«الشرق
الأوسط» في مهرجان قرطاج السينمائي (3):
جديد مرزاق علواش موضوع مهم وأسئلة من دون أجوبة
الجزائر حاضرة بفيلمٍ له وعليه
تونس: محمد رُضـا
على ذمّة الرّاوي الأول، انسحب الوفد المغربي من
حفل الافتتاح يوم السبت الماضي، احتجاجاً على عدم تقديم مذيعة
الحفل عنوان وصانعي فيلم «بلا وطن». انتقلت ما بين فقراته سريعاً
وبابتسامة عريضة ثم ختمت بعبارة تمنّت فيها الاستمتاع بمشاهدة
الفيلم من دون ذكره مطلقاً.
على ذمّـة الرّاوي الثاني، الأكثر إلماماً، لم يحدث
أي شيء من هذا القبيل. خطأ المقدّمة مفهوم، كونها كانت تذيع مباشرة
لمحطة تلفزيونية ولم تكتب النّص بنفسها (كما قال). إلى ذلك، أضاف
مَن غادر القاعة من الوفد المغربي أنّه شاهد الفيلم من قبل.
الغالب أنّه لم يحدث أي انسحاب، بل مغادرة البعض
لكونهم شاهدوا «بلا وطن» سابقاً (عُرض داخل المغرب وخارجه بضع
مرّات). لكن ما يستحق التنويه أنّ العلاقات بين الدّول المغاربية
من الحساسية بحيث لا شيء يجب أن يخلّ بنظام العلاقات إذا ما طاش
السهم عن هدفه الدقيق. وهذا ما نجح المهرجان في اعتماده عبر معايير
متوازنة ومدروسة.
هناك، على سبيل المثال مَن وجد في فيلم نرجس النجار
نوعاً من نقد الجزائر، على أساس أنّ الفيلم يتحدّث عن قرار طرد
عائلات مغربية من الجزائر في السبعينات. لكنّ الواقع أنّ الفيلم
حاول في النّهاية القول إنّه لا خطأ حصل ولا لوم يمكن أن يُـسجل
والمشكلة المعروضة مشكلة فردية. كذلك لم يَبدُ على الوفد الجزائري
الرّسمي أي امتعاض منه ولو أنّ هناك جزائريين مستقلين ذكروا أنّ
المهرجان لم يستضف «أي فيلم جزائري» متسائلاً عن السبب وموعزاً بأن
هناك مقاطعة. لكن ذلك مردود عليه بوجود فيلمين في مسابقتين على
الأقل وأخرى خارج المسابقة.
الحال هو أنّ تونس لا تريد أن تحوّل مهرجانها
السينمائي إلى نقطة تجاذب، وهناك سياسة حكيمة تَوافق مديره العام
نجيب عياد على أن يكون المهرجان مهرجاناً للأفلام الجيدة ومخرجيها.
ربما يختلف النّقاد في تعريف الفيلم الجيد، لكنّهم لن يختلفوا
كثيراً في ضرورة أن يحظى المخرجون بالاهتمام الأول. أكثر من ذلك،
بات من المفرح حقاً أن يستطيع هذا المهرجان تجاوز عقد الماضي
المختلفة التي كان من بينها اتّخاذ بعض الدّول منه منابر لاتهامات
من نوع المحاباة أو التفضيل والتمايز.
-
عهد جديد
«هو
بيت للسينما العربية والأفريقية»، أكّد نجيب عياد لنا مؤخراً، ومثل
كل بيت كبير يتألف من غرف شتّـى وأقسام متعددة واتجاهات عدة. وهذا
البيت كان بحاجة إلى ترميم بعد أن قادته إدارة نجحت في إعادته إلى
الحياة بتحويله إلى مهرجان سنوي، لكنّها أخفقت في ممارسة عملها من
دون مراعاة مصالحها وعلاقاتها الخاصة.
«هي
الإدارة ذاتها التي يمكن تسميتها بالفرانكفونية الجديدة»، يقول لي
أحد المخرجين التونسيين المعروفين ويضيف: «من البداية قامت على
محاربة الأجيال السابقة وعلى ربط المهرجان بمصالح فرنسية وأوروبية
وتدخلت لكي تفرض أفلامها على المهرجانات حسب المتاح لها». هذا
أوصلها إلى هيمنة شبه كاملة في داخل السينما التونسية وخارجها. وهي
ذاتها التي اندفعت قبل عامين لتحتج على احتفاء بالسينما
الإسرائيلية في مهرجان «لوكارنو» السويسري وانسحبت منه تبعاً لذلك.
