جنازة هادئة في وداع جميل
مني شديد
في هدوء تام رحل الفنان الكبير جميل راتب عن عالمنا صباح أمس عن
عمر يناهز92 عاما بعد صراع مع المرض الذي أدي إلي فقدانه لصوته
في الآونة الأخيرة, وأقيمت له جنازة صغيرة بحضور أسرته وعدد قليل
من محبيه خرجت من الجامع الأزهر بعد صلاة الظهر إلي مرقده الأخير
في مدافن الأسرة بمنطقة المجاورين.
واقتصر الحضور من أبناء الوسط الفني علي نقيب المهن التمثيلية
الفنان أشرف زكي, الفنان عزت العلايلي, سلوي محمد علي, مجدي صبحي,
الفنان الكبير محمد صبحي الذي بكي تأثرا لفراق والده الروحي الذي
عرف في سلسلة ايوميات ونيسب بـاأبو الفضلب والد ونيس, والجد الطيب
الحنون, كما حضر د.خالد عبد الجليل الجنازة نيابة عن وزيرة الثقافة
د.إيناس عبد الدايم. وأصرت أسرة جميل راتب علي أن تكون الجنازة
بدون أضواء وبعيدة عن الاهتمام الإعلامي, بناء علي وصيته الأخيرة
بأن تكون جنازته هادئة وبحضور محبيه فقط
ولهذا منعت الأسرة الإعلاميين والكاميرات من الدخول للجامع الأزهر
أثناء صلاة الجنازة أو تصوير النعش تليفزيونيا, ورفضوا الإعلان عن
مكان الدفن حتي لا يلحق بهم أحد, وكان الفنان محمد صبحي هو الفنان
الوحيد الذي صاحب النعش حتي وصوله للمدافن ثم رحل فورا قبل أن تلحق
به الكاميرات أو يلحق به المعجبون الذين يسعون لالتقاط الصور.
من الكوميدي فرانسيز إلي االحجم العائلي
عاش الفنان الراحل جميل راتب حياة فنية ثرية لا يعرف منها البعض
إلا وجه واحد وهو الأعمال الفنية التي شارك بها في مصر, وترك فيها
بصمة خاصة ميزته عن باقي النجوم علي الرغم من أنه لم يسع يوما
للنجومية أو أن يكون ممن يعتبرون أنفسهم نجوم الصف الأول, فكانت
محبته في القلوب ومكانته المميزة لدي محبيه نتيجة لأدائه التمثيلي
الفذ والبساطة في كل شيء التي تعلمها من الحياة في أوروبا والوجه
الآخر لمسيرته الفنية التي بدأت في فرنسا من مسرح الكوميدي فرانسيز.
جميل أبو بكر راتب ابن لعائلة أرستقراطية من أب مصري وأم صعيدية هي
ابنة شقيق هدي شعراوي ولد في عام1926, درس في مدرسة الحقوق
الفرنسية في مصر ثم سافر إلي فرنسا لاستكمال دراسته الجامعية هناك
بعد الحرب العالمية الثانية, وكانت أسرته قد أرسلته إلي هناك ليدرس
الحقوق والسياسية لكنه تمرد علي هذا عندما جذبه الفن نتيجة لزيادة
الاهتمام بالفن والثقافة في فرنسا في هذا التوقيت فقرر دراسة
التمثيل واضطر للعمل في مهن مختلفة لينفق علي نفسه أثناء الدراسة
بعد غضب أسرته من قراره ومن بين هذه المهن كومبارس, ومترجم, وجرسون
في قهوة, وأيضا حمال في سوق الخضار.
رسم جميل طريقه للفن وعمل مع عدد من الفرق المسرحية الصغيرة في
فرنسا, وتحسن أداؤه تدريجيا, إلي أن أصبحت تعرض عليه أدوار مهمة مع
فرق كبيرة, قبل أن ينضم لفرقة الكوميدي فرانسيز أكبر فرقة مسرح في
فرنسا, وشارك في مسرحيات كبيرة لشكسبير وموليير, وسمع عنه سليمان
بك نجيب الذي كان وقتها مديرا لدار الأوبرا فطلب حضوره مع الفرقة
الفرنسية التي كانت الأوبرا تستعد لاستضافتها في1952, وبعد أن كان
كومبارسا في أول أفلامه في فرنسا عشاق بونت سان جان في1947, شارك
بدور مميز مع جينا لولو بريجدا وبيرت لانكستر وتوني لي كيرتس في
الفيلم الأمريكي ترابيز في1956, وفي العام ذاته شارك في فيلم مصري
ـ فرنسي بعنوان أنا الشرق للمخرج عبد الحميد زكي شارك في بطولته
جورج أبيض وحسين رياض وتوفيق الدقن, وملكة الجمال الفرنسية كلود
جودار.
