها «غرين بوك».

marlynsalloum@gmail.com

الخليج الإماراتية في

13.03.2019

 
 
 
 
 

"روما" انتصار للسينما مؤكد بأهم الجوائز

نوار عكاشه

تلك المحفورة في أعماقنا بحنينٍ عظيم، تدق ناقوسها متى شاءت لتتصافى كَبوتقة الصائغ، ونستحضرها برجاء الأطفال الباحثين عن الهدوء والسكينة كلما أثقلنا الواقع لترفعنا إلى الأفق القصي، إنّها الذكريات، ينبلج نورها بالحقائق الصرفة التي عشناها زمناً ونعيش الآن مجهول مستقبلها.

يعود «ألفونسو كوارون» (1961) إلى تلك الحقائق، يستحضر الزمن الذي فقده ليعانق حضن الماضي ويقدم أحدث أفلامه «روما» (2018، 135د) محققاً بالبساطة انتصاراً للسينما والإنسان.

الذكريات هي مقاومة الذاكرة للزمن، يعود كوارون إليها ويصوغ من تاريخه الشخصي وخزينه الإدراكي معالجات حسية للتصريحية منها والضمنية، ذكريات طفولته بين عامي 1970 و1971 في الحي الذي كان يسكنه (روما) في العاصمة المكسيكية، تلك الفترة التي شهدت اضطرابات سياسية واقتصادية واعتراضات جماهيرية واسعة على حكم الرئيس «دياز أورداز»، أشار لها عدة مرات في سياق الفيلم وقام بتوظيف أحد أهم أحداثها في مشاهد ما قبل ولادة بطلة الفيلم في دلالة واضحة لمجزرة «كوربوس كريستي» 1971.

يجعل كوارون من تلك الفترة الزمنية خلفية لفيلمه ويشابكها بمتانة مع المنظور الدرامي والبصري في إسقاط وتقاطع سينمائي متفوق.

يقتحم ذكرياته بِمن كان الأكثر قرباً منه وتأثيراً عليه، فكان من الطبيعي أن تكون خادمة بيته الأرستقراطي «كليو» (ياليتزا أباريسيو) الشخصية الرئيسية في الفيلم، غنى الشخصية يتأتى من افتقارها، وهي حالة صادمة سينمائياً للوهلة الأولى، برود ورتابة أظهرها الفيلم في ساعته الأولى، واقعية شديدة باعثة للتوتر، لتتكشف لاحقاً تلك المراهنة على جعل اللاحدث هو الحدث في الفيلم.

 نقترب أكثر من الشخصية محاولين فهمها، نتساءل عن سر استسلامها للواقع والروتين المميت وعن جدوى الرغبات المكتومة وسط الانكسار والرضوخ، تفاصيل لمّاحة تظهر في الشريط لتجعل من الأشياء العادية صوراً انطباعية ذات دلالات مؤثرة (بقعة ماء تعكس السماء في بداية الشريط تمر عبرها طائرة، كلب موجود دوماً في البيت يحاول عبثاً الخروج كلما فُتِح الباب، سيارة كبيرة تعاني في ولوجها لِبهو البيت الضيق، قصص البعث والتقمص، شجرة تحترق وشخص غير مبالي، نجاة طفلة حديثة الولادة من الزلزال، حفلة للخدم تقام في الطوابق السفلية والدجاج في الاستقبال، الوقوف على رجل واحدة بعيون مغمضة، تكرر وجود الماء في عدة مشاهد طوال الفيلم ...) 

تأخذ تلك التلميحات منحاً موازياً لحالة الخادمة، لا مجال للشكوى والتذمر بوجودها ضمن عائلة تحبها وتعتني بها، رضا وتسليم تام ومبرر ضمن جو حاضن لها وبغياب أي أحداث ظالمة من جهتهم تدفعها لتغيير وجهتها.
ولكن هل ذلك يكفي؟

يبدو مفهوم الحرية لتلك الشخصية مراعياً مدى امتنانها للمحبة التي قدمتها تلك العائلة لها رغم ما مرت به سيدة البيت من خيانة الزوج وضيق أحوالها المادية واضطراب حال أسرتها، ليبلغ الفيلم ذروته في مشهد حضن الخادمة والسيدة والأولاد لبعضهم معلناً أن المحبة تغني عن أي حرمان، مشهد تلاقي وجداني يلخص مفهوم العائلة وما تقدمه من تفاصيل حميمية، وفي هذا الانصهار تبدو الخادمة فرداً أساسياً من العائلة ومعرضاً مغايراً لتلك العلاقة التي لطالما تمت معالجتها من منطلق السيادة والتبعية.