حينها صفق البعض للقرار، لكنّ الحقيقة ربما كانت مختلفة. حسب مصدر
من مهرجان لوكارنو على علاقة بـ«الاتحاد الفيدرالي لنقاد وصحافيي
السينما» المسألة هي عدم امتثال الفيلم لبعض مطالب تلك الشّلة.
اليوم يتقدم المهرجان بخطوات واثقة وحكيمة. دعم الدولة وإداراتها
وشركاتها يتجاوز التمويل والمساعدات اللوجيستية والأمنية إلى
الإيمان المطلق بأن مهرجان قرطاج رهان أساسي في دعم الثّقافة
عموماً والسينمائية خصوصاً وفي دعم حياة اجتماعية متوازنة ومعادية
للتّطرف وركيزة في استقرار البلد وجذب الإعلام إليه وتنحيته عن
صراعات الشرق والغرب ودول الجوار التي لا تنتهي.
-
أمين ونور: حكاية
الفيلم الجزائري في مسابقة الفيلم الرّوائي الطّويل
هو فيلم آخر ينجزه المخرج مرزاق علواش عن الإسلام والتطرف. فهو سبق
له أن قدّم «التوبة» (2012)، و«الأسطح» (2013)، و«مدام كوراج»
(2015)، وتطرّق إلى الموضوع لماماً في أفلام سابقة. أعماله تدعو
للاحترام، كونها تبحث في حاضر الجزائر أيضاً، لكنّه في السنوات
الأخيرة جعل التطرق إلى التطرف صفة دائمة حين الكلام عن الجزائر
اليوم.
«ريح
رباني»، فيلمه الذي شوهد في قاعة كوليزيه المزدحمة عن آخرها ليلة
أول من أمس (الأحد)، يدور في بلدة صحراوية صغيرة في ناحيةٍ ما من
الجزائر (عير مُحددة). اللقطة الأولى من الفيلم لجزء من تلك
الصحراء وفي الخلفية جبل قاحل. لقطة بعيدة جداً تظهر الخواء العام
ونسمع خلالها صوت الريح. يقفز مرزاق علواش من تلك اللقطة إلى لقطة
قريبة لشاب رمى نفسه فوق الرّمال وأجهش بالبكاء. من ثمّ قفزة أخرى
إلى لقطة بعيدة قليلاً تُظهره وهو ما زال على وضعه من قبل أن ينهض
ويتجه إلى سيارته ويقودها إلى حيث هو نزيل في بيت امرأة عجوز تخدمه.
لم -ولن- نفهم سبب بكاء الشّاب أمين، لكنّ هذا
سيمضي وسيطلب منك المخرج ألا تتطلّع إلى الخلف بحثاً. نراه يصلي
ويقرأ القرآن وحين يغادر ذلك البيت المنعزل يتوجه إلى البلدة حيث
يدخل دكان إنترنت ويتعرف على صورة امرأة محجبة. هذه المرأة (اسمها
نور) عضو في تنظيم داعش مُرسلة لتنفيذ مهمّـة في المستقبل القريب.
بذلك نفهم أنّه فتح على حسابه كونه على صلة بالتنظيم. تصل «نور»
إلى البيت وتعامل العجوز بجفاء وحدّة وكذلك أمين. هنا يمضي الفيلم
فصله الثاني (نحو ساعة تتوسط الفيلم) في مساجلات ومجادلات وقليل من
الأحداث التي تتقدّم بالحكاية.
نور هي نموذج للمرأة المؤمنة بأنّ دخول الجنة يكون
بتفجير نفسها وسط الأبرياء (مدنيين أو عسكريين)، ومثل أمين تقرأ
القرآن وتصلّي وتختلف عنه في طبائعها الحادة وتمسّكها بالرأي
الواحد الذي لا بد أنّه صحيح ما دام هو صادر عنها وعمّن أرسلها.
وهي تريد من أمين مشاركتها هذه «الشهادة» وهو يتردد (في ذلك الفصل
الثاني من الفيلم) ثم يمتنع (في الفصل الثالث خلال ربع الساعة
الأخير). ممانعته، على أي حال، لا تنقذه، إذ تضغط نور على زر
الحزام الذي ترتديه فينفجران خلال شجارهما قبل التوجه إلى النّقطة
المقصودة.