وشارك في العديد من الأفلام العالمية بعد ذلك من بينها مغامر
الشانزليزية في1957, ومع عمر الشريف في لورانس العرب عام1962,
وغيرها, ثم عاد إلي مصر وشارك في بطولة العديد من الأفلام بداية من
منتصف سبعينيات القرن الماضي من بينها علي من نطلق الرصاص وكفاني
يا قلب, ولا عزاء للسيدات, وحب في الزنزانة, والبداية, وطيور
الظلام.
واشتهر ببعض الشخصيات مثل البهظ بيه تاجر المخدرات في فيلم الكيف
مع محمود عبد العزيز ويحيي الفخراني, وعميل الموساد ادموند في
الصعود للهاوية مع محمود ياسين ومديحة كامل, والمحامي الذي يتحول
لديكتاتور في فيلم البداية, وأفندينا في شفيقة ومتولي.
وتعددت أيضا أدواره المميزة وبصماته الواضحة في الأعمال الدرامية
ومنها أدواره مع محمد صبحي مثل لطفي بيه في رحلة المليون وسنبل بعد
المليون, ثم الجد أبو الفضل في سلسلة يوميات ونيس, ولا أحد ينسي
مفيد أبو الغار غريم فضة المعداوي في الراية البيضا الذي يشبه
كثيرا شخصية جميل راتب الحقيقية, والخواجة دليورنزي في زيزينيا,
وكذلك أدواره أمام فاتن حمامة في ضمير أبله حكمت ووجه القمر, وعلي
الرغم من مرضه وحالته الصحية إلا أنه كان حريصا علي الظهور بشكل
مستمر, كما كان العديد من النجوم حريصين علي مشاركته لهم في
أعمالهم حتي ولو بمشهد واحد فقط, ولهذا كان آخر ظهور له في رمضان
الماضي مع الفنان يحيي الفخراني بمشهد وحيد كضيف شرف في مسلسل
بالحجم العائلي.
####
جميل راتب في آخر حواراته مع الأهرام المسائي:
تمنيت تجسيد شخصية جمال عبد الناصر أو عبد الحكيم
عامر والسن منعني
مشاهدة جميل راتب علي الشاشة متعة غير عادية, لكن الحديث معه
والتعرف علي عقليته له متعة أكبر, خلال العامين الماضيين حصل
الراحل علي أكثر من تكريم من جهات مختلفة; حيث كرمه مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي, ومهرجان الأقصر للسينما الإفريقية, ومهرجان
القاهرة الدولي للمسرح المعاصر والتجريبي في دورة العودة عام2016
وحظت كاتبة هذه السطور بالفرصة لمحاورته مرتين خلال عامين متتالين,
كانت المرة الأولي قبيل تكريمه في مهرجان المسرح عام2016, ولم تكن
صحته وقتها قد تدهورت بالقدر الذي كان عليه خلال الشهور الأخيرة من
حياته التي افتقد فيها القدرة علي التركيز وفقد صوته تدريجيا, كان
الحوار في منزله بالزمالك, وجلس راتب علي مقعده المفضل يرتشف
القهوة, محاولا التمسك بهدوئه المعتاد علي الرغم من غضبه من الصوت
العالي الذي يصدره بعض عمال الصيانة في الشقة المجاورة ويعكر عليه
صفو مزاجه, والمرة الثانية كانت في كواليس مهرجان الأقصر الإفريقي
أثناء تكريمه في الدورة الأخيرة, وفي هذه السطور ننشر أجزاء من
حوارنا وتفاصيل لم تنشر.
سرد جميل راتب في حواراته مع الأهرام المسائي الكثير من الذكريات
عن مشواره الفني الطويل وأعماله في المسرح الفرنسي; حيث كان عضوا
في العديد من الفرق المسرحية, وشارك في اكتشاف عدد من أهم صناع
المسرح في العالم, مثل: يوجين يونسكو وجان أنوي, وصامويل بيكيت, ثم
انتقل إلي أهم فرقة مسرحية في فرنسا وهي الكوميدي فرانسيز, مشيرا
إلي أنه لم يقدم الكثير من التجارب في المسرح المصري علي عكس رصيده
المسرحي الكبير في فرنسا.