لكن كوارون يبدو غير مكتفياً بذلك، فهو لم يُخلق للقبول بالبدائل عن الطموح، لذا يصعد في مشهده الختامي نحو السماء ملاقياً للطائرة التي ستأخذه نحو البعيد مودعاً مسرة استرجاع تلك الذكريات ليكمل واقعه الحالي.

الاحتفاء الحاصل بالمتعة البصرية التي قدمها الفيلم وتحقيقه جمالية وعودة لأصالة السينما ما كان ليتم لولا أساسه المتين بِشرطية الأسلوب، فالسؤال أولاً "هل يسترجع الإنسان ذكرياته بالألوان أم بالأبيض والأسود؟" في الواقع لا توجد إجابة محددة لهذا السؤال الذي شغل العلم مراراً وتكراراً، ولكن المؤكد أن عملية تركيب صور الذكرى الواحدة تتجاوز تلقائياً العناصر اللونية ما لم نتقصد تركيبها، وفي تركيبها جهد وتشتت للذاكرة، لذا كان من الأنسب حين صناعة فيلم عن الذكريات أن يُكتفى باللونين الأبيض والأسود، حيث أن ال monochrome   يخلق حالة تجرد من الزمن وشاعرية ملائمة لمنطق الذكرى، وهذا ما كان فيلم "روما".

ومن نفس المنطلق كان التصوير، بين foreground و background، ومع قليل من المشاهد القريبة؛ تبقى حركة panni camera غالبة على مشاهد الفيلم بعدسة 65 مم، كما الذكريات حين استرجاعها، عرض موسع يتجاوز النظرة، كشف تدريجي يجعل المشاهد شريكاً في مواكبة الدمج الصوري، تلك الملاءمة الذكية أصابت عدة أهداف؛ مفهوم الذكرى ومواكبة الحقبة الزمنية لأحداث الفيلم وإحياء أصالة السينما وبساطة بداياتها البصرية والدرامية.

يبدو واضحاً شغف كوارون بِدفء الماضي وحنينه الحميمي لتفاصيله، اشتغاله على الإضاءة يؤكد ذلك، تلاعب مدروس بدرجات الإضاءة وتوظيف دلالي للضوء وانعكاساته، يظهر ذلك جلياً في مشهد الاحتضان العائلي على الشاطئ (صورة ملصق الفيلم) حيث استعمل تقنية ال black light كَخلفية لمشهده في توظيف دال لأثر تلاقي العواطف الصريحة.

العودة إلى الموطن لاستعادة الشغف يتطلب العودة إلى الأصل بكل تفاصيله، ولفيلم يبطن الجمعي بِلبوس الذاتي وبدون حبكة تصعب المهمة، في «روما» برع فريق تصميم الانتاج في صناعة قالب تلك الفترة، وأعادوا إحياءها بعناصرها المكانية والزمانية بحرفية ملفتة، فاكتسب متانة الأساس لصورته.

وبغياب الموسيقى التصويرية لِشرط الواقعية؛ تربعت الأصوات الطبيعية وحوارات الشخصيات على شريط الصوت، يتفوق الفيلم بِمزج صوتي دقيق جداً في تواتر ودرجات أصوات الشخصيات والمحيط، فاستطاع بذلك إثراء تماهيه مع واقعيته وحالته السينمائية.