إثر الانفجار شاشة بيضاء لنصف دقيقة تقريباً، من
ثمّ لقطة لتلك الصحراء وكلام مذيع الراديو وهو يعلن اكتشاف أشلاء
نور و«شاب مجهول» كما أنّ القوات الجزائرية أحبطت عملية جديدة
للمتطرفين.
-
من وإلى طوال الوقت
بعد انتهاء الفيلم بهذه الرسالة تقفز تلك الأسئلة
التي لم يحاول المخرج الجواب عنها. بدءاً من ذلك السؤال الأول عن
سبب بكاء أمين حتى من قبل أن تلمّ به الأحداث، ومروراً بمن هي
المرأة العجوز التي قتلتها نور قبيل نهاية الفيلم بعدما اكتشفت
أنّها تتجسس لصالح الحكومة؟ لكن ما هو أفدح شأناً من هذه الأسئلة
يكمن في محاولة المخرج منح طابع إنساني مفاجئ.
في إحدى الليالي تدخل نور غرفة أمين وتوقظه من نومه
وتطلب منه تقبيلها والإيحاء اللاحق أنّهما سيمارسان الحب. في صباح
اليوم التالي تعود إلى سيرتها الأولى فتنهره وتأمره وتطلب منه عدم
لمسها.
قبيل نهاية الفيلم وبينما هما في السيارة التي
ستقلهما إلى هدفهما، وقد توقفا في مكان ما، يميل أمين إلى نور
ويقبلها مع إيحاء بأنّهما مارسا الحب بعد تلك القبلة. بما أنّ موقف
نور لا يتغير من مهمتها ولا يتراجع عن قرارها تفجير نفسها ولا
سلوكها الحاد، يدفع للتساؤل عن قيمة هذين المشهدين.
إلى ذلك، كان من الأفضل للفيلم لو أنّ المشهد الأول
لم يقع واكتفى المخرج بالمشهد الثاني وحده (مع تفاصيل أكثر قليلاً)
لأنّ الأول قفز بدوره (كما اللقطات الأولى من الفيلم) من حال
التشدد لنور إلى حال الرّغبة الجنسية قبل أن تعود إلى حال التشدد
من جديد ومن دون مفاد مقنع.
لو اكتفى علواش بالمشهد الثاني بين نور وأمين
لَوظّف الجانب العاطفي من تلك الدراما على نحو أفضل بكثير ولَمنح
الفيلم الحالة المقنعة لامرأة تركت نفسها تنتقل من وضع الالتزام
إلى وضع تلبية الرّغبة البشرية. حتى وإن عادت إلى قاعدتها مباشرة
بعد ذلك فإنّ الأمر سيبرَّر والفيلم كان سيمنح تلك النّهاية موقعاً
أهم مما جاءت به.
صوّر المخرج فيلمه بالأبيض والأسود وهذا بدوره سؤال
آخر. فحسب قوله لا يرى في الوضع الجزائري سوى هذين اللونين. لكن ما
يراه المخرج أو ما لا يراه، عليه أن يتبدّى في الفيلم لا في عبارة
شفهية تُقال في مؤتمر صحافي. قبعتُ على مقعدي أفكر ماذا كان المانع
فعلياً لو أن الفيلم كان بالألوان؟
شخصياً أحب الأبيض والأسود، لكن عليه أن يمارَس
لدافع وأن تكون ممارسته صحيحة. في أحيان كثيرة هنا هو ليس كذلك
وبما أن الفيلم تم بالديجيتال فإن بعض المشاهد الليلية داكنة
السواد بحيث لا تستطيع الشاشة إيضاح ما يدور. هو موضوع مهم بلا
ريب، لكنّه يعرض القصّـة أكثر مما يلبّي شروطها الدّرامية أو يتيح
لنفسه توفير مناسبات فنية كاملة.
بعد حين يصبح تعنّت بطلة الفيلم مدعاة للضجر وتردّد
أمين مدعاة للسّخرية. ومع هاتين الشّخصيتين (غالباً) علينا أن
نتابع حكاية معادية للتّطرف، لكنّ العمق الأبعد لها هي أنّها
معادية أيضاً لمفهوم الإسلام الصحيح، وذلك بالحكم على شخصية الشّاب
بالضعف والتردد وبالتالي بالمقاومة غير المجدية. ربما العداء ليس
بقوة ووضوح أفلام علواش الأخرى، لكن إلى حدّ الخلط بين نقد وهجوم. |