وقال: إنه كان محظوظا بالتواجد في فرنسا في الفترة التي تلت الحرب
العالمية الثانية, فهي فترة مهمة جدا في تاريخ المسرح; حيث ظهر في
أعقاب الحرب عدد من المؤلفين الجدد, بالإضافة إلي المؤلفين الذين
بدأوا في شق طريقهم في نهاية الحرب, وازدهرت حركة المسرح بشكل عام,
وزادت الفرق المسرحية, وكان من أهمها فرقة جون فيلار, التي قدمت
الأعمال الكلاسيكية بطريقة جديدة, وتعتبر من أشهر الفرق الفرنسية
في ذلك الوقت, وشارك معهم في عدد من الأعمال, كما شارك في أعمال
مهمة مع جان أنوي, ويونسكو, بالإضافة إلي كثير من المخرجين الذين
بدأوا في فرنسا إبان هذه الفترة مثل: صامويل بيكيت الذي كتب في
انتظار جودو مما دفع بازدهار حركة مسرحية اهتم صناعها بالأحوال
الاجتماعية والسياسية, مشيرا إلي أنه تعلم في هذه الفرق أن الممثل
ليس مجرد صورة في الصحف وإنما لا بد أن يكون له دور ثقافي واجتماعي.
وانتقد جميل في حوارنا اهتمام الكثير من الفنانين بالمظاهر أكثر من
اهتمامهم بقضايا المجتمع, مشيرا إلي أن الفنان لا بد أن يكون مهتما
بالسياسة وقضايا المجتمع, وله دور ورؤية, وأن يكون مثقفا حتي
يستطيع أن يخلق لذاته تفاصيل تساعده علي العمل, إلا أن هذا لم يعد
موجودا في الوسط الفني الآن إلا بين نسبة ضئيلة من المخرجين
والممثلين الرجال بينما ينصب اهتمام أغلب الفنانات علي المظهر,
والقليل من الفنانين الشباب لديه ثقافة ووعي حقيقي.
وأضاف أنه عاد إلي مصر في إجازة عام1977, واستغل كرم مطاوع هذه
الإجازة, وأسند إليه بطولة عرض دنيا البيانولا, مشيرا إلي أن صلاح
جاهين رشحه بعد ذلك لعدد من المخرجين في السينما والمسرح; حيث إنه
كان من أعز أصدقائه, وكان انشغاله بالسينما والتليفزيون سببا في
ابتعاده عن المسرح المصري, مؤكدا أنه قدم بعض التجارب المسرحية في
مصر التي كانت عزيزة جدا علي قلبه مثل رقصة الموت التي قدمتها
باللغة الفرنسية مع العظيمة الراحلة سناء جميل في فرنسا ومصر,
وكذلك مسرحية زيارة السيدة العجوز التي أخرجها لهما محمد صبحي.
وأكد أنه لم يكن مهتما بأصوله الأرستقراطية علي الإطلاق, فعندما
ذهب إلي فرنسا مر بتجربة تعلم منها الكثير; حيث عمل في البداية في
سوق الخضار حتي يستطيع أن ينفق علي نفسه, وفي هذه الفترة تواصل مع
وسط اجتماعي لم يكن من الممكن أن يعرف عنه أي شيء, وكان كل من
يعيشون فيه لهم هدف واحد موحد وهو العمل للحصول علي المال الذي
يكفل لهم الحياة, وتعلم وقتها وأدرك الكثير من الأمور عن الحياة
الاجتماعية, وتغيرت نظرته للعالم انظر وفتح أبواب جديدة في عقله
وأفكار عن هذا المجتمع الذي تواصل معه عن قرب.
وعن الأدوار التي تمني تقديمها ولم تتح له الفرصة, قال جميل: إنه
نجح في تقديم دور عطيل في تونس وكان يتمني أن يقدمه علي خشبة
المسرح في مصر ولكن للأسف لم يتحقق ذلك, وبالنسبة للأدوار السياسية
كان يتمني تقديم شخصية عبد الحكيم عامر في فيلم عن جمال عبد الناصر
عرضه عليه المخرج أنور القوادري الذي شارك معه في أكثر من عمل,
لأنه كان يعتبر عامر شخصية شكسبيرية تراجيدية, لكن المخرج رفض لأنه
كان وقتها أكبر سنا من طبيعته ولهذا أسند إليه دور الرئيس الراحل
محمد نجيب لأنه الأقرب إليه سنا ذلك الوقت مشيرا إلي أنه كان يتمني
أيضا تجسيد شخصية الرئيس الراحل جمال عبد الناصر, وعلي الرغم من
عدم تحقق هذه الأمنيات إلا أنه سعيد بالأدوار التي قدمها علي مدار
تاريخه لأنها كانت غنية ومختلفة جدا, ولأن الممثل الذي يشعر بالدور
ويعيش فيه, فإن متعته في أنه يعيش حيوات مختلفة مع كل دور.