حقق الفيلم بتميزه الفني انتصاراً للسينما مؤكداً بأهم الجوائز، كما انتصاره لِجهة انتاجه وتوزيعه netflix التي حُرِمت تبعاً للجدل القائم حولها من عرضه العالمي الأول في مهرجان cann، لكن ما أهمية ذلك الحرمان أمام ما لاقاه الفيلم لاحقاً من مشاركات وجوائز أدخلته التاريخ بجدارة حين شارك في أكبر المهرجانات السينمائية الدولية (فينيسيا، تورونتو، نيويورك ...) وحصد ما يراوح 100 جائزة حتى الآن

رقم ثمين جاء من مهرجانات ومؤسسات سينمائية ونقدية مرموقة؛ كان أولها جائزة الأسد الذهبي في عرضه العالمي الأول ضمن الدورة 75 لمهرجان فينيسيا، وأتبعها بأهم الجوائز ومنها جائزتي golden globes لأفضل إخراج وأفضل فيلم أجنبي، و 4 جوائز BAFTA عن فئات أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل فيلم أجنبي وأفضل تصوير ، وليقف مؤخراً في المرافعة السينمائية الأكبر على جوائز الأوسكار 91 بعد 10 ترشيحات لها، حصد منها 3 جوائز مستحقة عن فئات أفضل فيلم ناطق بلغة أجنبية وأفضل إخراج وأفضل صورة سينمائية، ليؤكد أن السينما النقية باقية في الصدارة دوماً.

موقع "أويما 20" في

14.03.2019

 
 
 
 
 

عن الفيلم الفائز بأوسكار 2018..

رحلة لاستكشاف «الأخضر» فى العالم «الأسود»

زين العابدين خيرى

فيلم «الكتاب الأخضر» الذى استحق منذ أيام جائزة أوسكار أفضل أفلام 2018، ليس مجرد فيلم عن العنصرية فى الولايات المتحدة الأمريكية بل هو رحلة استكشاف لـ»الأخضر» وسط كل «الأسود» المحيط به؛ فخلال رحلتهما معا لم يكن الأمريكى ذو الأصول الإيطالية «تونى ليب» (فيجو مورتينسون) يكتشف فقط الآخر ممثلا فى مرافقه عازف البيانو الشهير «دون شيرلى» (ماهرشالا علي) ذى الأصول الإفريقية، بل كان يكتشف أيضا نفسه وبلاده.

»الأخضر» كان عنوان الكتاب الذى وضعوه فى يد «تونى» حين قَبِل مهمة قيادة سيارة وحماية عازف أسود شهير فى جولة موسيقية ليرشده إلى الفنادق الصغيرة والمطاعم ومحطات الوقود الخاصة بـ»الزنوج» فقط التى يجب عليهما التوجه إليها ليتمكنا من إنهاء الرحلة بسلام دون تعرض لمضايقات متوقعة فى ولايات الجنوب الأمريكى الأكثر تعصبًا ضد الملونين فى أوائل ستينات القرن العشرين، والأخضر هو لون السهول الجميلة الممتدة التى كان يكتشفها «تونى» عبر الولايات الممتدة على طول الرحلة، وهو أيضا لون الجمال والرقى الذى صار «تونى» يكتشفه يوما بعد يوم فى مرافقه ذى البشرة السوداء على مدى الأسابيع الثمانية التى قضياها معا، والأخضر هو فطرة «تونى» الطيبة اليانعة كطفل صغير يكتشف نفسه وكأنه يولد من جديد؛ فالشخص الذى يحتضن العازف الأسود فى نهاية الفيلم بكل ود وترحاب ليس بالتأكيد الشخص نفسه الذى رمى فى القمامة كأسين زجاجين لمجرد أن عاملين من أصول إفريقية شربا منهما فى أثناء قيامهما ببعض الأعمال فى منزله. وفى المقابل إن كان «العالم مليء بأناس يعانون الوحدة وخائفون من أن يقوموا بالحركة الأولى» فإن العازف الذى يصل فى النهاية لا يعود واحدا من هؤلاء الناس.

صحيح أن فيلم «الكتاب الأخضر» موضوعه الرئيس هو العنصرية ولكن المعالجة هنا جاءت مختلفة تماما عن كثير من الأفلام التى تناقش الموضوع نفسه

