أيام قرطاج السينمائية: أربع بوابات لعبور الفن
السابع
عيسى زيادية
"ما انفكّ الاعتراف بالآخر من تقاليد السلف والخلف،
فلقد كانت قرطاج، وهي
مملكة في المتوسط، تترك أبوابها مفتوحة على مصراعيها أمام قصّادها
والذين يبغون الإقامة فيها، فآوت جاليات لوبية ومصرية وأتروسكانية
وإغريقية وأخرى كثيرة وإن لم تذكرها النصوص المتوفرة".
من هذا التاريخ، انبثقت تونس المعاصرة، وفية لمعالم
قرطاج الغابرة، مؤكدة على الشعور بالارتباط بالآخر، ساعية لتجذير
هذا الارتباط في سياقات الحاضر الثقافي المزاجي والمتقلب، من بوابة
أيام قرطاج السينمائية، هذه المرة، التي تعقددورتها
التاسعة والعشرين هذا
العام، بين الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني والعاشر منه. سبعة أيام
من السينما الخالصة سيعرض خلالها 206 أفلام، من 47 دولة عربية
وأجنبية مختلفة، 61 فيلماً فقط من تونس، التي ستشارك في المسابقة
الرسمية بثلاثة أفلام روائية طويلة وأربعة روائية قصيرة، وفيلمين
وثائقيين.
استطاع المهرجان هذا العام أن يشد إليه أنظار صناع
السينما ومبدعيها، إذ كشف مدير أيام قرطاج السينمائية، نجيب عياد،
أن إدارة المهرجان تلقت أكثر من 800 طلب مشاركة، وهو "ما صعّب
عملية الاختيار بالنظر لقيمة الأعمال المرشحة"، وفق تعبيره.
ستحتضن أيام
قرطاج السينمائية 135 فناناً
سيشاركون في المهرجان، من بينهم 40 فناناً أجنبياً سيقدمون 53
حفلاً وسط شارع الحبيب بورقيبة، شريان العاصمة التونسية، فضلاً عن
توجيه الدعوة لأكثر من 350 ضيفاً أجنبياً سيسجلون حضورهم في مختلف
فقرات المهرجان.
في الجانب الآخر، قال نجيب عياد، في تصريح خاص لـ
"العربي الجديد" إن "الميزانية المخصّصة للمهرجان تبلغ حوالي أربعة
ملايين دينار تونسي، لافتًا إلى أن نسخة هذا العام "ستشهد حضورًا
مكثفًا لعدد من النجوم العرب، على غرار ليلى علوي، هند صبري، درة
زروق وظافر العابدين".
السمة الأبرز في هذه الدورة الاحتفاء الرمزي بأربع
دول من جغرافيا وثقافات وسياقات مختلفة، هي البرازيل والسنغال
والعراق والهند. اختيار هذه البلدان الأربعة دون غيرها يوضح مقاصد
القائمين على الحدث السينمائي الأبرز في البلاد، والذي يكشف عن
مساعيه في جعل الفضاء السينمائي فرصة لتجميع عشرات الدول والثقافات
والاهتمامات والقضايا المختلفة في سباق واحد وإطار مشترك.
الاحتفاء بالهند وتبجيل السنغال، واستدعاء البرازيل
وإعادة الاعتبار للعراق؛ يحيل هذا إلى الالتزام الكبير الذي يتبناه
المهرجان تجاه سينما الواقع وتراجيديا الهم الإنساني من أميركا
اللاتينية، مروراً بأفريقيا والجزيرة العربية، وصولاً إلى غرب
آسيا؛ حيث اختلاف الأديان والمذاهب يغذي روائع سينما بوليود
ويمنحها طاقتها التي لا تنضب.
بعد تناسي السينما البرازيلية منذ نجاحات
الخمسينيات والستينيات، تأتي التفاتة أيام قرطاج استثناء لهذه
الغفلة الطويلة، ونظرة مجددة في علاقة مهد الأمازون بالذهنية
العالمية الجماعية التي لا تكاد تتخيله خارج رقعة المستطيل
الأخضر.
هنا، تظهر الاستفاقة في تأثيث المهرجان بقضايا
الإنسان اللاتيني، صاحب الهم الاجتماعي المتنامي في سياق العولمة
وداء العنصرية والتمييز والتفرقة، مقابل مطامح التغيير وتسلق السلم
الاجتماعي.
المتأمل في البلدان الأربعة المستضافة سيجد بينها
رابطاً رفيعاً مشتركاً يصلها بالعالم النامي وإرهاصات التغيير
والرغبة في الانعتاق والخروج من دهاليز الفقر والتشتت والحرب
والصراعات، مواضيع تؤثر في صناعة الشاشة فيها وبلورة سيناريوهات
الطرح والإخراج والتعامل.
فالسنغال بلد الثروات المنهوبة واسترقاق البشر
المعاصر، مجتمع الأدمغة المهاجرة وسياسات التنمية المسقطة، يصدر
سينما لا تنفصل عن الواقع، بل مزروعة فيه ومتكيفة مع تقلباته
وهواجسه في التقدم والتطور والرغبة في القطع مع العبودية المعاصرة
التي تستهدف شعبه كما نجدها في فيلم "الفتاة السوداء" أو "Black
girl".
قرطاج تجمع اليوم الإنسان الأسود الأفريقي بالأحمر
الأميركي والأصفر الآسيوي والأسمر العربي، العراقي تحديداً، الذي
خرج مضرجاً بدماء سنين من العراك ضد مخالب عقبان "الدولة
الإسلامية" الموهومة، والاحتلال الأميركي من قبلها، باحثاً عن
تضميد جروح الحروب والاقتتال الطائفي على ركح الفن السابع، وأمام
أنظار جماهير العالم التائقة لمعرفة ماذا بقي في بغداد من أمل
لإنتاج الثقافة ومواجهة اليأس.
ورغم أن بوليوود تأتي صاخبة، منتشية على الدوام
بقصص الحب، ومندهشة بسيناريوهات الميلودراما السائلة بلا توقف، إلا
أنها لا تنفصل كذلك عن رسم ملامح الهندي المتحرك على الدوام هنا
وهناك، الحالم باستمرار والراكض وراء فرص العيش و"البزنس"، للخروج
من مأزق الاكتظاظ في الهند، وقلة الفرص ووحش الفقر الذي يفتك بقصص
الحب أولاً.
تونس التي تمر بفترة انتقالية صعبة، أثبتت أنها لم
تعبث في اختيار ضيوفها، فهي تُشير من خلالهم إلى قيمة السينما، في
هذه البلدان التي تشبهها في الأوضاع والتحديات، رغم أنها تختلف في
المنشأ والمرجع، ولكنها تتفق معها في الأحلام والتشكلات الفكرية
حول المستقبل والفن والإنسان والعالم.
تحل أيام قرطاج السينمائية هذا العام لتضع جمهورها
في تونس والعالم الثالث برمته، قبالة أحلامه وتطلعاته، غير منفصل
عن واقعه ومشاكله الجماعية المتشابهة، من خلال استدعاء محتوى
سينمائي بُني على وقع آلام الفرد وضوضاء الحشود والتجمعات، لتعيد
بذلك بناء صورة قرطاج القديمة التي استطاعت أن تحتضن الوافدين
وتجمع شتات الهاربين من الظلم والبطش. |