وأكد أن المخرج صلاح أبو سيف كان واحدا من أكثر المخرجين الذين
استمتع بالعمل معهم في فيلم البداية رغم أنه كان حائرا طوال
التصوير ولا يعرف إذا كان أبو سيف راضيا عن أدائه أم لا ولكن في
ليلة افتتاح عرض الفيلم فوجئ بتمثال لشخصيته أمام باب دار العرض
وصورته تتصدر التترات رغم أنه لم يكن الاسم الأول علي الأفيش
وتسبقه يسرا, بينما كان هو الاسم الرابع, بينما قال عن فاتن حمامة
إنها كانت ممثلة عظيمة تبحث عن المثالية في كل التفاصيل, ومضيفا أن
النجم أنطوني كوين كان الداعم الأكبر له ولموهبته وأوصي عددا من
المخرجين بإسناد أدوار مهمة له, واكتشف في إحدي المرات أن السبب
الأساسي في حصوله علي أجر مرتفع هو توصية أنطوني كوين, ورفض عرض
المنتج عندما علم بذلك.
####
ابن الذوات الذي احترف التمثيل
أحمد عبد المقصود
جميل راتب ممثل من مصر له مواهب عديدة ولسوف يلمع ويلمع حتي يصبح
شيئا كبيرا في عالم التمثيل كانت هذه الجملة التي كتبها أحد كبار
النقاد الفرنسيين للفنان الشاب ذلك الوقت كافية لأن تكون دافعا له
لأن يبذل مجهودا كبيرا لكي يثبت نفسه ويكون واحدا من كبار النجوم,
كما أنها كانت كافية أيضا أن تخرجه عن طبيعته الهادئة والحادة أيضا
فما كان في وسعه إلا أن رقص فرحا بالكلمات القليلة التي كتبت عنه
والتي تشير إلي أن ما يقوم به أدي إلي نتيجة إيجابية وأنه في طريقه
الصحيح إلي الشهرة. بدأ جميل راتب يتحسس أولي خطوات التمثيل وهو في
السابعة عشرة من عمره حينما كان طالبا بمدرسة الليسيه من خلال
التحاقه بفرقة الهواة التي كانت مهمتها الترفيه عن جنود الحلفاء
وظل يجمع بين الدراسة والتمثيل حتي السنة النهائية من المرحلة
الثانوية ثم التحق بكلية الحقوق الفرنسية, وسنحت له الفرصة في
القيام بدور صغير أمام الفنانة ماري منيب وأعجبته الفكرة وأصر علي
مواصلة رحلة التمثيل حتي إنه قرر ترك الكلية والتفرغ إلي التمثيل
وقتها لاقي اعتراضا من الأسرة التي كانت تنظر إلي مهنة التمثيل علي
أنها لا تناسب وضع أسرته الأرستقراطية, ولكنه قرر أن يثبت لهم عكس
ذلك التحق بأحد معاهد التمثيل وظل فيه لمدة ثلاثة أعوام وكان موضوع
امتحان السنة الأخيرة دور رجل روسي في مسرحية الجريمة والعقاب
الطريف أن كبير الممتحنين بعد أن أدي الدور ببراعة سأله طبعا أنت
روسي الأصل فأجابه جميل أبدا أنا مصري من أب وأم مصريين.
قرر جميل أن يسافر إلي فرنسا ليبدأ من هناك رحلته الحقيقية مع الفن
وبدأ بالعمل كواحد من الكومبارس كان يجلس علي مقهي في ميدان فيكتور
هيجو بفرنسا يدخن السجائر, وتعلم في هذه المرحلة ثلاث نقاط تمثل
مراحل انتقاله في سلم النجومية وهي الكفاح للظهور ثم الكفاح للوصول
للشهرة وأخيرا الكفاح للإبقاء علي الشهرة.
ونشرت مجلة آخر ساعة في هذا الحين مقالا عن الفنان الراحل بعنوان
ابن الذوات الذي احترف التمثيل في باب مصريون في الخارج, قال فيه
مراسل المجلة في باريس: علي رصيف مقهي صغير في باريس شاب متوسط
القامة يجلس ليراقب مستقبله بين حلقات الدخان التي ينفثها من
سيجارته ثم يروي قصته مع التمثيل منذ كان طالبا حتي سافر إلي فرنسا. |