يبدأ الفيلم بداية كلاسيكية باستعراض حياة البطل «تونى ليب» الذى يعيش فى أمريكا وسط مجتمع إيطالى تقليدى ومترابط، يعتمد على الحيلة بكل الطرق ليستطيع تأمين حياة بسيطة له ولأسرته، حتى لو عن طريق قليل من النصب أو السرقة، ولكنه فى الوقت نفسه ليس مجرما فهو يرفض الانخراط فى أعمال المافيا الإجرامية رغم حاجته الحقيقية إلى المال ورغم إغرائه بذلك أكثر من مرة من بعض أقاربه استغلالا لشجاعته وقدراته البدنية، هو باختصار «فهلوى» على الطريقة المصرية. أو كما يصف نفسه «لا أكذب أبدا»، «أنا فنان فى الخداع»، «جيد فى التعامل مع الناس، أجعلهم يقومون بأشياء لا يريدون القيام بها.. بخداعهم»، وهو أيضا شخص شديد الاعتزاز بنفسه، شَرِه ويحتفظ بشهية مفتوحة دوما على مصراعيها فهو إما يأكل أو يدخن، أما عنصريته المبدئية ضد الملونين، فهى عنصرية سطحية يمارسها ذوو الأصول المختلفة ضد بعضهم البعض، ولكنها ليست أبدا عنصرية إجرامية، بل سرعان ما ستتلاشى بمجرد التعرف على الآخر بشكل حقيقى.

يصور الفيلم الرحلة التى يخوضها البطلان ليس فقط بهدف استعراض عنصرية المجتمع الأمريكى ضد الملونين، بل ولا حتى الكشف عن الاختلاف بين عالمى البطلين، بل لتأكيد أن نقاط الاقتراب والتواصل بين البشر أكثر بكثير مما يبعدهم وينفرهم من بعضهم البعض، حتى لو كان أحدهما يؤمن بأن «أيا كان ما تفعله افعله 100%، عندما تعمل اعمل، عندما تضحك إضحك، عندما تأكل كل وكأنها وجبتك الأخيرة»، والآخر يدرك بأن الأمر ليس بهذه البساطة وأن كونك عبقريا ليس كافيا لتحيا بكرامة فى مجتمع مازال يحبو للتخلص من أمراض العنصرية. ولذا حين يتعجب «تونى» من «شيرلى» «كيف يبتسم ويصافح أياديهم بهذه البساطة؟ لو حاولوا إخراجى من منزلهم حتى لا أقضى حاجتى فيه، سأقضيها تماما فى غرفة معيشتهم»، يرد شيرلى على عنصرية مستضيفيه بـ»شكرا على كرم الضيافة».

وطوال الرحلة التى كان يحاول فيها العازف تعليم سائقه قواعد الرقى والتحضّر أو «تقنيات» يمكن أن تساعده فى التعامل مع مجتمع الأثرياء والمتعلمين، كان يتعلم فيها من هذا السائق الحياة ببساطة وعفوية دون حسابات معقدة، ولذا حين يصلان فى النهاية إلى نهاية الرحلة سيكونان وكأنهما براعم خضراء، وقد وُلدا من جديد.

حوار الفيلم كان من أميز عناصره ولذا لم يكن غريبا أن يفوز الفيلم بأوسكار أفضل سيناريو مكتوب مباشرة للسينما، حتى إنك ستحتاج وأنت تشاهده إلى ورقة وقلم فى يديك إن أردت الاحتفاظ بهذه الجمل الحوارية الممتعة شديدة الاتقان فى التعبير عما تريد الشخصيات قوله، ولا شك ساهم فى ذلك كون مخرج الفيلم كاتبا بالأساس، بجانب وجود «نيك فاليلونجا» ضمن فريق التأليف، وهو ابن «تونى فاليلونجا» الشخصية الرئيسية فى الفيلم، وانضم إليهما الكاتب والممثل الأمريكى «برايان هايس كورى»، وكل ذلك منح الفيلم ذلك الحوار الرشيق المتوج بعدة مواجهات شديدة العذوبة بين شخصيتى الفيلم الرئيستين «تونى فاليلونجا» و»د. دون شيرلى» اللذين أدّى دوريهما باقتدار النجمان فيجو مورتينسين (صاحب الترشيح للأوسكار ثلاث مرات فى أعوام 2008 و2017 و2019) وماهرشالا على (الفائز بالأوسكار للعام الثانى على التوالى عن دوريه فى «ضوء القمر» ثم فى «الكتاب الأخضر»)، والاثنان ترشحا عن دوريهما لجائزتى أوسكار أفضل ممثل فى دور رئيسى وأفضل ممثل فى دور مساعد.

عناصر الفيلم المتميزة متعددة من موسيقى وملابس وتصوير وغيرها وكلها تستحق الإشادة بها والحديث عنها بالتفصيل فى مقال مخصص لذلك، ولكن لا أريد إنهاء هذا المقال قبل الإشارة سريعا إلى مونتاج الفيلم الذى شهد عددا من «القطعات» أو «النقلات» التى يجب التوقف أمامها مثل الانتقال من مشهد توجه «تونى» إلى التبول فى الطريق إلى مشهد النافورة المتفجّرة فى «بيتسبيرج»، والانتقال من لقطة الفقراء السود الذين يعملون فى حقل على الطريق وتوقفوا متأملين فى ذهول صامت السائق الأبيض الذى يقود سيارة العازف الأسود إلى لقطة الأغنياء البيض مرتدى الملابس البيضاء فى أحد قصور «نورث كارولينا»، والانتقال من مشهد رفض صاحب متجر الملابس شراء شخص أسود لبدلة جديدة من متجره إلى مشهد المسرح حيث يعزف دون شيرلى ببدلته التوكسيدو القديمة فى غضب تم التعبير عنه بقطعات حادة وزوايا متعددة وموسيقى سريعة غاضبة.

فيلم «الكتاب الأخصر» واحد من أفضل الأفلام التى تم تقديمها فى السنوات الأخيرة، ولا شك يستحق جوائز الأوسكار الثلاث التى حصل عليها من بين خمسة ترشح لها، وأعتقد أنه لا يسبب أى حساسية للمصابين بفوبيا «الصواب السياسى» أو الـ»Political Correctness».

الأهرام اليومي في

15.03.2019

 
 
 
 
 

أوسكار أفضل مونتاج: ما المميز في الخمسة المرشحين؟

أحمد عزت

إذا كانت الكاميرا هي الرؤية، العين المراقبة، فإن المونتاج هو التفكير، العقل المدرك. ما أريد قوله، إن المعاني والقيم العاطفية لمشهد وما يتركه من انطباعات لدى المشاهد هو ما يجسد دور المونتاج الخلاق في صناعة الفيلم.

المخرجة الأمريكية «مايا ديرين»

المونتاج في أبسط معانيه هو الربط بين لقطتين مختلفتين من الفيلم، وبمعنى أوسع هو كيفية ترتيب اللقطات وبناء الفيلم بالطريقة التي يعرض بها على المشاهد.

بالإضافة للجوائز الأكثر بريقًا التي تمنحها أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة مثل أفضل فيلم، أفضل مخرج أو جوائز التمثيل، هناك جوائز أخرى تقنية تكاد تنفرد بها الأكاديمية أهمها التصوير السينمائي والمونتاج. تمثل هذه الجوائز التقنية تقديرًا مستحقًا وردًا لاعتبار هذه الفئات المبدعة والتي تتعامل معها المهرجانات الفنية الكبرى كامتداد لمهنة المخرج ومنجزه، مكتفية بمنح الأفلام المكرمة فقط جائزة الإخراج.

فيما تبقى من مساحة المقال نحاول تقديم قراءة للمنجز  المونتاجي للأفلام الخمسة المرشحة لجائزة الأوسكار أفضل مونتاج في 2019.

Bohemian Rhapsody

ربما يعزز فوزه بجائزة «جمعية المونتيرين للسينما الأمريكية» كأفضل مونتاج لفيلم درامي من فرصه لاقتناص جائزة الأوسكار لنفس الفئة. اختيار جون أوتمان بخلفيته كمؤلف موسيقي للقيام بأعمال المونتاج، كان الخيار الأنسب لفيلم عن فرقة الروك البريطانية «كوين» ومغنيها فريدي ميركوري، عمل يعتمد على الأداء الصوتي بقدر ما يعتمد على الجانب البصري. التحدي المونتاجي لدى أوتمان كان يتمثل في تحقيق توازن بين صعود نجم الفرقة ومحطاتها الغنائية الأبرز وبين الحياة الشخصية لفريدي، وهو ما حققه إلى حد بعيد.

يعتمد الفيلم كثيرًا في تأثيره على إعادة أداء أبرز أغاني الفرقة، وهو ما كان سيشكل عبئًا ثقيلًا على إيقاع الفيلم إذا تمت بمنأى عن تطور السرد الفيلمي، لكن أوتمان وعبر المونتاج المتوازي كان يربط كل أغنية بحكاية ما تكشف عن جديد في شخصية ميركري أو تدفع السرد للأمام. على سبيل المثال، تتوازى الجولة الأولى في أمريكا حيث غنوا أغنية «fat bottomed girl»، مع اكتشاف فريدي لميوله الجنسية المثلية لأول مرة. كذلك جاء اعترافه بمثليته هذه لزوجته وانفصالهما بالتوازي مع أغنية «love of my life».

أما ذروة أداء أوتمان المونتاجي، فتأتي مع تتابعات النهاية وصولًا لحفلة «live aid» التي تستمر لمدة 13 دقيقة على الشاشة. السؤال هنا لماذا تتم إعادة إحياء هذا الأداء بهذا الامتداد الزمني؟ والإجابة تكمن في الحمولة النفسية للمشهد والأثر المرتجي منه. في تتابعات ما قبل الحفل يعرف فريدي إصابته بالإيدز، كذلك اعترافه بمثليته ومحاولته وصل علاقته بعائلته خاصة الأب، كل هذا يمنح أداءه في هذا الحفل إحساسًا بأنه ربما يكون أداؤه الأخير أو أغنية البجعة الخاص به. كان ينبغي أيضًا هذا الاستغراق الزمني ليعطي هذا الأثر التطهيري الذي يليق كختام لحياة معذبة.

Blackkklansman

هذه هي المرة الأولى التي يرشح فيها باري ألكسندر براون في فئة المونتاج عن عمل يبدو ثمرة تعاون استمر لما يقرب من ثلاثين عامًا مع المخرج سبايك لي، والذي تميزت أفلامه دائمًا بأنها ذات زخم كبير وإيقاع شديد الحيوية.

يبرز إنجاز براون المونتاجي عبر مشاهد الخطب المطولة والتي تتواتر في فيلم مداره العنصرية المتفشية في المجتمع الأمريكي. في مشهد خطاب كوامي توريه أمام مجموعة من نشطاء الحقوق المدنية والذي يستمر تقريبًا لمدة 10 دقائق، ومن أجل الحفاظ على انتباه المشاهد يلجأ إلى تصوير وجوه بعض الحاضرين بأسلوب البورتريه وتركيبها مونتاجيًا معًا بحيث تبدو كما لو كانت تطفو في فراغ الكادر، مما يعطي المشهد لمسة جمالية خاصة لافتًا انتباه المشاهد لهذه التكوينات، بالإضافة لكونها تخدم معنى المشهد فنحن أمام هويات منفردة وليس مجرد حشد من البشر.

المشهد الأكثر تأثيرًا والذي ينفذ مباشرة إلى معنى الفيلم، يتم تحقيق هذا التأثير عبر المونتاج. حيث يجلس أحد نشطاء الحقوق المدنية الكبار ليحكي حكاية جيسي واشنطن المروعة حيث تم التنكيل به وإعدامه دون محاكمة في وﻻية تكساس عام 1916. يتقاطع ذلك مونتاجيًا مع طقوس الاحتفال بانضمام الضابط المتخفي فيليب زميرمان إلى جماعة «كو كلاكس كلان» التي تنضح بالعنصرية ذاتها ثم مشاهدتهم فيلم «مولد أمة» للمخرج الأمريكي الرائد ديفيد وارك جريفيث، والذي كان سببًا مباشرًا في واقعة جيسي واشنطن.

هنا وعبر المونتاج يصير الحدثان حدثًا واحدًا، ما حدث عام 1916 وما يحدث في سبعينيات القرن الماضي. نحن أمام زمن واحد ممتد من العنصرية التي لا تنتهي.

Vice

عمل هانك كوروين مونتيرًا مع العديد من المخرجين الكبار مثل تيرانس ماليك، وأوليفر ستون وغيرهما. في تجربته الثانية مع المخرج آدم مكاي بعد فيلم «The Big Short»، نحن تقريبًا أمام نفس الأسلوب المونتاجي الدينامي، شديد الحيوية (لقطات قصيرة، وقطعات سريعة).

التحدي الواضح في الفيلمين يكمن في موضوع الفيلمين، فمواضيع كاللأزمة الاقتصادية أو سياسات الغرف المغلقة تبدو بعيدة جدًا عما يجذب المشاهد، لكن كوروين بمونتاجه الجذاب والساخر يخلق منها أكبر إثارة ممكنة.

هنا في فيلم «Vice» نحن أمام تحد آخر هو شخصية ديك تشيني غير المثيرة عبر 50 عامًا من حياتها. يستطيع كوروين وعبر تتابعات البداية التي تتوالى فيها لقطات تشيني كعامل سكير، مع لقطات أخرى له كنائب للرئيس الأمريكي جورج بوش الابن أثناء أحداث 11 سبتمبر والتي يستغلها لتوطيد سلطته واتخاذ قرارات شديدة الراديكالية، أن يصنع مدخلًا شديد الإثارة لهذه الشخصية.

مع اعتماد هذا الإيقاع المشدود كأسلوب مونتاجي للفيلم، فإنه يختار ببراعة شديدة اللحظات التي يتراخى فيها هذا الإيقاع مثل المشهد الذي يتلقى فيه تشيني مكالمة هاتفية من الحملة الانتخابية لبوش الابن من أجل إدارة هذه الحملة. تشيني خلال هذه الفترة كان يعيش في الظل وكأن حياته قد انتهت، ثم تأتي هذه المكالمة التي تغير مصيره ومصير أمريكا. هنا لحظة تحول تاريخية ينبغي أن يتباطأ كل شيء من أجل تأطيرها. في مشهد مدته الزمنية دقيقتان نحن أمام أربع قطعات مونتاجية فقط وتقريبًا حركة كاميرا معدومة. هذا ما يجعل من فيلم «Vice» واحدًا من أفضل الأداءات المونتاجية لهذا العام.

Green Book

الفيلم مستوحى من قصة حقيقية مبنية بالطريقة الأكثر كلاسيكية. مونتاج باتريك دون فيتو أيضًا كلاسيكي وبلا أي أسلبة. قطعات ناعمة وشديدة الانسيابية بحيث لا تشتت انتباه المشاهد أو تعوق استغراقه في الحكاية.

اللمسة الأهم هي في تحقيق التوازن بين الدراما والكوميديا. الكوميديا هنا تلقائية جدًا، داخلية لا يمكن فصلها أبدًا عن الدراما. في أحد الحوارات مع مونتير الفيلم يشير إلى فهمه لطبيعة الكوميديا، حيث يقول: «الكوميديا بالنسبة لي مثل معادلة رياضية». أعتقد أن فهمه هذا لطبيعة الكوميديا هي التي أدت لتحقيق هذا التوازن المحسوب بين الدراما والكوميديا داخل العمل والنتيجة واحد من أكثر الأفلام إمتاعًا لهذا العام.

The Favourite

نحن هنا أمام منجز مونتاجي مميز جدًا من اليوناني يورجوس مافروبساريديس، المونتير الدائم لسينما يورجوس لانثيموس. يلجأ مع فيلم ينتمي للدراما والتاريخ، إلى تقسيم العمل إلى فصول مع اللجوء إلى قطعات تقليدية مثل المزج (dissolve)، مما يعطي للعمل ككل طابعًا كلاسيكيًا ملائمًا للفترة التي تدور بها الأحداث.

من أفضل اللمسات المونتاجية هنا هو استخدام المونتاج للتعبير عن روابط شعورية بين الشخصيات، فمثلًا في بداية الفيلم نجد ابيجيل الخادمة تصرخ من احتراق يديها بسائل التنظيف ثم يتم القطع إلى الملكة وهي تصرخ أيضًا من جراء مرضها، هذا الوصل المونتاجي يربط الشخصيتين معًا عبر الألم وهو ما يتجلى فيما بعد عبر تاريخهما النفسي ومصيرهما.

المونتاج هنا أيضًا يساهم في خلق معنى الفيلم عبر تتابعات النهاية، حيث يستخدم المزج المونتاجي للجمع بين وجهي أبيجيل والملكة، يجمعهما أيضًا معًا في النهاية عبر مشاعر الألم وإدراك الهزيمة، ثم عبر مزج مونتاجي جديد يبدأ الوجهان في التلاشي لتملأ الشاشة أرانب الملكة. المعنى النهائي الذي يصنعة هذا المونتاج المركب هو معنى عبثي، فكل المشهد الإنساني الصاخب بحروبه وصراعاته يؤول إلى هذه الكائنات الأليفة والمدجنة في النهاية.

موقع "إضاءات" في

18.03.2019

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2019)